بين الكليشيهات والهويات : قراءة إيماغولوجية في روايتي نيويورك هل تحترق؟ وتحت سماء كوبنهاغن

Entre clichés et identités : lecture imagologique de New York brûle-t-elle ? et Sous le ciel de Copenhague »

Between Stereotypes and Identities : An Imagological Reading of Is New York Burning ? and Under the Copenhagen Sky

فطيمة بن ربيعي

فطيمة بن ربيعي, « بين الكليشيهات والهويات : قراءة إيماغولوجية في روايتي نيويورك هل تحترق؟ وتحت سماء كوبنهاغن », Aleph [], 11 April 2025, 19 April 2025. URL : https://aleph.edinum.org/14260

يتناول هذا البحث موضوع الإيماغولوجيا من خلال تحليل صورتَي الأنا والآخر في روايتين تنتميان إلى فضاءين ثقافيين مختلفين : « نيويورك هل تحترق؟ » لدومينيك لابيار ولاري كولينز، و« تحت سماء كوبنهاغن » لحوراء النداوي. يكشف المقال عن الأنساق السردية التي تُبنى من خلالها صورة الشرقي والغربي، ويبرز كيف تشتغل الشخصيات والفضاءات كعناصر تكوينية للصور الثقافية المتبادلة، مع الإشارة إلى تمثيلات الهوية والاختلاف والصراع الرمزي بين الشرق والغرب.

Résumé (style SCOPUS) : Cet article explore les dynamiques imagologiques à travers deux romans contrastés : New York brûle-t-il ? de Dominique Lapierre et Larry Collins, et Sous le ciel de Copenhague de Hawra al-Nadawi. Il met en lumière les mécanismes narratifs mobilisés pour construire les représentations du Soi et de l’Autre dans le contexte géoculturel du dialogue (et du conflit) Orient/Occident. L’étude révèle la prégnance des stéréotypes dans la littérature occidentale et propose une lecture alternative dans la fiction arabe diasporique.

Abstract : This paper examines the imagological dimensions in two culturally distinct novels : Is New York Burning ? by Dominique Lapierre and Larry Collins, and Under the Copenhagen Sky by Hawra al-Nadawi. The analysis focuses on the representation of the Self and the Other, revealing the narrative strategies that reinforce or resist stereotypical portrayals. Through the lenses of spatial symbolism and character construction, the study offers insights into East-West cultural perceptions in contemporary literature.

مقدمة

يُعد موضوع الإيماغولوجيا من أبرز المباحث المعاصرة في مجالي الدراسات المقارِنية والثقافية، إذ يتناول بالدراسة والتحليل تمثيلات « الأنا » و« الآخر » في الخطاب الأدبي والثقافي، وهي تمثيلات تتداخل فيها أبعاد حضارية وسياقات فكرية وإيديولوجية متباينة، ما يجعلها مجالًا خصبًا للتأويل والنقد. ويعود الاهتمام المتزايد بهذا الموضوع إلى قدرته على كشف آليات تشكيل الصور الذهنية والثقافية بين الشعوب، لا سيما حين تكون هذه الصور مشحونة بأبعاد تاريخية أو سياسية أو اجتماعية، تؤثر في فهم الآخر وتموقع الذات في مقابلته.

إن الإيماغولوجيا لا تقتصر فقط على كونها دراسة لصورة الآخر في الأدب، بل تتجاوز ذلك لتغدو مدخلًا لفهم دينامية العلاقات الثقافية بين الأمم، من خلال الصور المتبادلة التي يرسمها الأدب والفكر عن الذات والغير، وهي صور تتأرجح بين التخييل والواقع، وبين الحقيقة والانزياح الإبداعي. لذا فإنّ مقاربة هذا الموضوع تتطلب أدوات تحليلية دقيقة، تنهل من أكثر من منهج نقدي، وتأخذ بعين الاعتبار السياقات التي تتشكل فيها هذه الصور.

ومن هذا المنطلق، ينطلق هذا المقال من مجموعة من الإشكالات المركزية، يمكن إجمالها في التساؤلات التالية :

  • ما المقصود بمفهوم الإيماغولوجيا؟ وما السياق النظري الذي نشأ فيه؟

  • ما هي ميادين اهتمام هذا الحقل المعرفي؟ وما هي أدواته المعرفية والمنهجية؟

  • كيف تُبنى الصور الإيماغولوجية داخل النصوص الروائية؟ وما هي آليات اشتغالها؟

  • ما ملامح « الأنا » و« الآخر » في الروايتين قيد الدراسة؟ وكيف تختلف التمثلات بينهما؟

  • ما أنواع الفضاءات السردية التي وظفها الكاتبان؟ وما دلالاتها الرمزية والثقافية؟

وتستند الدراسة إلى مجموعة من الفرضيات التي ستُختبر من خلال تحليل النصين الروائيين، وأهم هذه الفرضيات :

  • أن الإيماغولوجيا تُعد أحد الاتجاهات البحثية الحديثة في النقد المقارن، وتهدف إلى تحليل تمثلات الشعوب والثقافات ضمن الخطابات الأدبية.

  • أن هذا الحقل يهتم بإبراز كيفية تصوير الجماعات والأفراد بناءً على علاقاتهم بالغير، ضمن نسقٍ ثقافي وإيديولوجي معيّن.

  • أن الإيماغولوجيا لا تعتمد على الواقع المحض، بل تمزج بين ما هو واقعي وما هو متخيل، وتستند في بنائها للصور على آليات المجاز والاستعارة والتخييل، مع حضور متفاوت للحقيقة والابتكار.

  • أن كل رواية تقدم صورة معينة للآخر تختلف بحسب خلفية مؤلفها وسياق إنتاجها الثقافي والاجتماعي، مما يعكس تنوع التمثلات واختلاف زوايا النظر دون أن يعني بالضرورة الوقوع في النمطية أو التحيّز.

ولأجل اختبار هذه الفرضيات ومناقشتها تحليليًا، تتخذ هذه الدراسة من روايتين نموذجًا تطبيقيًا، هما : رواية « نيويورك، هل تحترق؟ » التي كتبها كل من « دومينيك لابيار » و« لاري كولينز »، ورواية « تحت سماء كوبنهاغن » للكاتبة العراقية المغتربة « حوراء النداوي ». إذ تقدّم الروايتان، عبر حبكتيهما وشخصياتهما وأحداثهما، تمثيلات متعددة الأبعاد عن الشرق والغرب، بما يسمح برصد صور « الآخر » في كلا الاتجاهين، من منظورين مختلفين ثقافيًا وجغرافيًا.

وقد جاء بناء المقال وفق منهج متدرج، يبدأ بمقدمة تُعرض فيها الإشكالات النظرية والفرضيات المنهجية، ثم يتناول المفهوم الأساسي للإيماغولوجيا بالتحليل والتأصيل، مع التعريف بأبرز أدواتها وآلياتها النقدية. تلي ذلك دراسة تمثلات الشرق والغرب في الروايتين المختارتين، من خلال تحليل ملامح الشخصيات المنتمية إلى كل ثقافة، وإبراز الفوارق النفسية والأنثروبولوجية بين الطرفين، إلى جانب تحليل الفضاءات السردية المستحضَرة في كل رواية، ورمزية توظيفها، انطلاقًا من رؤية الناقد الفرنسي « دانيال هنري باجو » (D.H. Pageaux)، الذي يُعد من أهم منظري هذا المجال في النقد المعاصر.

1. الإيماغولوجيا والصورة النمطية

1.1 الإيماغولوجيا

تُعد الإيماغولوجيا، أو ما يُعرف بـ« علم الصورة المقارنية »، من الاتجاهات الحديثة والفاعلة في حقل الدراسات المقارنية والأدب المقارن. وقد نشأت هذه المقاربة النقدية في سياق تطور الفكر الإنساني وازدياد الوعي بأهمية « الآخر » في تشكيل التصورات الثقافية والاجتماعية، حيث بدأت ملامح هذا الاهتمام تتبلور منذ القرن التاسع عشر، مع بروز التوجّه المقارِن في العلوم الإنسانية. غير أن حضورها المؤسَّس في الحقل الأدبي لم يظهر بوضوح إلا في النصف الثاني من ذلك القرن، خاصة ضمن أعمال المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن، التي كانت من أولى المدارس المهتمة بتحليل « صورة الأجنبي » كما تتجلى في الخطابات الأدبية.

ويُعتبر « جان ماري كاريه » (J.M. Carré) من أوائل النقاد الذين أسسوا لهذا التوجه، قبل أن يتوسع الطرح بشكل أكثر تنظيماً على يد « ماريو-فرانسوا غويار » (M.F. Guyard)، الذي خصص فصلاً كاملاً لهذا الموضوع في كتابه الأدب المقارن (1951)، تحت عنوان : « الأجنبي كما نراه » (L’Étranger tel qu’on le voit). وقد شكّل هذا العمل لحظة فارقة في تأصيل مفهوم الصورة المقارنية، وفتح المجال أمام دراسات عديدة لاحقة، ازدادت وتيرتها خاصة مع تصاعد التبادل الثقافي والاحتكاك الحضاري بين دول الشمال والجنوب، والشرق والغرب، في العقود الأخيرة.

في هذا السياق، يقدّم الناقد الفرنسي « دانيال هنري باجو » (D.H. Pageaux) تعريفاً مركزيًا للصورة المقارنية، يقوم على مبدأ أساسي مفاده أن كل صورة تنبع من إدراك الذات (الأنا) لنفسها عبر مقارنتها بغيرها (الآخر)، أو ما يُترجم بمقابلة بين « هنا » و« هناك ». فالصورة، من هذا المنظور، ليست مجرد تمثيل محايد، بل هي انزياح دلالي يعكس اختلافًا بين نظامين ثقافيين، أحدهما يُنتِج الصورة والآخر يُشكّل موضوعها. وهي عملية مشحونة بالأبعاد الفكرية والرمزية، إذ يقول باجو في هذا الصدد : « كل صورة تنبثق عن إحساس، مهما كان ضئيلاً، بالأنا بالمقارنة مع الآخر، وبهنا بالمقارنة مع هناك، فهي إذًا تعبير عن انزياح دالّ بين منظومتين ثقافيتين » (Pageaux، 2001، ص. 56).

ووفقًا لهذا التصور، فإن الأنا لا تُدرك ذاتها إلا عبر انعكاس الآخر، الذي قد يكون غائبًا جسديًا، لكنه حاضر بقوة في الوعي الثقافي والخيال الاجتماعي. وغياب الآخر لا يمنع من تشكيل صورة عنه، بل قد يُفضي إلى بناء صور مشوَّهة أو مبتكرة أو انتقائية، تمزج بين القبول والرفض، أو بين التمجيد والتحقير، وهو ما يُعرف بـ« الانزياح التخيلي ». ويختلف تفسير هذا الانزياح حسب الحقول المعرفية : ففي علم الاجتماع، قد يُقرأ كاختلاف طبقي أو جهوي؛ بينما يُنظر إليه في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) كتناقض بين مجتمعات متمدنة وأخرى توصف بـ« البدائية »، أو بين ثقافات مكتوبة وأخرى شفهية، بين شمال مُهيمن وجنوب خاضع، أو بين مستعمِر ومستعمَر (Pageaux، 2001، ص. 60).

وتبعًا لذلك، فإن الصورة المقارنية لا تمثّل الواقع بقدر ما تعكس نظرة المجتمع المُنتِج لها، بكل ما يحمله من خلفيات تاريخية، وانحيازات أيديولوجية، وسياقات ثقافية. إنها صورة مركبة، قد تبدو واقعية أحيانًا، وقد تكون خيالية أو مشحونة بأوهام جماعية، لأنها تُبنى على ما تختزنه الذاكرة الجماعية من تصورات مسبقة. وكما يشير عبد المجيد حنون، فصورة شعب عن شعب آخر « قد تكون واقعية إلى حد ما، أو بعيدة عن الواقع، وقد تكون خيالية أو مناقضة له » (حنون، 1986، ص. 78). هذه الصور تستند إلى نماذج ذهنية جاهزة، تتكرّس داخل الخطابات الثقافية وتُعاد إنتاجها ضمن علاقات رمزية وتاريخية معيّنة.

من هنا، تظهر العلاقة بين الهوية والغيرية كعلاقة جدلية تُنتج مجموعة من التمثلات التي لا تخلو من تداخل الأحكام المعيارية والمواقف الانفعالية. فالثقافة الناظرة تحمل معها مخزونًا من الصور النمطية حول الآخر، سواء كان هذا الآخر مغايرًا تمامًا أو شريكًا في التاريخ والمجال الحضاري. وهذا ما يؤكده الباحث نادر كاظم بقوله : « الأفكار والاعتقادات، أو ما نسميه بالمتخيّلات، تكون مختزنة في الذاكرة الجماعية، لكنها تؤثر بصورة واضحة في الأفراد والمجتمعات » (كاظم، 2006، ص. 38).

والمخيال الاجتماعي، حسب تعريف مورى (Moura)، هو : « مجموع التمثلات الجماعية الخاصة بمجتمع ما » (Moura، 1992، ص. 167)، وهو يشكّل الإطار الذي تُنتج داخله هذه الصور، ويحدد المواقف الثقافية والاجتماعية تجاه الآخر. كما أن هذه التمثلات ليست مجرد انعكاسات، بل هي أدوات رمزية تُستخدم في بناء الهوية الذاتية، وإقامة الفروق بين الذات والغير، تبعًا للسياقات السياسية والتاريخية التي تربط بين الطرفين.

في ضوء ذلك، فإن الإيماغولوجيا تكشف عن شبكة معقدة من الصور المتبادلة بين الشعوب، لا تخلو من التوتر والتقاطع، لكنها تُعدّ مدخلًا مهمًا لفهم الكيفية التي تُبنى بها التصورات الثقافية، وتُوظّف في إعادة إنتاج الهوية، ضمن علاقة مزدوجة بين الذات والآخر، بين المركز والهامش، بين الهيمنة والمقاومة، أو حتى بين التكامل والصراع.

2.1 الصورة النمطية

تعتمد الشعوب، في الغالب، في نظرتها إلى غيرها من الجماعات والمجتمعات على صور ذهنية سابقة التكوين، تشكّلت عبر تجارب مباشرة أو غير مباشرة، فردية أو جماعية، قد تستند إلى وقائع دقيقة أو تنبني على معطيات مغلوطة أو مجتزأة. لكن، وبغضّ النظر عن مدى مطابقة هذه الصور للواقع، فإنها تكتسب، في أذهان من يحملونها، صفة « الواقع المعاش » الذي يُبنى عليه الفهم ويُؤسس عليه الحكم، مما يمنحها سلطة معنوية على نظرة الذات إلى الآخر.

ومع مرور الوقت وتكرار هذه الصور في الخطابات المتداولة، تتبلور ما يُعرف بـ« الصور النمطية » (Stéréotypes)، وهي تمثيلات ذهنية متكررة، تتسم بالثبات والجمود، وتُركّز على بعد واحد من بين أبعاد متعددة، ليُعاد استحضاره في كل مرة وكأنه يمثل الكل. وهي بهذا المعنى، كما يعرّفها الناقد « جان مارك مورا » (J.M. Moura)، عبارة عن « أفكار جاهزة مُشكّلة سلفًا، قائمة على معتقدات مبالغ فيها تُنسب إلى جماعة معينة » (Moura، 1992، ص. 195). أي أنها ليست صورة حقيقية للواقع، بل هي مجرد تمثيل ثقافي يتشكّل داخل المجتمع المُنتِج للصورة، بناءً على أنماط ذهنية وتصورات ثقافية مسبقة، يتم إسقاطها على الآخر في صيغة رمزية تصبح دالة عليه، بل أحيانًا تحلّ محل هويته الحقيقية.

وتنبني هذه الصور النمطية على مصادر متعددة ومتنوعة، قد تكون منبثقة عن الكتابات الاستشراقية التي لعبت، في سياقات معينة، دورًا كبيرًا في تشكيل صورة « الشرق » في المخيال الغربي، من خلال تقديمه كفضاء ساكن، عجائبي، أو حتى متخلف، بما يخدم الأجندات الاستعمارية آنذاك. فالعديد من المستشرقين أسهموا في تكريس تمثيلات مشوهة ومختزلة للشرق، سواء عبر التعميمات الثقافية، أو من خلال تشويه المفاهيم الدينية والاجتماعية المرتبطة به، لتبرير الهيمنة الغربية. كما أسهمت كتابات الرحالة والسياح، بدرجات متفاوتة، في رسم ملامح إضافية للصورة النمطية، وهي ملامح كثيرًا ما اعتمدت على الانطباع الشخصي والتجربة الذاتية، بعيدًا عن الموضوعية أو الفهم العميق.

ولا يتوقف الأمر عند الكتابات التقليدية، بل إن وسائل الإعلام المعاصرة بمختلف أنواعها – من أخبار وأفلام ومسلسلات وحتى الرسوم المتحركة – باتت من أهم الوسائط التي تسهم في نشر الصور النمطية، من خلال تكرار مشاهد أو سرديات تكرّس صورة محددة عن جماعة معينة. وفي حالة العرب والمسلمين، تظهر صور نمطية متكررة في الإعلام الغربي، ترتبط غالبًا بالعنف أو التخلف أو الانغلاق، وهي صور تُقدَّم أحيانًا من خلال تعميم تجربة فردية على الجماعة ككل، أو عبر استنساخ نماذج محددة كأنها تمثل الجميع، وهو ما يعود في جذوره إلى صورة ورثها الأميركيون عن العرب والمسلمين من التأثيرات الأوروبية في فترات الاستعمار وما بعدها.

غير أن هذه الظاهرة ليست حكرًا على الغرب، إذ إن الشعوب الشرقية بدورها قد تنتج صورًا نمطية عن الغرب أو الآخر المختلف عنها، مدفوعة بذات الدوافع الثقافية أو الانفعالية، ومرتبطة أيضًا بسياقات سياسية وتاريخية معقدة. وهنا تبرز أهمية الإيماغولوجيا في تفكيك هذه الصور والتمثلات الثنائية، وفهم منشأها ووظيفتها الثقافية.

تتسم الصورة النمطية بعدة خصائص تميزها وتجعلها مختلفة عن التمثيل الواقعي :

  • الثبات والجمود : فهي تتكرر بنفس الصيغة دون اعتبار لتغير الواقع أو تعدد تجلياته؛

  • التبسيط المفرط : حيث تُختزل التعقيدات في رموز مبسطة، مما يسهل تداولها وتثبيتها في الوعي؛

  • التعميم : وهو أخطر الخصائص، حيث يتم إسقاط سلوك أو صفة فردية على جماعة كاملة؛

  • الانفصال عن الواقع : فغالبًا ما تكون هذه الصور مناقضة لما عليه الواقع الفعلي، وتعجز عن التعبير عن تنوّع الجماعة المستهدفة.

هذه الخصائص تجعل من الصورة النمطية أداة ثقافية فعّالة في تشكيل نظرة المجتمعات إلى بعضها البعض، وتحديد أطر الفهم والتفاعل بينها. ولهذا فإن لهذه الصور دورًا محوريًا في التأثير على الإدراك الجماعي، خاصة لدى الأفراد الذين لا تربطهم معرفة مباشرة أو حقيقية بالجماعة الأخرى.

وفي هذا السياق، يقترح « دانيال هنري باجو » (D.H. Pageaux) تصنيفًا ثلاثيًا دقيقًا للصور النمطية، بناءً على طبيعة العلاقة بين الذات والآخر، وهي :

  • الهوس (La manie) : وهي حالة يفضّل فيها الكاتب الآخر الأجنبي على ذاته الثقافية، حيث يُبدي نوعًا من الانبهار والانجذاب، غالبًا ما يقابله ازدراء ضمني أو مباشر للذات. ويكون الآخر، في هذه الحالة، نموذجًا مثاليًا يتمنى الكاتب محاكاته أو الانتماء إليه.

  • الرهاب (La phobie) : وهي النقيض التام للهوس، إذ تُبنى العلاقة على الخوف والكراهية والرفض. ويعمل النص في هذه الحالة على تشويه صورة الآخر، وإبرازه كخطر داهم، مقابل تمجيد الذات وتطهيرها من كل عيب.

  • التآلف (La philie) : وتمثل الحالة المتوازنة والأكثر إيجابية، حيث يُنظر إلى الآخر نظرة قبول واحترام، ويُعد بمثابة مكمل للذات، وليس خصمًا لها. وهذه الحالة تُعبّر عن وعي حضاري يسعى إلى فهم متبادل يقوم على الحوار والانفتاح.

ويُظهر هذا التصنيف مدى التنوع في تمثيل الآخر داخل الخطابات الثقافية، كما يعكس الخلفيات النفسية والاجتماعية والفكرية التي تحكم علاقة الشعوب ببعضها. ومن هنا، لا ينبغي النظر إلى الصور النمطية بوصفها مجرد أدوات تواصل سلبية، بل كمؤشرات ثقافية تعبّر عن التوتر أو الانسجام، العداء أو القبول، الانغلاق أو الانفتاح، مما يجعل تفكيكها وتحليلها ضرورة ملحة في فهم العلاقات الثقافية بين الشعوب.

2. إيماغولوجية الشرق والغرب في روايتي (نيويورك هل تحترق؟) و(تحت سماء كوبنهاغن)

الحديث عن إيماغولوجية الشرق والغرب في الروايتين محل الدراسة، يقودنا إلى تتبع ملامح « الأنا » و« الآخر » كما تتبدى من خلال الشخصيات والسلوكيات، وكذلك عبر الفضاءات المكانية التي تتحرك ضمنها هذه الشخصيات. فالصور السردية لا تتشكل بمعزل عن السياقات الثقافية والحضارية التي تُنتجها، بل تعكس أنماطًا من التفاعل أو التنافر، وتشكل شبكة من التصورات المبنية على الوعي بالذات والغير.

1.2. إيماغولوجيا الشخصيات

تنطلق هذه القراءة من اعتبار الشخصية الروائية وحدة بنائية وثقافية في آنٍ معًا، حيث تُعرف بأنها « مركب إنساني اجتماعي » يتداخل فيه العضوي والنفسي مع البيئي والثقافي (صالح، 2003، ص. 100). انطلاقًا من هذا التعريف، يمكن تحليل تمثلات الشخصيات في روايتي « نيويورك هل تحترق؟ » و« تحت سماء كوبنهاغن » بوصفها مرآة لتمثلات الشرق والغرب في الخطاب السردي.

في رواية « نيويورك هل تحترق؟ » نجد أن الشخصيات ذات الخلفية العربية – مثل عمر، خالد، أسامة، صدام، ناهد، ع.م، والشبان الفلسطينيين الثلاثة – تظهر غالبًا في صورة نمطية سلبية. تقدم هذه الشخصيات بوصفها رموزًا للغموض، والعنف، والتخلف، والرفض الثقافي. وهو تمثيل لا يخلو من الأحكام المسبقة التي طالما ارتبطت بصورة العربي والمسلم في المتخيل الغربي.

شخصية « عمر » – الشاب الفلسطيني – تقدم كنقيض تام لشخصية عمر بن الخطاب التاريخية، في توظيف ساخر للاسم. فهو شاب ملتحٍ، بملامح قاسية، كئيبة، وجسد منقوص (ذو يد مبتورة)، ولون بشرة قاتم. وهي ملامح تعمل على تكريس الاختلاف البيولوجي والرمزي.

« خالد »، من جهته، يُصور كمندفع، قلق، متهور، ويبلغ به الأمر أن يقتل « عمر » خنقًا في مشهد يصوره المؤلفان بطريقة بشعة. وفي حين تُستخدم أسماء مثل « خالد » و« عمر » – التي تحيل إلى بطولات إسلامية – فإنها تُقلب وظيفيًا لتشويه المعاني الأصلية المرتبطة بها.

أما شخصية « ناهد »، فتُجسد نموذجًا للمرأة العربية التي تبدو خالية من أي تعقيد إنساني، ومفعمة بالحقد والغموض. بل ويُوصف شكلها الخارجي بأنف معقوف وبشرة قاتمة وعيون سوداء، في مقابل شخصية « أوليفيا » الأمريكية التي توصف بجمالها ورقتها، مما يعزز الثنائية الجمالية السلبية/الإيجابية.

وعلاوة على الشخصيات المعلومة الهوية، نجد أخرى مثل « ع.م » التي تُحرم حتى من الاسم الكامل، مما يسلبها خصوصية الهوية، ويُدخلها في حقل الغموض والتعميم. كما نجد ثلاثة شبان فلسطينيين غير مسميين، أحدهم يوصف بأنه مصاب ببثور الجدري، في صورة تهدف إلى ربط العربي بالمرض والعدوى.

في مقابل هذا الخطاب، تقف رواية « تحت سماء كوبنهاغن » بمقاربة أكثر عمقًا وإنسانية. الشخصية المحورية « هدى » تقدم كامرأة شابة تعاني من أزمة هوية في مجتمع دنماركي، حيث تبدأ تدريجيًا في إدراك اختلافها الثقافي والبيولوجي. تقول : « شكلي كان بحد ذاته ثورة على الاندماج » (النجاوي، 2010، ص. 22).

تتجلى الأزمة في اختلاف المظهر، واللغة، والموقف من الآخر. يُظهر الحوار مع الطفل الدنماركي الذي يقول لها : « أنت بشعر أسود، إذن أنت سوداء »، عمق التنميط الذي يُغرس منذ الطفولة. ويبرز موقف الأم – التي تستعيد انتماءها الشرقي عبر الحجاب والملبس – كمؤشر على تأكيد الهوية الثقافية.

شخصية « محمد » تمثل نقطة التحول التي تعيد لهدى توازنها، من خلال حديثه بالعربية، مما يوقظ في نفسها شعورًا بالانتماء : « بلغة عربية ذات نكهة عراقية متميزة... كأنه يعلن عني » (النجاوي، 2010، ص. 223).

الرواية بذلك تقترح أن اللغة عنصر جوهري في تشكيل الهوية، وتحاول أن تقاوم الذوبان في الآخر عبر التمسك بالتقاليد واللغة الأم.

الروايتان، كل على طريقته، تشتغلان على صورة الآخر. غير أن « نيويورك هل تحترق؟ » تُعيد إنتاج الصور النمطية للعربي ككائن غير عقلاني، عنيف، ومهدد، في حين تقدم « تحت سماء كوبنهاغن » صراع الانتماء كقضية إنسانية تُحل بالتفهم والانفتاح.

وفي الحالتين، تظهر الشخصية كموقع إيماغولوجي مركزي، تُبنى عليه التمثلات الثقافية، ويُعاد من خلاله تشكيل العلاقة المعقدة بين الشرق والغرب، بين الذات والآخر.

2.2 إيماغولوجيا الفضاء 

الفضاء عنصر وآلية هامة من آليات اشتغال الإيماغولوجيا، حيث « يجب الانتباه إلى كل ما يجعل الفضاء الخارجي مماثلا للفضاء الداخلي لأنا الراوي، خاصة حين يستطيع الفضاء الأجنبي أن يعيد إنتاج مشهد عقلي، أو يعطيه دلالة تساعد على نسج علاقات بين الفضاء الجغرافي والفضاء النفسي على المستوى المجازي على الأقل » (بنربيعي، 2017/2018، صفحة 41)، ليكون بذلك انعكاسا لموقف أو تجسيدا لسيناريو مسبق تتلخص من حلاله صورة الذات أو الآخر. وهنا سنقف عند فضائين متمايزين تشكلا من خلال الروايتين وهما فضاءا الشرق والغرب، واللذان يمكننا استخلاص ملامحهما انطلاقا من الأنماط التالية : 

1.2.2 شرق العنف والتطرف 

يحضر الشرق من خلال الشخصيات الروائية التي تجسده من خلال سردها لمعالمه، أو من خلال سلوكاتها التي تنسب إليه، فالشرق عند « كولينز » و« لابيار » هو شرق العنف والهمجية والتطرف؛ بل إنه الشرق الذي ينقل العنف إلى الغرب المسالم.

ومن الشخصيات التي جسدت هذا الطرح شخصية « أسامة بن لادن »، وهي شخصية مجهولة الهوية والانتماء، حتى لم يحدد سنها الدقيق، وقد أشير إليها على أنها شيخ ذو « وجهٍ نحيلٍ ضامر ينِّم عن تعبٍ مفرط، كان يستند على عصوين، وذراعه الأيسر كان يؤلمه بشكل ظاهر » (كولينز، 2004، صفحة 21)، تؤكد هذه الملامح، التي رسم بها المؤلفان شخصية « أسامة »، استنادهما على ملامح شخصية « أسامة بن لادن » مؤسس وزعيم (تنظيم القاعدة)، الحضرمي الأصل، الذي عرف بعدائه الشديد للاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة الأمريكية، واليهود والصليبيين المعادين للإسلام. (كول، 2014، صفحة 66). وهو في الرواية القائد الذي يمثل الرمز الأسمى للإسلام؛ فهو لم يكتف فقط بمعاداة الأمريكان والحضارة الغربية، بل انتقل إلى به الأمر إلى التخطيط للتفجير وقتل الأبرياء في نيويورك، فهذه النزعة – أي القتل في اعتقاد الأديبان- مسنقاة من العقيدة نفسها؛ لأن الإسلام -حسب ما وصفه منظروهم- هو الدين الوحيد « المُحرِض على العنف و سفك الدماء » (قدوري، 2003، صفحة 101)، أي أنه مصدر للا أمن؛ لأنه ينتج الإرهاب والرعب وهو بمثابة الخطر على كل الشعوب، خاصة الشعوب الغربية، ولذا لا يمكن التعايش معه ومع المنتمين إليه. وأنه من الواجب إخافتهم وتهديدهم وقتلهم، هذا ما ورد على لسان « بن لادن »، الذي أكد لـ « ع.م » أنّ « قتل اليهود والأمريكان، حيث وجدو في العالم هو أحد أقدس أهداف المسلمين؛ لأنه يحضى برضى الله ومباركته » (كولينز، 2004، صفحة 24)، لأنهم كفار في نظر المسلمين، ولأن الأمريكيين هم من ساعدوا اليهود على احتلال القدس، كما أنهم دعموهم وأيدوهم على كل جرائم التي قاموا بها في القدس، من أجل ذلك وللثأر منهم صار قتلهم هو الهدف الأسمى للعرب والمسلمين.

ويزد الأديبان من تجميع صفات الدموية والهمجية من خلال شخصية « صدام حسين » : هي شخصية عراقية، تقل الإشارات السردية الدالة على ما يحدد ملامحها الجسدية، أما عن مظهرها وهيئتها الخارجية، فقد أحال المؤلفان إلى صورة « صدام » وهيئته المرجعية حيث أشارا إلى وظيفته المتمثلة في كونه رئيس ودكتاتور العراق، من خلال قولهما « لقد أصبح مظهره ببزته الخضراء الزيتونية مألوفا لدى مشاهدي التلفاز في العالم أجمع » (كولينز، 2004، صفحة 11).

وهو الآخر يُكِنُّ كل الحقد والكره للأنا (إسرائيل وأمريكا)، هذا ما أفصحه لنا عنه حواره مع « ع.م »، حين قال له صراحة : « إني لا أتنازل لأحد عن حق كراهية أمريكا أكثر مني » (كولينز، 2004، صفحة 14)، تظهر هذه العبارة « صدام » الشخصية الشريرة التي لا حدود لمشاعر القسوة فيها، وإذا ما حاولنا البحث عن حقيقة هذه الصورة، وجدناها تعكس نظرة الغرب إلى شخصية « صدام حسين » المرجعية.

كما يُقدم لنا المؤلفان، صورة للعربي العنيف الهمجي تتجسد هذه الأوصاف مجتمعة في شخصية « خالد »، الذي رسمت له الرواية صورة غاية في القتامة، أثناء شجاره مع « عمر »، الذي قرر التراجع عن فكرة تفجير القنبلة وحاول منع « خالد » من إتمام هذه المهمة، في تلك الأثناء « ارتفعت يده كالفأس وسقطت على خدّ عمر الذي ترنح تحت الضربة وسقط على الأرض بين السريرين. ارتمى خالد عليه وأمسكه بحلقومه. جحظت عينا عمر وفغر فمه ليستنشق الهواء.... ظلَّ خالد يضغط لعدة ثوان ثم تراخت يده، انقلب رأس عمر إلى الوراء وأسلم الروح » (كولينز، 2004، صفحة 248،247)، بهذه الطريقة الوحشية يُصوِّر لنا المؤلفان كيفية قتل « خالد » (العربي)، لصديقه « عمر » خنقا، فبكل جرأة وإصرار، راح ينهال عليه ضربا، ثم غرز أصابعه في بلعومه حتى الموت دون رحمة ولا شفقة.

في حين ترسم للغرب صورة مغايرة فهم خلاف ذلك، لا يقتلون حتى عدوهم، لأنهم حتى أثناء عثورهم على « خالد » حيا لم يرغبوا بقتله، وإنما انتظروا أن يمتثل أمامهم ويسلم نفسه، غير أنه لم يفعل ذلك ومد يده نحو الصاعق ليفجر القنبلة، فأسقطوه بأربع رصاصات. فالروائيان حرصا على إظهار قسوة ووحشية وعنف (الآخر) في مقابل رفق (الأنا) حتى أثناء قتل الأعداء الذين يحاولون إيذاءها، هي مقابلة حاولا أن يُظهرا فيها تمدن (الأنا) في مقابل همجية (الآخر).

لقد حاول المؤلفان من خلال السلوكات - الانفعال والطيش واللاعقلانية- التي ألبساها لـشخصية « خالد » أن يُعطيا صورة مظللة عن الشباب العربي الفلسطيني، وكذا وصف العمل الفدائي الذي يقومون به، بأنه عمل إرهابي لاإنساني. إن هذه الصورة السلبية المشكَّلة عن العربي، مثلما جسدتها شخصيتا « أسامة » و« صدام » ليست بالجديدة أو وليدة الظروف المعاصرة؛ إنما هي نظرة لها جذورها الضاربة في القدم، حيث نجد « أن العرب كانوا ينعتون بالأعداء، وأنهم بمثابة البلاء على العالم الغربي » (الحيدري، 1966، صفحة 14)، وما من شكٍ أنّ هذه الرؤية وليدة عدة ظروف تاريخية وسياسية وثقافية تركت أثرها على النظرة المعاصرة للغرب تجاه الشرق.

كما ظهرت مع بداية القرن العشرين صور جديدة للشرقي منها الإرهابي، المجرم، القاتل، المتعصب، القاذف للحجارة والانتحاري، والمتطرف هذا ما ينطبق على شخصية الفلسطيني « ع.م » الذي جاء التعريف به في النص على النحو الآتي : إنه « القائد الإرهابي الذي تبحث عنه وكالة الاستخبارات المركزية بكل قواها... كان لا يفتأ يجوب العالم عاقدا اللقاءات ناسجا شبكات الإرهاب » (كولينز، 2004، صفحة 12،11)، يسلط هذا الخطاب الضوء على الشخصية العربية بوصفها دموية، انتحارية، همها الوحيد في الحياة إفزاع وإيذاء الشعوب المسالمة، وخلق حالة لا أمن في العالم، والصورة ذاتها نجدها تتكرر مع شخصية « عمر » و« خالد » و« ناهد »، الذين كَثُرَ نعتهم بـ « الإرهابيين المتطرفين »،مما بَرَرَ ظهورهم ككابوس مزعج يهدد أمن المجتمع الأمريكي، ويزيد المؤلفان من تشويه صورة الإسلام من خلال اعتبار كلا من الإرهابين الثلاثة فدائيين، وسيصبحون شهداء إذا ما قاموا بتفجير (نيويوك)، وما هذه التصورات سوى « أحكام مسبقة وخلفيات قديمة ساهم اليهود وبعض المستشرقين في تغذيتها لأسباب تاريخية وسياسية وثقافية » (العليان، صفحة 67)، لأن الخوف من العرب وكراهيتهم يعتبر جزءا من الثقافة الغربية منذ الحملات الصليبية، كما أن هذه الصورة النمطية التي رسم بها المؤلفان المسلم والإسلام معا، تدخل ضمن الحرب الدعائية التي شنها الغرب ضد الإسلام عقب أحداث 11 سبتمبر؛ لأن صورته اهتزت بشكل خطير جدا بعدها، الأمر الذي جعل الغرب المعاصر ينظر إليه على أساس أنه مصدر للعنف والإرهاب، مما ولّد حالة من الذعر والخوف الشديدين منه.

لقد حاول المؤلفان، من خلال هذه السلوكات، التي أظهراَ العربي متصفا بها، أن يُؤَكِدا رهابهما منه، انطلاقا من تلك الصورة النمطية، التي استوطنت في المخيلة الغربية عن العربي منذ قرون ماضية، والتي تمثلت في غموضه وغرابة أفعاله، وقسوته وحقده ودمويته وتطرفه.

2.2.2. شرق اللااستقرار 

ما يلاحظ على الفضاء الشرقي الذي تنسب إليه الشخصيات في رواية (نيويورك هل تحترق؟) هو انتماؤها الفلسطيني، وهو البلد ذاته الذي ينتمي إليه كل من « ع.م »، « عمر »، « خالد »، و« ناهد »، هذا الانتماء الذي كثيرا ما نراه ضائعا في ظل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، خصوصا بعد أن أكد الروائيان على عدم عيشهم واستقرارهم في بلدهم فلسطين، بحيث نجد بعضهم قد عاش لاجئا في لبنان والبعض الآخر قد سافر هربا إلى كندا... والأمر نفسه بالنسبة لفضاء رواية (تحت سماء كوبنهاغن) حيث استقرت عائلتا « هدى » و« فاطمة » و« محمد » بكولنهاغن بعدما اظطرتهما الظروف إلى الهجرة بحثا عن الأمان والاستقرار لسوء الظروف الأمنية ببلدهما العراق.

إن فضاء الأنا في فترة السبعينات والثمانينات يمثل للروائية العراقية فضاء الخوف والقتل والإعدام، وهذا ما كانت تتوجسه « أم ندى »، خوفا على أبنائها من الحكم الصدامي الذي يعارضونه، فراحة البال لم تكن من نصيب العراقيين الأصيلين. (النجاوي، 2010، صفحة 49،48) حيث كان نصيب الشباب دائما القتل، مثلما حل بالابن الأكبر لأسرة « هدى » تقول الفتاة في ذلك : « .. كان إعدامه بمثابة أعوام ثقيلة ألقيت على كاهلي فجأة، مثل موته المباغت. هذا الذي يصغرني، نضج وأصبح رجلا خطيرا بما يكفي لكي يعدم ! !... كأثر لذلك كان لا بد للعراق أن يضيق.. فقذف بي إلى شمال أوروبا » (النجاوي، 2010، صفحة 49).

كما تستحصر كلام والدتها عن ملاحقة الشرطة للفتيات المتبرجات ببغداد حيث تقول : « إنهم يلاحقون الفنسات اللولتي يرتدين (الميني جيب) ليصبغوا صيقانهن » (النجاوي، 2010، صفحة 59).

إن ما ركزت عليه الروائية العراقية « النداوي » –على عكس الروائيين الأوروأمريكيين- هو ذاك الصراع الذي عاشته البطلة « هدى »، وهو صراع هوياتي عميق بين ما تشعر به من غربة عن وطن تسبب في رميها إلى بلد تسبب في تكريس شعور اغترابها بأرضها، تقول : « الشيء الوجيد الذي وعاه عقلي... هو أني أُرفض للمرة الثانية في حياتي.. رفضني كل من اعتقدت بانني أنتمي إليه. فأن كنت أنتمي إلى الدنمارك فلقد رفضني مسبقا، وإذا كان انتمائي إلى العراق فها هو الآخر يلفظني بقسوة أكبر، كلاهما لا يحبذني... »، فالانتماء إلى وطن يعني الحرية، يعني الامتلاك، يعني القرار والاستقرار، تقول مناجية في خلوات دوامتها التائهة : « ... ليتني كنت في وطن أملكه، أفرض فيه شروطي وأقصي كل من يتهمني بالاختلاف. أكون أنا السيدة فيه.. فهذا وطني، وأنا أقرر.. أنا اتحكم... أنا التي عشت جل حياتي أشتهي وطنا دافئا، وأبتغي عمرا جديدا أعيش فيه ذلك الوطن... ذلك الوطن المغبر بالحروب لا يعرفني، ولا أنا اعرفه.. وهذا الناعم المرفه لا يقبلني ولا يكاد يتعرف إلي، رغم أنني على مر سنين حياتي لم أعرف له بدلا » (النجاوي، 2010، صفحة 99،98).

3.2.2 غرب التطور والتفوق 

أما عن صورة الفضاء الغربي (فضاء الآخر) في رواية (تحت سماء كوبنهاغن) فهو يمثل الأمان والهدوء والنظافة، تصف « هدى » الدنيمارميين قائلة : « ... (هم) أصحاب شبه الجزيرة الصغيرة هذه.. أصحاب الأرض المنبسطة والشوارع النظيفة شبه الخالية من البشر.. سكان العاصمة الصغيرة التي يعد تيه المرء فيها نكتة، واستقامته مبعث سخرية، وغربته عن نفسه أمر إجباري » (النجاوي، 2010، صفحة 52).

وفي حين أن فضاء الآخر (الشرق) عند « لابيار »، قابع في غياهب البدائية والتخلف، حيث يظهر فيه الشرقي في هيئة من يَجُوبُ الصحاري الخالية، ويسلك الطرق الوعرة، ممتطيا صهوة الجِمال أحيانا والبغال أحيانا أخرى، تتجسد لنا هذه الصورة في شخصية « ع.م »، الذي التحق بإحدى القوافل « فساعده أحد الجمالة في ركوب مطيته، ثم ضرب زعيم القافلة الجمل بالعصا على عنقه. ثم أقلعت مراكب الصحراء وراحت تسير متمايلة تمايلا تقليدا طاعنا في القدم » (النجاوي، 2010، صفحة 42)، فنظرا لتواجد الحوامات والأقمار التجسسية الأمريكية في كل مكان، لجأ « ع.م »إلى اجتياز الصحراء وامتطاء الجمل؛ كي لا يُكتَشف أمره، أثناء عبوره إلى لبنان؛ للالتقاء بـ« عمر »، و« خالد » و« ناهد ». في مقابل هذه الطريقة التي انتقل بها الآخر اشرقي، إلى لبنان ونقل بها القنبلة إلى قلب مدينة نيويورك، يقدم لنا المؤلفان صورة مغايرة تماما لوسائل تنقل الأنا الغربية، ممثلة في كيفية انتقال « كوندوليزا رايس » إلى (مدينة كراتشي بباكستان) للالتقاء بالفزيائي النووي « أحمد عبد الشريف »، حيث سافرت « على متن... الأعجوبة التكنولوجية الفخمة التي هي القوة الجوية الأولى. الطائرة الزرقاء والبيضاء الخاصة برؤساء الولايات المتحدة...تُدعَى « البيت الأبيض الطائر » » (كولينز، 2004، صفحة 167)، لقد تمكنت بواسطتها من الوصول إلى كراتشيفي ربع ساعة، لكونها من أفخم وأرقى الطائرات الأمريكية،أضف إلى ذلك هي من بين الطائرات الخاصة برؤساء الو.م.أ، إذ لا شك بأنّها من أسرعها وأحدثها صناعة أيضا.

مما سبق تقديمه يتضح لنا مدى التطور والتفوق التكنولوجي الذي يتميز به (الأنا) عند « لابيار »و« كولينز »، والذي يظهر من خلاله الأمريكي، في صورة المتفوق والمهيمن والمركزي... والصانع للحضارة، في مقابل الشرقي العربي المتخلف والبدائي والرجعي، الذي مازال -ونحن في القرن الواحد والعشرون- يستعمل وسائل بدائية مر عليها الدهر.

وهاته النزعة التي تذهب إلى تعظيم الذات الغربية، والانقاص من الآخر الشرقي، ليست بالظاهرة الجديدة أو هي من بنات أفكار المؤلفين، لأنها – في الأخير- ليست سوى تكريس لأنساق غذتها « المركزية الأمريكية »، منذ أن صارت أمريكا القطب الوحيد المهيمن في العالم. فجرى الاعتقاد الذي مفاده أن الفرد الأمريكي متفوق وراق يمتلك كل الفضائل في مقابل الآخر المتخلف.

ولكي تكتمل صورة الشرقي المتخلف غير المتمدن، ساق لنا المؤلفان عبارات تدلل على أن « أسامة » كان يتعالج في فرنسا وأمريكا من مرضه، نظرا للتطور العلمي والطبي الموجود هناك، يعني هذا أن الأطباء العرب لم يكتشفوا مرض « بن لادن »، وإنما تمَّ اكتشافه من قِبَل أطباء غربيين كفوئين.

ليظهر الغربي المنتصر والمتفوق دوما ؛ لأنه أحسن من العربي في كل شيء، والملاحظ هنا هو أن نظرة التفوق هذه، لا تنحصر فقط نجاح الشطرة الأمريكية في إيجاد القنبلة، بل نجدها بمثابة حكم مسبق من خلاله يظهر لنا الأوروبي والأمريكي « هو البطل و منتصر دوماً و أبدا على خصومه...مثقف، ذكي، سريع الفهم، ويمتلك مهارات عقلية وأسلحة فتاكة، لا يعرفها الآخرين، هي من منجزات الغرب وحده » (الحيدري، 1966، صفحة 62)، هذا ما جسدته كل شخصيات(الأنا)، التي تميزت بالذكاء والحرص والحذر أثناء البحث عن القنبلة و حتى عند تعطيلها، كانوا في منتهى الدقة والتنظيم.

خاتمة

بعد هذا المسار التحليلي الذي تناول فيه البحث حضور الشرق والغرب في روايتي نيويورك هل تحترق؟ وتحت سماء كوبنهاغن من منظور إيماغولوجي، تتضح أمامنا شبكة من الصور الثقافية التي تتجاوز حدود النصوص لتلامس البنى الذهنية والجغرافيا الرمزية التي تسكن الذاكرة الجماعية لكل من الذات والآخر. فقد كشف التتبع السردي لتجليات "الأنا" و"الآخر" في كلا العملين عن مدى تعقّد العلاقة بين الهوية والانتماء، بين الفضاء والتصور، وبين الحكي والتمثيل. وتبرز من خلال المقارنة بين النصين طبيعة التفاوت في التناول الإيماغولوجي: بين سردية تستند إلى منظومة استشراقية جاهزة، وأخرى تحاول تفكيك الاغتراب الذاتي وإعادة بناء الانتماء. انطلاقًا من هذه المعطيات، يمكن تسجيل أبرز الخلاصات التي انتهت إليها هذه الدراسة، وهي كالتالي:

  • في ختام هذه الدراسة، يمكننا استخلاص عدد من النتائج التي تلقي الضوء على كيفية تمثل صورتي الشرق والغرب في الروايتين المدروستين ضمن إطار الإيماغولوجيا، وهي كما يلي :

  • تمثل الإيماغولوجيا فرعًا معرفيًا حديثًا يهتم بدراسة الصور المتبادلة بين الشعوب من خلال إنتاجاتها الأدبية، وتكشف الروايتان عن مدى تأثير الخلفيات الثقافية والإيديولوجية في تشكيل تلك الصور.

  • الصورة النمطية تُعد أداة مركزية في الخطاب الإيماغولوجي، حيث يُعاد توظيف القوالب الجاهزة لتعزيز أو تشويه صورة الآخر بحسب موقع المتكلم وموقفه من الآخر.

  • الرواية الغربية (نيويورك هل تحترق؟) كرّست صورًا سلبية عن العربي، باعتباره رمزًا للعنف والتخلف والهمجية، مع استحضار شخصيات تاريخية (أسامة بن لادن، صدام حسين) في سياقات تشويهية.

  • هذه الصور تندرج ضمن نسق تاريخي ممتد تغذيه خلفيات استعمارية واستشراقية، تجعل من العربي الآخر المطلق الذي لا يمكن التفاهم معه.

  • في المقابل، قدمت رواية « تحت سماء كوبنهاغن » معالجة أكثر إنسانية وعمقًا لصورة الآخر، حيث تدور حول مأزق الهوية والاندماج والانتماء المزدوج الذي تعانيه الشخصيات العربية في الفضاء الأوروبي.

  • شكّل الفضاء عنصرًا مركزيًا في إنتاج الصور الإيماغولوجية، حيث تقابل فضاءات القمع واللااستقرار (العراق وفلسطين) فضاءات الهدوء والنظام (الدانمارك وأمريكا)، مما يكرس ثنائية متخلفة/متقدمة.

  • اعتمد كل نص على ترسانة سردية غنية بالإشارات الثقافية، مما جعل من الشخصيات والفضاءات أدوات فعالة لإبراز تلك التصورات المتضادة.

  • تظهر الروايتان مدى الحضور القوي للوعي بالاختلاف بين الأنا والآخر، لكنه يتخذ شكلًا عنيفًا في الرواية الغربية، بينما يتجلى كصراع داخلي في الرواية العربية.

  • يعكس خطاب « لابيار » و« كولينز » مركزية غربية ترى في نفسها معيار التمدن، مقابل شرق يُختزل في الإرهاب والتخلف، بينما تحتفي « النداوي » بهوية مضطربة تبحث عن ذاتها وسط ثقافتين.

  • تتجلى في النصين مفارقة لافتة : فبينما يُرهب العربي الغربي في الرواية الأولى، تُرهب « هدى » من الفضاء الغربي الذي يرفض احتواءها رغم ادعائه الليبرالية.

تُظهر هذه النتائج كيف تُسهم السردية الروائية في إعادة إنتاج الخطاب الثقافي المتحيز، وتؤكد في الوقت نفسه أهمية الوعي النقدي عند تحليل الأدب بوصفه مرآة للواقع وتمثيلًا له.

قائمة المراجع (وفق نظام APA) :

الحيدري، إ. (1966). صورة الشرق في عيون الغرب. بيروت : دار الساقي.

النداوي، ح. (2010). تحت سماء كوبنهاغن. بيروت : دار الساقي.

لابيار، د.، & كولينز، ل. (2004). نيويورك هل تحترق؟ (ت. أ. الهاشم). بيروت : دار عويدات.

صالح، ص. (2003). سرد الآخر : الأنا والآخر عبر اللغة السردية. الدار البيضاء : المركز الثقافي العربي.

طاش، ع. (1993). صورة الإسلام في الإعلام الغربي. القاهرة : الزهراء للإعلام العربي.

العليان، ع. (د.ت). الإسلام والغرب ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.

حنون، ع. (1986). صورة الفرنسي في الرواية المغربية. الجزائر : ديوان المطبوعات الجامعية.

بن ربيعي، ف. (2020). « صورة الآخر في الرحلة الغربية الحديثة ». مجلة علوم اللغة العربية وآدابها، 12(1).

بن ربيعي، ف. (2017/2018). صورة بلاد المغرب في كتابات الروائيين الفرنسيين في القرن 19. جامعة البليدة.

مرشد، أ. (2005). البنية والدلالة في روايات إبراهيم نصر الله. القاهرة : المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

كاظم، ن. (2006). تمثيلات الآخر : صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، وصورة الشرق في المخيال الغربي. دمشق : دار المدى.

بودهان، ي. (2006). « تشكيل الصور النمطية عن الإسلام والمسلمين في الإعلام الغربي ». مجلة الوسيط للدراسات الإعلامية، (12).

Pageaux, D.-H. (2001). La Littérature Générale et Comparée. Paris : Armand Colin.

Moura, J.-M. (1992). L’image du Tiers-monde dans le Roman français Contemporain. Paris : PUF.

Moura, G.-M. (1992). Lire l’exotisme. Paris : Dunod.

فطيمة بن ربيعي

جامعة يحيى فارس بالمدية

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article