التواصل بين فك التشفير والاستدلال

Communication entre le décodage et l'inférence

Communication between decoding and inference

حمراوي محمد

p. 109-119

Citer cet article

Référence papier

حمراوي محمد, « التواصل بين فك التشفير والاستدلال », Aleph, 8 (3) | 2021, 109-119.

Référence électronique

حمراوي محمد, « التواصل بين فك التشفير والاستدلال », Aleph [En ligne], 8 (3) | 2021, mis en ligne le 22 juin 2021, consulté le 03 décembre 2024. URL : https://aleph.edinum.org/4656

يعد التواصل من أبرز مظاهر الوجود الإنساني، ولازمة من لوازم الوجود، إذ لا نستطيع أن لا نتواصل. وحين يستقبل المتلقي قولا ما، فإنه قد يفهمه بما يمتلك من معطيات لغوية : معجمية ودلالية، وهنا لا يتجاوز التبادل قواعد المواضعة اللغوية. وقد يفهم المتلقي هذا القول بناء على سيرورات استنتاجية / استدلالية وقد تكون تأويلية، بناء على السياق الثقافي والمعرفة المشتركة.

نحاول في هذا المقال دراسة ثنائية التشفير والاستدلال في عملية التواصل، هل يتم التواصل من خلال التشفير وفك التشفير؟ أم يتم فهم الأقوال عن طريق الاستدلال والعمليات التأويلية؟ نعرض في هذا المقال، مفهوم التواصل، ونماذج التواصل من خلال التشفير. ونتناول كذلك الأمثلة التي يتم من خلالها التبادل وفهم الأقوال عن طريق آليات استدلالية أو تأويلية.

As communication is inevitable, it is one of the most prominent manifestations of human existence. When a recipient receives a statement, s/he may understand it linguistically (lexically and semantically). Indeed, the exchange does not transcend the rules of linguistic convention, though. Moreover, the receiver may understand the same statement on the basis of deductive/inferential or interpretive processes that depend on the cultural context and shared knowledge. The present paper tries to study the dyad of coding and inference in the communication process by eliciting the following questions: Is communication based on coding and decoding? Or is understanding based on deductive and inferential processes? In this article, the concept of communication and its coding-based models are exposed, and some examples of deductive/inferential mechanisms of exchanging and understanding statements are shown.

La communication se présente comme une des plus importantes manifestations de l’existence de l’être humain car il est impossible qu’il puisse exister sans communiquer avec ses semblables. Quand un récepteur reçoit un message, il le comprend d’après les données linguistiques, lexicales et sémantiques qu’il possède. Dans ce cas-là, l’échange ne dépasse pas les règles des pratiques langagières. Le récepteur peut donc cerner le sens du message en vertu du processus de déduction et d’inférence et parfois même en vertu d’un processus d’interprétation en raison du contexte culturel et de la connaissance commune.

Nous tentons, dans cet article, d’aborder l’opération communicationnelle par le biais d’une étude de déduction et de codage binaire. La communication se fait-elle par une opération de codage et de décodage ? Ou le sens du message se fait-il comprendre par des opérations inférentielles et interprétatives ? 

Notre étude porte sur le concept de communication et des modèles communicationnels à travers le codage. Elle aborde également les exemples qui servent de base pour l’échange et la compréhension des messages grâce à des mécanismes de déduction ou d’interprétation. 

مقدمة

لا يمكن أن نتصور الوجود البشري دون الفعل التواصلي. هذا التلازم بين الإنسان كوجود وبين التخاطب كحدث وكفعل وكعلامة على الوجود، هو ما يبرر مسلمة مدرسة بالو ألتو من خلال « المبدأ التواصلي في تداوليات التواصل » : « لا نستطيع أن لا نتواصل » (Watzlawick.P, Helmek Beavin.J, Don Jackson D, 1972, P48).

بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك، بأن نقول أن « أيَّ فرد ما لا يمكنه أن يتواصل، يمكنه أن يأخذ جزءا من التواصل أو أن يصبح عنصرا فيه. يمكنه أن يتحرك، أو أن يحدث ضجيجا...، يمكنه أن يسمع، ويشعر، ويتذوق، ويلمس، لكن لا يمكنه أن يتواصل. بتعبير آخر إنه ليس مؤلف التواصل، بل إنه يشارك فيه » (Watzlawick.P, Helmek Beavin.J, Don Jackson D, 1972, P68). وهذا يؤكد أن التخاطب نظام، ولا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يكون (فرديا)، وإنما ينبني أساسا على الفعل ورد الفعل. فالسلوك التواصلي هو من طبيعة السلوك الإنساني.

1. التواصل

يمكّن معنى الاشتراك في مفهوم « التواصل » الناسَ من إقامة علاقات بينهم تحملهم على تقدير ما يفرق بينهم وما يجمع، « فينشئون بذلك علاقات نفسانية واجتماعية، ولا تتمثل علاقاتهم في النزاع والصراع والتخريب فقط، وإنما تتمثل أيضا في التفاهم والثراء المتبادل والتعاون على إنشاء المعرفة ووضع القيم (شارودو و مانغينو، 2008، ص09.).

في اللسانيات، اقترح ر. ياكوبسن رسما للتواصل اللغوي حول ست وظائف للغة، وبالغ في التخصيص لأنه لا يتعلق بالتواصل اللغوي وحده. غير أن هذا لا يمنع من أن نموذج التواصل لياكوبسن كان له الفضل في إخراج اللسانيات من الإطار الضيق لدراسة أنساق اللسان بإدخال النشاط اللغوي في الدراسة.

في ميدان الخطاب، نجد نظريات عديدة تنقسم إلى قسمين كبيرين :

القسم الأول : »ذهب إلى القول بان المرء لا يمكنه أن يحقق التواصل أبدا، تأسيسا على : سوء التفاهم والتأويلات الخاطئة وعدم الفهم ولا يكون التواصل إلا ظاهرة مرآة لا تعكس الأشياء إلا لمن يزعم التواصل وضربا من المرآة الخادعة فالتواصل ليس إلا وهما« (شارودو و مانغينو، 2008، ص111).

القسم الثاني : »على النقيض من ذلك يذهب إلى القول باستحالة عدم التواصل، على أساس أن كل سلوك هو تواصل. « وهناك تصور نابع من نظرية الإعلام لا ينفك يتطور مفاده أن كل شيء قابل للتواصل بمجرد أن تعتبر فقط ظاهرة نقل رسالة من مصدر « أ » إلى مستقبل« ب » » (شارودو و مانغينو، 2008، ص111).

وعلى أساس هذه التحديدات يمكن الوقوف عند نظريات مختلفة بخصوص التواصل اللغوي، « منها التداولية ومفاهيم القوة اللاقولية وقوة أثر القول ونظرية أعمال الكلام، وإثنية التواصل التي تسعى إلى تحديد مختلف مكونات أعمال التواصل، والإثنية المنهجية التي تتركز على إكساب الأعمال اللغوية صيغة الطقوسية وتقترح أدوات لوصفها. واللسانيات الاجتماعية التي تهتم بالسُلَّمِية الاجتماعية التي توّجِه العادات اللسانية، وتناول نفساني اجتماعي لغوي يصف التواصل على أنه مجموعة من مستويات الإكراهات يحدد بعضها بعضا وهي : مستوى الضغوط المقامية المتمثلة في الغائية وإكراهات الهوية والقول والظروف التي تحدد الخصائص الخطابية والسيميائية » (شارودو و مانغينو، 2008، ص112).

2. التواصل بين فك التشفير والاستدلال

سيطرت مقولة التشفير وفك التشفير على مناحي تناول التواصل، بالرغم من طابعها البسيط والسطحي المتمثل في قيام المتكلم بعملية التشفير، وقيام المتلقي بعملية فك ذلك التشفير. في هذا السياق يقول سبربر وويلسون : « حسب أنموذج الشفرة يتم تحقيق التواصل عن طريق تشفير encoding)) الرسائل وفك شفرتها (decoding)، لكن في الآونة الأخيرة اقترح العديد من الفلاسفة، ولا سيما بول غرايس (P. Grice) وديفيد لويس (D. Lewis) أنموذجا مختلفا تماما، سنطلق عليه اسم الأنموذج الاستدلالي (inference)، وحسب هذا النموذج الاستدلالي يتم تحقيق التواصل بواسطة توافر البينة (الدليل) وتأويلها » (سبربر و ويلسون، 2016، ص22).

يتيح الأنموذج الاستدلالي الاستعانة بوسائل غير لغوية و/أو نصية لمعالجة الرسالة، ولكن هذا ليس على سبيل التناقض، بالمقارنة مع نموذج الشفرة، « فأنموذج الشفرة وأنموذج الاستدلال ليسا متضاربين، إذ يمكن الجمع بينهما بطرائق متنوعة. لقد بينت بحوث علماء الفعليات* (pragmatics) وفلاسفة اللغة وعلماء اللغة النفسيين خلال العشرين عاما الماضية أن التواصل اللغوي يتضمن عمليات تشفير وعمليات استدلالية. وهكذا فإن كلا الأنموذجين التشفير والاستدلال يمكن أن يسهما في دراسة التواصل اللغوي » (سبربر و ويلسون، 2016، ص22).

على هذا الأساس لا يمكن الفصل بين النموذجين حيث « إن أغلبية المؤلفين يفترضون كتحصيل حاصل أن أية نظرية صحيحة للتواصل يجب أن تبنى على أساس أنموذج الشفرة المصروف، وهناك عدد قليل من الفلاسفة الذين يبدو أنه قد استهوتهم فكرة تطوير الأنموذج الاستدلالي إلى نظرية استدلالية في التواصل » (سبربر و ويلسون، 2016، ص22).

1.2. التواصل بالتشفير

يمكن تعريف الشفرة كما يلي : « الشفرة هي المعنى الذي سنستعمل به المصطلح، نظام يربط أو يزاوج بين الرسائل والاشارات بحيث يمكن جهازي معالجة المعلومات من التواصل فيما بينهما، الرسالة (message) هي تمثيل داخلي خاص بالأجهزة المتواصلة. والإشارة (signal) هي تعديل في البيئة الخارجية يصدره أحد الجهازين ويتعرف عليه الآخر » (سبربر و ويلسون، 2016، ص23).

إن هذا التوجه غالب في الدراسات اللسانية إذ « إن وجهة النظر التي ترى أن التواصل اللغوي هو حصيلة تشفير الأفكار في الأصوات هي على درجة من الرسوخ في الثقافة الغربية بحيث بات من الصعب النظر اليها بوصفها فرضية وليس حقيقة » (سبربر و ويلسون، 2016، ص27).

يعد نموذج الشفرة أساس اللسانيات وأساس نظرية دو سوسير (De Saussure) في اللغة، « إن المقترب السميوطيقي (semiotic) للتواصل (كما كان بيرس (Pierce) يدعوه) أو المقترب السيميولوجي (semiological) (كما كان سوسير وأتباعه يدعونه) هو تعميم لأنموذج الشفرة للتواصل اللفظي على جميع أشكال التواصل. ومن وجهة النظر السميوطيقية فإن وجود الشفرة الضمني هو التفسير الوحيد لكيفية حصول التواصل » (سبربر و ويلسون، 2016، ص27).

2.2. التواصل الاستدلالي

تنطلق الدراسات في مجال التواصل من اعتبار نموذج الاستدلال تكملة لنموذج الشفرة. على أساس أن تلقي العبارات بصفتها صيغا منطقية، « يجب أن يثرى عن طريق نموذج الاستنتاج، الذي تقف مهمته عند تفسير السبب والكيفية التي تجعل المرسَل إليه يتوجه إلى إعطاء الملفوظ هذا التأويل أو ذلك؟ » (حمو الحاج، 2015، ص59).

إن نموذج الاستدلال له ما يبرره حسب التداوليين، إذ لا فهم دون استدلال، وعليه فإن العمليات الاستدلالية الخاصة بالفهم والتأويل تلح على تبني نموذج الاستدلال، « وهناك قبول واسع للرأي القائل بوجود قواعد للتفسير الفعلياتي مثلما توجد قواعد للتفسير الدلالي، وبأن هذه القواعد تشكل نظاما هو ملحق مكمل للنحو بالمفهوم التقليدي وفي الوقت الذي مازال أغلبية علماء الفعليات يفترضون أن أنموذج الشفرة يزودنا بإطار لنظرية عامة في التواصل، فإنهم مع ذلك يصفون الفهم أو الاستيعاب بأنه عملية استدلالية. ولكن يجب التفريق بين الأمرين » (سبربر و ويلسون، 2016، ص36).

وبما أن نموذج الاستدلال يتسم بهذا الطابع التداولي، فإنه « يفسر كيف يقوم المرسل إليه بهذه الفرضية أو تلك انطلاقا من المعلومات التي يقدمها الملفوظ، ومعلومات أخرى غير لغوية. فمن ناحية يجب على نموذج الاستنتاج تفسير كيفية تكوين الفرضيات التي ندعوها بالفرضيات السياقية الضرورية لتأويل الملفوظ، ومن ناحية أخرى يقوم بتحديد القواعد الاستنتاجية التي تسمح باستخلاص النتائج (حمو الحاج، 2015، ص60).

وتكون بذلك »العمليات الاستدلالية وعمليات فك الشفرة عمليات مختلفة عن بعضها تماما. فالعملية الاستدلالية تبدأ من مجموعة من المقدمات المنطقية وتتمخض عن مجموعة من النتائج التي تلزم منطقيا عن المقدمات أو هي في الأقل تسوغها. أما عملية فك الشفرة فتبدأ من إشارة وتتمخض عن استعادة الرسالة التي ترتبط بالإشارة على أساس شفرة ضمنية« (سبربر و ويلسون، 2016، ص38).

إن القول بأن الفهم هو عملية استدلالية ينسجم تماما مع المحادثات اليومية. حيث يضع المتكلمون لأنفسهم قواعد ومعايير للصدق والافادة والوضوح وعدم الوقوع في اللبس. وهذا هو الذي يجعل تفسيرا ما أقوى من التفسيرات الأخرى. إذ »مادام المتكلمون يتقيدون بالمعايير بشكل منتظم، ومادام المستمعون يتوقعونهم بانتظام أن يفعلوا ذلك، فإنه في الإمكان تجاهل عدد كبير من التفسيرات الممكنة لغويا لأية قولة« (سبربر و ويلسون، 2016، ص39).

والاهتمام بعمليات الاستدلال والاستلزام والتأويل متواصل بعد غرايس، »فقد حاول علماء الفعليات المحدثون، مستلهمين عمل غرايس، أن يصفوا هذه المعايير الضمنية للتواصل اللفظي، وأن يبينوا كيفية استعمالها في الفهم والاستيعاب، إن العمليات الذهنية المتضمنة في ذلك لم توصف بأي شيء من التفصيل، لكن الجميع متفقون على أنها عمليات استدلالية« (سبربر و ويلسون، 2016، ص40).

3.2. طبيعة الاستدلال

يمثل الاستدلال المفهوم المركزي في نظرية التواصل الاستدلالي ويضرب سبربر وولسن هذا المثال : »افرض أن (ميري) تقصد أن تخبر (بيتر) بكون حنجرتها ملتهبة. إنّ كل ما عليها فعله هو أن تدعه يسمع صوتها المبحوح وبذلك فهي تزوده بدليل واضح وحاسم على التهاب حنجرتها ... لذلك فكونها تحدثت بصوت مبحوح هو دليل مباشر للافتراض بأن حنجرتها ملتهبة« (سبربر و ويلسون، 2016، ص53).

فسماع الصوت المبحوح يستدل به على مرض الحنجرة، دون الحاجة إلى الإخبار عن ذلك. »والآن افرض أن (ميري) تقصد في الثاني من شهر حزيران أن تخبر (بيتر) (صدقا أو كذبا) بأن حنجرتها كانت ملتهبة عشية الميلاد (24 ديسمبر) من العام السابق، هذه المرة لا يحتمل أن تستطيع أن تقدم بينة أو دليلا مباشرا على التهاب حنجرتها الماضي، ومع ذلك فإن ما تستطيع فعله هو أن تزوده ببينة أو دليل مباشر ليس على التهاب حنجرتها الماضي وإنما على قصدها الحالي لأن تخبره على ذلك الالتهاب ... وستتمكن من إبلاغ قصدها عن طريق إخباره بأن حنجرتها كانت ملتهبة في عشية الميلاد. أو هذا يجعل قولة (ميري) دليلا مباشرا على قصدها الحالي أن تعلم (بيتر) بالتهاب حنجرتها الماضي (سبربر و ويلسون، 2016، ص53).

بعد هذه المرحلة تحتاج النظريتان إلى إبراز مفهوم « القصد »، الذي على أساسه يتم التمييز بين نموذجين للتواصل : « أحدهما أن تزود المتلقي بدليل مباشر على المعلومات المنوي توصيلها. وهذه لا ينبغي أن تعد شكلا من أشكال التواصل، وذلك لان أي حالة من الحالات يمكن أن تزود المتلقي بدليل مباشر على مختلف الافتراضات من دون أن توصل تلك الافتراضات بأي معنى ذي بال. والطريقة الأخرى لإيصال المعلومات هي أن تزود المتلقي بدليل مباشر على قصدك لإيصالها. إن الطريقة الأولى يمكن أن تستعمل فقط للمعلومات التي يتوافر لها دليل مباشر. أما الطريقة الثانية فيمكن أن تستعمل لأي معلومات على الإطلاق » (سبربر و ويلسون، 2016، ص54).

ولئن كانت نظرية المناسبة (la pertinence) في التواصل قائمة أساسا على عمل غرايس في « المنطق والمحادثة »، فإن أهم مفهوم عند غرايس هو « الاستلزام » الذي تحكمه عمليات استدلالية كثيرة. « وإذا كان غرايس مصيبا، فإن القدرات الاستدلالية التي يستعملها البشر عادة في نسبة المقاصد بعضهم إلى بعضهم الآخر، ينبغي أن تجعل التواصل ممكنا حتى في غياب الشفرة » (سبربر و ويلسون، 2016، ص58).

ويضرب لذلك سبربر وويلسون هذا المثال :

كيف تشعرين؟
فتجيبه (ميري) بأن تخرج زجاجة أسبرين من حقيبتها وتريه إياها.

وهذا المثال خال من الشفرة، إلا أن ميري استطاعت تبليغ مقصدها في أن تعبر عن مرضها. فمن خلال الاستدلال والربط بين علبة الدواء والمرض لم تكن ميري بحاجة إلى التعبير لإيصال رسالتها.

وإذا تعلق الأمر بالاستدلال والفهم والتأويل، فإن السياق يأخذ أبعادا واسعة، وأهمية كبيرة ضمن هذه السيرورة التأويلية. « وإن ربط السياق بمنظور ما يملكه المتلقي في ذهنه من جهة، وبمفهوم الضمنيات هو الذي يجعل الفهم الاستنتاجي (compréhension inférentielle) يتعلق بسيرورة عامة توظف مجموعة المعلومات المفهوماتية (informations conceptuelles) التي يملكها المتلقي عبر ذاكرته المفهوماتية » (بن عروس، 2014، ص146).

3. الفهم والتأويل في التبادل

يعد مبدأ الحصافة المبدأ الأكثر تفسيرا لما يتم في ذهن المتلقي في أثناء عملية التبادل، وذلك من خلال معالجة الفرضيات الممكنة من خلال السياق الثقافي والمعرفة المشتركة، وانتقاء الفرضية ذات الأثر السياقي المناسب، أو بعبارة أخرى الفرضية الأكثر حصافة. ويمكن القول عن كل هذه العمليات أنها محاولة لتأويل قوما ما. و« كما رأينا في النقطة السابقة أن الباحثين سبربر وويلسون أحلا مبدأ الحصافة محل مبدأ التعاون وجعلاه مبدأ ينطلق منه المتلقي لتأويل الأقول » (بن عروس، 2014، ص138).

1.3. التأويل

حينما يستقبل المتلقي قولا ما، فإنه يشرع في تأويله في ضوء ما يملك من معطيات. « إن الجملة »لقد تناولت فطوري« تدل على أن المتكلم قد تناول الفطور قبل زمن التلفظ. فهذه الجملة ستكون صحيحة لو كان المتكلم قد تناول فطوره قبل عشرين عاما ولم يفعل ذلك فيما بعد. وهذا لا يعكس بوضوح ما يريد المتكلم قوله قوله عندما يجيب عن السؤال : هل تريد أن تأكل شيئا؟، فيجيب : لقد تناولت الفطور وهو يقصد تحديدا دقيقا بأنه تناول فطوره في اليوم نفسه أي زمن التلفظ » (ريكاناتي، 2018، ص17).

ودائما هناك « طريقتان أو تأويلان كلاهما يقومان على التمييز بين معنى الجملة ومعنى المتكلم :

  • التأويل الأول : وهو تأويل يؤكد الارتباط الوثيق بين »معنى الجملة« و »مضمون القول« ، والجمع بينهما يكوّن المعنى الحرفي للجملة، بإزاء ما يعنيه المتكلم بقوله » (ريكاناتي، 2018، ص17، 18).

  • التأويل الثاني : وهو الذي يجمع بين « مضمون القول » و « مضمون الاستلزام » وكلاهما محدد تداوليا كالآتي

Image 1000020100000280000001F891AE5A9FF084462D.png

إلى جانب مثال : « لقد تناولت فطوري » في المثال السابق التي تؤكد وجود « هذا الجانب مما يريد أن يقوله المتكلم، يجب أن يؤول بأنه يقع خارج »مضمون القول« وهو جانب يصاحب الكلام كما هو الحال مه جملة : »أنا فرنسي« التي تفيد القول من خلال كلام المتكلم أنه طباخ ماهر » (ريكاناتي، 2018، ص20).

وسنقوم بدراسة المثال : « أنا فرنسي » خارج السياق وداخله، أو المعنى الحرفي ومعنى المتكلم كما يسمي ذلك ريكاناتي، « فجملة »أنا فرنسي« يمكن أن تعبر عن عدد غير محدود من القضايا، ولكن هذه القضايا يجب أن تكون موافقة للدلالية الكامنة للجملة (semantic potential). ولهذا لا تستطيع أن تعبر عن قضية تفيد أن الكنغرات لها ذيول، وما يستلزم يكون على وفق مبدإ الاستنتاج المعتمد على سلسلة استنتاج، وقد تكون السلسلة متضمنة لعدد من الخلفيات الافتراضية كما نشاء » (ريكاناتي، 2018، ص17).

وغالبا ما يكون الاستدلال مصاحبا للسيرورات التأويلية، « فعندما أرى سيارة جون، أستطيع أن أستدل من ذلك على أنه موجود هنا. فكذلك بعدما سمعت أن جون قد تناول فطوره قد أستدل من ذلك على أنه غير جائع وأنه لا يحتاج إلى طعام » (ريكاناتي، 2018، ص34).

2.3. مثال عن التأويل أثناء التبادل

« – جامع للتبرعات في طريق لندن : هل تريد أن تشتري شعار المؤسسة الملكية للإنقاذ في البحر؟

1. أحد المارة : لا، شكرا، أنا أقضي دائما العطلة عند أختي في بيرمنغهام.

حتى يتمكن المتلقي من إدراك حصافة الجواب لا بد له من أن يكون على دراية ببعض المقدمات مثل :

  • أن بيرمنغهام بعيدة عن البحر.

  • أن المؤسسة الملكية للإنقاذ في البحر هي مؤسسة خيرية.

  • أن إحدى الطرق التي تتم بها مساعدة مؤسسة خيرية هي شراء أحد شعاراتها.

  • أن شخصا ما لا يريد أن يقضي عطلته على شاطئ البحر ليس في حاجة إلى خدمات المؤسسة الملكية للإنقاذ في البحر.

  • أن شخصا ما ليس في حاجة إلى خدمات مؤسسة خيرية لا مسوغ له لمساعدتها.

2. هذا المار لا حاجة تدعوه ولا مسوغ لأن يساعد المؤسسة الملكية للإنقاذ في البحر (بن عروس، 2014، ص143، 144).

يحيلنا هذا المثال على دور السياق الثقافي وأهميته في عملية التأويل، وهذا السياق هو الذي يمكن من الوصول إلى الاستنتاج في 3، »وهناك علاقة وثيقة بين 1 و 3 ويعتبر 3 اقتضاء سياقيا (implication contextuelle) لـــ 1، ولكن هذا الاقتضاء الذي يجعلنا نحكم على أن جواب هذا المار حصيف لا يتأتى إلا إذا توفر 2 بمجموعة المعطيات التي يحملها، وبعبارة أخرى فإن المتلقي الذي لا يملك 2 لا يستطيع أن يصل إلى الاقتضاء 3 (بن عروس، 2014، ص144).

وسنلاحظ أهمية السياق الثقافي في مثال « أنا فرنسي » التي يقصد فيه المتكلم أنه طباخ ماهر (ريكاناتي، 2018، ص34) الذي ذكرناه سابقا :

  1. أنا فرنسي.

  2. -المطبخ الفرنسي غني.
    - أغلب الفرنسيين ماهرون في الطبخ.
    - أنا فرنسي.
    - أنا طباخ ماهر.
    - أي أنا طباخ ماهر.

وفي هذا المثال يصل المتلقي إلى 3 ويبني تأويله لـــ 1 على أساس السياق الثقافي الذي يمدنا بمعطيات عن المطبخ الفرنسي، ويكون فرضيات المعرفة المشتركة.

4. السياق

يندرج مفهوم السياق من هذا المنظور في إطار علم النفس المعرفي « المعروف في هذا المجال أن هناك تصورا لوجود معرفة مشتركة (savoir mutuel) يتقاسمها الذين يقومون بعملية التبادل (l’échange) (بن عروس، 2014، ص145).

إن خاصية بناء المعرفة المشتركة خاصة بشرية »ومن دون شك أن الآدميين، وهم يبنون تمثلهم للعالم، محدودون بقدرات عقلية خاصة بالنوع البشري، ومن دون شك أن كل أفراد مجموعة ثقافية يتقاسمون عددا من التجارب والمعارف والمواقف (sperber et wilson, 1989, p31-32).

ويتصور كل من سبربر وويلسون السياق على أنه "مجموع المقدمات (prémisses) المستعملة لتأويل (interprétation) قول ما. فالسياق هنا هو بناء سيكولوجي (une construction psychologique)، هو مجموعة من الفرضيات التي يملكها المتلقي حول العالم (بن عروس، 2014، ص145).

الخاتمة

نخلص من خلال هذا البحث إلى أن التواصل تتجاذبه زاويتا نظر : زاوية التشفير وزاوية الاستدلال. وينبغي أن نسجل ههنا أن التواصل وإن بدا عفويا أو تلقائيا، فإنه ليس بريئا بأي حال من الأحول، فقد يضمنه فاعلو التبادل اللغوي ما قد يتجاوز التشفير وفك التشفير. على أن الخاصية العفوية للتواصل، قد تجعله يبدو سطحيا للوهلة الأولى، وهو في الحقيقة اشتغال ذهني معقد، على المستوى الدلالي والإحالي للغة، وهو بنى خطابية متشابكة ومتداخلة على المستوى التداولي للخطاب.

بن عروس مفتاح، 2014، السياق وتأويل الأقوال في نظرية الحصافة، مجلة اللغة والأدب، ع21، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة الجزائر2، الجزائر.

حمو الحاج ذهبية، 2015، التداولية واستراتيجيات التواصل، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة.

ريكاناتي فرانسوا، 2018، المعنى الحرفي، تر : أحمد كروم، مر : عزالعرب لحكيم بناني، دار الكتاب الجديد، لبنان.

سبربر و ويلسون، 2016، نظرية الصلة أو المناسبة في التواصل والإدراك، تر : الخليفة عبد الله هشام، فراس عواد معروف، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، بيروت.

شارودو باتريك و مانغينو دومينيك، 2008، معجم تحليل الخطاب، تر : عبد القادر المهيري وحمادي صمود، مر : صلاح الدين الشريف، المركز الوطني للترجمة، دار سينارتا، تونس.

Sperber d. , wilson d. ,1989, la pertinence : communication et cognition, les editions de minuit, paris.

Watzlawick.P, Helmek Beavin.J, Don Jackson D, (1972), Une Logique de la communication, Edition de seuil, paris.

حمراوي محمد

الجزائرAlger 2

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article