مقدمة
يميل حقل الترجمة في إشكالاته واتجاهاته إلى الانغلاق على نفسه محاولا التقيد بالحدود التي يرسمها لنفسه مثل ما هو مفترض في أيّ حقل معرفيّ، بيد أن هذه الحدود لم تُضبط بالشكل الذي يُثبِّت معالمه، وتنمّ عن ذلك علاقته المميّزة باللسانيات. ولازالت علاقة الترجمة باللسانيات تثير مسائل جوهرية تحتاج إلى نظر، ولعلّ من أهمها تلك التي تخصّ إمكانية إلحاقها بالتنظير اللساني، وذلك على فرضية أساسية مفادها أنه إنْ كان تعالق المجالين في اشتغالهما على آليات اللغة وتكريس مبدأ نظامية اللغة في لسانيات الترجمة أمراً لم يفض إلى تسجيلها ضمن اللسانيات الشكلية، وبقيت الممارسة الترجمية نشاطاً موازياً للسانيات، فإنّه قد نتصوّر إمكانية ذلك في علاقتها باللسانيات التداولية، وهذا بالنظر إلى ما تعرِضه هذه الأخيرة من مسالك لمقاربة اللغة ليس من حيثُ هي نظام، بل من حيثُ تأديتها الفعلية في سياقات الكلام، وهي الفكرة ذاتها التي تقترن باشتغال المترجم على اللغة بحثاً عن مقاصد النص المراد ترجمته. وانطلاقا من هذه الفرضيات تهدف هذه الورقة البحثية إلى إعادة طرح هذه المسألة، وفق ما استجدّ في نظرية الترجمة والدرس اللساني المعاصر-التداولية بالتحديد- وبلورة التصوّر حول العلاقة بين المجالين، ونعتقد أنّ من التساؤلات الجديرة بالطرح في هذا الموضوع ما يلي :
كيف يمكن للترجمة أن تستفيد من اللسانيات التداولية لبلورة نظريتها؟ ما هي الجوانب التي يمكن أن تُدعّم التقارب المنهجي بين المجالين؟ وهل يمكن أن يصل هذا التقارب إلى حدّ المزاوجة النظرية بينهما؟
وقصد الإجابة عن هذه الأسئلة المحورية في الموضوع، ارتأينا تتبع الخطوات المنهجية التي ينقلها هيكل هذا البحث في عمومه وتفاصيله.
1. الترجمة واللسانيات
1.1. المظهر اللساني للترجمة
ظلّت علاقة الترجمة باللسانيات تثير قضية تقاطعهما في عديد الجوانب، وبالتحديد في ما يخصّ المنطلقات النظرية التي تعتمدها، والتي لا تسمح بالحديث عن استقلالهما عن بعضهما بشكل تامّ، وعلى خلاف ما يمكن أن يُعتقد فإن قضية تقاربهما لم تحسم بعد، وتجدر الإشارة إلى أنه :
«بعد سنة 1945- وبعيدا عن نشاط المترجمين أنفسهم- دخلت الترجمة في مجال اختصاص علماء اللغة لأسباب تتعلق إما بالتطور المنطقي لترجمات الكتاب المقدس إلى مئات اللغات(الولايات المتحدة الأمريكية)، وإما بالمسائل الناشئة عن الإدارة ذات اللغة المزدوجة(مثل كندا)، وإما بالاهتمام النظري الناشئ عن الكم الهائل من الترجمات الداخلية في بلد متعدد اللغات (كالاتحاد السوڤيتي)، وإما لأسباب تتعلق بظهور الترجمة الآلية؛ حيث أدت الأبحاث التي مُولتْ بسخاء في البداية إلى استدعاء علماء اللغة لإلقاء الضوء عليها» (مونان 2002 : 55).
وجاء في طرح (ج. مونان-G.Mounin) منذ زمن في كتابه : Problèmes théoriques de la traduction التأكيد على البعد اللساني للترجمة في مظاهر كثيرة، لكنّه لم يتمّ تحديد طبيعة العلاقة بين الترجمة واللسانيات من زوايا عدّة. وبات واضحاً أنّه لا يمكن التغاضي عن دور اللسانيات في قيام نظرية الترجمة، وفي ذلك يصرّح م. برنيي- M.Pergnier :
«ليس من العدل التقليل من شأن الإسهامات التي قدّمها اللسانيون لنظرية الترجمة ابتداء من الستينيات، ولن نذكر هنا إلاّ أهمها مثل كتاب كل من فيني-Vinay ودربلنات-Darbelnet « الأسلوبية المقارنة في الفرنسية والإنجليزية »، وكذا كتاب أ. نيدا– E .Nida « نحو علم في الترجمة ». وقد رسم الكتابان، وكلّ منهما بطريقته الخاصّة، الاتجاهات الجديدة التي ستنطلق فيها نظرية الترجمة. ولأوّل مرّة كان أ. نيدا يحاول بناء نظرية الترجمة بالاستناد إلى أدوات تحليل صارمة نابعة من النظريات اللغوية المتعلقة باللسان وإلى العلوم المجاورة في الوقت نفسه كنظرية الإعلام، بمعنى محاولة مدّ الجسر بين اللسان والكلام». (Pergnier 1981: 258)
ساد الاعتقاد لفترة طويلة بأن علاقة الترجمة باللسانيات تُحصَر في ما يمكن أن يُفيده المترجم ممّا يتحقق للنظرية اللسانية من معرفة لطبيعة الألسنة البشرية، وذلك على أساس ما يكشف عنه التحليل اللساني من خصائص الأنظمة اللغوية وأدواتها، والتي تمكّن كلّ مترجم من تجاوز العقبات اللغوية في اشتغاله على النصوص المراد ترجمتها ومن اكتساب كفاءة ترجمية. ولكن بالنظر إلى ما حققته كلّ من الترجمة واللسانيات في اتجاه بعضهما، فإنّه ليس من الجائز أن نتصوّر اختزال العلاقة بينهما بهذا الشكل، حيث نعتبر أنّ استثمار المفاهيم اللسانية من شأنه أن يفيد كذلك في بلورة التفكير حول ماهية الفعل الترجمي، وهذا على اعتبار أنّ ما قد ينتهي إليه البحث اللساني في تطوير النظرية اللسانية لا يمكن أن تتجاهله نظرية الترجمة، وفي هذا الموضوع يجدر التذكير بأن :
«أوجين.أ. نيدا- Eugène.A.Nida هو أوّل من حقق هذا اللقاء النظري بين علم اللغة والترجمة في مقالة الهام بمجلة Word(الكلمة) سنة 1945، وتبعه عدّة أعمال أخرى.. وقدم أ. ف. فيدوروف- A.V.Fédorov في كتابه بعنوان « مدخل إلى نظرية الترجمة » دراسة شاملة عن المبادئ والتقنيات للأنواع المختلفة للترجمة ابتداء من التراث الروسي، .. ولأول مرة ابتكر العالمان ج. ب. فيني-J.P.Vinay وج. داربلنيه- J.Darbelnet طريقة صحيحة للترجمة تعتمد أساسا على مساهمات علم اللغة المعاصر» (مونان 2002 : 55).
يقترن مفهوم الترجمة بالعملية اللغوية التي يتمّ من خلالها الانتقال من نظام لغوي إلى آخر نقلا لمضامين النصوص المراد ترجمتها، الأمر الذي يُفترض معه قيام الترجمة على تلك المعرفة النظرية بطريقة اشتغال الأنظمة اللغوية، والتي من شأنها أن تؤهل المترجم مبدئيا للعمل الترجمي.
ومن هذه الناحية، تُعتمد الترجمة لدى كثير من الباحثين بوصفها شكلاً من أشكال الممارسة اللغوية، ولئن كانت الكفاءة اللغوية شرطاً أساسياً لتحقيق الكفاءة الترجمية فإنها بالتأكيد لا تتوقف عليها، ولعلّ ما ينبغي التنبيه إليه في هذه المسألة هو أنه ليس إتقان اللغات بالتحديد هو الذي يؤهل للعمل الترجمي، وإنْ كان إتقان أكثر من لغة من مقومات الممارسة الترجمية، وإنما هو امتلاك آليات إعادة إنتاج النص الأصلي وفق نظام قواعدي آخر يخصّ اللغة المترجَم إليها.
2.1. الترجمة ونظامية اللغة
وتبعاً لما أسلفنا ذكره، فإنّ الترجمة في محض مظهرها اللساني لا تعدو أن تكون عملية ذهاب وإياب بين اللغة المترجَم منها (اللغة المصدر) واللغة المترجَم إليها (اللغة الهدف) بحثاً عن المقابلات اللسانية بينهما، أو بالأحرى عن التكافؤ الدّلالي، ممّا يُقرِنها بالعمل اللساني الصّرف. ولقد أدى ذلك إلى رسوخ فكرة مفادها أن الترجمة عملية لغوية بامتياز، وهو التصوّر الذي يدافع عنه م. برنيي- M.Pergnier، إذ يقول :
«لا يسعنا تأييد فكرة أن الترجمة (مهما كانت الطريقة التي تمارس بها) ليست بعملية « لسانية » دون إحداث مفارقة، ذلك أنّها تنطلق من ملفوظ بلغة معينة للوصول إلى ملفوظ بلغة أخرى، ويتعلق الأمر هنا بالطريقة التي تعتمد في معالجة المادة اللغوية أثناء هذا التحويل» (Pergnier 2004 : 23).
إنّ ما يستوقف المترجم في هذه الحالة ليس بالضرورة الخصائص المميِّزة لكل لغة على حدة، بقدر ما هو التقاء اللغات التي يشتغل عليها في خاصية شاملة هي خاصية النظامية.
وإنّ النظامية هي من أهم ما يميّز اللغات البشرية، ذلك أن
«اللّغة بناء منتظم، وعندما نتحدّث عن نظاميّة اللّغة فإنّنا نعني أنّها تشكّل نظاما بكلّ مقوّماته الثّلاثة المعروفة وهي البساطة والاتّساق والكمال. ويعود السّبب في نظاميّة اللّغة إلى حقيقة كونها تتألّف من عناصر محدودة العدد تستخدمها للتّعبير عن ماهيات ومضمونات لا متناهية، ولهذا كان لابدّ أن تتكرّر تلك العناصر المرّة تلو الأخرى بصورة متّسقة ومنتظمة دون أن تسبّب إرباكا» (القاسمي 1979 : 13).
ولعلّ هذا ما يمثل الجانب الأساس من ماهية اللغات، ويندرج ضمن ما يكشف عنه التحليل اللساني من خصائص لغوية عامة تؤكد مفهوم الكليات اللغوية « Les universaux » الذي يحيل على مجموع ما تشترك فيه اللغات البشرية من خصائص.
وتعدّ نظامية اللغات إحدى الحقائق اللغوية التي يفيدها المترجم من اللسانيات، وتشكّل مفهوماً محوريّاً في حقل الترجمة، كما أنّه لا تكمن مهمة المترجم في وصف البنى اللغوية صوتيا، صرفيا، وتركيبيا، وإنْ كان بإمكانه الكشف عن مدى اختلاف الأنظمة اللغوية على المستوى القواعدي فإنّه بالتأكيد يتجاوز هذا المظهر اللساني. ولا شك أنه من أعقد ما يمكن أن يواجهه ما يتصل بإعادة صياغة النص الأصليّ وفق نظام لغوي مغاير مراعاةً لبنيته الدلالية الأصلية ومضمونه الثقافي، فيعمل على تجاوز كل العقبات على هذا المستوى. وتبقى المسألة بطبيعة الحال وطيد الصلة بالمؤهلات التي ينفرد بها كلّ مترجم، وهو ما يفسّر بشكل ما جانباً من الطبيعة المرنة للممارسة الترجمية، لذا
«فإنّ الترجمة، بالنظر إلى طبيعتها، تختلف إذن عن العمليات اللسانية الأخرى اختلافا جمّا : فعلى عكس اللساني، لا يسخّر المترجم إمكاناته لفهم ملفوظ ما وابتداع ملفوظ آخر، بل يفهم أولا لكي يسخر امكاناته بوصفه مترجما ولكي يؤول ملفوظا موجودا سلفا» (رضوان 2010 : 42)،
وهو الأمر الذي يعزى إلى متطلبات عملية التأويل التي يمرّ منها تحويل المضامين إلى لغة أخرى ليس بناءً على ما تمثله الدّلالات اللغوية في النص الأصلي فحسب، وإنما وفق ما تحدّده الثقافة التي ينبع منها كذلك.
ويقرّ اللسانيون أنفسهم بتعقد نظام اللغة في الأساس، وبأنّ تعدّد أشكال استخدام الدوال أمر يصعب معه تحديد الدّلالات تحديداً دقيقاً، وأنّ قيمتها تتحدّد وفق « مرجعية دلالية »، إنْ جاز المصطلح. وبالنسبة للأدلة اللغوية يشير (أ. كليولي- A. Culioli) إلى
«أنّ كل دليل يمكن أن يستعمل للتعليق على الأدلة الأخرى أو لتعويضها أو لتحويرها، حيث إنّنا نستطيع استخدام الأدلة » في الدرجة الثانية »، وإعطاء تعريف قاموسي، وإنشاء استعارات أو تلخيص الملفوظات وتأويلها الخ..». (Culioli 1969 :42-43)
وعلى ذلك، فإنّه لا يمكن اختزال الممارسة الترجمية في مجرّد عملية لغوية آلية وبسيطة تستبدل فيها أدوات لغوية بأخرى تنتمي إلى نظام آخر؛ في حين لا يسعنا إلاّ الحديث عن لسانيات الترجمة في كونها إطاراً معرفيّاً من شأنه أن يحدّد آليات الترجمة وطبيعتها اللسانية.
2. اللسانيات التداولية والممارسة الترجمية
1.2. اللسانيات التداولية : من الدّلالات إلى المقاصد
بعد التحوّلات الهامة التي عرفتها مناهج البحث اللساني، أخذت الدراسات اللغوية منعرجاً جديداً تأكّدت معه ضرورة إعادة تعريف اللغة من حيث هي ظاهرة تواصلية بالدّرجة الأولى، تتجسّد بتفاعلها مع مجموعة من معطيات السياق الذي يكون فيه المتكلم عنصراً فعّالاً يتحكم في مجريات التواصل. وقد شكّل ذلك الجانب الأبرز في الانتقال الإبستمولوجي الذي مثله الخروج من لسانيات اللسان التي توقفت في تحليلها عند حدود الجملة، إلى لسانيات الكلام التي تعنى بأبعاد الظاهرة اللغوية من حيث هي ظاهرة حيّة. ونشير إلى أنّ ذلك ما تنبأ به إ. بنفنيست-E.Benveniste، حين قال : « يكون الخروج بعد الجملة من مجال اللغة كنظام من الأدّلة لدخول عالم آخر هو عالم اللغة كوسيلة التواصل، والخطاب هو الذي يمكنه التعبير عن ذلك» (Benveniste 1966 : 130) ، وهذا ما تعنى به لسانيات النص في تحليل النصوص الكلامية مبنى ومعنى، واعتماد النص كوحدة لغوية تواصلية؛ وكذا اللسانيات التداولية في اشتغالها على الخطابات وبحثها عن المقاصد التواصلية.
وفي إطار لسانيات النص، يؤخذ النص على أنه متتالية من الجمل، « وتكون هذه المتتالية عادة منظمة وفق شكل خطي، لها خاصية تشكيل كلية تترابط فيها عناصر بدرجات متفاوتة من التعقيد وفق علاقات تبعية متبادلة» .(Maingueneau et Charaudeau 2002 : 572)
وإنّها علاقات تحكم قواعد بناء النصّ وتسمح بالانتقال من أجزاء إلى أخرى؛ ومن مستويات إلى أخرى؛ تحقيقاً للاتساق والانسجام النصيّيْن، وهذا مع بلورة موضوع النص بما يضمن استمرارية البناء النصيّ والتدرّج الموضوعي ليحقق النص غاياته. كما يقوم بناء النص على مجموعة من المعايير النفسية، وتقترن دلالة النص بما يريد صاحبه إيصاله إلى الملتقي، ولذا يُؤخذ بعين الاعتبار في علم النص السياق الذي تتشكل فيه، و«تقام علاقة بين أجزاء النص و/ أو النص بوصفه كلا و« السياق الاتصالي »، ويحاول الكشف عن أوجه التبعية بين تغييرات « السياق الاتصال »، وبنية النص» (هاينه مان وفيهقجر 2004 : 48).
وإنّ النظر في اللغة من حيث كيفية استخدامها هو المبدأ الذي تبنّته كذلك اللسانيات التداولية من حيث
«إنّها تبني المناويل التي تؤثر بشكل مباشر على استعمالات اللغة، وهي من هذه الناحية تتميز عن اللسانيات التي تميل إلى وصف الاستعمال اللساني، كما تتميز عنها كذلك من حيث الأهمية التي يوليها منظروها من البداية للتحديدات السياقية الخاصّة بالتعبير»(Sarfati 2002 :23)،
ومنه التركيز على تجلّيات اللغة كظاهرة كلامية تواصلية في سياقات استعمالها.
وقد أدى هذا التصوّر إلى دراسة اللغة خارج بنيتها الشكلية، وذلك بإدماج المكوِّن التداولي الذي يحيل على معطيات سياق القول أو إنتاج النص، وهي المعطيات التي تؤثر في بروز المعنى المتعلّق بالمقصد، وتؤخذ بعين الاعتبار في تحديد أبعاد الظاهرة اللغوية. وإنّ البعد التداولي هو الذي يثير قضايا شائكة فيما يخص الدّلالات اللغوية المرتبطة بالتأويل، أي تلك التي لا تقع على المستوى السطحي أو المباشر من المعنى، ولقد جرى الاتفاق في الأصل على أنّ المعنى على أيّ مستوى كان يتّسم بالتعقيد، ذلك لأنّه لا يمكن وصف المعنى في كل الأحوال بأنه معنى مباشر والخطاب بأنّه ذو طبيعة شفّافة.
وفضلا عن ذلك، فإنّ المعاني أو الدّلالات لا يمكن أن تؤخذ على أنها أمر محدّد مسبقاً، أي مجرّد أدوات لغوية جاهزة للاستعمال، إذ«إنّ الدلالة تتولّد من العلاقة بين المفهوم ومدى اندماجه في نظام مرجعي معقد، ومنه وجود التعيينات و« الإيحاءات »، والقيم « الخاطفة » والتأويلات الذاتية »(Culioli 1969 :42-43) ، والتي تنجرّ عن التحوّل الذي يعتري الدّلالات حينما تُدرج في النصّ الكلامي لتنقل المعاني التي يُحمّلها إيّاها مستعمل اللغة، إلى جانب الحمولات الفكرية والثقافية التي تنقلها وفق مرجعية معينة. وفي هذا السياق يتمّ تجاوز الحديث عن الدّلالات اللغوية أو المعجمية بوصفها عناصر لسانية ثابتة معطاة تنتمي إلى نظام اللغة إلى ما تتلوّن به وتوحي إليه على مستوى إنتاج النصوص الكلامية، وفي ما يخصّ مفهوم الدّلالة يوضّح رولاند. بارت-R. Barthes أنّه :
«بمجرّد أن نتصوّر النص كإنتاج (وليس كمنتوج) فإنّ « الدّلالة » لن تكون مفهوماً مناسباً. وأصلاً، حينما ننظر إلى النص باعتباره فضاء متعدّد المعاني تتقاطع فيه عدة معان ممكنة، فإنه يكون من الضروري تحرير الوضع الأحادي والشرعي للدّلالة وجعلها تتعدّد : وإنّ مفهوم الإيحاء قد أفاد في هذا التحرّر بالذات، كما أفاد فيه حجم المعاني الثواني المشتقة منها أو الملحقة، أو« الذبذبات » الدّلالية اللصيقة بالرسالة المشفرة» (Barthes 1985 : 998)،
إلى غير ذلك من الظواهر التي تدلّ على تعدّد مستويات المعنى، وتبيّن في الوقت ذاته مدى صعوبة القبض على الدّلالات المشكِّلة لبنية النصّ ككل من حيثُ هو وحدة كليّة، فهي بهذا خير ما يمكن أن يبرز التحوّل التي يحدثها انتقال الأدلة اللغوية من مستوى الوضع إلى مستوى الاستعمال.
2.2. الترجمة وإعادة إنتاج النص
تتمثل قضايا الدّلالة أهم ما يمكن أن يعترض المترجم في سعيه إلى إعادة إنتاج النص بلغة أخرى، أي في نقله لمضامين النص الأصلي في بنى جديدة خاصّة باللغة المترجَم إليها واضعاً صوب العين ثقافة اللغة المترجَم منها ومرجعيتها الفكرية، ممّا يجعل من كل نشاط ترجمي عملاً إبداعياً يمرّ حتما من كيفية تلقي المترجم للنص الأصلي وقدرته على استجلاء مقاصده وتأويله، وهو ما يتطلب مجهود البحث عن العبارة الأنسب لنقل المعنى أو بالأحرى المقصد، ومحاولة ملء المواقع الشاغرة Les cases vides في غياب التكافؤ اللغوي بين اللغة المترجَم منها واللغة المترجَم إليها، وذلك بالاستناد إلى التفسير وفق تقارب ثقافي معين بينهما.
وليس يخفى على المختصّين أنّ الأساس في الترجمة هو الحفاظ على المعنى– المقصد- الذي يريد صاحب النص تمريره، وهو ما يستدعي التأويل، فلا يمكن أن يقتصر الأمر فيها على ترجمة الدّلالات اللغوية فحسب، وعلى سبيل التوضيح نذكر المثال الموالي :
«هذا نموذج تعبيري استعمل دلاليًا لإعطاء أمر « تعيد لي هذا العمل في خلال عشر دقائق؟ » زيادة على ذلك فإننا نستعمل كثيرًا الكلام لا لأجل التبليغ ولكن لكي نؤثر في الناس ونقنعهم فبعض الكلمات مستخدمة لا لشيء سوى من أجل الأثر الذي يمكن تحدثه... ويضاف إلى ذلك أو إلى الصعوبات السخرية في استعمالات اللغة، فمثلاً لو قلنا لأصلع: من هو حلاقك؟ كيف تكون معالجة اللغة في مثل هذه الاستعمالات اللغوية» (جرمان ولوبلون 1997 : 34).
ومثل هذه التساؤلات وغيرها هي التي تطرحها التداولية على نفسها في بحثها عمّا يقوله صاحب الخطاب من خلال ما لم يقله.
لقد أبانت الممارسة الترجمية عن نوع آخر من الإكراهات التي تفرض نفسها على المترجم، ويتعلق الأمر بحدود إبداعه في النصّ المترجم، وبالإمكان تفسير ذلك بالإحالة على مسألة الحرية الإبداعية، إذ يرى المختصون أن :
«عملية الكتابة نفسُها عملية استكشاف للأفكار، ووضع الكلمات على الورق عملية إبداع فكرية لا عملية تجسيد فكريّ، بمعنى أن الكاتب يأتي بأفكار جديدة أثناء الكتابة (أيا كانت علاقتها بالموضوع الأصلي) ولا يقتصر عمله على تجسيد أفكار مُسْبَقَةٍ في كلمات.
أما المترجم فهو محروم من هذه الحرية الإبداعية أو الحرية الفكريّة؛ لأنه مقيد بنص تمتَّع فيه صاحبه بهذا الحق من قبل، وهو مكلَّف الآن بنقل هذا السجل الحي للفكر من لغة لها أعرافُها وتقاليدها وثقافتها وحضارتها إلى لغة ربما اختلفت في كل ذلك... فهو مطالب بأن يُخرج نصّاً يوحي بأنّه كُتِب أصلاً باللغة المترجم إليها» (عناني 2000 : 6-7).
وهذا ما يُفترض أن يحرص كلّ مترجم على تحقيقه، وفي الوقت ذاته هو ما يمكن أن تعلّل به صعوبة الممارسة الترجمية، ممّا دفع البعض إلى القول: إنّ
«نقل أفكار الغير أعسر من التَّعبير عن آراء المرء الأصلية؛ فالكاتب الذي يصوغ أفكاره الخاصة يتمتَّع بالحرية في تطويع اللُّغة لتلائم هذه الأفكار، بل وتطويع الأفكار لتلائم اللغة ! » (عناني 2000 : 6 ).
وتلك هي المعادلة الصعبة التي تواجه المترجمين، وفي واقع الأمر ترتبط المسألة بمهارة المترجم وثقافته في اللغتين، والكلّ يدرك أنه لا تتساوى الترجمات للنص نفسه من حيث وفاؤها لروح النص وثقافته،
و «إنّ الترجمة التي تسعى إلى أن تنسي القارئ النص الأصلي بتعويضه (إن كانت الترجمة جيدة، تصبح الترجمة عملا كاملا، وإن كانت رديئة، سيشعر القارئ بالحاجة إلى العودة إلى النص الأصلي حتى يكون على بينة من الأمر)، تطرح مشكلة هوية : إن الترجمة المزودة بهوية خاصة صقلها الفكر وإكراهات اللغة-الهدف، يجب أن تكون مكافئة لهوية النص- المصدر المصقول من قبل فكر آخر وإكراهات أخرى تكافؤا صارما» (رضوان2010 : 34).
وهذا من شأنه أن يكشف عن مظهر آخر من الممارسة الترجمية، فهي لا تقف فقط على اختلاف اللغات في أدواتها وآلياتها، وإنّما على اختلافها أيضا في الثقافة والمرجعيات التي تحيل عليها.
ومن المؤكد أن تحقيق الترجمة الوفية للنص الأصلي منوط بفهم مضامينه في علاقتها بسياقات إنتاجه، لكن يبقى أنه :
«من الصعب معرفة ما يعنيه فهم النص، وإنْ كُنّا نعلم أن الفهم ليس بعملية خطية لأننّا نبني تصوّرا عن أجزاء الخطاب، والتي يتمّ تعديلها دوماً من خلال بناء تصوّر عن الأجزاء الموالية لها. وعلى أساس ذلك، يكون نسيان قسم هام من النص من حيث الكمية، سواء كان مقروءاً أم مسموعاً، شرطاً في حدّ ذاته لإرجاع الذاكرة، فإنّنا نقوم باستمرار بتحويل الجانب الدلالي إلى متصوّرات، وهذا ما نفعله حينما نلخص فيلماً : فقد نكون قد نسينا كلّ الكلمات المتعلقة بالفيلم، ومع ذلك يمكننا أن نُجمِل محتواه بصورة ممتازة مع التوسع فيه بشكل ما» ( Pottier 1974 :36).
هذا، وإنْ كانت الترجمة في حدّ ذاتها لا تقوم إلاّ بشرط استيعاب المترجم لمضمون النص الأصلي، فأنْ يتحقق له ذلك في العموم لا يعني دائماً نجاحه في تقديم ترجمة وفيّة لما أراد مؤلف النص أن يمرّره من مقاصد، وذلك لوجود احتمالات فيما يخصّ بعض الجوانب التي قد تفلت منه، لكن يبقى أنّه بالوصول إلى ذلك يكون قد حقق الجزء الأكبر ممّا هو منتظر منه. وليس هناك من داع للاستدلال على أن استيفاء هذا الشرط هو الذي يُجنّبه –المترجم- الوقوع في الترجمة الحرفية أو في التداخلات الدّلالية التي قد تخلّ بالمعنى، لكن هو الأمر الذي يستعصي عليه أحيانا، حيثُ :
« ينجز المترجم هكذا مهمة تكاد تكون مستحيلة لأنه يتعين عليه في الآن نفسه أن يحافظ ويعكس خصوصية الكلام وأن يضع مقابلات لبعض العناصر اللغوية. يتعلق الأمر هاهنا بتمرين عسير لأن الكلام تصقله اللغة التي هي بدورها مصقولة من قبل عوامل غير لغوية هي من مشمولات علم الاجتماع وعلم النفس والإتنولوجية. فاللغة غير مفصولة عن السياق الثقافي الذي تضرب فيه بجذورها. لابدّ من تجاوز إطار اللسانيات الضيق لوضع اللغة فيما يسمى ب”périlangue” (الذي يدعوها لادميرال langue-culture أي السياق العام للغة» (رضوان 2010 : 38).
ويتعلق الأمر بالإطار الفكري والثقافي الذي تنبع منه اللغة وتتحرك فيه، لاسيما أن النص في صلبه هو نتاج إيديولوجيات وخلفيات فكرية،
«وإنّ فكر المؤلف العميق المبثوث المختفي أحيانا بين السطور، المنشطر إلى عدة أوجه، يجب إعادة بنائه وأحيانا يجب تضخيمه قليلا وجعله قابلا للإدراك فورا أكثر مما هو عليه في النص الأصلي. بعبارة أخرى يجب الإبانة عن هذا الفكر» (رضوان 2010 : 39).
3. اللسانيات التداولية ونظرية الترجمة : تقارب إلى أيّ حدّ؟
1.3. توازي المسارات
مع الانتقال الإبستمولوجي الذي عرفته اللسانيات، والتجديد الذي أحدثته التداولية في نطاق البحث في اللغة- بإدراج المكوّن التداولي في تحليل الخطابات وتأويلها- تراءت للسانيين أهمية تجاوز التحليل الداخلي للغة ومقاربتها من حيث هي خطاب، وانجرّ عن ذلك تحوّل في الاهتمام بالمعنى، أي الانتقال من ملامسة الدّلالات إلى استجلاء المقاصد، ويمثل كل من التحليل النصيّ والتحليل التداولي أهم مظاهر هذا التجديد في تصوّر الظاهرة اللغوية ومناهج دراستها. أما في ما يخصّ قضية المعنى في حقل الترجمة فتجدر الإحالة إلى حصافة الترجمة التأويلية التي تنطلق من ثقافة النص وتتخذها محورا لنقل المضامين –المقاصد- والانتقال بها إلى نص آخر، ويبرز العنصر الثقافي في هذه الحال في دور المصفاة التي تمكّن المترجم من تحقيق النقل الأدق والأوفى لمقاصد صاحب النص.
ومن هذه الزاوية، يسعنا الحديث عن المستوى التي تلتقي فيه كل من اللسانيات التداولية والترجمة، والذي يتصل بكون المعنى محور اهتمامهما، فإنْ كانت الأولى حقلاً دراسيّا يسعى إلى مقاربة الخطابات في بعدها التواصلي تحليلاً وتأويلاً فإنّ الثانية تتصل بحقل نظري وتجريبي يشتغل على المعنى ويقترح الآليات التي تسمح بتحويل مضامين الخطاب من لغة إلى أخرى (أو بالأحرى من ثقافة إلى أخرى)، وهو التحويل الذي يمرّ حتما من عملية التأويل، وفي اعتقادنا يندرج ذلك ضمن العناصر التي تسمح بافتراض إمكانية تقارب المجالين على مستوى نظرية تأويلية عامة.
إنّ ما يمكن أن نجزم به في هذه المسألة هو أنّ المجالين يلتقيان مبدئياً على مستوى اشتغالهما على آليات اللغة وأبعادها التواصلية، ويبقى أنّ ما يمكن أن يُشكل موطن التباس في هذه القضية هو الفكرة السائدة التي مفادها أنّ اختلافهما في موضوع الدّراسة جعلهما يتّخذان مسلكين مختلفين ومتقابلين، وذلك على أساس
«أنّ إشكالية الترجمة تتصل بلسانيات الكلام بينما فيما يخصّ اللسانيات فهي تبقى في عمومها لسانيات اللسان (ما عدا بعض الاستثناءات)، وبمعنى آخر فإنّ الدراسات الترجمية تشتغل على النصوص في حين تشتغل الدراسات اللسانية على أنظمة من الأدلة» .(Pergnier 2004 :17-18)
وفي ظنّنا ما استجدّ على ساحة الدّراسات اللسانية من إعادة الاعتبار للظاهرة الكلامية والاهتمام بالمعنى والتأويل–في المنظور التداولي- من شأنه التأثير في الترجمة من حيث تحويل اتجاهها نحو آليات تأويل المضامين وتوسيع آفاق التنظير فيها وفق ذلك. وحتى وإنْ سلّمنا بمبدأ قيام نظرية الترجمة بشكل مستقل عن اللسانيات فإنّه لا يمكن تصوّر تجاهلها لما أفادته منها اللسانيات بوجه عام، ولا نقصد بذلك أن نجعل من الترجمة حقلاً فرعيّاً أو تابعاً للنظرية اللسانية-هذا وإنْ شغلت مجالاً تطبيقيّاً فيها- بل نفترض إمكانية حدوث مزاوجة نظرية بينهما، ونؤكد في هذا على ما يمكن أن يفيده البحث في الترجمة من تقدّم النظريات في اللسانيات التداولية ونتائج الأبحاث فيها، لاسيما أنّهما لم تتعارضا في مسارهما الإبستيمولوجي، وعلى حدّ قول م. برنيي- «فإنّ الاتجاهات التي أخذها تطور البحث اللساني والبحث في الترجمة غالبا ما تتبع مسارات متوازية أكثر ممّا تتعارض »(Pergnier 1981 :259) ، لذا فإنّ عدم تعارضهما يمكن عدّه بصورة ما وجها من أوجه احتمال ارتباطهما، بمعنى أنّه أمر يسمح بافتراض التقائهما في جوانب يحق أن نتساءل عمّا إذا كانت حصيفة في التأسيس للمزاوجة النظرية بينهما.
ومن الواضح أنّ مسألة العلاقة بينهما لا تطرح مسبقاً من منطق انفصالهما بشكل تام،
«فبمجرد القول إنّ النظرية اللسانية ونظرية الترجمة لا تلتقيان أو إنّ إحداهما ليست تطبيقاً حرفيّاً للأخرى، لايعني طبعًا أنّنا أمام مجالين منفصلين، ولا أنّ نظرية الترجمة في غنى عن النظريات اللسانية، ولا أنّ النظريات اللسانية لا يمكن أن تُثرى بإسهامات البحث في مجال الترجمة» (Pergnier 1981 :255)،
وفي هذا ما يدعم فكرة أنه مع قيام اللسانيات التداولية أو لسانيات الكلام لم تعد هناك حجة لابتعاد الترجمة عن المجال اللساني، بل على عكس ذلك تماماً يمكن أن نتصوّر علاقة بينهما على مستوى التنظير، وذلك بعد تقليص تلك المسافة التي خلقها فيما سبق الاختلاف في المادة اللغوية أو موضوع الدّراسة في كلا المجالين، بمعنى اللسان بالنسبة للسانيات والكلام بالنسبة للترجمة.
ويقوم منظور اللسانيات التداولية على اعتبار معطيين اثنين كما بينّا سلفاً، يشكّلان جوهر الكلام، وهما المعنى وسياق إنتاجه، ويتوقف الأداء الكلامي على ملكة إنتاج النصوص الكلامية التي يمرّر الفرد من خلالها مقاصده المرتبطة بحاجات تواصلية تكون تلبيتها وفق معطيات السياق، والترجمة هي كذلك عملية إنتاج النصوص مروراً من لغة إلى أخرى. وما يتم ترجمته هو الكلام وليس اللسان، ويكون ذلك وفق ثقافة أخرى غير تلك التي تنتمي إليها النصوص الأصلية، فلا يُكتفى في ذلك بنقل مضامينها وفق نظام شكليّ خاص بلغة مختلفة عن لغتها الأصلية، وإنّما يكون المطلوب الحفاظ على المعاني التي سبقت قولبتها في نسق فكري مختلف.
2.3. في اتجاه المزاوجة النظرية؟
يؤكّد عدد من الباحثين بأن العلاقة بين نظرية الترجمة والنظرية اللسانية تتجسّد أيضا في الاتجاه المعاكس، وذلك على اعتبار
«أن الترجمة لا يمكنها أن تقوم بعيدا عن اللسانيات (بما أنها قد تكون « موضوعها الأساسي » !)، لكن يمكن القول في الوقت ذاته إنّ اللسانيات كذلك في سعيها إلى الوصف والتنظير الشاملَيْن للغة، لن يسَعها تجنّب « الزعزعة » التي قد تثيرها فيها المعطيات الناتجة عن البحث المتخصّص في الترجمة» (Pergnier 2004 :16)،
وبالنسبة لمن يعتقد بعدم استقلالية الترجمة عن اللسانيات، أو أكثر من ذلك باحتواء اللسانيات لها كفرع منها، فإنّنا نرى أنّ إلحاق الترجمة بالتنظير اللساني قد يبدو أمرا مؤسَّسا، لكن مع ذلك يبقى شيء من الضبابية يكتنف هذه العلاقة، ويجعل أمر ارتباطهما على مستوى التنظير غير محسوم، وهذا حتى وإنْ بدت جلّيا مظاهر تقاطعها. ونجد في طرح م. برنيي-M.Pergnier ما يبيّن ذلك، فهو يرى أن النظرية الترجمية ينبغي أن تؤسّس بمعزل عن النظرية اللسانية، ويقدّم أسباب ذلك من ثلاث نواح نجمل الحديث عنها في ما يلي :
-
«أوّلا : ليست الترجمة بحدث قارّ، حدث خاص ب « البنى »، بل هي حدث حيوي متغير، ولأنها عملية بحث عن التكافؤات بين رسائل تتسم بالديناميكية فإنّها لا تتعامل مع الأنظمة اللغوية فقط، لكن تستند كذلك إلى العمليات النفسية المتعلقة بالفهم والتعبير، إلى جانب عمليات تفعيل المعارف الخارجة عن اللغة، فهي بالتالي ترتبط بعلم النفس وعلم النفس اللغوي مثلما ترتبط باللسانيات في الوقت نفسه، كما تعتد بظواهر الثقافة والحضارة التي تلوج بها إلى علم الاجتماع عن طريق اللسانيات الاجتماعية.
-
ثانيا: يكون من الأفيد للتنظير في الترجمة أن يعتمد على تجربة عملية، في حين أنه ليس كلّ اللسانيين بمترجمين، وليسوا على وعي بخصائص هذا النشاط، لذا فإن الذين يمارسون الترجمة هم أقدر على الأقل على طرح المسائل النظرية طرحاً سليماً أو أكثر من ذلك حلّها. ومن هذه الزاوية فإنّ انشغال المترجمين المحترفين حديثا بالتنظير لفنّهم بأنفسهم هو إسهام ذو أهمية كبرى، علماً أنه إلى وقت قريب، قد ترك أمر التنظير في الترجمة حصريّاً للسانيين وعلماء النفس.
-
ثالثا: إنّ الظروف التي تطورت فيها اللسانيات والكيفية التي طرحت بها إشكاليتها فيها نظر، ومن مآخذ المترجمين على اللسانيات أنها تهتم باشتغال اللغات وبنيتها فحسب، وليس بالكلام الفعليّ، وصحيح أن اتجاه تطور اللسانيات عموما خلال الخمسين سنة الأخيرة كان نحو وصف بنى اللغة أكثر منه نحو وصف آليات الكلام» (Pergnier 1981 :256-257).
ونعتقد أن مثل هذه المآخذ التي يقيم عليها البعض حجتهم ضد تعالق المجالين- الترجمة واللسانيات- أو اتصالهما على مستوى التنظير، ينمّ أكثر عمّا يصبو إليه معظم المترجمين في أن تستقل الترجمة بذاتها بوصفها مجالاً معرفيّاً متميّزاً، وإنّ الشرخ القائم بينهما اليوم لدليل واضح على الصعوبة التي تجدها اللسانيات في احتواء الترجمة كممارسة لغوية بالدّرجة الأولى، والتي قد تفسّر بعوائق نظرية ومنهجية. وإضافة إلى ذلك فإنّ اللسانيات قد استقامت في موضوعها وغايتها بعيدا عن الترجمة، واستطاعت المدارس اللسانية المختلفة أن تبلور جهازا مفاهيميا وإجرائيا لمعالجة القضايا المطروحة في مجالها، وهذا مع الإشارة إلى أنّها كانت في اتجاهها العام دراسات نظرية، أما في ما يتعلق بالترجمة فإنّها لازالت تمثل مجالا تطبيقيا يُجرى فيه تجريب النماذج النظرية التي تقترحها اللسانيات، وهي كما قال البعض: «فلئن كانت قد تبوأت منزلة مشرفة في كتابات اللسانيات التطبيقية، فإن وجودها كان سابقا لهذه الأخيرة، وكانت حينذاك فرعا من الأدب المقارن (بداية القرن 20) أو الأدب» (رضوان 2010 : 31).
وعلى ذلك، فإنّ عدم بروز ملامح التقارب بين الترجمة واللسانيات على المستوى الإبستمولوجي قد يفسّر الشرخ المنهجي بينهما، والذي اتسع ربّما أكثر مع احتلال اللسانيات البنيوية ردحاً من الزمن الصدارة في مجال البحث اللساني، «ولمن ينظر إلى الأشياء من زاوية البحث الأساسي فإنه بالفعل لا يوجد أدنى شك في أن الصعوبة في إيجاد لغة مشتركة تنمّ عن عجز إبستمولوجي يعيق تطور نظرية الترجمة واللسانيات معاً« (Pergnier 2004 :17)، ومع ذلك فإن الأمر اللافت للنظر هو أنه بإمكان اتخاذ الترجمة مقاربة للغة ضمن المقاربات الممكنة، مثلما تُعتمد في تعليم اللغات، وهذا بالنظر إلى إفادتها من اللسانيات بالخلفية النظرية.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن تمثل الترجمة الصدى لما يتحقق كخطوات منهجية على مستوى التنظير اللساني، ممّا يمكن أن يبقيها على درجة من القرب من البحث اللساني، وفي هذا السياق يتساءل م.برني- M.Pergnier مستنكرا تصوّر الفصل التام بين الترجمة واللسانيات : «هل يمكن تقبّل فكرة أن لا تؤخذ بعين الاعتبار مفاهيم نظرية عامة حول اللغة في حقل تجريب هام مثل الترجمة؟ أو بعكس ذلك، أن تكون عناصر أساسية في بلورة نظرية الترجمة غير قابلة للاندماج في نظرية اللسانيات العامة؟ »(Pergnier 2004 :17) وعلى أهمية هذا المبدأ الذي يوحي بوجود صلة نظرية على الأقل بين الترجمة واللسانيات العامة، إلاّ أنه في الواقع لا يكفي ذلك لتحديد جسور واضحة بينهما، كما لا يمكن الحديث عن احتمال وقوع ذلك ما لم تُرفع مجموع الالتباسات التي تشوب علاقتهما، وريثما يتحقق لهما ذلك فإن جهود التنظير في المجالين معا تسير في اتجاهين متوازيين.
وعطفاً على ما تقدّم، نرى أنه بالإمكان في هذا السياق تفهم موقف المترجمين وتبرير انشغالهم حصريّاً بالمسائل التي يطرحها العمل الترجمي بعيداً عن اللسانيات، وسعيهم إلى الاجتهاد ضمن تخصّصهم تكريساً لهوية حقل الترجمة قبل كل شيء على اعتباره مجالاً معرفيّاًّ مغايراً للسانيات، وبالتالي العمل على بلورة التفكير حول الترجمة دون أن تمثل النظرية اللسانية بالنسبة لهم النظرية المرجع، إنْ على مستوى الترجمة العملية أو على مستوى التنظير.
هذا، وقد يكون من الإجحاف في حق هذا المجال الحيوي والواسع الذي تمثله الترجمة أن تختزل طبيعته في البعد اللساني، والتركيز فيه عمّا يصله باللسانيات فحسب، إذ لا ينبغي أن نتغاضى عن حقيقة أخرى تتعلق بكون المترجم يتعامل أساساً مع مضامين الرسائل التي يتم نقلها من ذوات إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى، ومن لغة إلى أخرى، وهو ما يستدعي الأخذ في الاعتبار كل هذه الأبعاد في بناء نظرية شاملة خاصّة بالترجمة، وللتذكير فإنّ :
«دراسة نظرية الترجمة- التي لا تزال في بداياتها- يجب أن تتجاوز النظريات اللسانية وتستدعي تخصصات أخرى مثل علم النفس (أنظر مثلا دراسات السيدة سليسكوفيتش حول الذاكرة في الترجمة) أو الفلسفة والتحليل النفسي (أنظر مثلا لادميرال الذي ترجم لفلاسفة ألمان). إن الترجمة التي توجد عند تخوم العديد من العلوم الإنسانية أو الدقيقة التي تجاهلتها مدة طويلة، ما عدا «اللسانيات التداولية» linguistique pragmatique أو« علم النص » textologie حديثا، لا يمكن أن تقتصر على مقاربة واحدة» (رضوان 2010 : 42).
وإنّ الترجمة لا يمكن أن تكتفي بكونها ترجمة في اللغة ومن خلال اللغة، فهي في ممارستها ملتقى لمعارف أخرى غير المعرفة اللسانية، ولعلّ هذا ما يضفي عليها طابعا ديناميكيا ويجعلها قادرة على التصرّف في أبعاد المضامين المتنوعة التي تشتغل عليها، وتقتضي الممارسة الترجمية بالتأكيد معرفة الخلفيات الفكرية والثقافية التي ينطلق منها صاحب النص الأصلي. ولمّا كان الإلمام بكل المعارف أمراً مستحيلاً فإنّه من الضروري اعتماد مبدأ التخصّص في الترجمة- وتتفرع مباحثها بتفرع التخصّصات- تحقيقاً للنجاعة المنشودة، بما يكفل لها تحقيق التواصل في أبعاده الواسعة، ونقصد بذلك التواصل الإنساني. وبهذا الصدد يصرّح المهتمون بقضايا التواصل اللغوي :
«يمكننا اعتبار أنّه من السخافة بمكان أن يبقى الجنس البشري، الذي يميل أكثر فأكثر إلى أن يكون متضامنا، ومتجانسا و«متوافقا»، متقوقعاً في طبقات لسانية لا تحصى، كما يمكننا اعتبار من السخافة أيضا أن تسعى الإنسانية بكلّ شغف إلى التوصيل الآني للكلام عبر الفضاء دون أن تهتم حقيقة بجعل هذا الكلام مفهوما من قِبل الكلّ (Burney 1966 :125)»،
ولعلّ ذلك هو التحدّي الأكبر الذي ينبغي على المترجمين رفعه في الوقت الراهن الذي اقتحمت فيه التكنولوجيات الحديثة حقل الترجمة لاسيما من خلال الترجمة الآلية.
خاتمة
سعت هذه الورقة البحثية إلى الوقوف على بعض الجوانب الرئيسية في المسألة التي تثيرها علاقة الترجمة باللسانيات اليوم، وإلى بلورة التصوّر حول إمكانية ربط الترجمة باللسانيات التداولية، وقد انطلقنا في ذلك من أساسين اثنين : يخصّ الأوّل ما تقوم عليه العلاقة بين الترجمة واللسانيات في المنطلق، أي من حيث اشتغالهما على آليات اللغة، والذي سمح بالتقائهما على مستوى الممارسة الترجمية بالخصوص مع أنّهما سارا في اتجاهين متوازيين على المستوى التنظيري؛ ويخصّ الثاني ما يُمكن أن تُسهم به اللسانيات التداولية بشكل خاص في تطوير نظرية الترجمة، وذلك على اعتبار التوجّه الذي ارتأته لنفسها، والذي يمت بالصلة إلى مقاربة اللغة ليس من حيث مكوّنها الدّلالي فحسب، وإنما في مكوّنها التداولي- التواصلي.
لقد أفضى هذا البحث- في طرح القضايا ومناقشتها- إلى مجموعة من النتائج نوجز الحديث عنها في ما يلي :
-
لا يمكن أن نتغاضى عمّا تَحقّق للترجمة من تقارب وتداخل مع اللسانيات، وفي الوقت نفسه لا يمكن وصف العلاقة بينهما بأنّها علاقة احتواء– احتواء اللسانيات لها- وهذا بالنظر إلى ما تبدو عليه الترجمة في بعض مظاهرها كنشاط قائم في مسلك مواز لها، كما ينبغي الإقرار بتوازي مساراتهما المعرفيّة؛
-
إنّ البحث في علاقة اللسانيات التداولية بالترجمة يمكن أن يعرض مسالك جديدة في التفكير حول إمكانية تقاربهما بدرجة أكبر وهذا بحكم تعالق المجالين في اشتغالهما على آليات اللغة من ناحية؛ وعلى المضامين قصد تأويلها من ناحية أخرى، إذ ما يسعى المترجم إلى نقله من لغة إلى أخرى هو مضمون الكلام المؤدى وفق مقصد تواصلي محدّد؛
-
وإنّ اعتماد الترجمة على نتائج البحث اللساني التداولي من شأنه أن يسمح لها ببلورة نظرياتها، وهو الأمر الذي نتصوّره كذلك من منظور تجريب النظريات التداولية في حقلها، ولعلّه المجال الأنسب لذلك، وهو ما سيؤدي إلى قيام مباحث نظرية مشتركة بين الترجمة واللسانيات التداولية، وهذا في نظرنا كفيل بتجسّيد نوع من التقارب المنهجي بين المجالين.
وتأسيسا على ما تقدّم، نرى أنّ الترجمة يمكن أن تأخذ اتجاها جديدا إنْ فُتحت الآفاق فيها على البحث اللساني التداولي، ويمكن أن نلمح من عدة أوجه أفق المزاوجة النظرية بينهما.