مقدمة
ساهمت الثورة التكنولوجية السريعة لوسائل الإعلام والاتصال في التأسيس لبيئة رقمية معقدة للشباب والآباء والصحة والفاعلين في القطاع الصحي، حيث ظهرت مع هذه البيئة الإعلامية العديد من التأثيرات الصحية الفيزيولوجية والعقلية، حيث أكد تقرير الإتحاد الدولي للاتصالات لسنة 2018 على نمومعدلات مرتفعة حول انتشار تكنولوجيا المعلومات والاتصال في مختلف دول العالم لدرجة أن اشتراكات الخدمات الهاتفية الخلوية المتنقلة فاق عدد سكان العالم. (ITU, 2018) أما عدد مستخدمي الأنترنت في العالم تجاوز 04.5 مليار مستخدم وقارب عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي 04 مليار مستخدم في العالم، بالإضافة إلى الأرقام المتعلقة بالوقت والمدة التي يتعامل فيها الفرد مع هذه التكنولوجيا فمثلا نفس التقرير يكشف أن مستخدم الأنترنت يستغرق ما يقارب الـ 07 ساعات يوميا ما يعادل 100 يوم سنويا (Erwan Sojae,2021).
في المقابل كشفت منظمة الصحة العالمية عن ارتفاع في نسبة مرض السكري بنسبة 70 % بين سنتي 2000 و2019 وسجلت المنظمة ارتفاع في مرض الزهايمر الذي صُنف من بين الأمراض العشر المؤدية للوفاة خلال هذه الفترة، نفس الأمر بالنسبة لأمراض القلب المؤدية للوفاة حيث سجلت المنظمة ارتفاع رهيب في حالات الوفاة بسبب أمراض القلب من 01 مليون سنة 2000 إلى 09 ملايين سنة 2019 (منظمة الصحة العالمية، 2020) وغيرها من الأرقام التي تصب في نفس السياق والتي يمكن أن نرجع إليها من خلال هذه الورقة العلمية.
مما سبق لا نعني بالضرورة أن تكنولوجيا الإعلام والاتصال هي المتسبب الرئيسي في ارتفاع نسبة الأمراض المزمنة والنفسية، وإنما نشير إلى العلاقة بين ارتفاع نسبة الاستخدام والانتشار لتكنولوجيا الإعلام والاتصال وارتفاع الأمراض الفيزيولوجية والنفسية التي تمس الإنسان، وهذا بالنظر للتغيرات والممارسات التي خلقتها هذه التكنولوجيا بالموازاة مع متغيرات أخرى في تطور الأمراض المزمنة.
وهو ما دفعنا إلى البحث في هذا الموضوع وطرح الإشكالية التالية:
-
إلى أي مدى تؤثر تكنولوجيا الإعلام والاتصال على صحة الإنسان الفيزيولوجية والنفسية؟
1. الإطار العام للدراسة
1.1. أهداف الورقة العلمية
نهدف من خلال هذه الورقة العلمية إلى إثارة دور تكنولوجيا الإعلام والاتصال في صحة الإنسان وهو ما يسمح بتوجيه البحوث والدراسات العلمية المختلفة سواء كانت في العلوم الإنسانية والاجتماعية والبحوث التطبيقية والطبية لتناول هذا المتغير (تكنولوجيا الإعلام والاتصال) كعنصر مشترك للبحث وهو ما يُظهر الحاجة لتكامل التقنيات والمناهج البحثية والمقاربات العلمية.
2.1المنهج المستخدم
نرى أن أنسب منهج لدراستنا هو المنهج الاستقرائي، حيث يعتبر من بين المناهج العلمية القديمة يعود استخدامه للعالم اليوناني « أرسطو »، والتمس العلماء من بعده طريقة الاستقراء كوسيلة مهمة في إعداد وتنفيذ الأبحاث العلمية.
كان للمنهج الاستقرائي دور كبير عبد العرب كمؤلفات «ابن خلدون» و«ابن الهيثم» ودراساته المُتنوِّعة في علوم البصريات، و«جابر ابن حيان» أشهر علماء الكيمياء العرب، بالإضافة إلى العالم الجليل «ابن النفيس».
ساهم المنهج الاستقرائي في تطوُّر كثير من العلوم لدى الدول الأوروبية، ومن أبرزها العلوم الفلسفية، والعلوم الطبيعية، والطب، والهندسة، وكان يتم ذلك بالتزامن مع استخدام المنهج التجريبي، وسُمِّي ذلك باسم «المنهج الاستقرائي التجريبي».
بمعنى أن المنهج الاستقرائي له أهمية أساسية في أي مجال علمي سواء علوم إنسانية واجتماعية أو تطبيقية وطبية، أي تحقيق محدد في أي مجال يركز في فرضية أو مجموعة من الفرضيات. Carnap, R. 195))
بالنسبة لمجتمع الدراسة يتمثل في المواد العلمية التي تناولت العلاقة بين تكنولوجيا الإعلام والاتصال والصحة، وتم الاطلاع على 14 مادة علمية متنوعة بين دراسات وتقارير رسمية كعينة لهذا المجتمع.
2. تأثير تكنولوجيا الإعلام والاتصال والصحة
1.2.تأثير تكنولوجيا الإعلام والاتصال على الصحة الفيزيولوجية
بالنظر للأرقام التي سبق ذكرها يتضح مدى تغير نمط حياة الإنسان بسبب هذه التكنولوجيا والمحيط الذي يعيش فيه، إذ أن ارتفاع نسبة استخدام الأنترنت والهواتف النقالة يتزايد معه ارتفاع في الموجات الكهرومغناطيسية المحيطة بالإنسان، ففي دراسة أُجريت على عينة عشوائية مكونة من 375 مفردة بمحافظة نيسان بالعراق في الفترة الممتدة من 2019 إلى 2020، تم طرح مجموعة من الأسئلة على مفردات الدراسة الذين يسكنون بالقرب من أبراج الهواتف الخلوية.
أظهرت النتائج أن مفردات الدراسة يعانون من نفس الأعراض المرضية كالصداع والغثيان 59 %، ارتفاع حرارة الجسم 61 %، اضطراب في النوم 57 %، ضعف النشاط العام 64 %، التوتر العصبي 60 %، ارتفاع ضغط الدم 34 %، ضعف البصر 80 %، مشاكل القلب 11 %، حالات سرطان 03 % .(سوسن، 2020)
كذلك من الدراسات التي تثير مخاوف وقلق اتجاه تأثير الموجات الناتجة عن الهواتف النقالة على صحة الإنسان نذكر دراسة ديفيد بوميريا وفريقه بجامعة نوتنغهام الذي كشف أن الموجات الكهرومغناطيسية تؤدي لتسارع في انقسام الخلايا ما يمكن أن يترتب عنه زيادة في نمو الخلايا السرطانية، والمخاوف التي أثارها جون تاترسال في وزارة الدفاع الأمريكية « بورتون لاون » من خلال تعريض مقطع من الدماغ للموجات الكهرومغناطيسية على فأر تجارب، والتي كشف من خلال هذه التجربة ضعف استجابة الفأر للمنبهات (عمر، 2010، ص 06).
كذلك ظهور علاقة عكسية في حركة الفرد فكلما ارتفع استخدامه لهذه الوسائل قلة حركته ونشاطه البدني، الأمر الذي ينعكس على صحته البدنية والنفسية (عمر، 2010، ص 06)، وهنا تشير بيانات الصحة العالمية أن قلة النشاط الحركي والبدانة السمنة من عوامل الخطر المؤدية للوفيات. (الجزيرة، 2023)
حيث أن 54 % من الوفيات الناجمة عن الأمراض المزمنة في دول الشرق المتوسط سببها أنماط الحياة قليلة النشاط التي تؤدي لانتشار أمراض قلبية مؤدية للوفيات بنسبة 49 % في عُمان إلى 13 % في الصومال 28 % في الإمارات العربية المتحدة، 41 % في ليبيا والمغرب، وتعد من عوامل الخطر المؤدية لمرض السكري الذي يتراوح من 04 % في الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى 19 % في السودان) وفرط كولسترول الدم يتراوح من 14 % في لبنان إلى 52 % في الجمهورية الإسلامية الإيرانية). والبيانات التي جُمعت عن بالغين – تزيد أعمارهم عن 15 عاماً من الإقليم تُظهِر أعلى مستويات زيادة الوزن في البحريين والكويت والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية؛ حيث أفادت أن انتشار زيادة الوزن(السمنة) أكثر من 70 %، خاصة بين النساء. وإن المستوى المتصاعد من زيادة الوزن والسمنة بين الأطفال يشكل مصدر قلق خاص؛ حيث أن انتشار السمنة بين أطفال المدارس آخذ في الازدياد.
في موضوع ذي صلة، تشير التقديرات إلى أن 16٪ من الأطفال في الولايات المتحدة يعانون من السمنة، وأسباب السمنة لدى الأطفال كثيرة ومعقدة ولكن من المعروف أنها تشمل عادات الأكل السيئة، واستهلاك المشروبات الغازية، وقلة التمارين البدنية والوقت المفرط أمام الشاشة. بين سن 8 و18 سنة، يقضي الشباب وقتًا أطول أمام شاشة الكمبيوتر أو التلفزيون أو ألعاب الفيديو أكثر من أي نشاط آخر باستثناء النوم (44.5 ساعة في الأسبوع، ووقت الشاشة هو وقت الاستهلاك العالي للسعرات الحرارية وانخفاض النشاط البدني، وهو مزيج مثالي لزيادة الوزن والسمنة (Jackson, L. A، 2011) .
2.2. تأثير تكنولوجيا الإعلام والاتصال على الصحة النفسية
تشير الدراسات والأبحاث إلى وجود ارتباط وثيق بين ما تبثه وسائل الإعلام والصحة النفسية للأفراد، حيث اخترقت خصوصية الفرد، وصـارت جـزءا لا يتجزأ من اهتماماته وانشغالاته اليومية.
في هذا الصدد علق آدم جازلي، البروفيسور في علم الاعصاب وعلم النفس من جمعية كاليفورنيا على هذا الأمر قائلا:
«نحن نمر بأزمة معرفية ونفسية. فهناك دلائل قوية تشير إلى تأثير التكنولوجيا السلبي في حياتنا وصحتنا الذهنية والنفسية، عبر عدم انتظام المشاعر وارتباطها بزيادة فرصة الاصابة بالاكتئاب والتوتر المفرط، واضطرابات نقص الانتباه وصعوبة التركيز وخفض الإنتاجية والقدرة الجسدية، وضعف العلاقات الاجتماعية والتعاطف وعدة مشاعر انسانية». (خلود، 2019)
هناك أدلة قوية على أن الأطفال الذين يلعبون ألعاب الفيديو بكثرة، وخاصة ألعاب الفيديو العنيفة، لديهم أداء ضعيف في المدرسة، وسلوك أكثر عدوانية، ويتلقون تقييمات سلبية مقارنة مع الأطفال الذين يلعبون ألعاب الفيديو أقل أو لا يلعبون على الإطلاق.
في ذات السياق أكدت دراسة علمية أن الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية الذين يقل سنهم عن السنة الثانية يقضون متوسط 42 دقيقة في اليوم مع وسائط الشاشات الإلكترونية. نفس الدراسة أكدت على وجود علاقة ارتباطية بين ارتفاع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي والاضطرابات العقلية من خلال تجارب الأقران عبر مواقع التواصل الاجتماعي social media peer experiences حيث نجد 01 من 05 مراهقين يعانون من اضطراب عقلي يمكن تشخيصه، بالإضافة لارتفاع بعض الحالات والظواهر النفسية كالاستبعاد الاجتماعي، الصراع، الدراما والانتحار حيث ارتفع بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم من 10 إلى 24 سنة بنسبة 56 % من الفترة الممتدة من 2007 إلى 2017 .
وهو ما يطرح فرضية وجود صلة بين إتساع استخدام تكنولوجيا الاتصال الجديدة ومواقع التواصل الإجتماعي من الطفولة إلى المراهقة، حيث أن ميول الشباب والمراهقين لمواقع التواصل الاجتماعي ساهم في تطور ما يمكن تسميته بالعاطفة الاجتماعية Social passion من خلال زيادة الحساسية للمعلومات الاجتماعية وزيادة الدافع للحصول على المكافآت، وارتفاع نسبة القلق بشأن السياسات التنموية والتهديدات المباشرة، كذلك الاستقلال الحميمي من خلال إقامة علاقات عاطفية، وتوفر الأقران باستمرار والمعلومات الشخصية علانية وردود الأفعال التي يمكن قياسها على الفور من خلال التعليقات في شكل رسائل تنمر من الأقران . (Nesi, J. 2020).
في ذات السياق أثبتت الدراسات والاستطلاعات الحديثة أن المحتوى المفرط للعنف عبر وسائل الإعلام يؤثر سلبيا على الصحة العقلية للناس خاصة الشباب والأطفال لأن أدمغتهم في مرحلة التطور، وهناك جانب آخر من العنف على وسائط الإعلام يشير إلى تأثير العنف الإعلامي على المجتمع في سياق انخفاض كفاءة الفرد بسبب اضطراب الصحة العقلية الذي ينتهي به الأمر إلى خسارة اقتصادية للمجتمع بشكل جماعي.
وفي دراسة لـ Bushman, B. J et al قام بفحص تأثير عنف ألعاب الفيديو في تجربة لعبة فيديو مدتها 20 دقيقة يلعبها المشاركون. ثم سمحوا لهم بمشاهدة شريط فيديو لمدة 10 دقائق يحتوي على مشاهد لألعاب فيديو واقعية، خلال هذا الوقت تمت مراقبة معدل ضربات القلب (HR) واستجابة الجلد الغلفاني(GSR) مقياس للتغيرات في الإثارة العاطفية .
أظهرت التجربة أن المشاركين الذين لعبوا في وقت سابق لعبة فيديو عنيفة لديهم انخفاض في نبضات القلب HR وضعف في الاستجابة العاطفية GSR أثناء مشاهدة صور عنف حقيقي، وهو ما أكدت عليه كذلك دراسة وترتيلا وآخرون Wartella, E. et al التي خلصت إلى آثار العنف عبر وسائل الإعلام تعادل التأثيرات الطلبة للأسبيرين Aspirin على النوبات القلبية (Kamel ,M&, Zahid,G , 2021).
في دراسة قام بها (محسن، 2020) و(عويس، 2022) عن أثر استخدام شبكات التواصل الاجتماعي على العلاقات الأسرية بين أفراد الأسرة الواحدة، أكدت النتائج على ندرة التفاعل بين الزوجين داخل الأسرة؛ بدليل أنهم يقضون مع بعضهما البعض أقل من ساعتين للتحدث والتحاور، بينما يقضي كل منهما بمفرده على مواقع التواصل أكثر من خمس ساعات يوميا، وتتمثل أسباب المشكلات الأسرية الناجمة عن استخدام الزوجين لمواقع التواصل الاجتماعي، في التجاوز الأخلاقي في التعامل مع الجنس الآخر، التعصب لرأي الأصدقاء على مواقع التواصل، إخبار الأصدقاء على مواقع التواصل ما يحدث معهم في حياتهم الخاصة، حيث يعد الانشغال عن الأسرة وقضاء وقت طويل على مواقع التواصل الاجتماعي؛ أبرز أسباب سوء العلاقة الزوجية على مستوى الأسرة المصرية. كل هذه الخصائص التي توفرها التكنولوجيا الجديدة في مقدمتها مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في خلق ممارسات واضطرابات نفسية للأفراد بالخصوص المراهقين (Nesi, J. 2020).
خاتمة
مما سبق يتضح جليا وجود علاقة بين شدة إنتشار وإستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال في المجتمعات وبين إرتفاع الأمراض الفيزيولوجية والنفسية للإنسان، وكما سبق الذكر فإن هذه العلاقة وإن كانت غير مباشرة فإنها ترجع للبيئة الرقمية الإفتراضية التي خلقتها ووسائل الإتصال الجديدة والتي فرضت نمط حياة مختلف عن النمط التقليدي الطبيعي وهو ما يستوجب تكثيف الدراسات والبحوث من حقول مختلف إجتماعية وإنسانية وتطبيقية وطبية .
إن هذه التغيرات تعتبر نتائج للطفرة التكنولوجية الحديثة المتزامنة مع المجتمع الرقمي الذي لا يتعدى النصف قرن في أحسن الحالات في حين بعض الوسائط التي أشرنا لها لا تتعدى الـ 20 سنة كمواقع التواصل الإجتماعي، لذلك فإن الإفرازات والتغيرات الناجمة هي جديدة في الساحة البحثية والعلمية وتحتاج لتعميقها وتكثيفها.