مقدمة
لا شك أن عبقرية وموسوعية ابن جني النحوي لا تكمن في «الخصائص» و«سر صناعة الإعراب» والنحو والصرف فقط، لأن سِفره الضخم: «الفَسْر، شرح ابن جني الكبير على ديوان المتنبي» لا يقل أهمية عن ذلك؛ إذ يعتبر موسوعة كبيرة في علم اللغة، والنحو والصرف، وفقه اللغة، وعلم الأصوات، والعَروض، وتداولية المعنى، ومعنى المتكلم، والقصديةL’intentionnalité، والسياق وإنتاج الدلالة، والنقد الأدبي،خاصة فيما يتعلق بالتناص والمتعاليات النصية، والأجناس الخطابية ودورها في تأويل المعنى الشعري.
يذكر ابن خلكان(تـ681ه) أن لابن جني من التصانيف المفيدة في النحو كتاب «الخصائص» و «سر الصناعة...وشرح ابن جني ديوانَ المتنبي وسماه الفَسْرَ وكان قد قرأ الديوان على صاحبه» (ابن خلكان. وفيات الأعيان وإنباء أبناء الزمان. 1972: 247، 248) وهذا ما يؤكد صلة ابن جني بالمتنبي؛ إذ هو أَوَّلُ رواته و أوّلُ شارحيه، قرأه عليه قراءة شرحٍ ونقدٍ وتمعُّنٍ، ورواه كما سمعه عنه. وهذا ما يفسر تميز فهمه وشرحه لهذا الديوان؛ إذ كان أقرب الناس إليه، إذ كان يحاوره ويناقشه في شوارد إعرابه وعويص معانيه، مما وفر له فهما مميزا، وجعله يبدع في شرحه، ويكون له السبق في وضع مقولات نقدية سابقة لزمانه، أنكرها عليه خصومه، لكن الدراسات النقدية المعاصرة أثبتت سبقَ ما ذهب إليه أبو الفتح في قراءته هذه، لاسيما ظاهرة التناص والمتعاليات النصية.
فإلى أي مدى يمكن اعتبار ما ذهب إليه ابن جني مقولات وتطبيقات تناصية؟ أم أن ذلك مجرد إسقاطات لا علاقة لها بواقع النص؟ وإن كان الأمر كذلك، فما هي هذه الممارسات؟ ما هي آلياتها ونتائجها؟
ويجب التنبيه هنا أن التناص ظاهرة إنسانية موجودة بالقوة في التراث العالمي، واستطاعت الدراسات الحديثة إيجادها بالفعل.فقد ذكرها فلاسفة الإغريق ونقادهم، وتضمنتها نصوصهم،وهو ما نجده فعلا في التراث العربي؛ فقد ألمح إليها شعراء مثل زهير وعنترة، كما سنرى بعد قليل، وأشار إليها نقاد قدامى مثل ابن جني النحوي و أبي هلال العسكري وابن رشيق وغيرهم.
وعلى هذا الأساس تكون مقاربتنا تعتمد على تقصي هذه الظاهرة في قراءة ابن جني على عدة مستويات :
-
التناص: باعتباره مدخلا أساسيا في فهم النص الأدبي وتأويله.
-
التناص الخارجي: يتم التصرف فيه و يُلجأ إلى إيراد الأشباه والنظائر.
-
التناص الذاتي: باعتباره خلفية نصية، أو مادة مرجعية مشتركة، أو مع نصوص سابقة، فيأخذ المؤلف هذه المادة ويضعها في سياق جديد.
-
النص الشارح: وهو من السياقات المساعدة على فهم النص وتأويله: مختلف التعليقات والشروح التي تلي صدور النص الأدبي، قد تكون للمؤلف ذاته، كما هو في بحثنا هذا، أو كُتاَّبٍ آخرين، أو عبر وسائط أخرى.
ويهدف بحثنا هذا إلى التنبيه إلى قراءة ابن جني في سفره الضخم، وإحرازه قصب السبق في هذا الميدان، وهو توجه يعتبر مجهولا إلى حد ما، إذا ما قارنا ذلك بالدراسات التي خصصت لمؤلفاته الأخرى في الصوتيات، والصرف وفقه اللغة. وهذا ليس إسقاطا وحنينا إلى الماضي، بقدر ما هو إبراز واستحضار لأهمية مقولات الرجل النظرية، وممارساته التطبيقية على الخطاب الشعري، التي لا تختلف في جوهرها عن مقولات الدراسات النقدية المعاصرة.
يتمثل جوهر فكرة التناص في أن النصوص لا تنشأ من العدم، كل كتابة هي استعادة لنصوص أخرى، مما يعني أن المؤلفين قراءٌ ممتازون تحمل نصوصهم أثر قراءاتهم السابقة. وتوصف هذه الظاهرة بفسيفساء من الاستشهادات والاقتباسات، فكل نص هو ابتلاع وتحويل لنصوص أخرى (Kristeva 1969 :84.85). ومن ثمة فهو بحث عن الآلية المتحكمة في بناء النصوص، وتفكيك الجدلية الأزلية المتمثلة في التوالد والتفاعل، وفي العلاقات التلازمية بين نص لاحق وآخر سابق. لأن الأمر هنا، وفي ضوء هذه الرؤية الحداثية، لم يعد النص عبقرية إبداعية فحسب، أو بنية مستقلة، بل سيرورة تفاعلية تثاقفية تعمل على استيعاب وامتصاص كل ما يحيط بسياقه وفضائه الثقافي.
ولهذا يعتبر التناص أحد المداخل الأساسية في قراءة النص الأدبي وتأويله، وبذلك يكون تمردا على التيارات الحداثية التي ترى بانغلاق النص، مثل: الشكلانية الروسية، والبنوية الأوربية بصورة عامة. كما يرى فيه الباحثون ثورةً في القراءة الحديثة؛ إذ أن النص هو إعادة كتابة، فالكل يكتب من محبرة سابقيه، و دعوةً لتجاوز الحدود النصية والأجناسية، و ثمرةً لأفعال لغوية وثقافية مؤسِّسة لأعمال إبداعية، وظاهرة تثاقفية إنسانية قديمة تتحكم فيها فعاليتان أساسيتان: الأولى وهي فعالية القراءة، والثانية، فعالية الكتابة، وهما وجهان لعملة واحدة. فالقراءة لا تنفك بدورها تدور في فلك الكتابة، بل هي قراءة بطريقة أخرى(عياشي، منذر، الكتابة الثانية وفاتحة المتعة،1997: 5) .
اعتبر تاريخ الأدب التناص خلفية نظرية للفكر النقدي المعاصر؛ إذ تتمثل وظيفته في معرفة الآليات المتحكمة في بناء النصوص الأدبية واشتغالها. أما من حيث النشأة، فهو أحد مُخرجات المجلة النقدية الشهيرة «تال كال» Tel Quel ومجلة «هومونيم « Homonyme التي تأسست سنة 1960تحت إدارة الناقد المعروف فيليب سولرز Philippe Sollers الذي اهتم بهذا المنجز رفقة مجموعة من المنظرين (Intertextualité, Universalisalis). وقد وصلت تأثيرات هذه المجموعة إلى القمة بين سنتي 1968-1969حيث ظهر رسميا المفهوم المفتاح للتناص في المعجم النقدي الطلائعي، بفضل إصدارين قدما الطرح النظري للمجموعة، بتوقيعات: فوكو، بارت، دريدا، سولرز، كرستيفا. وقد تأثرت هذه الأخيرة بميخائيل باختين Mikhaïl Bakhtine الذي أشار إلى ظاهرة «الحوارية» بين النصوص، وأعادت كريستيفا صياغة هذا المفهوم باسم التناص. وعرضت هذه الفكرة في كثير من منشوراتها، لاسيما في مقدمة ديستويفسكي لباختين. وترى كريستيفا التناص ضمن ما يسمى بالمتعاليات النصية من زاوية الإنتاجية النصية، أي التوالد النصي المنجز عن نص سابق مولّد. وفق آلية بنائية بين اللاحق والسابق، وهي سيرورة تتميز بالإثبات والنفي، والمبادلة. وبذلك ترى أن: «كل نص عبارة عن فسيفساء من الاستشهادات ، وكل نص هو امتصاص لنصوص أخرى« (Kristeva, Bakhtine 1967: 440 ). وعليه يكون التناص حوارَ نصٍ مع جميع النصوص، بل ومع التاريخ ذاته باعتباره نصا.
ومن ثمة فهو دخول نص ما في علاقة، ظاهرة أو خفية، مع نصوص أخرى(Genette, Palimpsests, 1982: 7). كما أنه يمكن لهذه العلاقة أن تكون فعلية أو حرفية، مثل الاقتباسات، أو اقتراض غير معلن، وتدخل ضمن ذلك السرقة الأدبية أو العلاقات الضمنية(Genette :22). بحيث أن المبدأ الأساس لهذا المفهوم النقدي، أن دلالة النص الأدبي لا تفهم دلالته إلا عبر وضعه في الإطار العام الناتج عنه؛ أي انتماؤه الأدبي والثقافي، ولا يتم هذا إلا عبر معرفة علاقته بالنصوص الأخرى، وبقية الأنظمة الدلالية والسيميائية والأسلوبية المتنوعة، السابقة أو المتزامنة معه. ويمكن تسمية هذه العلاقات بهجرة النصوص. كتابة نص، يعني ضمنيا، إعادة كتابة نص آخر: «فالحركة التي يقوم من خلالها نص بكتابة نص آخر، هي تناص. وهذا يعني أن النص المكتوب هو صدى لمجموعة نصوص تكون بمثابة مرجعية غائبة، مثل الاستشهادات والاقتباسات( Piegay-Gros .1996 :7). وعلى هذا الأساس يعتبر النص نقطة التقاء فعلية لمجموعة نصوص سابقة ويكون النص« ترديدا لهذه النصوص متعلقا بها، أو بمثابة صدى مستمر لها (Maingueneau, 2005 :22).
إذن، كتابات القرون الماضية وقراءاتها هي التي تؤسس النص الراهن، ولا يمكن للقارئ أن يستوعب أدبه المعاصر إلا عبر إحكام الأُلفة مع الآداب السابقة للثقافة السائدة أو الأطراس(Palimpsestes :22). هناك نوع من المحاكاة الضمنية أو الظاهرة التي تشتغل عليها النصوص الأدبية، منها أن إنتاج كل نص، يتم عبر مادة أولية توفرها نصوص أخرى موجهة للاندماج في سياق يعتبر ملتقى لعدة خطابات أخرى.
1. التناص عند أبي الفتح بن جني
-
التناص في التراث النقدي العربي: وإذا كان التناص بمفهومه المعاصر، مصطلحا حداثيا بامتياز، في الدراسات الشعرية، والسيميائية، والأسلبوبية والتفكيكية المعاصرة في الغرب، فإنه لم يغب بشكله العام في الخطابات النقدية والبلاغية العربية؛ إذ نجد هناك إشارات واضحة، سواء عند الشعراء مثل زهير وعنترة، أو النقاد، مثل الحاتمي، أحمد بن أبي ظاهر، وأبي هلال العسكري، وابن رشيق، إلا أن أبرزها ما جاء به أبو الفتح بن جني النحوي في شرحه الكبير على ديوان المتنبي ».
-
التناص عند الشعراء والنقاد في التراث العربي
-
عند الشعراء، نجد زهيرا (الديوان (1988: 154)، يقول :
ما أرانا نقول إلا رجيعا |
أو مُعادا من قولنا مكرورا |
وقول عنترة العبسي، (التبريزي، شرح الديوان (1992: 147) :
هل غادر الشعراء من متردم |
أم هل عرفتَ الدار بعد توهم |
-
عند النقاد :وأما النقاد فقد انتبه إلى هذه الظاهرة أبو هلال العسكري(-395 هـ) في كتاب الصناعتين وهو في ما أورده في باب« حسن الأخذ » أو فكرة « وقوع الحافر على الحافر » فليس لأحد من أصناف القائلين غنىً عن تناول المعاني ممن تقدمهم، والصب على قوالب من سبقهم، ولكن عليهم- إذا أخذوها- أن يكسوها ألفاظا من عندهم، ويبرزوها في معارضَ من تأليفهم، ويوردوها في غير حِليتها الأولى، فإذا فعلوها فهم أحق بها ممن سبقهم إليها؛ ولولا أن القائل يؤدِّي ما سمع، لما كان في طاقته أن يقول؛ وإنما ينطق الطفل بعد استماعه من البالغين... وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب :« لو أن الكلام لا يعاد لنفد، وقال بعضهم كل شيء ثنيته قصر إلا الكلام إذا ثنيته طال(العسكري، أبو هلال. كتاب الصناعتين، 1989: 196)
ولا يقتصر الأمر عند هؤلاء النقاد، فقد تناوله ابن رشيق المسيلي(-463)(العمدة.1981) في كتابه العمدة، وركز فيه على ظاهرة السرقات الأدبية. في حين لم يقل عبد القاهر الجرجاني (-47) بالسرقة، إلا في حالة النسخ؛ نظرا لاشتراك الناس في المعاني(الجرجاني، أسرار البلاغة.2001) وفصل فيها وتكلم عن الأخذ وما في ذلك من تعليل، وضُروب الحقيقة والتخييل واعلم أن الحكم على الشاعر بأنه أخذ من غيره وسرق، واقتدى بمن تقدم وسبق، لا يخلو من أن يكون في المعنى صريحا، أو في صيغة تتعلق بالعبارة »( الجرجاني، أسرار البلاغة، 2001: 190). ولا يسع المجال هنا لذكر كل ما ورد في الخطاب النقدي والبلاغي العربي في هذا الباب، فقد طرق هذا المجال كثير، منهم: أحمد بن أبي طاهر، المعروف بابن طيفور، ابن خلدون و ابن الأثير و غيرهم، إلا أننا نركز في هذا البحث على ممارسات أبي الفتح ابن جني في هذا الباب، على بعض ما ورد في كتابه« الفسر » شرح ابن جني الكبير على ديوان المتنبي.
2. التناص عند أبي الفتح بن جني
منذ البداية يشعر القارئ أن أبا الفتح يعي أهمية التناص، وذلك بداية من مقدمة كتابه «الفسر» موجها خطابه للسلطان البويهيي: مبينا أن صناعته تتمثل في فسر المعاني عن طريق إيراد الأشباه والشواهد المؤوّلة لغريبه »... :« ...أن أصنعَ لك شعَر أبي الطَّيِّبِ أحمدَ بنَ الحُسينِ المُتَنَبِّي بِفَسْرِ مَعانيه وإيرادِ الأشباهِ فيه وإيضاحِ عويصِ إعرابه وإقامةِ الشَّواهدِ على غريبهِ » (ابن جني، الفسر، ج 2: 57). ولكن توجه ابن جني هذا، قد واجه اعتراضا كبيرا من بعض علماء عصره، ومن جاء بعدهم معيبين عليه بأنه: « ينقل معاني النَّاسِ نقلا كثيرا متواتراً، حتى لا تخلو قصيدة من معان كثيرة قد أخذها، وربَّما أخطأ في اللغة ولحَنَ في الإعراب... » (ابن جني جـ.1: 6). ولم يكن الوحيد الأزدي الذي ذهب هذا المذهب، هناك أيضا الخطيب التبريزي الذي يرى أن ابن جني قد حمل شعر المتنبي من الأثقال مالا حاجة إليه، إذ يُمعن في الإكثار ما لا حاجة إليه، و يُمعن في الإكثار من الاستشهادات وذكر اللغة الغريبة وإيراد المعاني (ابن جني: 6).
وبذلك يكون ابن جني قد سبق علماء عصره ومن جاء بعدهم، في الممارسة والجرأة في الطرح، مستدلا على ما يقول بالأشباه والشواهد المؤولة لغريب المتنبي، فحوّل ما كان يعرف بالسرقة الأدبية، إلى آلية جديدة في إبداع الشعر ، تتحكم فيها عملية التناص، كما برّأ المتنبي ، وربما فحول الشعر العربي جملة، من تهمة السرقة التي وصمه بها خصومه.
ومن خلال شرحه لأبيات المتنبي، نلاحظ أن ابن جني يدرك تمام الإدراك أهمية التناص في بناء النص والمعنى الشعري، وكذلك تمييزه بين أنواع التناص :
1.2. التناص الخارجي
1.1.2. التناص الخارجي
يورد الكثير من الشواهد الدالة على توالد المعنى وتشابهه، دون مقارنة أو تعليق على ما أضافه اللاحق للسابق، كما يفعل في شروح أخرى. ويُعدُّ الالتفات إلى هذه الظاهرة في الشعر دليلا على موسوعية فكر الرجل في التراث الشعري، ولذلك نجده يتعقب الأشباه والنظائر، وتوالد المعاني، مكتفيا مرة بتشابه المعاني بين السابق واللاحق، مبينا بعض الاختلاف والتشابه، ومرة أخرى مبينا فضل اللاحق على السابق، لأن الأخذ، في هذا الباب، يتطلب أن تكتسى المعاني ألفاظا من اللاحق، فيذكر الإضافات واللطائف، و يبدو الأمر أحيانا في صورة تناص مباشر، أو اقتباس، أو تحوير في الضمائر، أو بعض الإشارات الخفية التي لا تغيب عن القارئ الحصيف.
ومما ّأورده ابن جني في باب التناص الخارجي الجزئي الذي يتم التصرّف فيه، نجده في بيت واحد يقتبس معانٍ عدة وردت في القرآن، أو عند شعراء مختلفين، وهذا في الجانب المعجمي في باب: اللوم/ البرحاء :
يشكو الملامُ إلى اللَّوائِمِ حرَّهُ |
ويصُّدُ حين يَلُمْنَ عن بُرحائِه |
بعد الشرح المعجمي لكلمة « الملام » واشتقاقاتها المختلفة، يورد ابن جني أبيات تتناص مع هذا المعنى، قال معقلٌ بنُ خويلد الهُذلي :
حمدتُ الله إذ أمسى ربيعٌ |
بــــدار الذُلِّ مَلحيّاً مُلامـــا |
ثم يستشهد بالقرآن :« فالتقمَهُ الحوتُ وهو مَليْمٌ » (الصافات: 142)، أي قد أتى ما يُلام عليه، واللوائمُ: جمع لائمة، كما أن العواذلَ: جمعُ عاذلة، وأما عاذلٌ ولائمٌ فجمعها عُذّالٌ وعُذَّلٌ ولُوَّامٌ ولُوَّمٌ ولِيَّمٌ أيضا. و« يصدُّ »: يرجعُ، والبُرحاءُ :الشدَّةُ والمشقَّةُ: يقالُ لقيّت منه بَرْحاً بارحاً،ولقيتث منه بناتُ بَرْحٍ وبني بَرْحٍ، ولقيتُ منه البرَحينَ والبُرَحينَ، أي: المشقَّةُ والجهدُ، وقد برَّح بي الجهدُ تبريحاً: إذا عظمَ عليه.
ومنه قال الأعشى :
أقولُ له حينَ جدَّ الرَّحيــ |
ــــــــلُ: أبرحْتَ ربّــــــــاً وأبرحتَ جارا |
أي: أعظمتَ، واتخذتَ عظيما. والبارح ضدُّ السانحِ هو من هذا، لأنَّهُ يُتشاءمُ به. يقول: فاللومُ يشكو إلى اللوائم ما يلاقي من حرارة هذا القلب، فهو يرجع عن التعرض له إشفاقا على نفسه أن تُحرقه حرارتُه. ضربه مثلا، لأنَّ اللَّومَ في الحقيقة لا تصحُّ منه الشكوى ولا الصَّدُّ،
وينتقل من الشرح المعجمي إلى المعنى الضمني العميق والتصرف فيه؛ غذ يرى أن أكثر كلام العرب إذا تفطنت له هكذا، ألا ترى إلى قول كثير :
ذهوبٌ بأعناقِ المِئينَ عطاؤه |
غلوبٌ على الأمرِ الذي هو فاعِلهُ |
نجده ينتقل من صورة اللوم والبرح، ليضمنها معنى « ذهوب » بصيغة المبالغة حيث يكون المعنى أكثر كثافة؛ إذ يصور حالة الذهاب والفقد خاصة، ذهاب من اعتاد الناس عطاءَه.
وهذا مثل قوله :
غمْرُ الرِّداءِ إذا تبسَّم ضاحكا |
غلِقَتْ لضِحْكَتِه رقابُ المالِ |
ويريد بقوله :« غمرُ الرِّداء »، إنَّما يريدُ سَعَةَ عطائه، وإن كان ضيِّقَ الملاءةِ. ويستشهد بقول آخر بلا نسبة :
ولا ارتقيتُ على أقتاد مهلكةٍ |
إلاَّ مُنيتُ بأمرٍ فُرَّ لي جذعا |
كما يستشهد بقول تأبَّط شرَاً :
إذا هزَّهُ في عَظْمٍ قرنٍ تهلَّلَتْ |
نواجذُ أفواهِ المنايا الضَّواحكِ |
||
إذا هزَّهُ في عَظْمٍ قرنٍ تهلَّلَتْ |
نواجذُ أفواهِ المنايا الضَّواحكِ |
فجعل لها نواجذَ وأفواهاً. ويستعرض ابن جني قول الفرزدق :
نعائي ابنَ ليلى للسَّمَاحَةِ والنَّدى |
وأيدي شمالٍ بارداتِ الأناملِ |
ويعلق على هذا البيت: فجعل لها أيدي وأنامل؛ استعارة وتصرُّفا في القول. ومعنى قوله: « تصرفا » أي أن هناك إضافة أضافها اللاحق للسابق.
وقال ذو الرُّمَّةِ :
ألا طرقت ميُّ هيومًا بذكرها |
وأيدي الثريَّا جُنَّحٌ في المغاربِ؟ |
ألا تراهم قالوا في معناه: إنَّها بدأت في المغيب؟
ومثله قول لبيد :
حتى إذا ألقت يدا في كافر |
وأجنَّ عوراتِ الثُّغورِ ظلامُها |
ويعني بهذا: الشمس، و« كافرٌ » يريدُ به الليلَ.
وقال الآخرُ :
قرعتُ ظنابيبَ الهوى يوم عال |
ويومَ النَّقا حتى قسَرتُ الورى قَسْرا |
فجعل للهوى ظنابيب، وهي أكثر من أن أحصيها لك (ابن جني،ج.2: 31).وفي هذا إشارة من ابن جني إلى تشعب المعاني، وتداخل النصوص فيما بينها، ولذلك يعترف بصعوبة إحصائها. ومنه كذلك :
2.1.2. أخذ جزء من المعنى، وإيقاع التشبيه على الجملة، والإضافة في المعنى
ومن شواهده الدالة على ذلك :
همام إذا ما فارق الغمدَ سيفُه |
وعاينته لم تدر أيهما النصلُ |
هميرى أن هذا يشبه قول أبي تمام :
يمدون بالبيض القواطع أيدا |
فهنّ سواء والسيوف القواطعُ |
يعلق ابن جني على ذلك: « إلا أن أبا تمام ذكر عضوا، وهذا أوقع التشبيه على الجملة، ويدل على ذلك تصريح أبي تمام بقوله: منصلتا كالسيف عند سله، ومن ذلك قول رؤبة،( الفسر، جـ.2،ص31)
كأنني سيف بها إصليتٌ
3.1.2. الاقتباس والتصرف في المعنى
يستشهد بقوله :
من بنات الجديل تمشي بنا في ال |
ــبيدِ مشيَ الأيام في الآجال |
يرى بأنه مأخوذ من قول مسلم :
موفٍ على مهجٍ في يوم ذي رهج |
كأنه أجل يسعى إلى أملِ |
إلا انه ستر وجه الحركة بان نقل وصف رجل إلى بعير، ونقل التهامه الأرواح إلى قطعها المفاوز، وهذا نحوُه هو الذي أنبِّه عليه من نقله المعاني وتقليبه إياها وإخفائه لما أخذه. ويشير هنا إلى طريقة الكتبي في أخذه المعاني وتقليبها حسب السياق.
2.2. التناص الذاتي
1.2.2. التناص الذاتي
-
يبرز التفاعل النصي واضحا عندما تكون الخلفية النصية التي يتفاعل معها الكاتب مشتركة، فتتفاعل النصوص بمرجعياتها المختلفة مع بعضها بعضا، وأحيانا يأخذ الكاتب المادة ويحولها ، ويعيد بناءها، وما يتوافق وما يرمي إليه (يقطين. سعيد. انفتاح النص الروائي.2001: 123). ويمكن فهم ما ذهب إليه ابن جني في إيراده التناص الذاتي من هذا الباب، في شعر المتنبي :
إن كانَ قدْ ملـــكً القلـوبَ فإنَّـــهُ |
ملكَ الزَّمـانَ بأرضـهِ وسَـــمائه |
فبعد أن يستشهد بقول الفرزدق الذي يتناص مع بيت المتنبي، يقوم بشرحه، »أي ليس هذا الحبيبُ كسائر الأحبَّةِ والمعشوقين، إنَّما يُحَبُّ هذا لجلالة قدره وسُمُوِّ أمرهِ، فقد ملكَ القلوبَ وملكَ الأرضَ. أي إذا كان قد ملك الأرضَ والسماءَ فغير عجبٍ أن يملك القلوبَ ثمَّ بالغ بذكر السماء كأنه من قول الفرزدق:
أَخذْنا بآفـاقِ السَّماء عليكمُ |
لنا قمراها والنُّجـــومُ الطَّوالـعُ |
يذكر ابن جني تناص المتنبي مع بيته السابق:
فلو كــان ما بي من حبيــب مقنَّعٍ |
عذرتُ ولكن من حبيبٍ معمَّــــــــــمِ |
» فجعله حبيبا على الوجه الذي ذكرتُ، وقريبٌ منه قوله أيضاً :
وأهوى مـن الفِتيان كلَّ سُميــذعٍ |
نجيــبٍ كصــــدرِ السَّمهــريِّ المُقَــوَّمِ |
خطت تحته العيسُ الفلاةَ وخالطت |
به الخيلُ كبَّاتِ الخميس العرمـرمِ |
وأيقول: إنّما أهْوى مـَــــــــنْ هذهِ صفتُه. ثم يستشهد ببيت آخر يتناص مع أبياته السابقة :
وما سـكني ســوى قَتْلِ الأعـاديَ |
فهـل مـن زَوْرةٍ تشــفي القلوبـا؟ |
وإلى قوله :
محــــــبٌّ كنــى بالبيض عن مرهفاتــــــه |
وبالحسنٍ في أجسامهنَّ عن الصَّقْلِ |
وبالسُّـــمرِ عن سُــمرِ القنا غير أنـــّــه |
جناهـا أحبَّــائي وأطرافهــا رُســـلي |
ويقدم ابن جني في نهاية هذا العرض، ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي كون هذه الطريقة التناصية الذاتية معروفة بين الشعراء: «وهذه طريقة للشعراء معروفةٌ وسنَّةٌ منهم مألوفةٌ» (ابن جني،جـ1: 34)
ومن ذلك ملاحظته وجود رائحة المتنبي في هذه الأبيات، ويقصد بذلك التناص الذاتي :
والمسلمون بالأمير كثيــــــرا |
والأمير الذي به المأمول |
الذي زُلْتُ عنه شرقا وغربا |
ونداهُ مقابلي مــا يزول |
في هذه رائحة المتنبي من قوله: (ابن جني :34،35)
ومن فر من إحسانه حسدا له |
تلقاه حيث ما سارَ منه نائلُ |
2.2.2.التناص الذاتي مع الاستحسان والإضافة
واعتقادٌ لو غيّر السخط منه |
جُعلت هامُهم نعالَ النعال |
أي لو أسخطوك وحملوك على ترك الاعتقاد لهم لأهلكتهم، وما أحسن ما كنى عن الحفيظة بقوله: « لو غير السُّخطُ منه». ومثل هذا قوله :
ولو ضرَّ مَرأً قبله ما يسرّه |
لأثَّر فيه بأسه والتَّكرمُ |
فكنى عن الضرر بقوله: «لأثّر فيه» وهذا لفظ رائق عذبٌ تقبله كل نفس(الفسر، جـ.3 :49)
3.2. النص الشارح Le métatexte
ومن السياقات المساعدة على فهم النص، وتأويله نجد النصوص الشارحة، وهي مختلف التعليقات والشروح التي تلي صدور النص الأدبي، قد تكون للمؤلف ذاته، أو كُتاَّبٍ آخرين، أو عبر وسائط أخرى. ومن ثمة فإن للنص الشارح دورا مهما في الصياغة العامة للنص وانتشاره؛ فعبره يتمكن القارئ من أخذ فكرة عامة عن النص الذي يريد قراءته. والمقصود بصياغة النص هو وضعه في إطاره السيميائي والتداولي الذي ينطوي على مجموعة من الدلائل والإشارات المحيطة بالنص.(karl Kanvat, 2007)
وما نريده هنا بالنص الشارح، ما أسماه ابن جني «مشاجرةً» مع المتنبي، والتي تعني في هذا السياق «المحاورة»: «وأذكرُ ما كان شجر بيني وبينهُ وقت قراءتي ديوانهُ عليه إلى سوى ذلك مما أحضِرهُ» وبذلك بين آليات تأويله واعتماده على النص الشارح. ومما هو ثابت هنا أن شروح ابن جني مبنية في معظمها على الحوار المتبادل بينه وبين الشاعر، وقد أورد ياقوت الحموي في معجم الأدباء: «حدث أبو الحسن الطرائقي ببغداد قال: كان أبو الفتح عثمان بن جني في حلب يحضر عند المتنبي الكثير ويناظره في شيء من النحو من غير أن قرأَ عليه ديوان شعره إكباراً لنفسه عن ذلك، وكان المتنبي يعجب بأبي الفتح وذكائه وحذقه ويقول: هذا رجلٌ لا يعرف قدره كثيرٌ من الناس، وسئل أبو الطيب بشيراز عن قوله:
وكان ابنا عدوٍ كاثراه |
له ياءيّ حروف أنيسيان(1) |
فقال لو كان صديقنا أبو الفتح ابن جني حاضرا لفسره (الحموي، ياقوت، معجم الأدباء،1993: 1594)
طعن كثير من النقاد والشارحين في منهج ابن جني ومذهبه وطريقته، واتهموه بإخفاء المعاني وكثرة الاستطراد والتماس المعاني البعيدة دون المعاني القريبة، وهي ملاحظات أثبتت الدراسات النقدية المعاصرة عدم صحتها، وبينت عبقرية ابن جني خاصة فيما يتعلق، بتعليقات المؤلف وشروحه لنصه. ومن ذلك مؤاخذة الأصفهاني لأبي الفتح واتهامه بالتهرب من اكتشاف المعاني الدقيقة التي يريدها الشاعر، ووجه له ثلاث تهم :أولاها: أن أبا الفتح ينسبُ القول للمتنبي نفسه (وهي ما اصطلحنا عليه بالنص الشارح)، وثانيها أنه يحيل على الفسر الكبير (ابن جني، جـ1: 366) ( قراءات وتعليقات النقاد)وثالثها أنه يشغل القارئ بالمسائل النحوية والشواهد الشعرية (الفسر: 366) (المتعاليات النصية والتناص).وقد أشار :« أبو الفتح في منهجه إلى أنه سيذكر ما كان يحدث بينه وبين الشاعر من محاورات حول شعر الشاعر، وهو هنا يؤكد جملة مسائل، أولها أنه قرأ الديوان عليه، وثانيها أن كثيرا من الشروح الواردة في هذا الكتاب إنما هي لأبي الطيب بلفظه ومعناه تارة، وتارة بصياغة أبي الفتح لفكرة الشاعر التي ألقاها على ابن جني، ويعزز هذا القول...أن هذه الشروح اعتمدت موثقة لدى الشارحين الكبار، وعلى رأسهم أبو العلاء المعري » (ابن جني: 394).
ويفهم من النص الشارح مختلف التعليقات والشروح للعمل الأدبي، وهو ما يعبر عنه ميشال فوكو« مجموع النقد » ( Foucault2013 :109)ومن بينها تعليقات المؤلف التي تتقاطع مع التعليقات الأخرى. وهذا ما يعني، حسبه، أن النقد أصبح شيئا فشيئا فعلا كتابيا بامتياز (Foucault 2013: 110). وهذا ما يميز شروح ابن جني عن غيره، فتفسيرات المؤلف أو الشاعر التي كان يلجأ إليها تعطي بعدا تداوليا للنص وتحل إشكالية كبيرة فيما يتعلق بالتعقيدات السياقية وعملية إنتاج العمل الأدبي. وقد أورد ابن جني كثيراً من الشروح المنسوبة إلى الشاعر :
فتبيتُ تُسْئدُ مُسْئداً في نِيِّــها |
إســـآدها في المهمــتهِ الإنضـاءُ |
بعدما يورد ابن جني عدة شواهد شعرية حول هذا البيت، يصل إلى شرحه معتمدا على شرح المتنبي: « ومعنى البيت: فتبيث هذه الناقة تَسرعُ في السيرِ، كما يَسرع تعبها بقطع هذه الأرض البعيدة. السير في شحمها، أي: يُهزلُها الإنضاءُ لشدَّةِ السَّيرِ، ويسرعُ في شحمها، كما تسرعُ في قطع هذه الأرضِ: أي كلما قطعت الأرضَ، قطعت الأرضُ شحمها على احتذاء، ومثال هذا. ثم يضيف: «هكذا حَصَّلْتهُ على المتنبي وقت القراءة عليه، وهو صوابٌ صحيحٌ» (ابن جني،جــ1: 87)
ومن محاورته له أيضا واستفساره عن بعض معاني شعره :وغنّى مغنٍ بحضرةِ أبي محمد الحسن بن عبيد الله بنِ طُغثجٍّ، وأبو الطّيّب حاضرٌ هناك، فقال :
مـاذا يـولُ الذي يُغنَّــي |
يـــا خـــيرَ مـــن تحت ذي السمـاءِ |
شَــــغلتَ قلبــي بلحْــــظ عينــي |
إليكَ عن حُســـنِ ذا الغنـــاءِ |
ثم يذكر محاورته للشاعر: «قلتُ له في بعض ما كان يجري بيني وبينه: تستعمل» ذاّ و «ذي» في شعرك كثيرا، فأمسك قليلا، ثم قال: إنَّ هذا الشعرَ كلَّه لم يعمل في وقت واحدٍ، قلتُ له: صدقت: إلا أن المادة واحدةٌ، فأمسك» ( ابن جني، جـ.1: 127). والحقيقة هنا أن الذي قصده ابن جني في قوله:« إلا أن المادة واحدة » يعني أن الاستعمال يغير منفصل عن المعنى الأول مما يفتح المجال لتأويلات أخرى تكون حسب السياق، وبذلك فإن أدوات الوصل يكون لها مرجعية مختلفة في كل تلفظ(Maingueneau :3)
ومن ذلك أيضا تعليقه على قوله :
ولاحَ لهـا صَـوَرٌ والصَّبـاحَ |
ولاحَ الشَّـــغورُ لهـا والضُّحـَــى |
قال أبو عمروٍ الجرميُّ :« صَوَرَى » ممالٌ اسم ماءٍ، فقلت لأبي الطيب، وقد قٍات عليه هذا البيت: إن أصحابنا يزعَمون أن« صَوَرَى »اسم ماءٍ، فرأيته كأنه قد تشككك، وأُرَى أنني سألتهُ عن « صَوَر » هذا: ما هو؟ فقال: هو ماءٌ، ورأيتُه أيضاً قد ذكر في بعض ألفاظه الأرض المعروفةَ بـ« ذِهْيوطّ »، فقال: هو « هِذْيوطَ »، فلمّ أقدم الهاء على الذَّال التفتُّ إليه، فلما رأى ذلك مني قال: والعلماء يقولون :« ذِهْيوطُّ »، وقال: قال لي أعرابيٌّ: إذا وردت الشَّغُورَ فقد أعرقتَ، يريد أتيتَ العراق، وقال: أريدُ لاحَ الشَّغورُ لها مع وقتِ الضُّحى.(ابن جني: 166).
وهنا يتضح وعي ابن جني بأهمية النص الشارح في تأويل النص، وأهميته في التناص الخارجي والذاتي معا.
خاتمة
من خلال ما سبق يتضح لنا أن التناص في قراءة ابن جني، ظاهرة ثقافية إنسانية، لا تختلف في جوهرها مع ما ذهبت إليه الدراسات الحديث، باعتباره ثورة في قراءة الأدب ونقده؛ أي ثمرة حجاجية لأفعال لغوية وانساق ثقافية متحكمة في بناء النص ومكوناته. وقد كان لأبي الفتح السبق الكبير في توجيه الخطاب النقدي شرحه الكبير على ديوان المتنبي؛ إذ يوضح منذ البداية أن صناعته تتمثل في فسر المعاني عن طريق إيراد الأشياء والشواهد في إيضاح عويص إعرابه وإقامة الشواهد على غريبه. وهذا بالرغم من حملة خصومه عليه إذ اتهموه بتحميل «شعر المتنبي من الأثقال مالا حاجة إليه، إذ يُمعن في الإكثار ما لا حاجة إليه، إذ يُمعن في الإكثار من الشواهد وذكر اللغة الغريبة وإيراد المعاني» إلا أن الحقيقة النقدية تثبت أن ما عيب عليه المتنبي في شرحه، هو في حقيقة الأمر جوهر» التناص :
-
حوّل ابن جني ما كان يعرف بالسرقة الأدبية، إلى آلية جديدة في إبداع الشعر
-
التناص الخارجي، وقد وضح فيه التناص الخارجي الجزئي، حيث يتم التصرف فيه إذ يلجأ فيه إلى إيراد الأشباه والنظائر من الشعر والقرآن وكلام العرب.
-
يتعقب الأشباه والنظائر، وتوالد المعاني، مكتفيا مرة بتشابه المعاني بين السابق واللاحق، مبينا بعض الاختلاف والتشابه، ومرة أخرى يبين فضل اللاحق على السابق، لأن الأخذ، في هذا الباب، يتطلب أن تكتسي المعاني بألفاظ من عند اللاحق، فيذكر الإضافات واللطائف.
-
أخذ جزء من المعنى، وإيقاع التشبيه على الجملة، والإضافة في المعنى. والاقتباس.
-
التناص الذاتي: إذ يرى في هذه الآلية طريقة معروفة بين الشعراء: «وهذه طريقة للشعراء معروفةٌ وسنَّةٌ منهم مألوفةٌ» .
-
النص الشارح: ما أسماه ابن جني «مشاجرة» مع المتنبي، والتي تعني في هذا السياق «المحاورة»: وهو ما يبرر اعتماد ابن جني في شرح الديوان على حواراته المتبادلة مع الشاعر.
ما زال هذا السفر الضخم في حاجة إلى بحث واستقصاء، لأنه عبارة عن موسوعة في اللغة والنحو والصرف، ورواية الشعر؛ إذ يضمن أحيانا شواهد شعرية غير موجودة أصلا في بعض الدواوين الشعرية، مما يؤكد اطلاعه وموسوعيته باعتباره مصدرا من مصادر اللغة والأدب.
.