الحجج شبه المنطقية في الخطاب القرآني الموجه لأهل الكتاب

Moussa Djamal

p. 129-136

Moussa Djamal, « الحجج شبه المنطقية في الخطاب القرآني الموجه لأهل الكتاب », Aleph, Vol.5 (1) | -1, 129-136.

Moussa Djamal, « الحجج شبه المنطقية في الخطاب القرآني الموجه لأهل الكتاب », Aleph [], Vol.5 (1) | 2018, 25 December 2018, 23 November 2024. URL : https://aleph.edinum.org/1426

Le Coran est un ouvrage rhétorique au premier chef. En lui le discours et la circulation des discours est organisée en fonction des différentes instances énonciatives qui interviennent dans leur actualisation.

Dans cet article, nous mettrons en relief les différentes stratégies discursives mises en scène dans le discours direct en fonction des différents énonciataires destinataires de la parole de Dieu.

يعدّ الاهتمام بالحجاج وآلياته في محاولة إقناع الآخر أمرا قديما، إذ تبدّت بوادره الأولى مع الخطابة الأرسطية، وقد بعث هذا الاهتمام من جديد مع محاولة شايم بيرلمان ولوسي اولبريخت تيتيكا (Chales Perelman et I.Olbrechts-Tyteca) في مصنفهما حول الحجاج الموسوم بـ: "مصنف في الحجاج البلاغة الجديدة"، حيث تعرضا في هذا الكتاب إلى حجج الوصل والفصل. ومن بين الحجج التي نجدها في الجانب الأول من الحجج: الحجج شبه المنطقية التي تسمد قوّتها الاقناعيّة من مشابهتها للطرائق الشّكليّة والمنطقيّة والرّياضيّة في البرهنة وإذ كانت تشبهها فلا يعني أنّها هي بل لابد من التحري وبذل جهد كبير في بناء استدلالها.

والقرآن الكريم كتاب هداية وحجاج في المقام الأول، حيث نجد خطاباته ومن ثمَّ الحجج التي يتضمنها تختلف من خطاب لآخر بحسب المخاطَب المتلقي. والاشكالية المطروحة هي: هل نجد في القرآن هذا النوع من الحجج (الحجج شبه المنطقية)؟ وكيف تم توظيفها لاستمالة الشخص المتلقي لإقناعه؟

سنحاول في هذا العمل أن نستخرج تلك الحجج من القرآن الكريم بحسب أنواعها التي فصل فيها صاحبي الكتاب السابق الذكر.

The interest in argumentation and their mechanisms to try convince the others is old. The first hints is appearing since Aristotelian rhetoric. This interest has revived by Chaime Perelman and I.Olbrechts-Tyteca in their book about the Argumentation, is called «workbook in the Argumentation The new rhetoric » . where they are presented in this book to the arguments of connection and separation. Among the arguments that we find in the first part of the arguments: the quasi-logical arguments which is derived their persuasive power from their Similarity to formal, logical and mathematical methods in the proof. even though were similar to it, does not mean that they are, but must be investigated and a great effort in building their reasoning.

The Holy Quran is a book of guidance and argumentation in the First and foremost, where we find his discourse and then the arguments that are included will vary from discourse to discourse according to the recipient. The problem is: Do we find in the Qur'an these kinds of arguments (quasi-logical arguments)? And how was it used to coax the recipient to convince him?

In this work we will try to extract these arguments from the Holy Quran according to the types in which the authors of the aforementioned book.

ميز بيرلمان بين أربعة تقنيات للحجاج. الأولى، يسميها بالحجج "شبه المنطقية" (quasi-logique)، وهي مبنية على نموذج من الاستدلال المنطقي أو الرياضي. والثانية، الحجج القائمة على بنية الواقع، والثالثة الحجج المؤسسة لبنية الواقع. والتقنية الرابعة، تسمى الحجج القائمة على فصل المصطلحات (فرز المفاهيم).

والجدول الآتي يبين هذه التقنيات وما تحتويه من قواعد:

الفصل Procédés de dissociation

الوصل Procédés de liaison

الحجج المؤسسة لبنية الواقع

Arguments qui fondent la structure du du réel

الحجج القائمة على بنية الواقع

Arguments basés sur la structure du réel

الحجج شبه المنطقية

Argument quasi logique

الفصل

المثال

النموذج

المماثلة

التوضيح

الكناية

روابط

التتابع

روابط

التعايش

التنافر (عدم الاتفاق)

الهوية

التعريف

قواعد العدل

التعدية

المقارنة

وسنقوم بالتركيز على النوع الأول من الحجج ألا وهي الحجج شبه المنطقية محاولين استخراجها من المدونة المختارة.

تستمد هذه الحجج قوتها الإقناعية من مشابهتا للطرائق الشكلية والمنطقية والرياضية في البرهنة. لكنها تختلف عنها في كونها غير ملزمة، في حين أن الاستدلال المنطقي ملزم قطعيا. وذلك أنها تنتج من عملية تبسيط غير ممكنة إلا في ظروف محددة، داخل نظام معزول ومحدد.1

1. التناقض وعدم الاتفاق (Contradiction et incompatibilité)

وهناك من ترجمه بعدم التناسب يقصد بالتناقض Contradiction أن تكون هناك قضيتان في نطاق مشكلتين إحداهما نفي للأخرى ونقض لها. كما في المثال الآتي: "المطر ينزل ولا ينزل". في حين أن عدم الاتفاق أو عدم التنافر أو عدم التناسب ترجمات مختلفة لـ Incompatibilité - بين ملفوظين يكون بإسقاط الملفوظين على الواقع والظروف أو المقام لترجيح إحدى القضيتين، وإقصاء الأخرى التي هي خاطئة.2

{ وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } (البقرة: الآية:41)

يتجلى عدم التناسب في قوله تعالى: { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ }. كيف تكفرون بهذا القرآن وبالذي أرسل به وهو يصدقكم على ما في أيديكم من التوراة والإنجيل. فتصديقكم به هو دعم لإيمانكم بالتوراة والإنجيل. فليس من المعقول أن تكفروا به، وهو يوافق ويؤيد ما في أيديكم. وأحسن من رأينا من المفسرين من استخرج هذا المفهوم الحجاجي هو الرازي في كتابه مفاتيح الغيب، إذ يقول:" {مصدقا لما معكم} ففيه تفسيران: أحدهما: أن في القرآن أن موسى وعيسى حق وأن التوراة والإنجيل حق وأن التوراة أنزلت على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام فكان الإيمان بالقرآن مؤكدا للإيمان بالتوراة والإنجيل فكأنه قيل لهم: إن كنتم تريدون المبالغة في الإيمان بالتوراة والإنجيل فآمنوا بالقرآن فإن الإيمان به يؤكد الإيمان بالتوراة والإنجيل.

والثاني: أنه حصلت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن في التوراة والإنجيل فكأن الإيمان بمحمد وبالقرآن تصديقا للتوراة والإنجيل، وتكذيب محمد والقرآن تكذيبا للتوراة والإنجيل، وهذا التفسير أولى لأن على التفسير الأول لا يلزم الإيمان بمحمد عليه السلام لأنه بمجرد كونه مخبرا عن كون التوراة والإنجيل حقا لا يجب الإيمان بنبوته: أما على التفسير الثاني يلزم الإيمان به لأن التوراة والإنجيل إذا اشتملا على كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقا فالإيمان بالتوراة والإنجيل يوجب الإيمان بكون محمد صادقا لا محالة، ومعلوم أن الله تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة عليهم في وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فثبت أن هذا التفسير أولى".3

{ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (البقرة: الآية:42)

جاء في التفسير الكبير لان كثير في معنى الآية: " لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به ، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم".4

ويقول البقاعي في تفسيره:" وجعله الحرالي على ظاهره فقال: لما طلبهم تعالى بالوفاء بالعهد نهاهم عن سوء العمل وما لبسوا به الأمر عند اتباعهم من ملتهم وعند من استرشدهم من العرب، فلبسوا باتباعهم حق الإيمان بموسى عليه الصلاة والسلام والتوراة بباطل ما اختذلوه من كتابهم من إثبات الإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، فكتموا الحق التام الجامع ولبسوا الحق الماضي المعهود بالباطل الأعرق الأفرط، لأن باطل الحق الكامل باطل مفرط معرق بحسب مقابله، وعرفهم بأن ذلك منهم كتمان شهادة عليهم بعلمهم بذلك إفهامًا، ثم أعقبه بالشهادة عليهم بالعلم تصريحًا- انتهى.

وفي هذه الآية أعظم زاجر لأهل الكتاب عما أظهروا فيه من العناد، ومن لطف الله تعالى زجر القاسي البعيد ونهي العاصي القلق إلى ما دون ذلك من تنبيه الغافل وزيادة الكامل".5

{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: الآية:44)

" يقول تعالى:كيف يليق بكم - يا معشر أهل الكتاب ، وأنتم تأمرون الناس بالبر ، وهو جماع الخير - أن تنسوا أنفسكم ، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به ، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب ، وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله ؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم ؛ فتنتبهوا من رقدتكم ، وتتبصروا من عمايتكم"6

فنجد عدم التناسب جليا في كونهم يأمرون غيرهم بأعمال البر، في حين هم لا يعملون بما أمروا به غيرهم .{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} (البقرة: الآية:61)

ضجر بنو إسرائيل لخبث نفوسهم وسوء طويتهم- من الطعام الذي كان ينزل عليم من السماء دون جهد منهم أو تعب. ، فبلّغوا موسى عليه السلام ما طوته نفوسهم، وطلبوا منه أن يأكلوا مما تخرج الأرض التي اعتادوا الأكل منها، ودعّموا طلبهم ذلك بحجة عدم صبرهم على الطعام المنزل عليهم من السماء، وبما أنهم لا يصبرون عليه فلا بدّ لهم من البديل الذي يتمثل فيما تخرجه الأرض من البقل والقثاء والفوم وغيرهم. ولكن لمّا كانت حجّتهم واهية وهي أقرب إلى التعنت منها إلى صدقهم في دعواهم. قوبلوا بإنكار موسى عليه السلام عليهم بقوله:

{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}. (البقرة: الآية:61)

قال تعالى:

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: الآية:80)

ادعى اليهود أنهم أفضل الأمم ومن بين حججهم -الواهية- على ذلك أن الله لا يعذبهم بالنار إلاّ أياما معدودات، وهي أيام عبادتهم العجل، فردّ الله عليهم بأنّ ادعاءهم ذلك مبني إمّا على عهد اتخذوه عند الله، وذلك لم يكن بدليل إنكار الله عليهم بالسؤال الاستنكاري؛ وإمّا أنهم يفترون على الله ما لا يعلمون. ويظهر عدم التناسب هنا في كونهم ادعوا شيئا لا سبيل إلى معرفته إلاّ من عند الله، وهذا ما لا سبيل لهم به. يقول الرازي:" اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أقوالهم وأفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياما قليلة، وهذا الجزم لا سبيل إليه بالعقل ألبتة أما على قولنا، فلأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه في فعله، فلا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي، وأما على قول المعتزلة فلأن العقل يدل عندهم على أن المعاصي يستحق بها من الله العقاب الدائم، فلما دل العقل على ذلك احتج في تقدير العقاب مدة ثم في زواله بعدها إلى سمع يبين ذلك".7

{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }.( آل عمران، الآية:183)

يورد بنو إسرائيل في تكذيبهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم حجة وهي أنهم أمروا في التوراة أن لا يؤمنوا برسول حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل وهو أن يقرب بقربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار سماوية فتأكله ، أي تحيله إلى طبعها بالإِحراق . وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإِيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات شرع في ذلك. فكذبهم الله وألزمهم بأن رسلاً جاؤوهم قبله كزكريا ويحيى بمعجزات أخر موجبة للتصديق وبما اقترحوه فقتلوهم، فلو كان الموجب للتصديق هو الإِتيان به وكان توقفهم وامتناعهم عن الإِيمان لأجله فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به في معجزات أخرى وحولوا قتله.8

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}( المائدة، الآية: 18).

ادعى اليهود والنصارى أن الله لن يعذّبهم وحجّتهم في ذلك "أنهم منتسبون إلى أنبيائه وهم (أي الأنبياء) بنوه وله بهم عناية، وهو يحبنا. ونقلوا عن كتابهم أن لله تعالى قال لعبده إسرائيل: "أنت ابني بكري". فحملوا هذا على غير تأويله، وحَرّفوه. وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم، وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، يعني: ربي وربكم. ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى، عليه السلام، وإنما أرادوا بذلك معزتهم لديه وحظْوتهم عنده، ولهذا قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.

قال الله تعالى رادا عليهم: { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } أي: لو كنتم كما تدعون أبناءه وأحباءه، فلم أعَد لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟".9 "فإن صحّ أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون وتمسكم النار أياماً معدودات على زعمكم. ولو كنتم أبناء الله، لكنتم من جنس الأب، غير فاعلين للقبائح ولا مستوجبين للعقاب. ولو كنتم أحباءهُ، لما عصيتموه ولما عاقبكم".10

والبقاعي عندما انتهى من تفسير هذه الآية وشرع في تفسير الآية التي بعدها أدرك هذه الحجة فنجده يقول:" ولما دحضت حجتهم ، ووضحت أكذوبتهم ، اقتضى ذلك الالتفات إلى وعظهم على وجه الامتنان عليهم وإبطال ما عساهم يظنونه حجة".11

ونرى تلك المفارقة وعدم التناسب أو التنافر فيما ادعاه اليهود والنصارى وبين الواقع الحقيقي ومنزلتهم عند الله تبارك وتعالى.

2. الهوية (التماثل) والتعريف (Identité et définition)

نجد مصطلح "Identité" قد ترجم بالهوية وترجم أيضا بالتماثل ومداره على التعريف، حيث هو تعبير عن التماثل بين المعرَّف والمعرِّف وليس المعرَّف تمام المعرِّف على الحقيقة. فقولنا:

الرجل رجل. أو الأب يبقى دائما أبا.

وهو من قبيل تحصيل الحاصل لا تجد فيه معنى المعرِّف وهو رجل أو أبا هو نفسه معنى المعرَّف وهو الرجل والأب. ولهذا قيل عن مثل هذه القضايا أن أحد لفظيها ورد على الحقيقة والآخر على المجاز.12

{ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ }( البقرة، الآية:61).

ردّ موسى عليه السلام على قومه - لمّا سألوه طعاما يخرج من الأرض بدلا من المن والسلوى الذي كان يأتيهم دون كدّ منهم أو تعب- بسؤال استنكاري يتضمن حجّة شبه منطقية تعتمد على تعريف وتحديد الشيء من حيث الأثر. فقومه رأوا أن الطعام الذي يخرج من الأرض من بقل وفوم وعدس وبصل وغيرها خير من المن والسلوى الذي ينزل عليهم من السماء، ولكنّ موسى عليه السلام رأى خلاف رؤيتهم وعاتبهم على ذلك. فنجد الاختلاف حاصلا من حيث تحديد الأدنى من الذي هو خير.

والرازي في تفسيره لهذه الآية نجده يردّ على الذين ظنّوا أن سؤال بني إسرائيل ذاك إنما كان معصية منهم فيقول:" فإن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث كان الانتفاع به حاضراً متيقناً ومن حيث إنه يحصل عفواً بلا كد كما يقال ذلك في الحاضر ، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه : إنه أدنى من حيث لا يتيقن ومن حيث لا يوصل إليه إلا بالكد ، فلا يمتنع أن يكون مراده: { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } هذا المعنى أو بعضه".13

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}( سورة البقرة، الآية:91)

نرى بني إسرائيل هنا لمّا طلب منهم الإيمان بالقرآن، امتنعوا عن ذلك بذكر حجة أنهم مؤمنون بما أنزل عليهم وهو التوراة، وإذا لم يؤمنوا بغيره رغم أنه منزل من عند الله ومطالبين بالإيمان به، لا يخرجهم ذلك عن مسمّى الإيمان. وما علموا أن الكفر بشيء أمروا بالإيمان به في التوراة هو كفر بالتوراة ذاتها. إذن الحجة الواردة هنا هي حجةُ تحديدٍ لمفهوم الإيمان بما أنزل الله.

ويشير صاحب التحرير والتنوير إلى ذلك بقوله: " وقولهم : {نؤمن بما أنزل علينا} أرادوا به الاعتذار وتعلة أنفسهم لأنهم لما قيل لهم { آمنوا بما أنزل الله } علموا أنهم إن امتنعوا امتناعاً مجرداً عدت عليهم شناعة الامتناع من الإيمان بما يدعى أنه أنزله الله فقالوا في معذرتهم ولإرضاء أنفسهم {نؤمن بما أنزل علينا} أي أن فضيلة الانتساب للإيمان بما أنزل الله قد حصلت لهم أي فنحن نكتفي بما أنزل علينا وزادوا إذ تمسكوا بذلك ولم يرفضوه".14

{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (البقرة، الآية:120).

يقول الله تعالى لنبيه ميّئسا له من أن اليهود والنصارى لن يرضوا عليه حتى يوافقهم في دينهم ويتبعهم. فقد رفع الحرج عليه في عدم إيمانهم وتكذيبهم له. ويبيّن له أن الهدى إنما هو هدى الله وحده، وهو الإسلام الذي أنت عليه ومن اتبعك، وليس الذي عليه اليهود والهدى هدى وإن ادّعوا ذلك بأفواههم. وهذه حجة في تعريف الهدى، فيرى أهل الكتاب أنّ الهدى هو ما هم عليه، ويكذّبهم الله في ذلك ويجعل الهدى هو ما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم . وأدرك قتادة رحمه الله15 هذه الحجة فقال:"خصومة عَلَّمها الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يخاصمون بها أهل الضلالة".16 بمعنى حجّة يجادلون بها.

3. قاعدة العدل والتبادلية (La règle de justice et de réciprocité)

قاعدة العدل هي التي تقول "إن الكائنات المنتمية لصنف واحد يجب أن يتم معاملتا بطريقة واحدة".17ويمثل لهذه القاعدة بالمثال الذي تقدمه تيتيكا عن ذلك المتشرد الذي لا يفهم "كيف يمكن أن يكون التسول جنحة في مجتمع يجعل من الصدقة فضيلة". ومثال آخر هو تعبير كانتيليان:"الذي يشرف تعلمه يشرف تعليمه".18

{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ }(البقرة، الآية:40)

يخاطب الله تعالى بني إسرائيل مذكّرا لهم نعمه عليهم، بأن جعلهم أفضل الأمم، وفي أيديهم التوراة أحسن كتاب يهديهم إلى طريق الحق، وغيرها من النعم التي أنعمها على أسلافهم وجعلهم يتمتعون بها من بعدهم. وأمرهم أن يوفوا بعهده الذي أخذه عليهم، وهو الإيمان بالنبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، وتبيين ذلك للناس، إن أرادوا أن يوفيهم عهدهم عليه وهو مذكور في آيات أخر من القرآن-، وهو وضع الأغلال والإصر الذي ضرب على أسلافهم، وبقي في أعناقهم، ومغفرته لهم ذنوبَهم وإدخالهم جنته. وهذه حجة شبه المنطقية تسمّى بالعدل أو المساواة، إذ قال لهم إن أردتم أن يوف بعهدكم، فما عليكم سوى الوفاء بالعهد الذي عليكم، وهذا من قبيل الجزاء من جنس العمل.

{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } (البقرة، الآية:44).

"قال الحرالي : ولما كان فيهم من أشار على من استهداه بالهداية لاتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولم يهدوا أنفسهم لمّا أَرشدوا إليه غيرَهم أعلن تعالى عليهم بذلك نظماً لما تقدم من نقض عهدهم ولبسهم وكتمهم بما ظهر من نقص عقولهم في أن يُظهر طريق الهدى لغيره ولا يتبعه فأخرجهم بذلك عن حد العقل الذي هو أدنى أحوال المخاطبين ، وزاد في تبكيتهم بجملة حالية حاكية تلبسهم بالعلم والحكمة الناهية عما هم عليه فقال : { وأنتم تتلون الكتاب} من التلاوة ، وهو تتبع قول قائل أول من جهة أوليته".19

فكيف يا بني إسرائيل تأمرون غيركم باتباع محمّد صلى الله عليه وسلم، وأنتم ترفضون اتباعه. فهذه حجّة عليكم تدل على سخف عقولكم ونقصها. فأنتم كباقي البشر يتعيّن عليكم اتباع الحق، وليس لكم مزية خاصة في الخروج عن هذا العموم. والقاعدة الصورية في حجج العدل هي: الفئات المنتسبة إلى نفس الجوهرية، ينبغي أن تعامل بنفس الطريقة.

{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (البقرة، الآية:75)

يقول الرازي عند تفسيره لذ الآية:"اعلم أنه سبحانه لما ذكر قبائح أفعال أسلاف اليهود إلى ههنا، شرح من هنا قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد صلى الله عليه وسلم ، قال القفال رحمه الله : إن فيما ذكره الله تعالى في هذه السورة من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقصد:.... وثالثها : إخبار النبي عليه السلام بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاقهم وتعنتهم مع الأنبياء ومعاندتهم لهم وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم ، وذلك لأنهم بعد مشاهدتهم الآيات الباهرة عبدوا العجل بعد مفارقة موسى عليه السلام إياهم بالمدة اليسيرة ، فدل على بلادتهم ، ثم لما أمروا بدخول الباب سجداً وأن يقولوا حطة ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ويزيد في ثواب محسنهم بدلوا القول وفسقوا ، ثم سألوا الفوم والبصل بدل المن والسلوى ، ثم امتنعوا من قبول التوراة بعد إيمانهم بموسى وضمانهم له بالمواثيق أن يؤمنوا به وينقادوا لما يأتي به حتى رفع فوقهم الجبل ثم استحلوا الصيد في السبت واعتدوا ، ثم لما أمروا بذبح البقرة شافهوا موسى عليه السلام بقولهم : { أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } [البقرة : 67 ] ، ثم لما شاهدوا إحياء الموتى ازدادوا قسوة، فكأن الله تعالى يقول : إذا كانت هذه أفعالهم فيما بينهم ومعاملاتهم مع نبيهم الذي أعزهم الله به وأنقذهم من الرق والآفة بسببه، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عليه السلام، فليهن عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم وإعراضهم عن الحق".20

تظهر حجة العدل أو التسوية هنا، في كون الأخلاف يعملون عمل الأسلاف وهم من جنس واحد. إذن فمعاملتهم ستكون من جنس معاملة الأسلاف، ومساوية لها، وهي عدم الحزن عليهم لعدم إيمانهم وإعراضهم عن الحق.

{ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة، الآية: 75) .

يقول صاحب تفسير التحرير والتنوير:" قوله { ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول } قصرُ موصوفٍ على صفة ، وهو قصر إضافي ، أي المسيح مقصور على صفة الرّسالة لا يتجاوزها إلى غيرها ، وهي الإلهيّة . فالقصر قصر قلب لردّ اعتقاد النّصارى أنّه الله .

وقوله : { قد خلت من قبله الرّسل } صفة لرسول أريد بها أنّه مساو للرّسل الآخرين الّذين مضوا قبله ، وأنّه ليس بدعا في هذا الوصف ولا هو مختصّ فيه بخصوصيّة لم تكن لغيره في وصف الرّسالة ، فلا شبهة للّذين ادّعوا له الإلهيّة ، إذ لم يجىء بشيء زائد على ما جاءت به الرسل ، وما جرت على يديه إلاّ معجزات كما جرت على أيدي رُسل قبله ، وإن اختلفت صفاتها فقد تساوت في أنّها خوارق عادات وليس بعضها بأعجب من بعض ، فما كان إحياؤه الموتى بحقيق أن يوهم إلهيّتَه . وفي هذا نداء على غباوة القوم الّذين استدلّوا على إلهيّته بأنّه أحيا الموتى من الحيوان فإنّ موسى أحيا العصا وهي جماد فصارت حيّة."21 ثم قال تعالى : { كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} .

واعلم أن المقصود من ذلك : الاستدلال على فساد قول النصارى ، وبيانه من وجوه : الأول: أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن ، وكل من كان كذلك كان مخلوقاً لا إلها ، والثاني : أنهما كانا محتاجين ، لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة ، والإله هو الذي يكون غنياً عن جميع الأشياء ، فكيف يعقل أن يكون إلها . الثالث : قال بعضهم : إن قوله { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } كناية عن الحدث لأن من أكل الطعام فإنه لا بدّ وأن يحدث ، وهذا عندي ضعيف من وجوه : الأول : أنه ليس كل من أكل أحدث ، فإن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون. الثاني : أن الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطعام ، وهذه الحاجة من أقوى الدلائل على أنه ليس بإله ، فأي حاجة بنا إلى جعله كناية عن شيء آخر . الثالث : أن الإله هو القادر على الخلق والايجاد ، فلو كان إلها لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطعام والشراب ، فما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين ، وبالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل."22

يطلب الله تعالى من النصارى إمعان النظر وتفكير والعقل، إذ كيف تألهّون أحدا يعمل مثل أعمال غيره من الرسل بإتيانه المعجزات من إحياء الموتى ويشفي الأكمه والأبرص، وغيرها من المعجزات، التي تعلمون أنّ غيره من الرسل قد أتى بمثلها. فلا حجة لكم في تأليهه. وهو أيضا بشر له أمّ كباقي البشر، ومن كان مولودا فهو بالضرورة ليس إلها، وكذلك أمه التي ادعيتم أنها إلهة- لكونها ولدت المسيح الذي ادعيتم أنه إله-ليست كذلك لكونها تلد والولادة من أعمال المخلوقين، وما هي إلا صدّيقة، وبشر من البشر كابنها، يأكلان الطعام، وكلّ من أكل طعاما فهو مخلوق لاحتياجه. فكان عليكم أن تعتقدوا فيهما نفس اعتقادكم في باقي من يأكل الطعام، وظهور المعجزة على يديه يدعوكم للاعتقاد فيه كما تعتقدون فيمن ظهرت على أيديهم المعجزات، وهم الرسل.

وهنا نلمس حجة العدل التي مفادها أن الكائنات المنتسبة إلى نفس الجوهرية ينبغي أن تعامل بنفس الطريقة.

4 .التعدية والتضمن والتقسيم

تعد التعدية خاصية شكلية نجدا في أنواع من العلاقات التي تتيح لنا أن نمر من إثبات أن العلاقة الموجودة بين أ و ب من ناحية، وبين ب و ج من ناحية أخرى هي علاقة واحدة إلى الاستنتاج أن العلاقة هي نفسا بين أ و ج. وأنواع العلاقات التي نجدها في خاصية التعدية هي علاقات التساوي والتفوّق والتضمن.23

{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ( آل عمران، الآية:68)

"{ إن أولى الناس } أي أقربهم وأحقهم { بإبراهيم للذين اتبعوه } أي في دينه من أمته وغيرهم ، لا الذين ادعوا أنه تابع لهم ، ثم صرح بهذه الأمة فقال : { وهذا النبي} أي هو أولى الناس به {والذين آمنوا } أي من أمته وغيرهم وإن كانوا في أدنى درجات الإيمان { والله } أي بما له من صفات الكمال - وليهم ، هذا الأصل ، ولكنه قال : {ولي المؤمنين} ليعم الأنبياء كلهم وأتباعهم من كل فرقة ، ويعلم أن الوصف الموجب للتقريب العراقة في الإيمان ترغيباً لمن لم يبلغه في بلوغه.24

هذه الآية أوردها الله بد أن ردّ على اليهود والنصارى الذين ادعت كل طائفة منهما أن إبراهيم عليه السلام كان منها. وبين أن الذين هم أقرب إلى إبراهيم عليه السلام هم الذين اتبعوه وساروا على نهجه في توحيده لله دون إشراك، وتصدق هذه الأوصاف على النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من المؤمنين. ثم نجد الله ختم هذه الآية بقوله "والله ولي المؤمنين"، فكأنه يقول وليُّ إبراهيم (الذي هو وليي) وليّي، فنجد حجة التعدية هنا ظاهرة، والتي مفادها: إذا كان (أ) له علاقة بـ (ب)، و(ب) له علاقة بـ (ج)، فإن (أ) له علاقة بـ (ج).

{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (الأنعام، الآية: 20)

"{ الذين آتيناهم } أي بما لنا من العظمة من اليهود والنصارى { الكتاب } أي الجامع لخيري الدنيا والآخرة ، وهو التوراة والإنجيل { يعرفونه } أي الحق الذي كذبتم به لما جاءكم وحصل النزاع بيني وبينكم فيه لما عندهم في كتابهم من وصفي الذي لا يشكون فيه ، ولما هم بمثله آنِسُونَ مما أثبت به من المعجزات ، ولما في هذا القرآن من التصديق لكتابهم والكشف لما أخفوا من أخبارهم ، ولأساليبه التي لا يرتابون في أنها خارجة من مشكاة كتابهم مع زيادتها بالإعجاز ، فهم يعرفون هذا الحق { كما يعرفون أبناءهم } أي من بين الصبيان بحُلاهم ونعوتهم معرفة لا يشكون فيها ، وقد وضعتموهم موضع الوثوق ، وأنزلتموهم منزلة الحكم بسؤالكم لهم عني غير مرة ، وقد آمن بي جماعة منهم وشهدوا لي ، فما لكم لا تتابعونهم! لقد بان الهوى وانكشف عن ضلالكم الغطاء."25

يحتج الله على المعاندين من أهل الكتاب، المكذّبين لنبوّة محمد صلى اله عليه وسلم بما معم من الكتاب - توراة وإنجيلا- الذي أنزله إليهم، والذي هم به عالمون، وبما يتضمنه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم عارفون. وتسمّى هذه الحجة بحجة التضمن وبيانها: أن الكتاب التوراة أو الإنجيل- يتضمن صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكل من علم التوراة والإنجيل كان لزاما عليه أن يعلم صفة محمد صلى الله عليه وسلم. وشبّه الله المعرفة بالنبي صلى الله عليه وسلم كالمعرفة بالأبناء.

{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ . وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }( الجاثية، الآية:15-16)
"يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم، وجعله الملك فيهم؛ ولهذا قال: { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي: من المآكل والمشارب، { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي: في زمانهم.

{ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ } أي: حججا وبراهين وأدلة قاطعات، فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة، وإنما كان ذلك بغيا منهم على بعضهم بعضا".26

الخاتمة

يذكر الله تعالى أنه رزق بني إسرائيل وأنعم عليم من نعم الدين- وهي الكتاب والحكم والنبوّة- والدنيا وهي الرزق من الطيبات والتفضيل على العالمين- كلّ ذلك حتّى لا تستغويهم شبهة ولا تستهويهم شهوة، فنعم الدين حافظة لهم من كلّ شبهة، ونعم الدنيا حافظة لهم من كلّ شهوة. فآتاهم الله هذه النعم وفصّل ذكرها هنا لتخدم قضية كلية هي تمحيضهم لعباده سبحانه وتعالى على بينة من الأمر. وذكر الأشياء مفصّلة لتخدم نتيجة كلية تعتبر حجج شبه منطقية، تسمى بحجج التقسيم.

هذه نبذ من الحجج شبه المنطقية الموجودة في القرآن الكريم وضعناها عسى أن تكون مثالا للدارسين ومساعدا على فهم هذا النوع من الحجج وكيفية استخراجها من النصوص.

1 - فيليب بروتون وجيل جوتيه: تاريخ نظريات الحجاج، ترجمة:محمد صالح ناحي الغامدي، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، الطبعة الأولى 2011م ، ص:47.

2 - عبد الله صوله: الحجاج: أطره ومنطلقاته وتقنياته من خلال "مصنف في الحجاج"، ص:325.

3 - فخر الدين الرازي: التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، دار الفكر، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 1401هـ-1981، 3/41-42.

4 - التفسير القرآن الكريم: ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة، السعودية، الطبعة الثانية 1999م، 1/245.

5 - برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، دار الكتاب الاسلامي، القاهرة ، 1/320.

6 - ابن كثير:تفسير القرآن الكريم، ص:246.

7 -الرازي: التفسير الكبير، 3/151.

8 -أنوار التنزيل و أسرار التأويل: البيضاوي،تحقيق:محمد صبحي بن حسن حلاق ومحمود أحمد الأطرش، دار الرشيد، دمشق، الطبعة الأولى، 1421هـ- 2000م، 1/317-318.

9 - ابن كثير: التفسير الكبير، 3/68

10 - جار الله الزمخشري: الكشاف، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود-علي محمد معوض، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى 1418هـ-1998م ، 2/219

11 -البقاعي: نظم الدرر، 6/69.

12 - Chales Perelman et I.Olbrechts-Tyteca,La nouvelle rhétorique, traité de l’argumentation, Presses Universitaires de France,1958, p : 147.

13 - الرازي: التفسير الكبير، 3/ 106.

14 - محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984، 1/607.

15 - ابن دعامة بن عزيز السدوسي البصري الأكمه الضرير، حافظ علامة ثقة، وتابعى جليل، ولد سنة 60 وتوفي سنة 117هـ، وقد كان مفسراً للكتاب، وله تفسير متقدم

16 - ابن كثير: التفسير الكبير، 1/402.

17 - Chales Perelman et I.Olbrechts-Tyteca,La nouvelle rhétorique, p : 148.

18 - المرجع السابق.

19 - البقاعي: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 1/336.

20 - الرازي: التفسير الكبير، 3/ 142.

21 - محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، 6/285.

22 -فخر الدين الرازي: مفاتيح الغيب، 12/65.

23 - عبد الله صوله: الحجاج: أطره ومنطلقاته وتقنيات من خلال "مصنف في الحجاج"، ص:329.

24 - البقاعي: نظم الدرر، 4/454.

25 - البقاعي: نظم الدرر، 7/78.

26 - ابن كثير، تفسير القرآن الكريم، 7/267.

القرآن الكريم

إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري أبو إسحاق الحصري القيرواني (ت 453هـ)، زهر الآداب وثمر الألباب، دار الجيل، بيروت، (د ت ن).

ابن عاشور محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر التونسي (ت1393هـ)، التحرير والتنوير (تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد)، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984م.

ابن معصوم صدر الدين المدني علي بن أحمد بن محمد معصوم الحسني الحسيني المعروف بعلي خان بن ميرزا أحمد (ت1119هـ)، أنوار الربيع في أنواع البديع، تح شاكر هادي شكر، مطبعة النعمان، النجف الأشرف تلفون، ط1، 1998م.

ابن منظور محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين الأنصاري الإفريقي (ت 711هـ)، لسان العرب، دار صادر بيروت، ط3، 1414هـ.

أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الشهير بالماوردي (450هـ)، تفسير الماوردي (النكت والعيون)، تح السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (د ت ن).

أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (المتوفى: 392هـ)، الخصائص، الهيئة المصرية العامة للكتاب، (د ت ن)، ط4.

أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبو عمرو الداني القرطبي الأموي (ت444هـ)، البيان في آي القرآن، تح غانم قذوري الحمد، منشورات مركز المخطوطات والتراث والوثائق، الكويت، ط1، 1994م.

أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت542هـ)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تح عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، لبنان، ط1، 1422هـ.

أحمد أحمد عبد الله البيلي البدوي (ت 1384هـ)، من بلاغة القرآن، نهضة مصر، القاهرة، 2005م.

أحمد يوسف القاسم، الإعجاز البياني في ترتيب القرآن الكريم وسورة، مطبعة الأزهر، مصر، ط1، 1979م.

الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد (ت370هـ)، تهذيب اللغة، تح محمد عوض مرعب، مطبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت ط2001م.

الأصفهاني الراغب أبو القاسم الحسين بن محمد (ت502هـ)، المفردات في غريب القرآن، تح صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية، دمشق، لبنان، ط1، 1412هـ.

الباقلاني أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد القاضي (ت503هـ)، إعجاز القرآن للخطابي، تح أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط3.

الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء (ت255هـ)، البيان والتبيين، دار ومكتبة الهلال، بيروت، لبنان، 1423هـ.

الرّازي زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي (ت666هـ): مفاتيح التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1420هـ.

الرافعي مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر (ت 1356هـ)، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي، بيروت، ط8، 2005م.

الروماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني، ثلاث رسائل في إعجاز القرآن في الدراسات القرآنية والنقد الأدبي، تح محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول سلام، دار المعارف بمصر، ط3.

الزركشي بدر الدين أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهار (ت797هـ)، البرهان في علوم القرآن، تع مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 2007م.

السيوطي جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر (911هـ): الإتقان في علوم القرآن، تح فهمي الزواوي، دار الغد الجديد، القاهرة، المنصورة، ط 1، 2006م.

العاملي بهاء الدين محمد بن حسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي الهمذاني (ت1031هـ)، الكشكول، المطبعة المحمودية، القاهرة، ط1، 1318هـ.

عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب سيبويه (المتوفى: 180هـ)، الكتاب، تح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1988 م.

فضل عباس، وسناء عباس، إعجاز القرآن الكريم، المكتبة الوطنية، ط2002م.

القيرواني ابن رشيق أبو علي الحسن الأزدي (ت463هـ)، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط5، 1981م.

محمد محمد أبو موسى، الإعجاز البياني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1997م.

والترج أونج "بارت" الشفاهية والكتابة، تر حسن عز الدين، سلسلة عالم المعارف، ع 182، فبراير 1994م، ص 94.

1 - فيليب بروتون وجيل جوتيه: تاريخ نظريات الحجاج، ترجمة:محمد صالح ناحي الغامدي، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، الطبعة الأولى 2011م ، ص:47.

2 - عبد الله صوله: الحجاج: أطره ومنطلقاته وتقنياته من خلال "مصنف في الحجاج"، ص:325.

3 - فخر الدين الرازي: التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، دار الفكر، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 1401هـ-1981، 3/41-42.

4 - التفسير القرآن الكريم: ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة، السعودية، الطبعة الثانية 1999م، 1/245.

5 - برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، دار الكتاب الاسلامي، القاهرة ، 1/320.

6 - ابن كثير:تفسير القرآن الكريم، ص:246.

7 -الرازي: التفسير الكبير، 3/151.

8 -أنوار التنزيل و أسرار التأويل: البيضاوي،تحقيق:محمد صبحي بن حسن حلاق ومحمود أحمد الأطرش، دار الرشيد، دمشق، الطبعة الأولى، 1421هـ- 2000م، 1/317-318.

9 - ابن كثير: التفسير الكبير، 3/68

10 - جار الله الزمخشري: الكشاف، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود-علي محمد معوض، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى 1418هـ-1998م ، 2/219

11 -البقاعي: نظم الدرر، 6/69.

12 - Chales Perelman et I.Olbrechts-Tyteca, La nouvelle rhétorique, traité de l’argumentation, Presses Universitaires de France,1958, p : 147.

13 - الرازي: التفسير الكبير، 3/ 106.

14 - محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984، 1/607.

15 - ابن دعامة بن عزيز السدوسي البصري الأكمه الضرير، حافظ علامة ثقة، وتابعى جليل، ولد سنة 60 وتوفي سنة 117هـ، وقد كان مفسراً للكتاب، وله تفسير متقدم للقرآن الكريم.

16 - ابن كثير: التفسير الكبير، 1/402.

17 - Chales Perelman et I.Olbrechts-Tyteca, La nouvelle rhétorique, p : 148.

18 - المرجع السابق.

19 - البقاعي: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 1/336.

20 - الرازي: التفسير الكبير، 3/ 142.

21 - محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، 6/285.

22 -فخر الدين الرازي: مفاتيح الغيب، 12/65.

23 - عبد الله صوله: الحجاج: أطره ومنطلقاته وتقنيات من خلال "مصنف في الحجاج"، ص:329.

24 - البقاعي: نظم الدرر، 4/454.

25 - البقاعي: نظم الدرر، 7/78.

26 - ابن كثير، تفسير القرآن الكريم، 7/267.

Moussa Djamal

Université Alger 2

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article