مقدمة
أضحتِ الرّوايةُ (Le roman) من بين أكثر الفنون الأدبيّة انفتاحا على ميادين الحياة قاطبة. فما من حقل معرفيّ وما من ميدان -مهما كانت طبيعته- إلاّ وأخذت منه مادّتها المُشكِّلة لها، ولعلَّ هذا كلَّه يعدّ واحدا من أبرز الأسباب الّتي دفعت المهتمّين بميدان الإبداع الأدبيّ دفْعا إلى خوض غمارها والاستعانة بها كنمط تعبيريّ يستجيب لتطلّعات المبدع إلى حدّ ما. ومنه فقد استرفدت الرّواية تيماتِها ممّا يحيط بالمجتمع، ونعتقد من جهتنا أنّ هذه الخاصّيةَ هي من وسمت الرّوايةَ بميسم الرّحابة، وبالتّالي تحقّق مبدأ الفنّية والجمالية (L’esthétique) فيها
1. التّاريخ مَعينا خِصبا للرّواية
لقد أقرّت الباحثة نضال الشّمالي أنّ
«الرّواية أمست سيّدة الألوان والأجناس، وهذه السّيادة لا تنبع من حلولها في نفوس المتلقّين فحسب، ولا تنبع من تفوّقها على الشّعر في زماننا أيضا، بل إنّ الرّواية لون ما عاد يوقف نهمه لون آخر، ففي مواقف كثيرة سلبت الرّواية الشّعر أدواته وتسلّحت بسلاحه وسرقت متلقّيه وروّاده على حدّ سواء، والرّواية نهلت من التّاريخ نتائجه، وحقّقت في مُسلّماته، وأكملت ما سكت عنه التّاريخ وصحّحت ما زيّفه» (نضال، 2006، صفحة 108)
يتجلّى لنا من خلال هذه المقولة أنّ التّاريخ(L’histoire) قد عُدّ واحدا من المَعينات الخصبة الّتي استأنست بها الرّواية، وإنّه لمن الجدير بالذّكر أنّ التّاريخَ قد صُنّف ضمن العلوم الإنسانيّة(Sciences Humaines ) الّتي اضطلعت بتدوين الأحداث والوقائع الّتي يعود زمن حصولها إلى الماضي، ومنه فمن المنطقيّ حسب تقديرنا أن يكون مصدرا تنهل منه الرّوايةُ مادّتها التّعبيريّةَ، ولكن ينبغي التّنويه في هذا السّياق بأنّ الرّواية لا تتشرّب التّاريخ بشكل مُطلق إلى درجة الحفاظ على صرامته، بل إنّ إضفاء جملة من التّصرّفات عليه ضرورة مُلحّة بهدف تسريده.
فالتّاريخ حسب الباحث» عبد الله إبراهيم
«هو المادة التّاريخيّة المتشكّلة بواسطة السّرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التّوثيقيّة والوصفيّة، وأصبحت تؤدّي وظيفة جماليّة ورمزيّة، فالتّخيّل التّاريخيّ لا يُحيل على حقائق الماضي، ولا يقرّرها، ولا يروّج لها، إنّما يستوحيها بوصفها ركائز مفسّرة لأحداثه وهو من نتاج العلاقة المتفاعلة بين السّرد المُعزّز بالخيال، والتّاريخ المدعّم بالوقائع، ولكنّه تركيب ثالث مختلف عنهما» (ابراهيم، 2003، صفحة 05)
ونفهم من هذه المقولة أنّ التّاريخَ بصرامته ودقّته، ليس له حضور في المتون الإبداعيّة. بمعنى أنّ الرّوائي يستلهم مادّة إبداعه من التّاريخ كعلم إنسانيّ ولا يعني ذلك مجرّد أخذه، بل إنّ حضور التّاريخ في الرّواية كإبداع في ميدان الأدب لا يمكنه أن يرد سوى معدّلٍ مُحوّر، يُزيح منه الرّوائي سمات التّاريخ (كالتّوثيق الصّرف وتوخّي الدّقة المتناهية في الأخذ منه) ويضفي عليه فُسحةً من الخيال بهدف تماشيه مع الإبداع الّذي مهما لامسَ الواقع إلاّ أنّه يتملّص منه، وإلاّ فلا مجال للحديث عن إبداع روائيّ ومن هنا ظهر مصطلح التّخيّل التّاريخي «l’histoire fictionnelle»
2. المناصصة بين التاريخ والرواية وتجاوز مقولة الأجناسية
إنَّ حضورَ التّاريخ في المتن الرّوائيّ لا يخلو من مبدأ التّخييل (Fiction)، بمعنى أنّ الرّوائيّ لمّا يأتي إلى الأخذ منه (أي التّاريخ)؛ لا يتبنّى مبدأ التّوثيق الصّرف نظرا لسمة التّخييل الّتي ينبغي أن يتمتّع به أيّ فنّ روائي (Œuvres Romanesques) مهما كان. ومن هنا وجدنا التّاريخَ قد تمّ تضمينه في جنس الرّواية، فمن جهته الباحث «فيصل درّاج» أشار إلى أنّه
«يتوزّع علم التّاريخ والرّواية على موضوعين مختلفين، يستنطق الأوّل الماضي ويُسائلُ الثّاني الحاضر، وينتهيان معا إلى عبرة وحكاية بيد أنّ استقرار الطّرفين، منذ القرن التّاسع عشر، في حقلين متغايرين لم يمنع عنهما الحوار، ولم ينكر العلاقة بين التّاريخ والإبداع الأدبيّ» (درّاج، 2004، صفحة 09)
يتبادر إلى أذهاننا في هذا الصّدد أنّ عنصر الزّمن يعدّ من محرّكات النّسيج الرّوائيّ، وأنّ التّاريخ له صلة وثيقة به (أي بالزّمن) بحجّة أنّ التّاريخ وقع في زمن محدّد وبالتّالي لا يمكن الفصل بين كلّ من التّاريخ كعلم إنسانيّ والرّواية كصنيع إبداعيّ. فحتّى وإن غدا كلّ من التّاريخ والرّواية حقلين منفصلين عن بعضهما البعض، إلاّ أنّ لا أحد يمكنه الانسلاخ عن الآخر، أو بالأحرى لا يمكن للرّواية أن تتجرّد من التّاريخ، بل تستدعي الضّرورة التّفاعل معه وذلك بإضفاء بعض سيمات الرّواية عليه.
لعلّ استثمار الرّواية للتّخييل هو من يسّر لها الأخذ من ميادين الحياة كافّة والّتي منها التّاريخ. حيث
«يبدع الروائي كونا خياليا روائيا يتكوّن في آن واحد من عناصر متخيّلة وعناصر واقعيّة، فالتّاريخ الحقيقيّ ماثل في الرّواية ممتزج متخيّلة متواشج معها، فلا تعود منحصرة في استكناه الصّلات بين عالم الرواية المتخيّل والواقع، بل تشمل إلى ذلك الصّلات القائمة بين الواقع والتّخييل(fiction) في عالم الرواية الخيالي(imaginaire)»(القاضي، 2008، صفحة 68)
ما نتغيّاه من خلال هذا البحث ليس الوقوف على مفهوم التّاريخ أو التّطرّق إلى مميّزاته وخصائصه، بل إبراز مدى حضور المادّة التّاريخيّة في المتون الرّوائيّة وكيفية استثمار وتطويع المبدعين لهذا العلم الإنسانيّ بما يواتي ويُساير الرّواية كفنّ أدبيّ له سماتُه الخاصّةُ به.
إنّ ما يهمّنا نحن –كون دراستنا تنصبّ على الرّواية-هو اتّجاه الرّوائيين إلى استثمار هذا العلم الإنسانيّ في متونهم الرّوائيّة، وكيفيّة صياغتهم للمادّة التّاريخية في قالب روائي يُزيحُ عنها الصّرامةَ والدّقّة اللّتين يُعرف بهما التّاريخُ الصِّرف، ويُفضي على المتن الرّوائيّ نوعا من التّملّص عنه بلغة أدبيّة تكتسيها الأدبيّة (la
Littérarité) فيقدِمُ القارئ عليها بنوع من التلذذ الأدبي. فقد وجدنا الباحث «حلمي بدير» قد نوّه بأنَّ
«الأدبَ أصدق من التّاريخ، ذلك أنّ الأدب عندما يتناول حدثا أو شخصيّة تاريخيّة يجد الحرّية الكاملة في الانطلاق وراء خفايا الحدث ودوافعه، أو وراء التّجربة الخصوصيّة للشّخصيّة، بينما يقف المؤرّخ جامدا إزاء هذا، وذلك أنّه ملتزم برواية الحدث كما هو (...) بطريقة أخرى فإنّ مجال الخيال مفتوح أمام الكاتب، بينما هو مغلق أمام المؤرّخ(...) ومن هنا فإذا كانت أدوات الأدب من حيث دراسته الواعية للحقبة والحدث والشّخصيّة الّتي يؤرّخ لها متكاملة، جاء عمله أقرب إلى الصّدق منه إلى عمل المؤرّخ»(بدير، 1985، الصفحات 49-50).
بمعنى أنّ الرّوائيّ أثناء احتكاكه بالتّاريخ ليس ملزما بأن يأخذه بحذافيره، إنّما تستدعي الضّرورة تناوله بأسلوب يعكس نوعا من التّحرّر من قسر التّاريخ، فنجد الرّوائيّ يشعر بنصيب وافر من الحرّية أثناء تفاعله مع المادّة التّاريخيّة، ممّا يجعل القارئ lecteur) (Leحسب تقديرنا يُؤْثر قراءة التّاريخ عبر الأعمال الرّوائيّة نظرا للاسترسال (La spontanéité) الّذي يحسّ به، عكس ما يجده في كتب التّاريخ الحَرِصَة كلّ الحرص على نقل ال بكلّ صرامة.
نعتقد في سياق مُماثل أنّ الرّوائي غالبا ما يلجأ إلى توظيف التّاريخ في عمله الرّوائي، حتّى يكشف عن وجهة نظره وموقفه تُجاه بعض الأحداث والحقائق التّاريخيّة، على نحو ما نجده عادة عند الرّوائي واسيني الأعرج. ومن جهة أخرى قُدرته على إعادة بناء المادّة التّاريخية وتحويرها بأسلوب يخدم الفنّ الرّوائي. لأنّ صبغَ العمل الرّوائي بالصّبغة التّاريخية لا يعني مطلقا أخذ السجلاّت التّاريخيّة وإعادة كتابتها روائيّا، بل إنّ عنصر المُراوغةَ عُدّ من مقتضيات أيّ عمل روائي مهما بلغت درجة انصهاره (Fusion) مع مواضيعَ غير أدبيّة، لهذا « فإذا كان المؤرّخ يلتزم «الحقيقة» التّخييل فيسرد الأحداث كما شاهدها أو كما رُويت له فإنّ الرّوائي يعتمد التّخييل في سرد الأحداث، فيحذف يضيف، يقدّم ويؤخّر»(رياض وتار، 2002، صفحة 102)
يتّضح لنا عبر تعقيب الباحث محمّد رياض وتار أنّه لا يمكن عَدُّ الرّوائي الّذي يُضمّن روايته أحداثا تاريخية، بمثابة مؤرّخ (Historien)، بحكم كون التّاريخ يتولّى مهمّةَ كتابته المؤرّخون. الأمر الّذي يعني أنّ
«الرّواية التّاريخيّة ليست إعادة كتابة للتّاريخ، بل إعادة تدوين الماضي على نحو جماليّ لا حيادي يركن إلى نصّ تاريخيّ تحسبه غير مكتمل، فالتّاريخ (دال) والماضي (مدلول) والتّاريخ هو رؤية المؤرّخ، أمّا الماضي فهو ما استرعى انتباه المؤرّخ فكتبه تاريخا، وخلب لب الروائي فكتبه روايةً بعد أن ثبت وقرّ في أذهان النّاس، ثم سارعَ هذا الأخير إلى استيضاح معالمه أو محاكمته أو تلخيصه أو تصويبه أو إتمامه أو استحضاره إنّه الاستشراف لا ريب،...» (الشّمالي، الرّواية والتّاريخ، بحث في مستويات الخطاب في الرّواية التّاريخيّة العربيّة، صفحة 108)
ذلك أنّ التّاريخَ في الواقع حدث حقيقيّ، في حين صُنّفت الرّواية كجنس من الخيال. ولكن حتّى وإن لم تتوخَّ الرّوايةُ مبدأ النّقل الصّرف للمادّة التّاريخيّة إلاّ أنّها لا تحيدُ عن المَعين التّاريخيّ. بمعنى أنّ أخذ الرّواية من التّاريخ لا يُغيّبُ عنها المصداقيّةَ. ومهما يكن من أمر لا نعتقد أنّها- أي الرّواية- مجرّد رصف للأحداث، إذ حتما نلتمس الحقيقة في عمومياتها، وإنّ الشّيء الّذي يجعل الرّوايةَ تتصرّف في التّاريخ –كما أشرنا آنفا- هو جعله يتجانس مع أدوات العمل الرّوائي. لهذا وجدنا الباحث مصطفى ولد يوسف من جانبه قد اعتبرَ التّاريخَ «مادّة خام وخجولة تخضع لركام الزّمن ومعماريّة صارمة في طرحها لموضوعات الإنسان واجترار خطاب الوثيقة أو الذّاكرة، بينما وروده في الرّواية فهذا حتما سيورثه شيئا من التّخييل»(ولد يوسف، 2013-2014، صفحة 01) والمفهوم هنا أنّ العمل الرّوائيّ ليس عملا بريئا، بل تكتنفه الرّمزيّة (Le symbolisme) والإيحائيّة عبر التّحويرات الّتي تُتاحُ له، فيخوض في المسكوت عنه والمُضمر خشية إثارة التّحفّظات ونحوها من التّشعّبات الّتي يشهدها المجتمع ويعوز عليه الإفصاح عنها بالجرأة اللاّزمة.
لا يفوتنا هنا أن ننوّه بأنّ الرّوائيين الّذين يعمَدون إلى توظيف المادّة التّاريخية في متونهم الرّوائية دليل على اطّلاعهم الدّقيق عليها، أو ربّما عاشوا من التّاريخ نصيبا وافرا، ومن هنا تأتي العفوية في التّعامل مع المَعين التّاريخيّ جماليّا.
3. إعادة تمثيل السّياق التّاريخي في الرّواية كخلفية مؤسَّسة
يمكن إيعاز توظيف التّاريخ في المتون الرّوائيّة إلى إماطة اللّثام عمّا يجري في الأوساط الاجتماعيّة، أو بالأحرى فضح الممارسات الفاسدة والظّالمة الّتي تمارَس على الشّعوب. إذ حمل التّاريخ في الرّواية على سبيل المثال، مهمّة تعريّة العالم الموبوء المليء بالانكسارات، لا سيّما تيمة الإرهاب الّتي ذاق مرارتَها الشّعبُ الجزائريّ إبّان تسعينيات القرن الماضي. هذا بالإضافة إلى مسألة الهويّة الضّائعة؛ والاغتراب الدّاخلي الّذي سطا على الألباب. بالتّالي وجد المبدعون فيما بعد الرّواية سبيلا لطرح ومعالجة هذه المواضيع عن طريق
«فتح فضاء السّرد على عوالم متاخمة للرّاهن، متعلّقة به بضرب من التّعلّق... كما كانت ويلات الإرهاب وأثرها في الأفراد والجماعات والقرى والمدن تمثّل خلفيّة لمعظم الأحداث الرّوائيّة، تتلقّفها النّصوص طازجة لتنسج من وحيها عالمها الرّوائي من دون أن تتروّى لبناء معادل تخييلي يتتبّع الأزمة منذ بداياتها التّاريخيّة.» (شطّاح، 2012، صفحة 70).
تعقيبا على هذه الفكرة، يمكننا التّرجيح بفكرة مؤدّاها أنّ الرّوائيين أدركوا كيفية استثمار المادّة التّاريخية في الأعمال الرّوائيّة عن طريق تسريد التّاريخ، ممّا يجعلها تظلّ في مجال أدبي وفنّي.
1.3. تجاوز إكراهات التّاريخ ونسف النّزوعات الدّوغمائية
إنّ اطّلاعَنا على بعض المتون الرّوائيّة -الجزائريّة وغير الجزائريّة- المستثمِرة للخطاب التّاريخي، بيّن لنا أنّ توظيفه لم يكن قطّ بطريقة ساذجة، توقِعُ الفنّ الرّوائي في بَوْتَقة التّقريريّة فحسب، لأنّ هذا من شأنه أن يصرف القارئ عن الرّواية وعن إتمام قراءتها. فتبنّي مبدأ الفنيّة في كتابة التّاريخ وتفعيل ملكة الذّكاء أثناء التّعامل معه، من شأنه أن يزرع التّشويق والشّغف في نفس القرّاء. ومن هنا فقد وُفّق الرّوائيّ الجزائريّ إلى حدّ ما في خلق نوع من الانسجام (Harmonie) والتّكامل (Complémentarité) بين التّاريخ والفنّ الرّوائيّ، وذلك بأنْ
«اتّخذ التّاريخ مادّة للسّرد بإعمال الخيال في تقديم المادّة التّاريخيّة بهدف خلق المتعة التّشويق شدّ القارئ إلى متابعة الرّواية، لأنّ العذول عن التّمسك بالحقائق التّاريخيّة هو الّذي يقيم حدّا فاصلا بين الرّوائي والمؤرّخ» (ريّاض وتار، صفحة 102)
ينبغي الإقرار في هذا السّياق أنّ الخطابَ التّاريخيَّ قد أصبح من أبرز الموضوعات الّتي هيمنت على متخيّل الخطاب الرّوائي العربي المعاصر. إذ بدأ في أواخر القرن العشرين وبداية الألفيّة الثّالثة بشكل لافت للانتباه. ومن بواكيرها الجيل الطّلائعي الجديد الّذي اهتدى إلى تقنيّات وآليات الخوض في ميدان الرّواية، وكذا الجيل الأوّل الّذي أصبح مع مرّ الوقت متمرّسا في الكتابة الرّواية، ممّا مكّنه من تشييد معمار روائيّ هادف ومفيد للقارئ.
ومن أمثلة هذا الجيل نجد الرّوائيّ الجزائري واسيني الأعرج والمغربي بن سالم حميش، وغيرهما كثير. وتنمّ تقنيّة تسخير الرّواية للتّاريخ عن «معرفة هؤلاء الرّوائيين بأحدث تقنيّات الرّواية الجديدة... الأمر الّذي يسهّل على المبدع التّعامل الذّكي الواعي مع المادّة التّاريخيّة» (بعيو، 2011، صفحة 41)
هذا يقودنا إلى القول بأنّ حضور المادّة التّاريخيّة في المتون الرّوائيّة لم يكن قطّ على أيدي الرّوائيين الكلاسيكيين (وهذا لا يعني أبدا أنّنا نستنقص من قيمتهم كونهم من عبّدوا الطّريق هذا الفنّ للجيل الجديد). إذ يعمد الرّوائي الجاد إلى استلهام التّاريخ لإبراز الواقع المتأزم في قالب روائي، وليس مجرّد نسخ للتّاريخ أو إبراز الرّصيد الثّقافي في هذا المجال بالتحديد، فالرّوائي الفذّ
«يقدّم لنا التّاريخ في صورة حيويّة تجتذب مختلف الفئات المتعلّمة في المجتمع، فإذا كان المؤرّخ يهتمّ بتقديم جثّة التّاريخ محاولا تشريحها وفهمها، فإنّ الرّوائي يحرّك هذه الجثّة في عمل فنّي يعيش بين النّاس يتفاعلون معه» (عبده قاسم، 2009، صفحة 76) .
نستشفّ من خلال هذه الفكرة أنّ المؤرّخ يكتب التّاريخ بنحوٍ ليس من السّهل الاهتداء إلى مَكامِنه، وبالتّالي يُفهم من طرف النّخبة المثقّفة (L’élite intellectuelle) فحسب، في حين يستصعبه النّاسُ ذَوُوا الرّصيد المعرفي المحدود، ممّا حدا بالرّوائي إلى تبسيط هذه المادّة الرّوائيّة وإفهامها لكافة النّاس حتّى يستوعبوها.
يجدر بنا التّنويه في هذا المقام أيضا بأنّ توظيف التّاريخ في الرّواية لا يعني مطلقا أنّها تعوّض كتب التّاريخ الّتي تروي الأحداث على حقيقتها. غير أنّنا نعتقد بالمقابل أنّ لجوء الرّوائي إلى هذه التّقنية، يجعل نسبة الاطّلاع عليه أكبر، وذلك من دون العودة إلى كتب التّاريخ. لأنّه ليس كلّ النّاس يقرؤون كتب التّاريخ، فقُرّاء الرّواية أكثر حسب تقديرنا، وبالتّالي يسهل فهم التّاريخ والاستفادة منه بمجرّد قراءة الرّواية ومن دون العودة إلى السّجلاّت التّاريخيّة الموغلة في صلب الوقائع والأحداث.
2.3. تجاوز إكراهات التّاريخ ومحاورة الماضي من خلال أطروحات الحاضر
إنّ إعادة كتابة التّاريخ في الرّواية بسجلاّته وحذافيره ليس وراءه كبير غناء، لأنّه وجب على الرّوائي أن يخلق نوعا من الانسجام بين التّاريخ كعلم إنسانيّ له ضوابطه ومُحدّداته وبين العمل الرّوائيّ كبناء سرديّ يستدعي درايةً في التضمين السردي من هنا وهناك قصدَ تحقق الجماليّة، ويتجسّد ذلك حسب تقديرنا عبر حُسن استثمار المبدع للخامّ التّاريخيّ في مساحته الرّوائيّة دون أن تفقد نبرة التّخييل. ومنه فكلّ روائيّ يمكنه الانفراد بطريقته في استلهام التّاريخ بطريقة لبقة تجعل من
«التّاريخ حاضرا عبر تجلّيات متنوّعة، ومساحات متباينة، وفاعليات معقّدة تتسرّب خفية في عمق الفضاء السّردي، فتنمحنا نسيجا نصّيا بني لوبيا ساحرا كلّما قارب الاكتمال نقُص...وكأنّنا نقرأ نصوصا بِكرا في كلّ مرّة حيث لم نعد نملك بعد ترف التّشابه الّذي يتبدّى كأنّه يشكّل نمطا روائيّا تندرج داخله هذه النّصوص الّتي يخترقها الحضور الممتع والجدلي للتّاريخ» (أحمد فؤاد، 2009)
نفقَهُ من هذه الفكرة أنّ الخطاب الرّوائي (Le discours romanesque) يَتَنَاصُّ ويتقاطع مع الخطاب التّاريخيّ أثناء الكتابة، وليس يُعيدها كما هي جامدة من دون تصرّف أو تحوير، فهذا ما من داعٍ له. أضف إلى هذا فإنّ عنصرَ المُتعة يتحقّق في الرّواية متى وُفّق الرّوائيّ في جعل الخيال والتّاريخ خليطا متجانسا منسجما غير قابل للفصل، وهذا من شأنه أن يُحسّسَ القارئ بمُتعة قراءة التّاريخ من خلال الرّواية. وليس يبلغ هذا المَبلغ سوى مبدعٍ متفوّق ضليع بأبجديات الكتابة الرّوائيّة.
لقد انصبّ اهتمام الرّوائيين الجزائريين – وهم يستثمرون المادّة التّاريخيّة- على تلك الأحداث الطّاحنة والّتي تركت في أنفسهم جرحا غائرا ومؤلما. ممّا جعلهم يتفاعلون أكثر مع الرّاهن، مثل حرب 1948، وأزمة 1967، ناهيك عن العشرية السّوداء الّتي عاشت فيها الجزائر زمنا من الرّعب والقلق والاضطراب (يقطين، انفتاح النصّ الرّوائي، 2001، الصفحات 103-109)
كيف لا وقد عرفت الجزائر في تلك الفترة أحداثا طاحنة لا يُمكن المرور عليها دون الخوض فيها. حيث ذاق شعبها مرارة البطش والظّلم، والاستقرار، لا سيّما على الصّعيدين السّياسيّ والاجتماعيّ.
لقد أشرنا آنفا إلى أنّ المبدع لا يُعيد إنتاج التّاريخ كما حدث حقيقة أو كما أرّخته الكتب. إذ غدا تطويعه وتكييفه على صورة نصّ أدبي فنّي أمرا لابدّ منه، فأدبيّة (La littérarité) العمل تتحقّق متى أدرك المُبدع كيف يصوغ مادّته المعرفيّة في قالب روائيّ دون أن يشوِّهَ المَعين الّذي امتاح منه من جهة، ودون أن يُقصّر في آليات البناء الرّوائيّ من جهة أخرى. لهذا يُصرّ بعض الباحثين على أنّه ينبغي على الرّوائي – حينما يعمَدُ إلى تشخيص النّص التّاريخيّ وإدراجه في النّص الإبداعي- أن يتبنّى استراتيجيّة تفكيك بنية التّاريخ ثمّ إعادة صياغتها في سياق يجعلها تظلّ في حدود الكتابة الأدبيّة.
بما أنّ دراستَنا قد انصبّت على الرّواية الجزائريّة الموظِّفة للخطابات التّاريخيّة، فقد تفطّننا بعد إطلالة خفيفة إلى أنّ الرّوائيين يغرفون من مَعين التّاريخ الجزائري، ولهذا فقد
«كان مدار الحكاية في الرّواية الجزائريّة، هو العنف الإسلامي، هو حدث تاريخي بالدّرجة الأولى مقدّم بقالب أدبي يتماس مع الواقع والتّاريخ ويجنح إلى التّخييل باعتباره سمة بارزة له» (عبد الله العنزي، صور العنف السيّاسي في الرّواية الجزائريّة المعاصرة (دراسة نقديّة)، 2010، صفحة 175)
يأتي هذا القول إذن ليعضُدَ الطّرح الّذي سبق وأن أدرجناه في ثنايا هذه الدّراسة، والّذي يحمل في مضامينه انتهاج الرّوائي نهج التّخييل أثناءَ الأخذ من الحقول الأخرى، وهنا الفنّيّة. وعليه فليس من باب الغرابة بمكانٍ أن يستقيَ الكتّاب الجزائريّون مادّتهم من تاريخ الجزائر كونها وطنهم الأمّ وكون مأساته تعنيهم. إذ تُضيف الباحثة سعاد عبد اللّه العنزي في الطّرح نفسِه قائلة: «من البديهي أن يكون التّاريخ العربي الإسلامي مدارا حكائيّا، ينهل منه الرّوائيّون الجزائريّون ما يخدم الشكل الرّوائي الأفكار المطروحة» (عبد الله العنزي، صور العنف السيّاسي في الرّواية الجزائريّة المعاصرة (دراسة نقديّة)، صفحة 175)
وفي شأن ذي صلة، أشارت الباحثة آمنة بلعلى إلى أنّ كُتّاب الرّواية بالجزائر قد تعاطوا مع التّاريخ، مُكرّسين اهتمامهم على تاريخ الجزائر بواقعه الموبوء المليء بالانكسارات، وإنّ توجُّه الرّوائيين إلى هذه التّقنيّة لخيرُ دليل على تماشي مُتخيّلهم الرّوائي الّذي يعني بالنّسبة إليهم الرّافد الّذي يغرفون منه المادّة الرّوائيّة. إذ
«أرّخت بعض الرّوايات الجزائريّة مثل رواية سيّدة المقام لواسيني الأعرج فتاوى زمن الموت لإبراهيم سعدي والورم لمحمّد ساري لمرحلة العنف بكلّ تفاصيلها، أين التمسنا الايديولوجيّة والسيّاسة على لسان السّاردين والشّخصيّات» (بلعلى، 2006، صفحة 77)
وغني عن البيان أنّ نُزُوعَ الكُتّاب إلى تضمين المادّة التّاريخيّة في متونهم الرّوائيّة، ينُمُّ عن هدف مرسوم من قِبلهم. فمن جهة يودّون تحيين الأحداث وإيقاظ حرارتها، ومن جهة أخرى الإلحاح المستمرّ على ضرورة كشف الحقائق الّتي اعترت البيئة الجزائريّة بما فيه تفشّي ظاهرة الإرهاب الّتي تربّصت بالوطن وجعلت أبناءه يعشون وابلا من الرّعب والخوف. وفي صدد مُماثل، ينبغي علينا الإقرار بأنّ الرّواية المُتماسّة مع التّاريخ لم تُهمل الجانب السّياسيّ لكون التّاريخ ليس يخلو من نبرة سياسيّة. ذلك أنّ معظمَ الأحداث التّاريخيّة في الجزائر لها امتداد سياسيّ ملحوظ، فلا يمكن نُكران ذلك.قد أشار الباحث سعيد يقطين إلى تعالق التّاريخي بالسّياسي الّذي من خلاله
«يتجسّد الامتداد بين التّاريخيّ والواقعيّ من خلال السّياسيّ. والسّياسيّ باعتباره بنية تتجذّر من خلال علاقة الحاكم بالمحكوم بواسطة القهر والقمع هي ما تحكم عمق الصّلة الرّابطة. وكأنّ التّاريخ والواقع لا يتحقّقان إلاّ عبر سلطة الحاكم القاهرة والقامعة» (يقطين، الرّواية والتراث السّردي، (من أجل وعي جديد بالتّراث)، آب (أغسطس) 1992، صفحة 51)
نستنتج من هذه المقولة أنّ استلهام التّاريخ يمكنه أن يطالَ السّياسة أيضا. حيثُ لا يمكن التّغاضي عنها (أي السّياسة) أثناء الحديث عن التّاريخ، بيْدَ أنّ الرّوائي يسعى إلى زعزعة اليقينيات الإيديولوجية والسّياسيّة استشرافا لفضاءات أرحب بين الأنا والآخر على مستوى المتخيّل الرّوائي.
4. التّاريخ حدثا مؤوَّلا في رواية أصابع لوليتا
إنّ المُطّلع على رواية «أصابع لوليتا» لواسيني الأعرج، سيُصادف حضور المادّة التّاريخيّة في هذا الصّنيع الّذي تداخل فيه السّرد الخيالي مع الكتابة التّاريخية إذ :
«يشكّل استثمار التّاريخ في الكتابة الرّوائيّة عند واسيني الأعرج رصيدا معرفيّا مُهيمنا، إذ لا يكاد يخلو أيّ عمل من أعماله الرّوائيّة أن يتحرّر من الماضي، وألاّ ينغمس بطريقة ما في التّأمّل التّاريخيّ، حيث يتحوّل ها التّأمّل- في الغالب- إلى حوار بين الواقع والممكن، انطلاقا من الوثيقة التّاريخيّة أو ممّا ترسّب في المُخيّلة الشّعبيّة، يمكّن هذا الحوار الرّوائيّ من إعادة رسم خريطة الوجود ومن خلق أوضاع جديدة مُتخيّلة أو ذات حمولات مرجعيّة تاريخانيّة تعدّ بطريقة ما إعادة قراءة للتّاريخ» (رواينية، 2011، صفحة 195)
فاستعانة الأعرج بالتّاريخ حسب شهادة الباحث رواينية لم تكن مجرّد إقحام هذا العلم الإنسانيّ في متنه الرّوائي فحسب، بل إنّ للتّاريخ في المدوّنة الرّوائيّة الواسينيّة الكثيرَ من مميّزات الرّواية كفنّ. وعليه فمهما كان الأخذ من هذا المَعين، إلاّ أنّ ذلك يبُقي الجمالية مُتجلّية في أعماله. ومردّ الأمر إلى حسن الأخذ وإعادة التّشكيل على نحو لا يُفقد الرّوايةَ ميسمها الّذي يفصلها عن التّاريخ.
فبالإضافة إلى المادّة التّاريخيّة المتضمَّنة في ثنايا الرّواية؛ وجدنا صاحبها يضمن جُملة من التّيمات، كالحبّ وعالم الموضة وفنّ الرّسم واستقراء اللّوحات الزّيتيّة، والعطور...إلخ. وتجدر بنا الإشارة ها هنا إلى أنّ كلَّ ما تمّ طرقه من قبل الأعرج عبر هذا المتن الرّوائي لا يخلو من الرّمزيّة والتّطويع والتّحوير لسيرورة الوقائع التّاريخية خارج حدود الزّمان والمكان. ومن بين الموضوعات المُثارة في هذه الرّواية، شخصيّة المثقّف، منزلته ويومياته، ولعلّ ذلك تلويحٌ لما عانى منه المثقّف الجزائريّ خلال العُشريّة السّوداء من اضطهاد.
عانى المثقّف يونس مارينا وهو واحد من الشّخصيات الرّئيسيّة في الرّواية هذه المعاناة، لمّا شعرَ بأنّ هُناك أمرا يُحاك ضدّه للقضاء عليه، ممّا بثّ في نفسه وابلا من القلق والانفعال. إذ ظلّت تحركاته محلّ مُراقبة وترصّد من حراس النّوايا قصد تصفيته، لكونه مثقّفا يحظى بنصيب وافر من الوعي. ونستشفّ ذلك من خلال قول الرّوائي على لسان البطل: «خائف من ذئاب العقيد يا أمّي» (الأعرج، 2012، صفحة 88) ويضيف في سياق مماثل قائلا: «لقد رأيتهم قبل أيّام وهم يتبعونني عندما ذهبت إلى حافّة المقبرة» (الأعرج، أصابع لوليتا، 2012، صفحة 87)
ومما حدا بالرّوائيين لطرق موضوع العنف في رواياتهم، هو كونهم ضاقوا ذِرعا من التّضييقات والتّهديدات الّتي يتعرّض لها المواطن باستمرار، لتُصبّ الأنظار بعدها نحو المثقّف، والّذي كان يشار إليه بالأصابع لترصّده ومَحْوه من الوجود، بسبب أرائه التّنويرية.
ينبغي الإقرار في هذا الصّدد أنّ سعي الرّوائي وراء تعريّة الفساد لَغايةٌ نبيلة ذات طموحات أرحب أكثر امتلاءً وفق استراتيجية تفضح بعض الممارسات والتّجاوزات الّتي كانت سببا في تلك الأزمة، فيعيد تأسيس المتخيّل الرّوائي
«متطلّعا إلى سلطة عادلة، ديمقراطيّة تُلبّي حاجات الجميع؛ إذ طالما أرهبه عنف السّلطة اللاّمنتهي والمتلبس لُبوسات متعددة متداخلة فأراد تعريها متّخذا لُغة الرّواية وسيلة للدّعوة إلى هذه الغاية السّامية» (حبيلة، 2010، صفحة 166)
نفهم من كلام الباحث الشّريف حبيلة أنّ طرق موضوع العنف من لدن الرّوائيّين، عُدّ بمثابة رغبة جامحة في انقضاض أيّام البطش والظّلم والجور الّذي ظلّ يُمارس على المواطنين ويعذّبهم يوميّا، ونعتقد من جهتنا أنّ سبب لجوء الكاتب لإثارة هذه المواضيع الحسّاسة مردّه إلى ذلك الأمل الطّافح في عودة البلاد مجدّدا إلى يفاع الاستقرار والسّلام. أضف إلى ذلك تلك الرّؤية الاستشرافية المتطلّعة إلى إعادة الاعتبار للمثقّف في المجتمع، لأنّه الأقدرُ على تنوير الرّأي العامّ في تلك الحقبة العصيبة من تاريخ الجزائر.
تأسيسا على التّسييجات السّابقة يتبيّن لنا بأنّ الرّواياتِ الجزائريّةَ قد تحدّثت بشكل مثير للانتباه عن قضيّة الإرهاب وتداعياته على السّاحة السّياسية والثّقافية بوجه أخصّ. ليضحى الإرهاب بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من الزّمن مادّة تاريخيّة ألهمت العديد من الرّوائيين.
إنّ القراءة المتمعَّنة لرواية «أصابع لوليتا» لواسيني الأعرج، تُنبّئ بالحضور الفعّال للخطاب السيّاسي في أغوار نسيجها النّصّي، مُشكِّلة معمارا سرديا تؤثّثه الأحداث والشّخصيات؛ ليبلورَ فيه مواقف من الأحداث والوقائع. واللاّفت للنّظر أنّ الرّوائي واسيني الأعرج يتّكئ على استراتيجية المفارقة (Le paradoxe) الّتي تسم طريقة تقديمه للوقائع التّاريخيّة في متنه الرّوائي، يستثمرها ويُطوّعها من منظور الرّاهن، معتمِدا على الانشطار السّاخر للشّخصيات التّاريخية. فألفيناه يشير إلى الانقلاب الّذي دبّره العقيد هواري بومدين على أوّل رئيس للجمهوريّة الجزائريّة بعد الاستقلال أحمد بن بلّة، أين حكم عليه بالسّجن. لذا صوّر لنا الأعرج – في روايته هذه –يوميات بن بلّة في الزّنزانة. فقد رآه شخص يتحدّث على لسان السّارد «رأى الرّايس بابانا في مكان معزول لم يوضع فيه حتّى القتلة والمجرمون» (الأعرج، أصابع لوليتا، صفحة 73) يدلّ هذا المقبوس النّصّي على الوضع المزري الّذي عاشه أحمد بن بلّة في السّجن. لكنّ الأعرجَ لم يتوقّف عند الحدّ التّسجيليّ لهذه الواقعة، إنّما استطاع أن يُضفيَ عليها سمَة أساسيّة من سمات السّرد التّخييلي، وذلك من خلال مشاكسة المحكي التّاريخي الّذي يدفع إلى تبنّي تأويل الحدث التّاريخي (التّصحيح الثّوري) بأشياء أخرى غير ما تُقرُّه كتب التّاريخ. ممّا مكّنه من صهر التّاريخ في الأدب بطريقة ذكيّة وواعية، يجد فيها القارئ محكياتٍ ومشاهدَ يتشاكل فيها السّياق الحاضر بالسّيرورة التّاريخية للوثائق والمرويات . وبلا مواربة حاول واسيني تبنّي استراتيجية حكائية تُزاوج بين المحكي التّاريخي والمحكي السّردي الّذي بموجبه يضع الوثائق الرّسمية موضع الشّكّ والمساءلة وأحيانا السّخرية، ليجعل من شخصية بن بلّة تتمكّن من إيجاد طريقة تُبعدُ عنه المللَ أثناء مكوثه بالسّجن حين قال:
«حارب الظلمة والعزلة والخوف بطريقته الخاصّة... قاوم العزلة بصحبة ذبابة صغيرة، شاءت الصّدفة أن تدخل زنزانته، كان كلّما وُضع الطّعام أمامه، خرجت من ظلمتها وخوفها وجاءت لتقاسمه طعامه حلوته» (الأعرج، أصابع لوليتا، صفحة 73)
اتّضح لنا انطلاقا من هذه العبارة كيف طوّع الرّوائيُّ التّاريخَ، بأن أضاف إليه بعض التّفاصيل الدّقيقة ليوميات بن بلّة في السّجن. وهذا من شأنه أن جنّبَ الرّوائيّ من الوقوع في فخّ إعادة اجترار وقائع تاريخية متلبسة على أكثر من صعيد. ويتمثّل هذا الخيال في تلك الذّبابة الّتي يبجّلها بابانا (على حدّ تعبير الأعرج) لكونها أزرته وأنسته في وحدته. وعلى هذا الأساس يمكننا الإقرار بأنّ الفنّ الرّوائيّ ليس بإمكانه أن ينسلخ من الخيال، ليراوح بين ما هو واقعي وفني. بيْدَ أنّ السّمتَ الّذي يشيده الرّوائي يقوم على استبصار فنّي يزاوج بين الأحداث التّاريخية من منظور تداعيات الرّاهن، مرُكّزا على خاصية التّبعيد(distanciation) بين الخطابين التّاريخي والرّوائي.
ومن هذا المنطلق لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تكون الذّبابة قد ساندت الرّئيس الأسبق بن بلّة مدّةَ سجنه، فالغاية من هذا حسب تقديرنا هي صبغ العمل الرّوائيّ بصبغة أدبيّة تختلف وتتباين مع التّاريخ كعلم إنسانيّ يميل إلى الدّقّة والتّحرّي في توثيق الأحداث. وبما أنّ هذه المهمّة ليست من مهامّ الرّواية؛ فما كان عليها إلاّ أن تضيفَ مشاهدَ وتُزيحُ أخرى، حتّى يستقيمَ الإبداعُ في هيئة عمل إبداعي يشي باستنطاق العديد من الفجوات التّاريخية.
لقد جاء في نصّ الرّواية بتخطيط من صاحبها أنّ الرّئيس بن بلّة قد استغرب من هذا الموقف الّذي وضعه فيه بومدين. إذ سُئل من طرف الخدم عن سبب وجوده في هذا المكان ليجيب بن بلّة قائلا:
«- لا- لا أعرف أنا أصلا لا أعرف مبرّرا لوجودي في هذا المكان، فكيف أعرف الباقي؟ لو طلب منّي العقيد أن أترك الكرسي لغيري، أليس هو من فرضني؟ وُضعت في هذا المكان برضاه، كان يمكن أن أذهب أيضا برضاه. أنا لم أفعل ما يؤذي هذه الأرض» (الأعرج، أصابع لوليتا، صفحة 79)
يبدو من خلال اعتراف أحمد بن بلّة أنّ سبب وجوده في السّجن ليس معلّلا وأنّ له أبعادا سياسيّة اعتباطيّة (Arbitraires) ممّا يثير العديد من التّساؤلات عن الممارسات السّياسية غداة الاستقلال. والملاحظ أنّ الأعرج لم يتوخَّ المباشرة في نقل هذا التّفصيل، بل انزاح وراء قصدية تعيد تفعيل الأحداث الماضية بما يضمن لها التّأويل بمنظور عصريّ، يُومئ إلى متعاليات ذهنيّة خيالية، تحلم بحاضر يوتوبي يبدّد مرارة السّنين ويؤثّر في مجرى الصّيرورة التّاريخية للإنسانية قاطبة، والإنسان الجزائري على وجه أخصّ.
لم يكتفِ الأعرج وهو يوظّف التّاريخ بتضمين قصّة بن بلّة مع الانقلاب المدبّر ضدّه فحسب. بل أشار إلى قضايا تاريخيّة أخرى أشرنا إليها في مضانّ الورقة البحثية، وتتمثّل في ظاهرة هجرة الأدمغة بسبب ما تعرّضت له من تضييقات شتّى، لكونه يعرف الحقيقة كاملة ويريد إقرارها، الأمر الّذي دفع بقوى الظّلام إلى اقتناص أيّ كائن يودّ فضحهم. فوجدنا بطل هذه الرّواية يونس مارينا مُطارَدا من طرف تلك الجماعات الّتي تريد قتله لكونه يملك أفكارا تنويرية مناهضة لمشروعهم التّدميري. فلم يكفّ يونس مارينا عن تبديل اسمه، بل ظلّ يسافر خارج الوطن هروبا من المكائد الّتي تُحاكُ ضدّه، ومع ذلك بُعث إليه شاب يتقفّى أثره وهو مقيم في فرانكفورت (Frankfort) الألمانيّة يحضر معرض الكتاب، فاقترب إليه شاب ممّن يخطّطون لتصفيته بأمر من زبانيتهم، وبدأ يضايّقه ويُشاكسه في أفكاره، إذ قال الشّاب: «السيّد مارينا لماذا تكتب ضدّ الاسلام؟ ماذا ستربحون عندما تخسرون ربّكم» (الأعرج، أصابع لوليتا، صفحة 21)
عطفا على ما سبق، يمكن القول بأنّ التّيار الإسلاماوي، هو من أراد التّخلّص من هذا الرّجل المثقّف، وذلك من خلال افتراء أقوال وشهادات كاذبة في حقّه. وهذا ما أثار استغراب يونس مارينا من تصرّفات هذا الشّاب ذي السّماعتين، وقد فوجئ «بكلام الشّاب الّذي انهمك من جديد في تثبيت سمّاعته اليسرى على الأذن الثّانيّة» (الأعرج، أصابع لوليتا، صفحة 23)
تشي تصرّفات الشّاب بأنّه يتحدّث مع الّذين أوكلوا إليه هذه المهمّة القذرة بتصفية السّيد مارينا، ليزوّدهم بالمعلومات الضّروريّة. إذ يرجَّح أنّه (الشّاب) ينتظر منهم إذْنا لقتل يونس مارينا، لكن أدركوا في اللّحظة الأخيرة أنّ الوقت لم يحن بعد، إذ «كان يهروليهزّ رأسه من حين لآخر، كأنّه كان يتحدّث مع شخص ثانٍ» (الأعرج، أصابع لوليتا، صفحة 23)
إنّ مهمّة القضاء على المثقّف حسب اعتراف الرّوائيّ قد كانت بمثابة مشروع لتلك الحقبة الزّمنيّة. ذلك أنّه ما من أحد أجهر بوعيه ونفاذ بصيرته إلاّ ووُضع في قائمة المغضوب عليهم. ومنه فقد عُدّت معرفة الحقيقة بمثابة خطيئة لا تُغتفر. وعليه أشار الرّوائي الجزائري الطّاهر وطّار إلى هذه الفكرة في روايته «الشّمعة والدّهاليز» على لسان الشّاعر بطل الرّواية حينما قال:
«أنا المجرم الّذي تتمثّل جريمته في فهم الكون على حقيقته، وفي فهم ما يجري حوله قبل حدوثه، أتحوّل إلى دهليز مظلم، متعدّد الجوانب والسّراديب والأغوار، لا يقتحمه مقتحم مهما حاول وهذا عقابٌ لجميع الآخرين على تفاهتهم» (وطّار، 2004، صفحة 09)
بمعنى أن إدراك الحقيقة والدّفاع عنها والتّنديد بالظّلم، والأمل في بعث الإشعاع الثّقافي والاقتصادي، وتحسين الجانب الاجتماعيّ بالقضاء على كلّ ما يُعيق التّنميّة وتشجيع النّهضة الفكريّة وغيرها ممّا من شأنه أن يدفع بالجزائر إلى عهد جديد يُبدد مرارة اليأس ويتطلع إلى غد أفضل. وعلى هذا الأساس فقد عُدّت تيمة مطاردة المثقّف واحدة من التّيمات الّتي كان لها حضورها اللافت في المتون الرّوائيّة الجزائريّة المعاصرة.
فبينما لم يستطع الشّاب استمالة يونس مارينا المثقّف والّذي يعرف الأمور على حقيقتها، تفطّنت تلك الجماعة الإرهابيّة إلى ضرورة تكليف فتاة جذّابة وذكيّة لتُوقعه في المكيدة، وبطريقة أسهل وتُدعى هذه الفتاة» لوليتا «وتتمتّع بجمال أخّاذ – حسب تقديم الرّوائيّ لها- فعلا انقاد لها يونس مارينا إذ أدهشته بجمالها المذهل، وما إن رآها حتّى «بقي للحظات طويلة متسمّرا في مكانه، من دهشة ملامحها المتقنة» (الأعرج، أصابع لوليتا، صفحة 26).
يتبادر إلى الذّهن عبر نصّ هذا المقبوس من الرّواية، أنّه تمّ التّخطيط بعناية قُصوى لمشروع تصفية الطّبقة المثقّفة الّتي دأبت في نشر الوعي والتّحذير من قوى الظّلام. إذ انتقوا للفتاة عطرا زكيّا يُشمّ من بعيد. بل ولن يعرف الوقار من شمّه حتّى يرى صاحبته. وكل هذه الوقائع الّتي عرضها لنا الرّوائي حتّى يستدرج يونس مارينا إلى حبائل الموت «فتح حاسّة شمّه عن أخرها مرّة أخرى ضاعت منه كلّ التّفاصيل تأكّد فقط من أنّه ليس عطر إﻴﭬﺎ،» ...لا ليس عطر إﻴﭬﺎ» (الأعرج، أصابع لوليتا، صفحة 12)
والملاحظ هنا أنّ الفتاة المنتقاة من طرف الجماعة، لقتل يونس مارينا خبيرة بالمهمّة الّتي أُوكلت إليها. إذ «كانت ابتسامتها مشرقة ضحكتها مشعّة بأسنان لا يوجد بها أيّ انكسار أو اعوجاج. كأنّها خرجت للتّو من مجلّة يلمع بريقها من بعيد» (الأعرج، أصابع لوليتا، صفحة 26)
وتجدر الإشارة إلى أن الخطابات الأيديولوجية والتّاريخية قد سيطرت على الخطابات الرّوائيّة الحديثة. حيث فكّك الرّوائيّون الجدد متون التّاريخ، وأعادوا بناء فضاءاتها التّخييلية كحمولة خطابية نستشعر فيها انتصارا للقيم الإنسانية والحضارية، من خلال مساءلة البنية العميقة للوعي التّاريخيّ والسّياسيّ بما يضمن رؤية استشرافية في الحاضر والمستقبل.
ومن خلال قراءتنا لرواية «أصابع لوليتا»، نعتقد أنّ الأعرج وُفّق- إن لم نُبالغْ- في إيصال المادّة التّاريخيّة بأسلوب أدبي وفنّي له سمات الرّواية الحداثيّة المنفتحة على مبدأ البوليفونيّة والحواريّة. فقد عرف كيف يستدعي التّاريخ ويُشاكسه من خلال لعبة سردية منفتحة على فسحة مخيالية تتطلّع إلى التّحرّر من كلّ أشكال الوصاية التّاريخية والدّينية، تمهيدا لإقامة مصالحة بين الماضي والحاضر من خلال استراتيجيات زمنية يسترشد فيها الحاضر بالعهود السّابقة.
خاتمة
إنّ قارئ نصّ واسيني الأعرج، يفقه التّاريخ وفي الحين نفسِه، يتذوّق جمال اللّغة الّتي يوظّفها الرّوائي في التّعبير عن أفكاره. إذ تشكّل هذه الاستراتيجيات الخطابية عودة وظيفية إلى أسوار التّاريخ وعوالمه المُصاحبة لهذه السّيرورة الزّمنية من الأحداث والوقائع، ليتحوّل إلى خطاب متعدّد يضمحلّ فيه التّاريخيّ في الرّوائي بطريقة تسدّ فراغات التاّريخ وتُعيد تخصيب وقائعه وفق مقتضيات الرّاهن وشواغله. وعموما لقد أفضت بنا هذه الدّراسةُ إلى جملة من النّتائج الّتي يمكن حوصَلَتُها فيما يلي:
-
يمكن تصنيف رواية «أصابع لوليتا» ل واسيني الأعرج ضمن قائمة الرّوايات العربيّة الجزائريّة المُنتهجة لاستراتيجيّة التّجريب الرّوائيّ (L’expérimentation romanesque) والّتي يُقصدُ منها الكتابة الرّوائيّة وِفق أنساق وأنماط تعبيريّة مُستحدَثة.
-
مثّل حضورُ التّاريخ سمة بارزة في هذه الرّواية، فقد استرفَدَ الرّوائيّ مادّته التّعبيريّة من صُلب التّاريخ الجزائريّ. ولقد كان للأحداث التّاريخيّة الحاصلة إبّان تسعينيات القرن الماضي والمتمثّل في زمن العشرية السوداء من خلال تبني استراتيجية حكائية توالف بين السّرد التّاريخي والسّرد الخيالي.
-
حاول الأعرج من خلال هذا المقبوس الرّوائي أن يستثمرَ في التّاريخَ الجزائريّ بوعي جماليّ وإنساني، حيث لم يقع في مغبّة النّقل الجافّ لأحداثه، إنّما استطاع أن يتملّص من التّاريخ بواسطة التّلفّظ السّردي(l’énonciation narrative)،ليُعيد سيرورة بنية المحكي التّاريخي وفق تصوّر فنّي يُسهم في بناء الصّرح التّخييلي للرّواية.
-
أضحت الرّواية –لشساعتها- الفضاء الأرحب للأقلام الرّوائيّة حتّى تخوضَ في أبرز التّيمات وأكثرها حساسية والمتمثّلة في التّاريخ، فراح الرّوائيّ يقفز خارج الزّمان والمكان لزعزعة اليقينيات ووضعها موضع الشّكّ والمساءلة .
-
لقد كان للحديث عن شخصيّة المثقّف حضوره في متن رواية «أصابع لوليتا »، فقد بيّن أنّ المثقّف قد راح ضحيّة الصّراعات السّياسيّة ممّا قلّل من تأثيره في منظومة المجتمع.
-
اهتدينا إلى أنّ الأعرج كان ملتزما لمّا أخذ من التّاريخ من زاوية انصبابه على تاريخ بلاده، ولقد غَرَفَ منه بوعي جماليّ. بحيثُ إنّه لم يُخِلَّ بآليات النّسيج الرّوائيّ من جهة، ومن جهة أخرى توخّى الأمانة في سرد التّاريخيّ. ولقد انتهج منهج التّحوير والتّطويع ممّا جعل كلاّ من التّاريخ والأدب منصهرين في بَوْتَقَة واحدة وهنا مَكْمنُ الجماليّة.
-
يُعدُّ التّاريخُ من أكثر الحقول المعرفيّة تأثيرا على الإبداع في ميدان الرّواية، ولقد استشففنا ذلك من خلال حضوره اللاّفت في المتون الرّوائيّة، وكأن هذا التّعاضد بين ما هو تاريخيّ وسرديّ، يُسهم في تشكيل عوالم متخيلة، تقوم بترهين المحكي التّاريخي وفق رؤية حداثية مُنفلتة من أسوار الزّمان والمكان.