مقدمة
يُعدّ علم السيمياء (La sémiotique) من أبرز المناهج النظرية التي أسهمت في تجديد آليات القراءة الأدبية وتوسيع آفاق تحليل النصوص والعروض في مختلف الحقول المعرفية. ولعل المسرح كان أحد أبرز الفنون التي استفادت من هذا التوجه، نظرًا لطبيعته التعددية وانفتاحه على مختلف أنماط العلامات اللغوية وغير اللغوية (صوتية، بصرية، إيقونية، حسية...).
تعددت التسميات المرتبطة بهذا العلم (السيميولوجيا، السيميوطيقا، علم العلامة...) تبعًا لاختلاف المرجعيات المنهجية، سواء كانت دلالية أو تواصلية أو ثقافية، لكنها جميعًا تلتقي حول محور جوهري هو العلامة وطرق إنتاج المعنى عبرها. وفي هذا السياق، يُطرح المسرح كفضاء سيميائي ثريّ، تتقاطع فيه العلامات النصية مع البصرية والسمعية، ما جعله محلّ اهتمام بالغ من قبل روّاد التحليل السيميائي منذ بدايات هذا التخصص.
وانطلاقًا من هذا الإطار النظري العام، يتحدد هدف هذا البحث في محاولة للإجابة عن الإشكالية الآتية : كيف تُفعّل القراءة السيميائية داخل النص الدرامي؟ وما الأثر الناتج عن العلامة في خطابه، بغضّ النظر عن طبيعتها أو وسائطها؟
لاستقصاء هذا التساؤل، تم اختيار النص الدرامي « ابن الرومي في مدن الصفيح » للكاتب والمخرج المغربي عبد الكريم برشيد، باعتباره نموذجًا متميزًا لتوظيف العلامات السيميائية داخل الخطاب المسرحي من خلال تداخل المرجعيات الزمنية (التراث والحاضر)، وتعدد الوسائط الدلالية، ما يجعل منه أرضية خصبة للتحليل. ويقوم هذا الاختيار أيضًا على القناعة بأن النص الدرامي يشكّل المرجعية الأولى للعرض، إذ يحتوي في بنيته اللغوية والإرشادية على إشارات موجهة للحركة والمكان والزمن، كما أشار إلى ذلك كل من « جولي بولياتي » و« أليساندرو سيربييري » حين قالا :« رموز العرض مسجلة في النص في شكل إيماءات خاصة بالفضاء والزمن والحركة » (Oude-Sveldt & Ibrahim, 1996, p. 15).
وباعتماد مقاربة سيميولوجية منفتحة، يسعى هذا البحث إلى تحليل العلامات الموظّفة في النص، واستكشاف أبعادها التأويلية والدلالية، للكشف عن طبيعة الخطاب الدرامي وخصوصيته ضمن السياق الثقافي العربي المعاصر.
1. المقاربة المنهجية وأدوات تحليل العلامة
1.1. الإطار المنهجي للدراسة
1.1.1. تحديد العيِّنة النصيَّة
يتناول هذا البحث نصًا دراميًا عربيًا معاصرًا هو مسرحية « ابن الرومي في مدن الصفيح » للمؤلف والمخرج المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد، أحد أبرز رواد الاتجاه الاحتفالي في المسرح العربي الحديث. وقد نُشر هذا النص في طبعته الرابعة سنة 2008–2009 عن دار النشر « أديسوفت » بالمغرب.
يمتد النص على سبع عشرة لوحة مسرحية، ويجمع بين شخصيات تراثية وتاريخية وأخرى معاصرة، مما يجعله فضاءً خصبًا لاختبار القراءة السيميائية التي تتطلب تنوعًا على مستوى العلامات والدلالات. كما تتسم البنية النصية بطابع احتفالي يستلهم آليات المسرح الشعبي والفرجوي، مما يمنح الباحث إمكانية لتتبع تعالق المعنى بين العلامات اللفظية وغير اللفظية، وبين الأنساق الزمنية المتداخلة.
النص يعالج قضايا اجتماعية وسياسية راهنة، كالفقر، والتهميش، والحق في السكن، من خلال لغة رمزية قائمة على الإيحاء والترميز، ما يسمح بتفعيل القراءة السيميائية في مستويات متعددة، جمالية ونقدية وثقافية. ولأن النص المسرحي هو الأساس الذي تُبنى عليه الرؤية الإخراجية، فإنّ تحليله يمنح فهمًا أعمق لطبيعة الخطاب الدرامي العربي المعاصر.
2.1.1. مبررات اختيار العينة
تم اختيار هذا النص المسرحي استنادًا إلى عدة اعتبارات منهجية وجمالية، نوجزها فيما يلي :
-
الثراء العلاماتي للنص : يتميز النص بكثافة الرموز والإشارات، ما يجعله قابلاً لتحليل سيميائي متعدد المستويات، ويُبرز الدور الوظيفي للعلامة في إنتاج الدلالة داخل النص المسرحي.
-
البنية الاحتفالية : يقدم النص بنية درامية تجمع بين ما هو شعبي وتراثي وما هو معاصر، من خلال استحضار شخصيات تاريخية (ابن دانيال، ابن الرومي...) في سياق حداثي، وهو ما ينسجم مع التوجّه السيميائي الذي يشتغل على التفاعل الرمزي.
-
ثبات النص مقابل العرض : بالمقارنة مع العرض المسرحي الذي يختلف حسب رؤية المخرج والسياق الزمني والمكاني، يمثل النص الدرامي مرجعًا ثابتًا لتحليل العلامة. فقد أشار كل من جولي بولياتي وأليساندرو سيربييري إلى أن :
« رموز العرض مسجّلة في النص في شكل إيماءات خاصة بالفضاء والزمن والحركة »(Oude-Sveldt & Ibrahim, 1996، ص. 15).
وعليه، فإن النص يمثل حقلًا خصبًا لاستكشاف إمكانيات المنهج السيميائي من خلال تتبع العلامات وقراءتها في بيئة نصية مشحونة بالرمزية والدلالة، ومرتبطة في الآن ذاته بقضايا المجتمع العربي الراهن.
3.1.1. أدوات التحليل
يعتمد هذا البحث على مجموعة من الأدوات المستمدة من التحليل السيميائي، والتي تتيح تفكيك النص الدرامي واكتشاف الآليات التي تعمل بها العلامة في إنتاج الدلالة ضمن الخطاب المسرحي. ومن أهم هذه الأدوات :
-
تحليل العنوان : باعتباره عتبة نصية وسيميائية أولى تُقدّم مفاتيح تأويلية للقارئ.
-
تحليل الحوارات المسرحية : لكونها الحامل المركزي للعلامات اللغوية والصراعات الرمزية.
-
تحليل الإرشادات المسرحية : بما تتضمنه من توجيهات مكانية وزمنية وسينوغرافية تشكل النص الموازي.
-
تحليل البنية الزمانية والمكانية : وذلك لتحديد كيفية إنتاج المعنى وتوجيهه داخل الفضاء المسرحي.
تبرز أهمية هذه الأدوات في كونها لا تكتفي برصد العلامات، بل تسعى إلى تفسير أدوارها الجمالية والسردية داخل النص، مما يتيح إمكانية بناء قراءة تأويلية متكاملة تتجاوز المستوى الظاهري إلى البنية الرمزية العميقة.
2.1. الدراسات السابقة
تأتي هذه الدراسة في سياق مجموعة من الأبحاث التي اشتغلت على سيميولوجيا المسرح، سواء من زاوية التحليل النظري أو من خلال تطبيقات منهجية على نصوص درامية. نذكر من بين هذه الدراسات ما يلي :
-
سيمياء المسرح والدراما – كير إيلام، ترجمة : رئيف كرم.
-
سيميولوجيا المسرح بين النص والعرض – هاني أبو الحسن سلام.
-
مدرسة المتفرج – قراءة المسرح 2 – آن أوبرسفيلد، ترجمة : إبراهيم حمادة.
-
سيميائيات المسرح : إمكانات المقاربة وحدود الإقحام – عمر الرويضي.
-
السيميولوجيا أو السيميائية؟ الموضوعات والأهداف – رشيد بن مالك.
-
سيميائية الخطاب المسرحي في مسرحية « حمق سليم » – هني حيزية عزوز.
تمثل هذه الأعمال المرجعية أرضية معرفية صلبة لهذا البحث، وتمنحه امتدادًا علميًا ضمن حقل السيميولوجيا التطبيقية وتحليل العلامة في الفنون الأدائية، كما تدعم مشروعية الدراسة الحالية في تناولها للنص المسرحي العربي ضمن منظور سيميائي حديث.
بناءً على ما سبق، فإن الدراسة تستند إلى إطار منهجي يجمع بين التعريف الدقيق بالعينة، والتبرير العلمي لاختيارها، وتوظيف أدوات تحليل سيميائية تتيح قراءة دلالية معمقة، ضمن سياق معرفي تدعمه دراسات سابقة في المجال. كما أن تفاعل العلامات اللسانية وغير اللسانية داخل النص المختار يمكّن من إبراز إمكانيات المنهج السيميائي في تحليل الخطاب المسرحي العربي من الداخل، وقراءة بنيته الرمزية بوصفها مرآة لمجتمعه وقضاياه.
2. القراءة السيميائية لنص الدرامي« ابن الرومي في مدن الصفيح »لعبد الكريم برشيد
1.2. ملخص المسرحية
يتناول النص الدرامي « ابن الرومي في مدن الصفيح » للمؤلف والمخرج المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد، أحد أبرز رواد المسرح الاحتفالي في الوطن العربي، تجربة فنية مكثفة تسعى إلى مزج الماضي بالحاضر من خلال استحضار شخصيات تراثية وتاريخية لمقاربة قضايا اجتماعية معاصرة. صدر النص عن دار النشر « أديسوفت » في طبعته الرابعة (2008–2009)، ويمتد على 97 صفحة، موزعة على 17 لوحة مسرحية، وقد تم تجسيده على الركح من قبل 19 ممثلًا وممثلة، تقمصوا أدوار شخصيات تنتمي إلى زمنين متداخلين : شخصيات من التراث العربي وأخرى من العصر الحديث، موزعة بين فئتين : فئة مستغِلة (بكسر الغين) وأخرى مستغَلة (بفتح الغين).
يفتتح الكاتب المسرحية باستحضار شخصية ابن دانيال، شيخ المخايلين وصاحب عربة « خيال الظل »، رفقة ابنته دنيا زاد. يظهران في اللوحة الأولى، حيث يحاولان تقديم عرض فرجوي أمام الجمهور، غير أن مسؤول الستار يمنعهما بحجة أن العرض المبرمج لم يبدأ بعد. فيقدم ابن دانيالنفسه بقوله :
« أحبتي، جئتكم من بين الصفحات الصفر الباليات، من الزمن المعلب النائم فوق الرفوف. »(برشيد، 2009–2008، ص. 11)
يتجمع الأطفال حول عربة خيال الظل، حيث تنعكس الظلال والأضواء لتنسج مشاهد احتفالية تجمع بين الخيال والواقع. ينقلنا النص بعد ذلك إلى زمن الحاضر، حيث نُعاين حيوات سكان الحي القصديري أمثال : حمدان، رضوان، سعدان...، وهم يمثلون الطبقة الكادحة المهمشة. تصلهم أوامر من السلطة المحلية (المقدم) بضرورة إخلاء الحي، لتحويله إلى مشروع سياحي (فنادق)، بدعوى أنه لا يليق بالحياة الآدمية.
يستغل ابن دانيال الموقف ليجذب انتباه السكان عبر عرضه، ويختار أن يسرد عليهم قصة الشاعر ابن الرومي، ويقدّمه قناعًا مسرحيًا متعدد الدلالات :
« ابن الرومي الذي رسمته وقصصته بيدي، ليس وليد بغداد التي تعرفون...
شاعر الليلة يا سادتي قد يكون من باريز، من روما، من البيضاء، أو من وهران...
قد يكون أنت أو أنت، ومن يدري؟ قد يكون... يا سادتي، نرحل الآن إلى بغداد الرمز. »(برشيد، 2009–2008، ص. 22–23)
تنتقل الأحداث إلى مدينة بغداد، حيث يعيش ابن الرومي في عزلة، غارقًا في صراعاته الداخلية ومترددًا بين الالتزام بقضايا الناس أو الارتماء في أحضان السلطة. ومع تطور الأحداث، يتحول من شاعر مثقف إلى انتهازي يستغل معاناة سكان الحي لصالح المتنفذين.
في اللوحة الأخيرة، يُحاكمه سكان الحي، كما يواجه ابن دانيال غضب الجمهور لكونه لم يقدّم حلًا ملموسًا. وتظهر دنيا زاد كشخصية مقاومة تمثل وعي الجيل الجديد، فتدعو إلى الفعل بدل الفرجة، إلى النضال بدل الاكتفاء بالحكي :
« الكلمة التي تفتقر إلى الحركة هي كلمة زائفة تمامًا كعملة بلا رصيد...
عذاب الفقراء ما كان يومًا فرجة ولن يكون أبدًا. »(برشيد، 2009–2008، ص. 95)
هكذا يختم الكاتب نصه بنداء واضح إلى الثورة والتغيير، حيث تتحول دنيا زاد إلى رمز للأمل والتحرر، داعية والدها والجمهور إلى كسر صمت الخيال والانخراط في واقع النضال.
2.2 سيمياء الغلاف
يحمل غلاف النص المسرحي « ابن الرومي في مدن الصفيح » دلالات سيميائية غنية تسهم في تشكيل أفق التلقي الأولي للنص. وقد حرص المؤلف عبد الكريم برشيد، بوصفه أحد رواد المسرح الاحتفالي، على اختيار غلاف ينسجم مع رؤية النص الجمالية والدلالية.
[يُدرج هنا : صورة غلاف النص المسرحي « ابن الرومي في مدن الصفيح » لعبد الكريم برشيد]
يتكوّن الغلاف من عنصرين بصريين رئيسيين هما : العنوان المكتوب وصورة فوتوغرافية مأخوذة من أحد مشاهد العرض المسرحي، وقد وُضعا بطريقة مدروسة :
-
العنوان في أعلى الغلاف :كُتب العنوان « ابن الرومي في مدن الصفيح » بخط بارز وبلون أحمر، ما يجعله لافتًا للنظر كعلامة سيميائية قوية تثير فضول القارئ. يقدَّم العنوان بوصفه عتبة دلالية أولى، يُفكّك من خلالها المتلقي الشفرات الرمزية التي يختزنها النص.
-
الصورة الفوتوغرافية في أسفل الغلاف :تمثل الصورة لقطة حية من العرض المسرحي، تُبرز تداخلًا بين شخصيات من الماضي (مثل : ابن دانيال، ابن الرومي، دنيا زاد) وأخرى من الحاضر (مثل : حمدان، سعدان...). وهي علامة أيقونية تُجسّد المفارقة الزمنية التي يقوم عليها النص، حيث تتقاطع الأزمنة وتتصادم الهويات داخل حي قصديري مسكون بالمعاناة والاحتجاج.
يمكن للمتلقي، من خلال الملابس والديكور الظاهر في الصورة، أن يميز بسهولة بين الشخصيات التاريخية الملبّسة بالأزياء التقليدية (مثل العباءة والعمامة) وبين شخصيات العصر الحديث بملابسها اليومية البسيطة، وهو ما يعمّق البعد التفاعلي بين الأزمنة.
أما الخلفية والديكور، فيعكسان الطابع العمراني العشوائي الذي يميز الأحياء القصديرية : مساكن مشيدة من الصفائح المعدنية، جدران متهالكة، مساحات ضيقة، كلها مؤشرات على الكثافة السكانية والتهميش الاجتماعي. تُوظف هذه العلامات البصرية لفضح واقع الفقر والحرمان، وتُستخدم كرموز دالة على العنف البنيوي الذي يعيشه المهمّشون في المدن العربية الحديثة.
باختصار، يمكن اعتبار الغلاف امتدادًا للنص المسرحي ذاته، إذ لا يؤدي دورًا تزويقيًا أو تجميليًا، بل يوظَّف كوسيط بصري وسيميائي يُمهد للقراءة ويدخل القارئ في أجواء النص الاحتفالية والرمزية منذ اللحظة الأولى.
3.2. سيمياء العنوان
يُعد العنوان من أبرز العتبات النصية في أي عمل أدبي، فهو علامة سيميائية تحمل دلالات أولية تؤطر أفق التلقي وتوجّه القارئ نحو تأويل معين. وقد أكدت أغلب الدراسات النقدية الحديثة على أن العنوان ليس مجرد عنصر تكميلي، بل هو جزء بنيوي من النص، يحمل « حمولة دلالية » تُمكّن المتلقي من فتح مسارات متعددة للفهم والتأويل.
وفي هذا السياق، يرى بسام قطوس أن العنوان « يشكل علامة لغوية مشفرة تحتاج إلى متلقٍّ حاذق يفكّ رموزها، لأنه يشكل أول لقاء مادي محسوس يتم بين المرسل والمتلقي » (عامر، 2014، ص. 579). وهو ما يدعمه كذلك قول صورية بختي بأن العنوان في النصوص الدرامية الحديثة أصبح « يساهم في شد انتباه المتلقي وإثارة فضوله » (صورية، 2015، ص. 78).
1.3.2. تحليل العنوان الرئيس : « ابن الرومي في مدن الصفيح »
يتألف العنوان من بنيتين دلاليتين متكاملتين ومتقابلتين في آن :« ابن الرومي »
يحيل إلى الشاعر العباسي المعروف، علي بن العباس بن جريج، الذي اشتهر بشعره الحاد، وتأملاته القاتمة، ونقده اللاذع للمجتمع العباسي. يمثل هذا الاسم في العنوان علامة تراثية مشحونة بدلالات ثقافية وتاريخية، إذ لا يُستحضر بوصفه شخصية تاريخية فحسب، بل يتم توظيفه قناعًا دراميًا (Persona) يجسّد المثقف المهمّش والمنفي في زمنه، كما هو حال المثقف المعاصر. هذا الاستدعاء يُضفي على النص بعدًا حواريًا بين العصور، ويؤسس لما يسميه باختين بـ« الحوارية الزمنية »، حيث تتفاعل الأصوات عبر الحقب المختلفة لتُنتج خطابًا مركبًا.
إضافةً إلى ذلك، يشكل « ابن الرومي » هنا رمزًا للمثقف الحائر، الممزق بين الانتماء إلى سلطة الأدب واللغة، والانخراط في صراع وجودي ضدّ قوى التهميش والاستغلال. فهو ذات تراجيدية محكومة بالفشل، تعيش المنفى داخل ذاتها كما داخل حيّها القصديري.
-
« في مدن الصفيح »
تمثل هذه العبارة العلامة الزمكانية الأهم في العنوان، فهي لا تشير إلى مدينة بعينها، بل إلى كل فضاء هامشي عشوائي يعيش فيه الفقراء والمهمشون. يحمل هذا التركيب دلالات متعددة منها :
-
هشاشة العمران رمزًا لهشاشة النظام الاجتماعي.
-
تكرار المعاناة من زمن لآخر.
-
نزع القداسة عن المدينة باعتبارها رمزًا للحضارة، وتحويلها إلى صورة عن القهر والاستلاب.
وبربط هذه البنية بـ« ابن الرومي »، فإن الكاتب يخلق مفارقة مزدوجة : بين شاعر عباسي مثقف عاش في مدينة كبرى هي بغداد، وحي قصديري حديث يرمز إلى التهميش الحضري في المدن العربية المعاصرة. هذا التناص الزمني بين « ابن الرومي » و« مدن الصفيح » لا يُعيد فقط كتابة التراث، بل يُسائل الحاضر انطلاقًا منه، ويؤكد أن المعاناة –بكل أشكالها– لا تزال متجذرة في بنياتنا الاجتماعية والثقافية.
-
التركيب العام
يُحيل العنوان إلى خطاب سردي/درامي يحمل في طياته بعدًا احتجاجيًا وتاريخيًا، ويؤسس لمسار رمزي تتقاطع فيه عناصر التراجيديا الاجتماعية، والتأمل الفلسفي، والنقد الثقافي. إنه عنوان يثير الأسئلة أكثر مما يقدم الأجوبة، ويهيّئ المتلقي لولوج عالم تتقاطع فيه الأزمنة، وتتداخل فيه الرموز، وتُختبر فيه سلطة الكلمة مقابل سلطة القهر.
2.3.2. دلالة العنوان كعلامة تأويلية
ولفهم الوظيفة التأويلية التي يؤديها عنوان المسرحية « ابن الرومي في مدن الصفيح »، يمكن استعراض أبرز الثنائيات الدلالية التي يشير إليها، بوصفه علامة سيميائية متعددة الطبقات. هذه الثنائيات لا تعمل فقط على مستوى المعنى السطحي، بل تفتح المجال أمام تأويلات متعددة ترتبط بسياق النص، وببنيته الجمالية والفكرية. يبيّن الجدول الآتي أهم هذه الثنائيات، ويوضح كيف تترابط أطرافها لتشكّل مفاتيح قرائية متعددة للمسرحية :
الثنائية الدلالية |
التأويل الممكن |
المثقف / المهمّش |
تمثيل لصراع الوعي والمعاناة الاجتماعية |
الماضي / الحاضر |
تواصل دلالي بين التراث والواقع |
التراث / الواقع الاجتماعي |
استحضار رمزي لتجذير الفكرة |
اللغة الشعرية / اللغة الاحتجاجية |
التعبير الفني كوسيلة نقدية |
وهذا ما يجعل العنوان لا يؤدي فقط وظيفة التسمية، بل يُصبح مدخلًا لفهم فلسفة العمل ويُرسّخ الطابع السيميائي للخطاب الدرامي الذي يعتمده عبد الكريم برشيد.
4.2. سيمياء الموضوع والبنية الدرامية
1.4.2. قراءة سيميائية لعناوين اللوحات المسرحية
-
تعتمد مسرحية « ابن الرومي في مدن الصفيح » على تركيب درامي احتفالي يُبنى على المفارقة الزمنية والتقاطع بين التراث والواقع المعاصر. يتجلّى ذلك في بناء درامي يتكوّن من سبع عشرة لوحة تتتابع وفق منطق احتفالي يُراوح بين الفانتازيا والواقع، بين التراثي والاجتماعي. كل لوحة تمثّل وحدة دلالية قائمة بذاتها لكنها في الآن ذاته تنسج خيوط الفهم الإجمالي للنص. ومن خلال القراءة السيميائية لكل لوحة، يمكن رصد التحوّلات الرمزية والدلالية، وموقع كل شخصية أو مشهد ضمن البنية الفكرية التي يقترحها النص.
-
فيما يلي جدول تحليلي يلخّص التدرّج الموضوعي والدلالي للوحات المسرحية، ويبيّن كيف تُستثمر العلامة في صياغة خطاب نقدي وجمالي متكامل :
مضمون الأحداث |
القراءة السيميائية |
مضمون الأحداث |
عنوان اللوحة |
الرقم |
ظهور عامل الستار، ابن دانيال وابنته دنيازاد |
المسرح داخل المسرح : البداية من قاعة العرض، التمهيد لعالم الفرجة |
ظهور عامل الستار، ابن دانيال وابنته دنيازاد |
إلى أن يرتفع الستار |
01 |
سرد ابن دانيال لحكاياته للأطفال في الحي |
إعادة إحياء التراث الشعبي والخيال الظلي |
سرد ابن دانيال لحكاياته للأطفال في الحي |
رحلة المخايل الطويلة |
02 |
إعلان قرار الترحيل لسكان الحي القصديري |
نقد اجتماعي، تصوير الواقع المزري وسلطة القرار الغائبة عن هموم الناس |
إعلان قرار الترحيل لسكان الحي القصديري |
تحولات القصدير المنتظرة |
03 |
عرض فني يتضمن أسلوب سردي فني وملاحم تاريخية |
التوظيف الرمزي للسرد الشعبي لتمرير قضايا معاصرة |
عرض فني يتضمن أسلوب سردي فني وملاحم تاريخية |
المخايل القديم والملاحم الجديدة |
04 |
تردد في فتح باب الواقع |
الخوف من المواجهة مع القهر الواقعي |
تردد في فتح باب الواقع |
افتح الباب أو لا أفتحه |
05 |
ظهور شخصية عريب في بغداد |
إعادة إنتاج الاستعباد بشكل حديث، رمزية الجسد والأنوثة المستلبة |
ظهور شخصية عريب في بغداد |
عريب في زمن النخاسة الجديدة |
06 |
بحث ابن الرومي عن الجارية عريب |
تمجيد العقل والنباهة، قيمة المثقف المُنقذ |
بحث ابن الرومي عن الجارية عريب |
ابن الرومي يسأل ضيف الله |
07 |
عدم تغيّر وضعية الجارية رغم الزمن |
تشابه القهر عبر الأزمنة، استمرارية العبودية |
عدم تغيّر وضعية الجارية رغم الزمن |
عريب والرحيل من بغداد إلى بغداد |
08 |
مقاطعة « عاشور » العرض، نقاش بين السرقة الفنية والسرقة الواقعية |
الصراع بين الوعي الزائف والوعي النقدي، المقدم كرمز للسلطة الانتهازية |
مقاطعة « عاشور » العرض، نقاش بين السرقة الفنية والسرقة الواقعية |
استراحة المخايل وطيف الخيال |
09 |
انعزال ابن الرومي عن الجيران |
المثقف المنعزل، الموقف السلبي من الواقع |
انعزال ابن الرومي عن الجيران |
مع جيران ابن الرومي |
10 |
دعوة للكشف وفضح ما يجري |
بداية التحول نحو الفعل |
دعوة للكشف وفضح ما يجري |
ابن الرومي يفتح الباب |
11 |
تقلب مزاج ابن الرومي، شكوى من الحظ |
الانكسار النفسي للمثقف، تكرار الخيبة التاريخية |
تقلب مزاج ابن الرومي، شكوى من الحظ |
عجبي لك يا ملك الشمس |
12 |
فخر ابن الرومي بعريب |
الحلم والتفاؤل، الجمال كوسيلة للمقاومة |
فخر ابن الرومي بعريب |
عريب الحلم تصبح أربعة |
13 |
كآبة ابن الرومي، تدهور أوضاعه |
فقدان الإيمان بالأثر، نهاية الدور التوعوي |
كآبة ابن الرومي، تدهور أوضاعه |
أعطوه السفر والخطابة |
14 |
عزلة، تساؤلات عن مصير المهمشين |
اختفاء الوعي الجمعي، التهميش الرمزي والمادي |
عزلة، تساؤلات عن مصير المهمشين |
إلى أين يغيب المشوهون |
15 |
عودة الأمل في السوق، استعادة الحيوية |
رمزية الفرح والعودة للمسرح والاحتفال |
عودة الأمل في السوق، استعادة الحيوية |
وعادت عريب |
16 |
الجمهور يلتف حول ابن دانيال، دنيا زاد تدعو للثورة |
نقد اللامبالاة، دعوة للتحرك والتغيير، الكلمة وحدها لا تكفي بدون فعل |
الجمهور يلتف حول ابن دانيال، دنيا زاد تدعو للثورة |
إلى أين ينزل الستار |
17 |
يكشف هذا الجدول عن البنية السيميائية التي يتبعها النص المسرحي، حيث تتوالى اللوحات وفق منطق تصاعدي في الحدة والوعي. تبدأ المسرحية في فضاء فرجوي احتفالي وتنتهي بنداء ثوري، مما يعكس مسارًا دلاليًا يربط بين الفرجة والموقف السياسي والاجتماعي. كل لوحة، بوصفها وحدة دلالية، تسهم في بناء عالم رمزي غني بالعلامات التي توجّه المتلقي نحو استيعاب أعمق للواقع من خلال مسرح يعانق قضايا الإنسان في كل زمان ومكان.
2.4.2. سيمياء الموضوع
تعتمد مسرحية « ابن الرومي في مدن الصفيح » لعبد الكريم برشيد على رؤية درامية تحتكم إلى بنية موضوعية تنطلق من التقابل الزمنيوالتوتر الدلالي بين الماضي والحاضر، وبين التراث والواقع. هذا الاختيار ليس شكليًا فحسب، بل يُبنى عليه خطاب رمزي عميق، يُستثمر فيه التراث كآلية نقدية لمساءلة الواقع المعاصر، معتمدًا على التداخل بين ما هو خيالي/رمزي واجتماعي/واقعي.
يظهر ذلك بوضوح من خلال استدعاء شخصية ابن الرومي، بوصفه رمزًا للمثقف المهمش، الذي يُنقل من سياقه العباسي التراثي إلى واقع « مدن الصفيح »، ليجد نفسه وسط طبقة مسحوقة، محاصرة بالجهل، الفقر، والاستغلال. وبهذا، يغدو الموضوع المركزي للنص هو : معاناة الإنسان العربي بين ذاكرة التراث وجراح الحاضر.
-
جدلية المثقف والسلطة : من خلال شخصية ابن الرومي، يُطرح سؤال دور المثقف : هل عليه أن يكتفي بسرد الحكايات؟ أم يجب أن يتحوّل إلى فاعل اجتماعي؟ تظهر هذه الجدلية في المشهد الأخير حين تنادي دنيا زاد بالثورة، بينما يظل ابن دانيال متردداً في استكمال حكاياته، في إشارة إلى قصور الخطاب الثقافي التقليدي في إحداث التغيير.
-
التراث كمرآة للواقع :استحضار التراث هنا لا يتم بمنطق النوستالجيا، بل هو تراث تفكيكي، أي أن الكاتب يوظفه ليقارن ويُفجّر التناقض بين الرمزي والمادي، بين الحكاية والواقع. بغداد تتحول إلى مرآة تعكس حيًّا قصديريًا معاصرًا، والقهر الذي تعانيه « عريب » يُماثل ما تعانيه نساء اليوم في المدن المهمشة، ما يدل على استمرارية القهر عبر العصور.
-
الفضاء الرمزي كعلامة :مدينة بغداد وحي القصدير ليسا مجرد أمكنة، بل هما فضاءات رمزية؛ بغداد تمثل المجد الثقافي الضائع، بينما الحي القصديري يمثل الواقع العربي المأزوم. الجمع بينهما يكوّن مفارقة سيميائية تُعرّي الفجوة بين الوعي التراثي والنظام الاجتماعي الحالي.
-
من الفرجة إلى الفعل :تنقل المسرحية المتلقي من وضعية التلقي السلبي (فرجة خيال الظل) إلى وضعية المطالبة بالفعل، ويتجسد هذا التحول في شخصية دنيا زاد، التي تعلن أن « عذاب الفقراء ليس فرجة »، مما يمنح النص بُعدًا تحريضيا وتحرريا، ويجعل من المسرح أداة للوعي والتغيير، لا مجرد تسلية.
يمكن القول إن سيمياء الموضوع في هذه المسرحية تتأسس على مفارقة ثلاثية الأبعاد : زمنية (الماضي/الحاضر)، معرفية (المثقف/السلطة)، مكانية (الرمز/الواقع). ويتجلى التفاعل السيميائي من خلال قدرة العلامة (سواء كانت شخصية أو مكانًا أو قولًا) على تأطير الخطاب النقدي الاجتماعي الذي يقترحه النص. وهكذا تتحول المسرحية إلى مرآة للعقل العربي المعاصر، محاطة بأسئلة مستفزة، تتجاوز اللحظة المسرحية لتطرح إشكالات تتصل بواقع الإنسان العربي وسبل تحرره.
5.2. سيمياء الشخصيات
تمثل الشخصية المسرحية حجر الأساس في تشكيل البنية الدرامية للنص، فهي ليست مجرد عنصر سردي، بل علامة سيميائية متعددة الأبعاد : لغوية، بصرية، جسدية، وأدائية. تتكثف دلالاتها من خلال الحوار، الإيماءات، المظهر الخارجي، وحتى من خلال الصمت، باعتباره بدوره فعلاً دلاليًا. فكما يرى عزوز (2020، ص. 341) : « تشكل الشخصية مدلولها من وحدة الأفعال التي تنجزها في سياق السرد وليس خارجه. »
في مسرحية « ابن الرومي في مدن الصفيح »، يوظف عبد الكريم برشيد شخصيات تنتمي إلى أزمنة متباينة : شخصيات تراثية مستحضرة من الماضي العباسي، وشخصيات تنتمي إلى الحاضر المهمش. يتقاطع فيها الرمزي مع الواقعي، في خلق فضاء درامي كثيف الدلالة، يرسم صورة مركبة للإنسان العربي عبر العصور. وفيما يلي جدول تحليلي يلخّص السمات السيميائية الأساسية لأبرز شخصيات المسرحية :
الجدول : التحليل السيميائي للشخصيات
البعد النفسي والأخلاقي |
البعد الاجتماعي |
الدور في المجتمع |
دلالة الاسم |
الشخصية |
الرقم |
منضبط، سريع الغضب، متفانٍ |
الانضباط، خلفية عاملة |
تقني مسرحي |
لا يحمل دلالة رمزية مباشرة |
عامل الستار |
01 |
طيب، مثالي، واعٍ |
فقير، يقطن حي قصديري |
شيخ المخايلين |
تراثي، خيال الظل |
ابن دانيال |
02 |
مناضلة، واقعية، ثائرة |
فتاة فقيرة، غجرية |
راوية، مساعدة والدها |
من « ألف ليلة وليلة » |
دنيا زاد |
03 |
خجول، منعزل، حالم |
يعيش وحيدًا، معدم |
مثقف مهمّش |
شاعر عباسي |
ابن الرومي |
04 |
لبقة، مؤثرة، حساسة |
مستعبدة |
شاعرة، مغنية |
جارية مشهورة، رمز العروبة |
عريب |
05 |
متعاون، صامت نسبيًا |
من سكان الحي القصديري |
عامل بسيط |
من الرضا |
رضوان |
06 |
ساخر، تقليدي، ناقد |
يعبر عن الوعي الشفوي |
شاعر شعبي |
من الحمد |
حمدان |
07 |
ساذج، غير فعال |
هامشي في التأثير |
شاعر/رسول الحي |
التطفل، التهريج |
أشعب المغفل (براديو) |
08 |
مرِح، بسيط |
فقير، يملك دكانًا |
مغنٍ، حلاق |
عيون جاحظة |
جحظة المغني |
09 |
طيب، متوازن |
تاجر متوسط الحال |
بائع عطور |
كناية عن الإعاقة |
دعبل الأحدب |
10 |
مقتصد، يحلم بالكفن |
من كبار السن، فقير |
إسكافي |
صفة البخل |
عيسى البخيل |
11 |
حكيم، صبور |
مثقف شعبي |
كاتب عمومي |
من السعادة |
سعدان |
12 |
مرحة، حالمة |
فقيرة، تحب الحياة |
جارية، موسيقية |
حجر كريم |
جوهرة |
13 |
شاعرة بالصنعة، لطيفة |
مستعبدة |
جارية، تطريز وشعر |
من الحب والاتقان |
حبابة |
14 |
قاسية، متسلطة |
تاجر نساء |
معلمة الجواري |
آلة موسيقية |
الرباب |
15 |
ساخر، مستبد |
سلطة محلية انتهازية |
ممثل عن الدولة |
السلطة |
مقدم الحي |
16 |
منافق، محتال |
من رموز الفساد الإداري |
خادم للمجلس البلدي |
رمزي، خادم الزمن |
يا زمان |
17 |
انتهازي، لا مبالٍ |
هامشي |
ناقل الأخبار |
منادي الحي |
يعقوب |
18 |
طيب، ضحية الواقع |
رمز الانهيار الأخلاقي |
أبله الحي |
رمز الاحتفال |
عاشور الأبله |
19 |
من خلال هذا التحليل، يمكننا القول إن الشخصيات في مسرحية « ابن الرومي في مدن الصفيح » لا تتحرك في فراغ سردي، بل تمثل شبكة علامات متداخلة تعكس البنية الاجتماعية والسياسية للعالم المسرحي. هناك تواشج دلالي بين الشخصيات التراثية والمعاصرة، حيث يُعاد توظيف الرموز القديمة لإضاءة واقع حديث مأزوم.
ويبرز « ابن دانيال » بوصفه رمزًا للراوي الواعي المتصل بجذور الفرجة الشعبية، بينما تتحول « دنيا زاد » إلى صوت الوعي الثائر. أما « ابن الرومي »، فيظل في موقع التردد والانكفاء، مما يعكس مأزق المثقف العربي الممزق بين التراث والواقع.
يمكن تصنيف الشخصيات كما يلي :
-
شخصيات تراثية : ابن دانيال، دنيا زاد، ابن الرومي.
-
شخصيات معاصرة : سكان الحي القصديري (رضوان، حمدان، جحظة...).
-
شخصيات مستغِلة (بكسر الغين) : المقدم، الخادم يا زمان، الرباب.
-
شخصيات مستغَلة (بفتح الغين) : عريب، سعدان، عاشور، جوهرة، حبابة.
وهكذا، تظل الشخصيات في هذا النص فاعلاً سيميائيًا مركزيًا، تؤسس لمقاربة دلالية ممتدة تُبرز المفارقة بين الحلم والواقع، وبين سلطة الكلمة وسلطة القهر.
5.2. سيمياء الزمان والمكان
يُعد الزمان والمكان من الركائز الأساسية في البنية الدرامية لأي نص مسرحي، إذ يشكلان إطارًا دلاليًا وسيميائيًا تنسج فيه الشخصيات تحركاتها، وتبني من خلاله الأحداث إيقاعها وصراعاتها. ومن منظور سيميائي، لا يُنظر إلى الزمان والمكان كعناصر محايدة، بل كعلامات مشحونة بدلالات رمزية ووظيفية، تساهم في إنتاج المعنى، وتوجيه المتلقي نحو قراءة تأويلية للنص.
1.5.2. سيمياء الزمان
يتوزع الزمن في مسرحية « ابن الرومي في مدن الصفيح » إلى مستويين دلاليين متقاطعين :
-
زمن تراثي رمزي : يُجسده استحضار شخصيات من الماضي، مثل « ابن دانيال » و« ابن الرومي »، ويُستدعى كمرجعية رمزية للتأمل في الحاضر.
-
زمن واقعي معاصر : يتجلى في الحياة اليومية لسكان الحي القصديري، وهو زمن الأزمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
هذا التداخل الزمني يمنح النص طابعه الاحتفالي ويُحدث ما يُعرف بـ « المفارقة الزمنية »، حيث يلتقي الماضي بالحاضر، ويُطرح سؤال الزمن بوصفه شرطًا لتحوّل الوعي، وليس مجرد خلفية للأحداث.
كما أن التنقل بين الأزمنة يُظهر كيف أن المعاناة الإنسانية تظل ثابتة رغم تغيّر السياقات، ويعكس فكرة « الزمن المتجمد » الذي لا يعرف التقدّم الحقيقي بسبب استمرار نفس أشكال القهر والتهميش.
2.5.2. سيمياء المكان
المكان في هذا النص ليس مجرد فضاء مادي، بل هو حقل دلالي كثيف، يُصاغ في ضوء التوتر بين الفرجوي واليومي، وبين الرمزي والمباشر. ويمكن تمييز ثلاث فضاءات مكانية رئيسية :
السمات السيميائية |
الوظيفة الدلالية |
الفضاء المسرحي |
فضاء انتقال من الواقع إلى عالم الفرجة، تأطير ميتامسرحي |
بداية العرض المسرحي، تعريف بالمخايل |
قاعة العرض |
فضاء خيالي رمزي مشحون بالحكمة والتاريخ |
استحضار الذاكرة والرموز الثقافية |
مدينة بغداد التراثية |
فضاء القهر والمعاناة، مكان المواجهة والانفجار الثوري |
تصوير الواقع الاجتماعي المهمش |
الحي القصديري |
يمثل المكان في هذه المسرحية علامة مركبة تتجاوز الوظيفة الجغرافية، ليصبح حاملاً لخطاب اجتماعي وسياسي. فبين سوق بغداد الذي يعج بالحياة والفن، والحي القصديري الذي يئن تحت وطأة البؤس، تتبلور ثنائية : الاحتفال/الانكسار، الذاكرة/النسيان، الرمز/الواقع.
يكشف البعد السيميائي للزمان والمكان في مسرحية « ابن الرومي في مدن الصفيح » عن عمق استراتيجي في البناء الدرامي، حيث يوظّف الكاتب الأزمنة والأمكنة كعلامات ذات وظيفة مزدوجة : سردية ودلالية. فالتداخل بين الماضي والحاضر لا يُستخدم لأغراض زخرفية أو نوستالجية، بل يُستثمر لإنتاج خطاب نقدي يفضح استمرارية الأزمات. أما المكان، فيتجاوز كونه ديكورًا إلى كونه بؤرة للتوتر الرمزي، يتيح للمتلقي تأمّل المفارقات الاجتماعية التي يعيشها الإنسان العربي.
الخاتمة
تكشف القراءة السيميائية لمسرحية « ابن الرومي في مدن الصفيح » للكاتب عبد الكريم برشيد عن نص درامي يحتفي بالتراث في قالب معاصر، ويُعيد تشكيل الزمن والمكان والشخصية لتُصبح علامات دلالية متشابكة ضمن خطاب احتفالي ناقد. فقد تمكن برشيد من بناء نص يحتضن أزمنة مختلفة وأمكنة متنافرة وشخصيات تنتمي إلى خلفيات ثقافية وتاريخية متعددة، ليُنتج مسرحًا عربيًا جديدًا يُخاطب الذاكرة الجمعية كما يُنبّه إلى اختلالات الحاضر.
ومن خلال أدوات التحليل السيميائي، اتّضح أن العلامة المسرحية في هذا العمل لا تُحيل فقط إلى معناها الظاهري، بل تؤسس لمسارات تأويلية مفتوحة، تجعل من كل مشهد وكل حوار وكل فضاء المسرح حاملاً لرسالة فكرية وجمالية عميقة. فـ « ابن الرومي » لم يكن مجرد استحضار شعريّ من العصر العباسي، بل رمزٌ للمثقف المنكسر، المتردد في اتخاذ موقف من قضايا عصره. أما « الحي القصديري »، فلم يكن مجرّد مكان عشوائي، بل تعبير عن واقع اجتماعي مهمّش ومتأزم.
وقد بيّنت الدراسة أن بنية المسرحية تحتكم إلى منطق احتفالي بديل عن النموذج الأرسطي الكلاسيكي، حيث تهيمن علامات التعدد، التفكيك، المفارقة، والمزج بين الجد والهزل. كما كشفت عن قدرة الكاتب على تطويع العلامة لتُصبح وسيلة للمقاومة، والوعي، والنقد، والانتماء.
في الأخير، تؤكد هذه القراءة على أهمية السيميائيات كمنهج لتحليل النصوص الدرامية، لما توفره من أدوات لفهم الرموز، وتأويل البُنى العميقة للنصوص، وتفكيك أنساق الخطاب المسرحي. كما تُبرز هذه الدراسة مدى قدرة المسرح العربي على التفاعل مع قضاياه الراهنة، حين يستلهم تراثه دون أن يُسجن فيه، ويُخاطب حاضره دون أن يُسطّحه، فينتج بذلك فرجة معرفية، وجمالية، وسياسية في آنٍ واحد.