إن النهضة العلمية والتكنولوجية التي تعتبر اليوم من الضرورات الملحة في الوطن العربي ترتكز على تطور التعليم وترقية وسائله المادية والبشرية، وتقتضي حتما النظر في كل المشاكل التربوية التي تقف حجر عثرة في سبيل أن يحقق التعليم أهداف أمتنا العربية في اللحاق بركب الحضارة الحديثة.
والواقع أن هذه المشاكل جد معقدة، تتصل أغلبها بمختلف وسائل التعليم خاصة منها، اللغة والبرنامج والكتاب المدرسي، وطرق التدريس والمعلم والمتعلم، وهي – كما تعلم- شديدة التعقد في داخلها، وثيقة الصلة بعضها ببعض.
أهمية اللغة
وأَوْلى هذه القضايا بالاهتمام لغتنا العربية وطرق تدريسها خاصة في التعليم الابتدائي لما لها من تأثير في التحصيل الدراسي العام في هذه المرحلة وفيما يليها من المراحل التعليمية التالية.
إن سائر الأمم تهتم بتعليم لغاتها وتوليها العناية القصوى لما لها من أهمية في حياة الفرد والمجتمع فهي وسيلة التبليغ وأداة الفكر والثقافة ووعاء تراث الأمة، بها يتم التواصل بين الأجيال المتعاقبة في الأمة الواحدة وبها يقوم الاتصال بين الأمم المختلفة.
اهتمت الدول العربية بلغتها القومية فبادر بعضها عشية الاستقلال إلى جعلها لغة التدريس في كل المواد الدراسية في مختلف مراحل التعليم، فاستعملت العربية في التعليم كله بعدما كانت اللغات الأجنبية التي فرضها الاحتلال الاستعماري على أمتنا ردحا من الزمن تستعمل فيه، ولازالت في بعض الأحوال تنافس العربية في عقر دارها1.
جوانب البحث العلمي في تعليم اللغات
لابد للبحث في مشكلات تعليم اللغة العربية2 – واللغات جميعا – أن ينطلق من الواقع المحسوس ليصفه وصفا دقيقا بالاعتماد على آخر ما وصلت إليه علوم اللسان والتربية وما يتصل بهما من ميادين البحث الأخرى، فيستمد البحث منها المبادئ المنهجية الأساسية ويتخذ منها سبيلا له بعيدا كل البعد عن الانطباع الذاتي والنظرة السطحية.
من المعلوم أن طرق تدريس اللغات في وقتنا الحاضر أصبحت أكثر الميادين التطبيقية تأثرا بتطور الأبحاث العلمية في ميدان النظريات اللسانية الحديثة أو في ميادين الأبحاث التربوية والنفسية واللغوية المتعلقة بآليات الاكتساب للمهارة اللغوية أو في ميدان التجارب والاختبارات العلمية لطرق تعليم اللغات بأحدث الوسائل التقنية، ولعل الطرق الشائعة اليوم في تعليم اللغة العربية في أمس الحاجة إلى مثل هذه الأبحاث العلمية الجادة لتتزود منها بالمعلومات المحسوسة الضرورية لتحسينها فتتمكن من الرقي إلى مستوى الفعالية والنجاعة الذي بلغته طرق تعليم اللغات عند غيرنا من الأمم المتقدمة.
ففي ضوء هذه الأبحاث يمكن أن نقوّم الطرق الحالية لتعليم لغتنا ونضع الأسس والمقاييس الصالحة لرسم الخطة التي توضع على أساسها طرق حديثة لتعليم اللغة العربية في مختلف المستويات ولمختلف الأصناف من المتعلمين، وتضمن لها الانتشار الواسع في الوطن العربي وخارجه.
والنهوض بطرق تعليم اللغة العربية يتطلب الاستفادة من الأبحاث في العلوم المتعددة مما يتعلق منها بهذا المجال اللغوي التربوي، ويقتضي ذلك تضافر جهود الباحثين في هذه الميادين.
فهدف هذه الطرق يتمثل في إكساب المتعلمين مادة لغوية كافية ومناسبة تمكنهم من تأدية الأغراض التبليغية عموما والأغراض المتعلقة بهم خصوصا.
فاللغة هي المادة الأساسية وعليه فإن فعالية الطريقة ونجاحها في التطبيق يرتبطان ارتباطا وثيقا وكليا بالتصور3 النظري الذي يكون لواضع الطريقة ومطبقها (المعلم) عن اللغة التي يراد تدريسها وبقدر ما يكون هذا التصور سليما تكون الطريقة ناجعة وتطبيقها فعالا.
ويقودنا هذا الكلام للتمييز – في قضايا البحث الخاصة بطرق تعليم اللغات – بين ما يرجع من هذه القضايا لمحتوى اللغة التي يراد إكسابها للمتعلم وما يرجع لمحتوى الطريقة ذاتها المعدة لتبليغ المادة اللغوية وما يعود لتقنيات التدريس التطبيقي الذي يقوم به المعلم داخل قاعة الدرس.
وتتصل بكل مجال من هذه المجالات عوامل متعددة تختلف درجات تأثيرها في كل مجال منها أو فيها جميعا وتتأثر بها تأثرا يتفاوت بحسب الظروف والأحوال المعينة.
-المادة اللغوية : مواردها وأنواعها
تختلف الحاجة من المعلومات اللغوية لواضع الطريقة والمدرس باختلاف ما يقوم به كل منهما من مهام تربوية. فإذا كان من الضروري علة واضع الطريقة أن يلّم بمعرفة أسرار اللغة والحقائق النظرية المتعلقة بها وبنظامها وما يحتويه من نظم جزئية متشابكة، معرفة علمية فإن المدرس لا يحتاج إلى كل ذلك ويكتفي منه بما هو أساسي لإحكام عمله وإتقانه، وكل من المؤلف والمعلم يهدف إلى إكساب الملكة اللغوية الأساسية؛ المؤلف باختيار المادة اللغوية المناسبة والمدرس بتطبيق ذلك في الميدان.
إن الملكة اللغوية شيء وإحكام صنعتها شيء آخر، والمعرفة النظرية لنظامها وقوانينها أمر ثالث يختلف عنهما، وبقدر ما تبدو هذه الفروق بديهية إلا أن " الكثير من الناس يتناسونها فتلتبس عليهم الأمور4 .
وقد تركت هذه الالتباسات آثارا واضحة في نظرتنا للمشكلات اللغوية المطروحة وأدت هي وغيرها في كثير من الأحيان إلى تصور خاطئ لهذه المشكلات مما أخر كثيرا علاجنا لتعليم لغتنا علاجا ناجعا ينهض بها إلى مصاف لغات الأمم الراقية في فعاليتها وحيويتها.
تقدم المادة اللغوية المختارة لتلقينها في وسائل وأحوال تختلف باختلاف الطرق، بعضها يقدم في كتب وضعت خصيصا لهذا الغرض، وبعضها الآخر في وسائل سمعية أو سمعية بصرية، إلا أن أكثر هذه الطرق يستعين أساسا بالكتاب المدرسي، خاصة إذا لم يكن الهدف منها هو اللغة المنطوقة وحدها.
تتفق كل الطرق الحالية في تلقين اللغة المنطوقة قبل الشروع في تعليم الكتابة لمدة تطول أو تقصر بحسب أهداف التعليم، استنادا إلى أن الأصل في اللغة هو الوجه اللفظي الصوتي، وما نظام الكتابة إلا اصطلاح مشتق منه تواضع عليه الناس لتدوين اللغة، ثم وقع الاختلاف بينهما بفعل التطور السريع الذي تعرفه اللغة المنطوقة، والاستقرار النسبي الذي تتميز به لغة التحرير.
إن طرق تعليم العربية في بلادنا تعتمد على النصوص الأدبية في إكساب الملكة اللغوية الأساسية مما يزيد في بعد لغتنا عن مجال الاستعمال في أحوال الخطاب العفوي، لأن الملكة البلاغية التي تكتسب بالاعتماد على هذه النصوص ويعتنى فيها بالناحية الفنية والجمالية لا يرتقي إليها المتعلم إلا بعد حصول الملكة الأولى عنده. وخير ما ننمي به هذه الملكة هو الاستعمال المتواصل لها في كل الأحوال حتى لا تبقى حبيسة جدران المدرسة، لا تتجاوزها إلى مواقف الحياة الواسعة، ومثل هذا الوضع الذي ننشده لا يتوفر إلا باعتماد طرق التعليم على ما هو ضروري للخطاب وإهمال غيره مما لا حاجة للمتعلم فيه في هذا المستوى من تعليمه.
ولا تتعلق تنقية اللغة واختيار عناصرها ببعض الأحوال دون الأخرى إذ الأفضل أن يتم ذلك باختيار لغة المعلم التي يستعملها في تعليمه، واختيار المادة اللغوية التي يدرجها واضع الكتاب المدرسي المتعلق بمختلف المواد المقررة لتعليم اللغة سواء كان كتابا للتعبير الشفاهي أو الكتابي أم كتابا للقراءة أو لغيرها من الأنشطة اللغوية الأخرى.
عناصر اللغة وضرورة الانتقاء
لكل مادة لغوية يراد تلقينها أربعة مستويات، يقوم واضع الطريقة باختيار العناصر الأساسية لكل منها وهي: مستوى الأصوات والمفردات والتراكيب والمعاني، وطبيعي أن لا توجد هذه المستويات منفصلة لأن اللغة " نظام من الوحدات يتداخل بعضها في بعض على شكل عجيب وتتقابل فيها بناها في المستوى الواحد المتقابل الذي لولاه لما كانت هناك دلالة5 .
تخضع المادة اللغوية التي يقرر تلقينها للمتعلم مهما كانت الوسيلة التي تقدم بها أو الوضع الذي تعرض فيه، لاختيار علمي6 ، يأخذ في الاعتبار جملة من العوامل الخارجية ويستند هذا الاختيار بصورة خاصة على المبادئ اللغوية التي أقرتها النظريات اللغوية المعاصرة.
العوامل المؤثرة في الانتقاء
قبل التعرض لمقاييس الاختيار العلمية يحسن بنا أن نشير إلى العوامل الخارجية التي تؤثر في نوع الاختيار، وهذه العوامل تتمثل في الأهداف التي تريد الطريقة تحقيقها في التعليم، ومستوى المتعلمين في التحصيل اللغوي والمدة المخصصة لهذا التعليم.
الغرض من التعليم
إن ما يجب معرفته قبل البدء في تحديد المادة اللغوية واختيار عناصرها هو الهدف الذي من أجله نعلّم هذه اللغة، إذ أن الاختيار يتم حسب ما نريد أن نصل إليه من تعليم لغة ما، وبالنسبة للغة العربية فإن الهدف أولا هو تحصيل المتعلم "مهارة معينة هي القدرة على التعبير الدقيق عن جميع الأغراض وجميع ما تقتضيه الحياة العصرية وتتطلبه وظروف التبليغ الكتابي والشفاهي بصفة عامة7 .
يمكن أن يكون الهدف من تعليمنا للغة العربية هو تمكين المتعلم من التعبير البليغ والأساليب الأدبية الراقية أو شحن ذاكرته بثروة لغوية واسعة لأن مثل هذا الهدف وإن كان من بين أهداف التعليم إلا أنه يأتي في المرحلة الثانية بعد بلوغ مرحلة اكتساب الملكة اللغوية.
المتعلم
الاختيار يتحدد أيضا بمعرفة من هم الذين نريد أن نلقنهم هذه المادة اللغوية المختارة إذ أن ما أعدّ لتعليم الأطفال لا يصلح أن يكون مادة تلقين لغيرهم من المراهقين أو الكبار.
المستوى الدراسي
من العوامل الأخرى التي تؤثر في تحديد العناصر اللغوية كمّا وكيفا مما يراد تلقينه، هو مستوى التحصيل اللغوي الذي بلغه المتعلم فما يقدم لطفل في السنة الأولى من التعليم الابتدائي يختلف عما يقدم لطفل في السنة الثانية أو الثالثة من المرحلة نفسها، إلا أن إمكانيات حصر العناصر اللغوية تختلف باختلاف المستوى الذي تختار له هذه العناصر، فهي تتسع في المستويات العليا وتضيق في المستويات الدنيا لأنها تقترب من الحد الأدنى الذي لابد منه في اللغة من الوحدات الأساسية.
المدة المخصصة للتعليم
يتأثر اختيار العناصر اللغوية بعامل الزمان فما يوضع لتعليمه في فترة قصيرة يكون حتما مختلفا عما يوضع لمدة أطول من حيث كمية الوحدات المختارة وطبيعتها، لأن الكمية الكبيرة من الوحدات -وهذا بديهي – تحتاج لمدة زمانية أطول لتلقينها.
العوامل اللغوية
من العوامل اللغوية التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في اختيار المادة اللغوية، عامل اللهجات العربية المتعددة بحيث يستفاد منها بإحصاء المشترك بينها في الاستعمال العفوي مما أصله فصيح في المستوى الإفرادي والتركيبي، ومن المفيد أيضا الاستفادة من لغة التحرير التي شاعت في وقتنا الحاضر، وبقدر ما تكون هذه المادة اللغوية مشتركة بين الناطقين في مختلف البلدان العربية يكون ذلك أفيد وأكثر دفعا للإقبال على تعلم لغتنا، وأكثر إبعادا لمنافسة اللهجات العربية واللغات الأجنبية لها في الاستعمال العفوي عندما يريد المتكلم تبليغ أغراضه الأساسية، مستنكفا عن أوضاع الانقباض8 التي يفرضها ما نعمله من مستويات اللغة وحالاتها في مدارسنا في الوقت الراهن.
ما يقوم عليه انتقاء المادة اللغوية من مبادئ
ما في اللغة غير ضروري كله للمتعلم
يقتصر المتكلم في تعبيره الشفوي والكتابي على بعض العناصر اللغوية دون غيرها، فلا يستعمل كل ما في اللغة مهما كانت درجة ثقافته وسعة ثروته اللغوية، وهذا القدر المشترك في الاستعمال بين الناس جميعا لتأدية الأغراض التبليغية الضرورية هو الذي يحتاجه المتعلم، ويتم هذا الاختيار للعناصر اللغوية الأساسية في لغة المنشأ بطريقة طبيعية9 ، لأن المتكلم لا يستعمل منها إلا ما يحتاج إليه في مختلف أوضاع الخطاب، ويقوم بعملية انتقاء لغته مما يستعمل في محيطه العام، في البيت والمدرسة والبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها. ومادام هذا المحيط لا يساعد المتعلم على اكتساب اللغة التي يريد منه المجتمع من خلال النظام التربوي أن يحكم زمام الكلام بها – وهو وضع تشترك فيه كل الأمم بدرجات متفاوتة ولظروف مختلفة – فإن خبراء تعليم اللغة يرون أن المبدأ الأساسي في اختيار العناصر الضرورية في لغة ما هو إحصاء ما هو كثير الاستعمال من هذه العناصر في لغة الخطاب العفوي ولغة التحرير الشائعة، ولا يقتصر في ذلك على جانب دون آخر، إذ لابد من إحصاء العناصر الإفرادية والتركيبية وما يقابلها من العناصر الدلالية.
الإحصاء والجانب الإفرادي
قام كل المهتمين بتعليم لغاتهم – سواء كان التعليم موجها للناشئة من أهل اللغة أم لغير أهلها صغارا أو كبارا – بالعمليات الإحصائية اللازمة لكل عناصر اللغة، وذلك تسهيلا لعمل المتخصصين في تعليم اللغات لأن الإحصائيات وسيلة فعالة يجدها الباحث في هذا الميدان تمكنه من إجراء تحليلاته ونقده وعقد المقارنات بين الطرق المختلفة ليكشف عن مواطن الضعف فيها ويقترح لها الحلول المناسبة10.
وقد انصبت جل الأعمال الإحصائية على الجانب الإفرادي في اللغة وذلك لأن العناصر الإفرادية هي أكثر الوحدات اللغوية قابلية للحصر. ولعل من الأسباب الهامة توفر المقاييس العلمية لتحديد هذه العناصر والتعرف عليها، رغم ما يوجد من خلاف كبير بين الباحثين في حدود الوحدة الإفرادية11 راجعا إلى النظريات اللسانية المتباينة التي يعتمد عليها هؤلاء الباحثون.
الفرق بين المنطوق والمكتوب12 في كمية العناصر ونوعها
ما تؤكده الإحصائيات التي أجريت في مختلف اللغات هو أن هناك اختلافا كميا ونوعيا بين العناصر اللغوية في الخطابات الشفوية والمكتوبة وهو أمر يجب التأكيد عليه في الأعمال التي تهدف إلى وضع طريقة لتعليم لغتنا إذا شئنا أن يكتب لها الاستعمال العفوي على ألسنة أطفالنا في يوم غير بعيد، لتصبح بعد ذلك اللغة المشتركة – مشافهة وتحرير في كل البلاد العربية.
مقاييس أخرى غير التواتر
انتبه الخبراء في تعليم اللغات إلى أن الإحصاء وحده لا يكفي " لتحديد أهمية العناصر اللغوية عامة والمفردات خاصة فإن من المفردات التي يحتاج إليها المتكلم ما لا يرد على لسانه إلا في ظروف معينة وحالات تقتضي ظهورها بكثرة وهو مقياس " مقتضى الحال " وهذا النوع من الألفاظ هو الذي يسمى بالكامن13.
كما تخضع العناصر اللغوية الشائعة لمناهج خاصة للكشف عنها فإن للكامن من الألفاظ طرقا خاصة أيضا للبحث عنه وهو يخضع لمقياس توزع الكلام في داخل الموضوع الواحد لأن منه ما يكثر في أحوال خاصة لتعلقه بمجال معيّن من المفاهيم (14).