صورة المرأة الزنجية في الرواية النسوية: دراسة مقارنة بين روايتي « امتلاك سر البهجة » لآليس ووكر و« الزنجية » لعائشة بنور

La Femme noire dans la littérature féministe : une analyse comparative des romans Possessing the Secret of Joy d'Alice Walker et La Négresse d'Aïcha Bennouar

The Representation of the Black Woman in Feminist Literature: A Comparative Analysis of Alice Walker's Possessing the Secret of Joy and Aïcha Bennouar's The Negress

سيهام برواقن Siham Berouaken مليكة بن بوزة Malika Benbouza

سيهام برواقن Siham Berouaken مليكة بن بوزة Malika Benbouza, « صورة المرأة الزنجية في الرواية النسوية: دراسة مقارنة بين روايتي « امتلاك سر البهجة » لآليس ووكر و« الزنجية » لعائشة بنور », Aleph [], 05 February 2025, 23 February 2025. URL : https://aleph.edinum.org/13805

تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن كيفية تصوير وضع المرأة السوداء التي عاشت حياة صعبة مليئة بالعنف، والتهميش، والاعتماد على الآخرين، في بعض الأعمال الأدبية العربية والأفرو-أمريكية. ركزنا في هذا البحث على المقارنة بين روايتي « اللون البنفسجي » لأليس ووكر و « المرأة السوداء » لعيشة بن نور، وذلك لعرض أوجه التشابه والاختلاف بين الآليات والسياقات التي ساهمت في تشكيل الصورة الثقافية والاجتماعية للمرأة السوداء في كل من هاتين الروايتين اللتين تختلفان في الزمان والمكان.

تدور أحداث رواية « اللون البنفسجي » في أمريكا في أوائل القرن العشرين، وتتناول قصة سيلي، وهي امرأة سوداء تعيش تحت وطأة العنف الزوجي، والظلم العنصري، والاضطهاد الجنسي. من خلال قصتها، تكشف أليس ووكر عن الآثار المدمرة للعبودية، والعنصرية، وعدم المساواة بين الجنسين على حياة النساء الأفرو-أمريكيات، وتبرز في الوقت ذاته قدرتهن على الصمود والتمرد على القمع واستعادة أصواتهن.

أما رواية « المرأة السوداء » لعيشة بن نور، فهي عمل أدبي بارز في الأدب العربي المعاصر، يتناول وضع المرأة السوداء، التي غالبًا ما يتم تجاهلها أو تقليصها إلى صورة الكائن المقموع في المجتمع المغاربي. تصف بن نور في روايتها حياة النساء السوداوات اللواتي يعشن في ظل ضغوط اجتماعية وثقافية صارمة، مع التركيز على دورهن المهمش في المجتمع. تستخدم الكاتبة لغة شعرية وقوية لتفكيك الصور النمطية العنصرية والجندرية، مانحةً بذلك صوتًا لهذه النساء اللواتي لا يُسمعن في الخطابات السائدة.

إن المقارنة بين هاتين الروايتين تسمح بفهم أعمق للطرق التي تعالج بها الكتابات الأفرو-أمريكية والعربية القضايا نفسها، ولكن في سياقات مختلفة تمامًا تأثرت بالهياكل السياسية والاجتماعية المتباينة. رغم أن كلا العملين يتناولان قضايا اضطهاد المرأة السوداء، إلا أنهما يختلفان في طريقة تناول آليات المقاومة، والهوية العرقية، ودور الثقافة في تشكيل صورة المرأة السوداء. تسلط هذه الدراسة الضوء على أوجه التشابه والتباين في كيفية معالجة هذه الكاتبات للمقاومة النسائية وحق المرأة في التحرر في مواجهة الأنظمة القمعية والاستغلالية.

Cette recherche s’inscrit dans une analyse comparative de la représentation de la condition de la femme noire, telle qu’elle est abordée dans certaines œuvres littéraires, notamment les romans La Couleur pourpre d’Alice Walker et La Femme noired’Aïcha Bennouar. L’objectif principal est de mettre en lumière les aspects de la marginalisation, de la violence et de la dépendance sociale vécus par la femme noire, et de comprendre comment ces problématiques sont exposées dans des contextes littéraires distincts, tout en tenant compte des influences sociopolitiques et historiques propres à chaque œuvre.
Le roman La Couleur pourpre se déroule dans l’Amérique du début du XXe siècle et explore le parcours de Celie, une femme noire en proie à des violences conjugales, à l’injustice raciale et à l’oppression de genre. À travers son histoire, Alice Walker met en lumière les effets dévastateurs de l’esclavage, du racisme et de l’inégalité de genre sur la vie des femmes afro-américaines, tout en soulignant leur résilience et leur capacité à se réapproprier leur propre voix.
En parallèle, La Femme noire d’Aïcha Bennouar, œuvre emblématique de la littérature arabe contemporaine, aborde la condition de la femme noire, souvent ignorée ou réduite à une simple figure d’oppression dans la société maghrébine. Bennouar dépeint l’histoire de femmes noires vivant sous des contraintes sociales et culturelles rigides, tout en soulignant leur rôle marginalisé dans la société. La romancière utilise un langage poétique et incisif pour déconstruire les stéréotypes raciaux et de genre, donnant ainsi une voix à ces femmes invisibilisées par les discours dominants.
La comparaison entre ces deux romans permet de mieux comprendre comment les écrivaines afro-américaines et arabes traitent des questions similaires mais dans des contextes très différents, influencés par des structures de pouvoir différentes. Bien que les deux œuvres abordent la thématique de l’oppression des femmes noires, elles varient dans leur approche des mécanismes de résistance, de l’identité raciale et du rôle de la culture dans la formation de l’image de la femme noire. Cette étude met en lumière non seulement les similitudes, mais aussi les divergences dans la manière dont ces écrivaines traitent de la résistance féminine et de la quête d’émancipation face à des systèmes de domination et d’exploitation.

This research aims to reveal how the situation of the black woman, who has lived a difficult life marked by violence, marginalization, and dependence on others, is depicted in certain Arabic and African-American literary works. Our focus is on a comparative analysis between Alice Walker’s The Color Purple and Aïcha Bennouar’s The Black Woman to highlight the similarities and differences between the mechanisms and contexts of the formation of the cultural and social image of the black woman in each of the works, which differ in both time and space.

The Color Purple is set in early 20th-century America and explores the life of Celie, a black woman subjected to domestic violence, racial injustice, and gender oppression. Through her story, Alice Walker highlights the devastating effects of slavery, racism, and gender inequality on the lives of African-American women, while also emphasizing their resilience and their ability to reclaim their own voice.
In contrast, Aïcha Bennouar’s The Black Woman is a prominent work of contemporary Arabic literature that addresses the condition of the black woman, often ignored or reduced to a mere figure of oppression in Maghrebian society. Bennouar portrays the lives of black women living under rigid social and cultural constraints, emphasizing their marginalized role in society. The novelist uses a poetic and incisive language to deconstruct racial and gender stereotypes, thus giving a voice to these women who are often rendered invisible by dominant discourses.
The comparison between these two novels provides a deeper understanding of how African-American and Arabic writers tackle similar issues but in very different contexts, shaped by different power structures. While both works address the oppression of black women, they differ in their approach to mechanisms of resistance, racial identity, and the role of culture in shaping the image of the black woman. This study highlights both the similarities and the differences in how these writers address female resistance and the quest for emancipation in the face of systems of domination and exploitation.

:

مقدمة

يعد موضوع المرأة من أهم الموضوعات المتربعة على عرش الكتابات الروائية النسوية التي اتسعت وتنوعت أوساطها ووسائطها وذاع صيتها خلال مفترق القرنين العشرين والواحد والعشرين، حيث أصبحت جديرة بالدراسة والتقصي نظرا لما ترصده من تجارب فعلية مرت بها النساء عبر العصور وفي مختلف بقاع العالم، وما ترممه من صور شوهها الآخر منذ زمن سحيق، ولكن لم تركز أغلب هاته الأصوات النسوية على عرض صورة المرأة الزنجية المستلبة، باستثناء بعض الكاتبات الثائرات اللائي أطلقن صرخة مدوية يبلغ صداها أعماق أعمالهن الإبداعية المنتجة خصيصا لرد الاعتبار إلى هذه الفئة الخاضعة التي غيبت وحجبت الأنظار عن قضاياها الحساسة التي تحتاج إلى جرأة أكبر لتجاوز رقيبها. و من بين هؤلاء الكاتبات السخيات نذكر: زورا نيل هيرستون Zora Neale Hurston ، كيمبرلي كرينشو Kimberlé Crenshaw، مايا أنجيلو Maya Angelou وهاربر لي Harper lee وآنجي توماس Angie thomas ... وغيرهن من الرائدات الأمريكيات، وبالنسبة للطاقات الإبداعية العربية فنذكر -مثالا لا حصرا-: نجوى بن شتوان وسميحة خريس و سلوى بكر وهدى حمد وسعداء الدعاس... وفيما يخص بحثنا هذا فسنركز على جهود الأمريكية آليس ووكر والمبدعة الجزائرية عائشة بنور اللتين أخذتا على عاتقهما مهمة استرداد حقوق الزنجيات المسلوبة في ظل الرعونة البطريركية.

كتبت الروائية آليس ووكر سنة 1992 رائعتها الإبداعية « امتلاك سرّ البهجة »، والتي عالجت فيها عدة قضايا تدور في فلك العنف ضد الزنوج عامة والمرأة الزنجية المهمشة خاصة، وبما أنّ هذه القضايا لازالت تثير جدلا في عصرنا الحالي، فقد تطرقت إليها الكاتبة عائشة بنور في روايتها الأخيرة « الزنجية » الصادرة عام 2020، والتي صورت لنا حياة امرأة زنجية فارة من بطش السلطة الذكورية المتزمتة ومن غياهب التمييز العنصري، ولكن بما أنّ لكل مبدعة طريقتها الخاصة في الكتابة التي تشكل مرآة عاكسة لمخزونها الثقافي وخلفياتها الاجتماعية والعقائدية والسياسية ورؤيتها للعالم فقد حاولنا في دراستنا هذه عقد مقارنة بينهما من أجل توضيح خصوصية صورة الزنجيات المتجلية في كل من الروايتين الأمريكية والجزائرية، لنرى ما هي أهم النقاط المشتركة بينهما وما هي أبرز القضايا الثقافية المطروحة فيهما معا معتمدين على منهج النقد الثقافي.

1. عنفوان كتابة المرأة

1.1. المرأة في الكتابة الروائية: سلاح لتحرير الذات وكسر الأغلال الاجتماعية

قيدت المرأة سنين طويلة بأغلال المجتمع التي حكمت عليها بالصمت المؤبد والخنوع الدائم للسلطة الذكورية العليا التي خولت لها نفسها تصوير المرأة كيفما شاءت ومن زاوية نظر ضيقة تخدم مصالحها، وتمكّن لمواقعها وهيمنتها على العالم. ولكن مع اتساع وتنوع مساحات التطور المعرفي والوجودي المتعامد كميا ونوعيا لمكون الإنسان الإنساني، أثناء وبعد العقود الأخيرة - في القرن العشرين خاصة - استطاعت المرأة المفكرة أو المبدعة، أن تتخذ من الكتابة الروائية سلاحا ماديا ومعنويا لكسر الأغلال التي ترسف فيها، وللانطلاق صوب العالم لترمم صورتها التي تعكس في الوقت نفسه صورة جميع النساء على اختلاف عرقهن ولونهن وانتمائهن الايديولوجي، بفضل قلمها السيال الّذي فاض منذ أول وهلة انتزعته فيها من الأيادي المهيمنة بعد صراع طويل.

لقد عالجت العديد من القضايا المسكوت عنها ساعية بكتاباتها إلى تأسيس خطابها الخاص الّذي يتعالق مع اهتماماتها، ويشكل جسر عبور للتنديد بمشاكل أبناء جلدتها ومنه تقويض كل أشكال العنف ضد الفئات المهمشة ومناهضة قضايا التمييز العرقي والجنسي والطبقي ... وغيرها، وما هذا إلاّ رغبة منها في بناء مجتمع متين جنبا إلى جنب الرجل، ومحاولة السمو بهذا المجتمع إلى القمة. وقد مارس

« فعل المرأة في حقل الكتابة -كما في باقي حقول الابداع الأخرى- اغراء من نوع خاص، سواء في تلقيه أو مقاربته نقديا، باعتباره نسقا جماليا يتشكل داخل أنساق الحركة الإبداعية ككل » (إدريس، 2013: ص5)

وهو الأمر الّذي يعكس لنا مدى أهمية حركة الكاتبات المفكرات اللائي طرحن قضايا المرأة في مؤلفاتهن ونافحن عن حقوقها، ونذكر منهن على سبيل المثال لا الحصر: سارة جامبل Sarah Gambel– سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir‏ - فرانسواز ساقان Françoise Sagan – توني موريسون Tonni Morrison-آليس ووكرAlice Walker- نالا لارسن Nalla Larson - مي زيادة- فاطمة المرنيسي- هدى شعراوي- نوال السعداوي- هند نوفل .... وغيرهن.

إن الرواية فضاء واسع ومتنوع للتعبير عن خلجات النفس البشرية ومكنوناتها الداخلية التي تتفاقم بتفاقم أوضاع المجتمع المعقدة، خصوصا « لتمتعها بقدرة فائقة على الالمام بهذا المجتمع ومواكبة مستجدات العصر وتحري رؤى العالم وآفاقه » (بن السايح، 2010: ص02)، وقد أصبحت أكثر حضورا وفاعلية بعد مساهمة العنصر النسوي في انتاجها، فالمرأة وجدت غايتها في كتابة هذا الجنس الأدبي، الّذي منحها متسعا لنبش الحقائق المسكوت عنها وفسحة لتعرية التاريخ المطمور في الذاكرة المغيبة، ومن هذا المنطلق تقول سميحة خريس :

« ربما لا أجد نفسي إلاّ في الرواية، هنا عالم ينداح عن مدهش وغامض وفاتن...أنا طرف فيه بكل تأكيد. عندما تعلّمنا الحياة إعمال كوابحنا الداخلية إزاء الأحداث والمواقف، فإنّ الرواية تطلق لنا العنان، بإمكاننا عبر كلمة الفن أن نقول كثيرا من الأشياء بشجاعة. » (ملحم، 2016: ص45)

وتشاطرها الرأي عائشة بنور فتقول :

« الرواية بالنسبة لي هي ذلك الوهج الّذي يسكنني، هي المتعة والجمال، أن أتقاسم الرؤى مع الآخر وألج دهاليز الردهات المظلمة، الرواية تشعرني بالانتماء لذاتي ولخصوصية مجتمعي بعين ترى القبح جمالا، أستطيع من خلال الرواية الغوص في واقعي وانفض عنه الغبار الّذي يظلّل الرؤية. الرواية هي الصوت المرتفع الّذي تسمع أناه عند الآخر. » (بنور: 2021)

نستشف من القولين سرّ ولوع الكاتبات بالعالم الروائي لأنّه يحتويهن ويطلق العنان لأفكارهن وآرائهن التي تمس مختلف مجالات الحياة، والتي تعكس في الآن نفسه سيكولوجيتهن ومصيرهن ومغامراتهن وتاريخهن الّذي سيضمّن خلودهن مهما عصفت بهن ريح المركزية المتجبرة.

2.1. النسوية التقاطعية وتقويض المركزية 

دافعت الحركات النسوية منذ نشأتها عن حقوق المرأة، ولكن ما يلاحظ عليه أنّ أغلب هذه الحركات لم توجه أنظارها نحو مشاكل الزنجيات واهتماماتها، بل واهملتها اهمالا شديدا ينم عن شدة تقزيمهن لدور هؤلاء الزنجيات في المجتمع وعدم الإقرار بقيمتهن كذوات فاعلة فيه، حيث اعتبرنهن مجرد أشياء مستلبة خلقت لخدمة بيوتهن ورعاية أطفالهن أثناء انشغالهن بالمطالبة بحقوق النساء البيض، وكأن نظيراتهن الزنجيات لسن نساء مثلهن أو غير موجودات على الاطلاق، وهذا هو الأمر الّذي هز كيان المناضلة الأمريكية سوجورنر تروثSojourner Truth ودفعها « إلى تحدي النسويات الناشطات في القرن التاسع عشر مطلقة العنان لصوتها الصارخ: »ألست أنا أيضا امرأة !« . (الصدة، 2002: ص05)

لقد حركت هذه المقولة الحادة النبرة عدة ناقدات زنجيات ثائرات ضد جور النسوية البيضاء، حيث اتخذنها شعارا متكررا في كتاباتهن النضالية التي أخذت على عاتقها مهمة رد الاعتبار للزنجيات اللائي »همشن على مستوى دراسات الاضطهاد الجندري المركزة على النساء البيض كما أسلفنا الذكر، وعلى مستوى دراسات العنصرية العرقية التي تركز على الرجال السود فقط« (سميث، 2019: ص03)، وهذا ما نلتمس منه رغبة في تقويض المركزية البيضاء والمركزية الذكورية السوداء معا باسم حركة جديدة وهي النسوية التقاطعية.

التقاطعية Intersectionality مصطلح

« جاءت به المحامية البريطانية السوداء كيمبرلي كرينشو Kimberlé Crenshaw عام 1989«(سميث، 2019: ص1)، ويراد به تقاطع عوامل الاضطهاد المختلفة كالجندر والعرق واللون والطبقة الاجتماعية والاقتصادية، وقد وجدته النسويات السوداوات قابلا لاحتواء نضالهن القائم »

على جبهات متعددة ضد العنصرية البيضاء (بما فيها العنصرية النسوية البيضاء)، وضد السيطرة الاقتصادية والاجتماعية (بما فيها الاستغلال من جانب السود)، وضد الانحياز الجنسي من السود والبيض (بما فيه التعددية الجنسية الثائرة) (ليتش. 2000. ص362) وضد القهر الطبقي، ومآسي باقي نساء العالم الثالث، وهذا ما «فتح لهن المجال لممارسة الانتقاد النسوي للتشويهات والمحذوفات المتعلقة بالنساء السود والبحث النقدي النسائي في جماليات النساء السود وتقاليدهن الأدبية» (ليتش، 2000: ص362) ومنه تغيير وضع كل هذه الفئات المغلوبة على أمرها تغييرا جذريا لا يتحقق إلاّ بتكتل وتعاون جميع النساء على اختلافهن، وفي هذا المقام تقول كمبرلي كرينشو:

« من خلال الوعي بالتقاطعية يمكننا الاعتراف بالاختلافات بيننا، ويمكننا أن نؤسسها بشكل أفضل وأن نتفاوض حول السبل التي يمكن من خلالها لهذه الاختلافات أن يُعبر عنها في صياغة سياسات المجموعة» (كرينشو: ص17).

تجسد لنا هذه المعاينة النظرة الاستشرافية لرائدات النسوية التقاطعية اللواتي يحلمن بمستقبل المرأة الزاهر في ظل الإقرار بالاختلافات، والسعي إلى تقاسم مشاكل وأعباء الحياة بين المجموعات البشرية، وكذلك محاولة إيجاد الحلول التي ترضي جميع الأطراف.

2. آليس ووكر: النضال والابداع

1.2. آليس ووكر: مسار أدبي ونسوي من الإبداع الأدبي إلى النضال الاجتماعي والسياسي

ولدت « آليس ووكر» الروائية والشاعرة والنسوية الأمريكية المنحدرة من أصول افريقية » «عام 1944 في جورجيا، التي ترعرعت فيها وسط عائلة ميسورة الحال، ولما بلغت الثامنة من عمرها عام 1952 فقدت عينها اليمنى»(Peteghen 2012: 256,)، وتعرضت إزاء هذه الحادثة الأليمة إلى مشاكل نفسية عويصة تجاوزتها بصعوبة وواصلت مشوارها الدراسي بعزيمة قوية من أجل بلوغ أهدافها المرجوة، بحيث »أتمت دراستها الثانوية محتلة المرتبة الأولى على مستوى دفعتها (peteghen, 2012: p256) ، والتحقت -في العام نفسه - « بكلية سبلمان Spelman في أتلانتا بعد حصولها على منحة دراسية كاملة، ثم انتقلت إلى كلية سارة لورانسSarah Lawrence Collège القريبة من مدينة نيويورك، والتي تخرجت منها عام 1965 (Nenni 2018: 46 ).

تزوجت كاتبتنا «عام 1967 من المحامي اليهودي ميل ليفينثال Leventhal mileرغم القانون الّذي يمنع الزواج بين الأعراق، وقد رزقت بالطفلة ريبيكا عام »1970 (Peteghen, 2012: 256)، ثم «انفصلت سنة 1976 بعد مرور تسع سنوات على زواجهما، وهو العام نفسه الّذي شهد على رحيلها إلى كاليفورنيا- سان فرانسيسكو.» (Peteghen, 2012 : 257)

تقلدت آليس ووكر منصب ناشرة لمجلة السيدة وأستاذة جامعية « في كلية ويلزلي عام 1972 , ثم واصلت مهنة التدريس وإلقاء المحاضرات في عدة جامعات أخرى، نذكر منها :« جامعة ماساشوستس في آمهيرست، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وجامعة برانديز » (محمد، 2018)، كما عرفت بكثرة نشاطاتها ومواقفها الإنسانية التي تهدف من خلالها إلى الدفاع عن الفئات المهمشة ووضع حد لظلم الجبابرة، ونورد من ذلك ما يلي:

قامت آليس ووكر بإنشاء أول دورة للدراسات الأنثوية، وهو الأمر الّذي يعكس لنا مدى اهتمامها بشؤون المرأة بصفة عامة والزنجية بصفة خاصة، وشاركت في تسجيلات السود على القوائم الانتخابية في جورجيا، وعملت لصالح قسم مساعدة المحرومين التابع لمدينة نيويورك، ووقفت عام 1966 ضد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية اتجاه كوبا بحيث ساندت الاحتجاجات آنذاك كما رفضت دعوة كلينتون إلى البيت الأبيض عام 1996، أما في عام2001 (محمد،2018) فقد ردت على هجمات 11 سبتمبر وتفجيرات أفغانستان، وشاركت عام 2003 في مظاهرات أمام البيت الأبيض مع الكاتب ماكسين Maxine والمجموعة code pinkالمسالمة للتنديد بسياسة جورج بوش George Bush وحرب العراق، بالإضافة إلى هذا فقد ساندت القضية الفلسطينية، متصدية بقوة للكيان الصهيوني خصوصا عندما زارت فلسطين عام 2008 وانظمت عام2011 إلى الأسطول الخاص بغزة على متن سفينة جرأة الأمل (Peteghen 2012 : 257-258,). كما وقفت إلى جانب القضية الجزائرية إبان الثورة التحريرية...وغيرها من النشاطات التي تمس مختلف الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية الجادة.

استهلت ووكر مسيرتها الأدبية بكتابة الشعر، بحيث كتبت عام 1968 ديوانها الموسوم بـ مرة واحدة، كما صدر لها سنة 1973 ديوانا آخر عنونته بـ :« البيوتيونات الثائرات وقصائد أخرى » وهي مجموعة تحث متلقيها على أن لا يبجل أحدا بل أن يكون ثائرا وخارجا عن التقاليد وحتى عن القانون، ثم انصب اهتمامها أكثر على الفن الروائي الّذي ابدعت فيه منذ إصدارها لروايتها الأولى الحياة الثالثة لغراينج كوبلند عام 1970 والتي تعالج موضوعا يتردد كثيرا في أعمال ووكر، وهو المحافظة على النزاهة والاكتمال وسلامة العقل والبدن بالنسبة للزنوج أفرادا ومجموعات ومجتمعا. (بوغرارة، 2013: ص67) ثم تلت هذه الرواية عدة روايات أخرى عالجت فيها الكاتبة الكثير من القضايا المهمة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر « ميريديان » التي نشرتها عام 1977، و« اللون الأرجواني » 1982، التي لاقت رواجا كبيرا وشهرة واسعة على الصعيد العالمي خصوصا بعد بث الفيلم المقتبس عنها، ثم تلتها رواية « معبد مألوفتي » عام 1989 وامتلاك سر البهجة عام 1992 (Peteghen,2012 : 258)التي استحضرت فيها شخصيات من روايتها اللون الأرجواني نظرا لشدة تعلقها بها.

لم تكتب آليس ووكر الشعر والرواية فقط، بل كتبت إلى جانبهما بعض المجموعات القصصية، مثل « في الحبّ والمصائب: حكايات امرأة سوداء 1973 ولا يمكنك احباط امرأة طيبة 1981. » (: p258 2012 peteghen,)

2.2. رواية امتلاك سر البهجة: مأساة زنجية

أصدرت الروائية الأمريكية آليس ووكر عام 1992 رائعتها الإبداعية « امتلاك سر البهجة »، والتي كشفت فيها الحجب عن غياهب افريقيا وأمريكا وعن معاناة الشعب الزنجي القاطن فيهما عامة والنساء الزنجيات خاصة، لأنهن الأكثر عرضة للعنف النفسي والجسدي من قبل الجميع، وفي كل ذلك تعرض سردا مزدوجا، يتماشى الخيالي منه مع الواقعي، ليسهل على المتلقي فك شيفرة الرسالة المراد إيصالها إلى عالم غيب صوت فئات مهمشة ومستلبة دافعت عنها آليس ووكر دون تردد.

تروي هذه الرواية المتوسطة الحجم الواقع المرير الّذي عاشته « تاشي » وهي امرأة افريقية خضعت لجلاديها منذ أيام زهورها، التي لم تنل منها غير أزمات نفسية حادة وطويلة الأمد ترتبت عن أبشع جريمة مورست في حقها وحق أختها وحق جميع الضحايا أمثالهن وهي الختان الّذي فرض على سائر الزنجيات وقوفا عند رغبة السلطة الذكورية المستبدة.

ترحل البطلة تاشي إلى أمريكا رفقة آدم بعد عقد قرانهما هروبا من العالم الأفريقي الموحش والمظلم وسعيا إلى تحسين أوضاعهما المعيشية وتحقيق الاستقرار والرخاء، ولكن ضاعت أحلامهما هباء بعد اكتشافهما وجه أمريكا الآخر المعزز للتمييز العنصري، وهو الأمر الّذي حسسهما بغربة الروح والجسد، وزاد من اضطرابات تاشي النفسية الناتجة عن آثار الختان لينتهي بها الحال إلى الجنون، ثم الموت في نهاية المطاف.

3. عائشة بنور: القلم السخي

1.3. عائشة بنور: مسار أدبي متميز بين القصة القصيرة والرواية في خدمة قضايا المرأة والمجتمع

إنّ عائشة بنور المولودة

« عام 1970ببلدية المعمورة ولاية سعيدة (الجزائر) والمتخرجة من جامعة الجزائر02 قسم علم النفس، قاصة وروائية وكاتبة صحفية لعديد من الجرائد والمجلات الوطنية والعربية مثل: مجلة أنوثة، مجلة المعلم، الموعد الجزائري، صحيفة الوسط الجزائرية ... وغيرها، وهي في الوقت نفسه مدققة لغوية وعضو لجنة القراءة بدار الحضارة للنشر والتأليف والتوزيع. » (عائشة بنور،2021).

نالت عدة جوائز وطنية ودولية، منها

« جائزة مديرية الثقافة للقصة القصيرة ببومرداس2003 والجائزة الدولية الأولى في مسابقة أدب المرأة عن هيئة اتحاد الأدباء بالولايات المتحدة الأمريكية ماي 2007، وجائزة الاستحقاق الأدبي عن روايتها اعترافات امرأة، وجائزة نعمان الأدبية بلبنان .2007 » (عائشة بنور، 2021) وجائزة الهند الدولية2020.

صدر لها الكثير من الدراسات والأعمال الروائية التي تعالج مطبات الحياة ومختلف القضايا الإنسانية التي تمس البشرية جمعاء خصوصا ما تعلق بالمرأة والطفل، منها:

« نساء يعتنقن الإسلام 1996، وقراءات سيكولوجية في روايات وقصص عربية 2004، وبالنسبة للروايات فنورد من بينها: السّوط والصدى 2006، واعترافات امرأة 2007، وسقوط فارسة الأحلام 2009، ونساء في الجحيم 2016، والزنجية 2020 ». (عائشة بنور، 2021)

بالإضافة إلى مجموعات قصصية كثيرة نذكر منها مثالا لا حصرا: « الموؤودة تسأل .. فمن يجيب؟ 2003، ومخالـب 2004» (عائشة بنور،2021) وغيرها من الأعمال الرائجة التي أبدعت فيها منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي.

2.3. رواية الزنجية: صرخة بوجه العطب

صدرت للمبدعة الجزائرية عائشة بنور

« عن دار خيال للنشر والترجمة، عام 2020 رواية » الزنجية« المهداة إلى المرأة الافريقية والآسيوية المهاجرة من عمق البؤس، والباحثة عن الأمن والرغيف، وإلى الطفولة المشرّدة التي تفتش عن الدفء في زمن الاعصار » (بنور،2020: صفحة الإهداء)

فالكاتبة تحاول في هذا العمل الروائي ابراز مظاهر العنف النفسي والجسدي الّذي يتعرض له الزنوج خصوصا النساء اللائي يلبسهن الختان ثوب التعاسة منذ الطفولة. كما تكشف عن مختلف الظروف القاسية التي تترتب عن الهجرة غير الشرعية، كالقهر والظلم والتشرد والأمراض الخطيرة التي تفتك بالعشرات من أبناء افريقيا السوداء، ومن خلال كل ذلك تسعى الكاتبة إلى إنارة شعلة أمل للمهمشين وسط ظلم العالم الدامس.

تروي هذه الرواية حياة المرأة الأفريقية بلانكا التي تجرعت -منذ ولادتها- كأس القهر المترعة في النيجر، حيث تعرضت للختان مثل باقي الأفريقيات الصغيرات اللائي خضعن للسلطة الذكورية وقيدن بسلاسل العادات والتقاليد، وعانت من الفقر المدقع والجوع الشديد ومن الحر والقهر وسوء سائر الظروف المعيشية الأخرى التي دفعتها إلى الهجرة نحو شمال أفريقيا (الجزائر) رفقة زوجها فريكي هروبا من هذا الواقع المزري الّذي تدمي له العين كمدا، ورغبة في الحصول على حياة هادئة يسودها الأمن والاستقرار، ولكن لم تجر الرياح كما اشتهت سفنهما فقد نزلت عليهما نوائب الدهر دفعة واحدة بمجرد أن وطأت أقدامهما أراضي الجزائر، بلد الحلم المندثر الّذي شدا إليه المطية أملا في النجاة.

4. تجليات صورة المرأة الزنجية في روايتي امتلاك سر البهجة والزنجية

1.4. المرأة في مواجهة العنف الاجتماعي: الختان والضحية

حاولت الكاتبة الأمريكية آليس ووكر ونظيرتها الجزائرية عائشة بنور عرض صورة النساء الزنجيات في روايتيهما: امتلاك سر البهجة والزنجية، حيث وجدت كل واحدة منهما متسعا في الفضاء الروائي لترميم تلك الصورة المشوهة منذ أزمان غابرة، وذلك بالكشف عن الواقع الفعلي لهاته الفئة المغلوب على أمرها، المهمشة والخاضعة لجبروت السلطات العليا الجائرة، وإبراز مختلف القضايا الحساسة المتعلقة بها، والتي سكت عنها المجتمع وتجاهلها طوعا دون مبررات، احتقارا لها وتقزيما لدورها كذات فاعلة في الحياة، مثل: قضية الختان والاغتصاب والزواج القصري، والتمييز العنصري والجنسي معا، وقهر العادات والتقاليد، ومختلف أشكال العنف الجسدي والنفسي... و تطرقتا كذلك إلى علاقات الحبّ المحرمة من قبل الأعراف الأفريقية وأشارتا إلى بعض المشاكل الناجمة عن الهجرة- شرعية كانت أو غير شرعية - مثل غربة الروح والجسد التي تعاني منها الزنجيات في المهجر تماما كما يعاني منها كل مهاجر فار من بؤس الحياة الافريقية وشقائها، وفي كل ذلك عرضتا لنا بعض الثنائيات المتناقضة كالموت والحياة، والذات بين النفي والاثبات، والأنا والآخر، والتضخيم والتقزيم، والمرأة الضحية والجلادة، والهوية بين التماسك والتشظي، والجسد بين القوة والوهن... وغيرها.

رغم تشابه القضايا المطروحة في الروايتين إلاّ أنّ طريقة عرض صورة النساء الزنجيات تباينت بينهما، فكل كاتبة ابتدعت طريقة مميزة طبعتها ببصمتها الخاصة التي تتماشى مع بيئتها ومجتمعها وطريقة تفكيرها وتجربتها المتفردة، وزاوية نظرها إلى شؤون الحياة المتشعبة.

1.1.4. ختان البنات

انتشرت ظاهرة ختان البنات في القارة الافريقية انتشارا ذريعا ومروعا أدى إلى وفاة الكثير من الزنجيات وإلى تأزم أوضاع البقية منهن، اللواتي بقين أحياء وأمواتا- في الوقت نفسه -يصارعن مخلفات الختان الممتدة من مرحلة طفولتهن إلى كهولتهن، وهو الأمر الّذي دفع بالكاتبتين آليس ووكر وعائشة بنور إلى طرح هذه القضية الحساسة جدا لإيصال صداها إلى العالم عبر رسم صورة هؤلاء الزنجيات اللائي تعرضن لهذه العملية الشنيعة، مع تبيان درجة الألم الجسدي الّذي تجبر المختونات على تحمله طيلة حياتهن، وكذلك نقل الآثار النفسية الحادة التي تؤدي بهن في غالب الأحيان إلى الجنون. تعرض آليس ووكر معاناة الزنجية المختونة قائلة: « استلزمها الآن ربع ساعة لتتبول ودامت فترات حيضها عشرة أيام، وأقعدتها التشنجات نصف شهر تقريبا » (ووكر، :ص64).

وتفعل عائشة بنور الأمر نفسه، حيث تقول على لسان بطلتها بلانكا :« لم أحاول شرب الماء رغم شحه حتى لا أضطر للتبول، وأصاب بحرقة شديدة أكثر ألما من الأولى. » (بنور، 2020: ص39) نستشف من القولين لامحدودية الألم الجسدي بعد عملية الختان، بحيث تعاني المرأة كثيرا عند قضاء حاجتها البيولوجية، فتضطر إلى التهرب منها في كل مرة تحاشيا لتفاقم الألم، والّذي تزداد حدته بعد الزواج والولادة، تقول بلانكا بطلة رواية الزنجية :

« لم أفكر وقتها في الزواج، خشية التعقيدات الخطيرة التي تلازم الولادة والنزيف الحاد بعد ذلك والتي عشت أطوارها مع فتيات مررن بنفس التجربة وعانين من الزواج المبكر والولادة العسيرة، مثلما وقع للفتاة سوليتا، التي كنت أسمع صرخاتها الفظيعة عند المخاض ». (بنور، 2020: ص63)

يكشف لنا هذا القول عن الولادة العسيرة للمرأة المختونة، التي تؤثر كثيرا على أفئدة الصغيرات و تبني هاجس الخوف في عقولهن، وهذا يدل على حجم الهلع الّذي يكبر معهن، وهاهي بلانكا تقول في موضع آخر بعد تقبلها لفكرة الزواج وتسليم أمرها للقضاء المحتوم :

« مرّت سنوات قليلة على زواجي من فريكي ونسيت أو حاولت أن أنسى جراحي، وأنجبت صغيرتنا أفريقيا وعانيت من آلام الولادة التي كادت أن تودي بحياتي بسبب مضاعفات ختاني. » (بنور، 2020: ص17)

أما الكاتبة الأمريكية فنقلت لنا معاناة الولادة الناتجة عن مضاعفات الختان بطريقة مفصلة وذلك على لسان بطلتها تاشي، تقول هذه الأخيرة :

« كسر طبيب الولادة أداتين، وهو يحاول زيادة حجم الفتحة لتناسب رأس بيني، ثم استخدم المبضع، ثم مقصين يستخدمان للغضاريف القوية في العظام عادة، أخبرني بكل هذه التفاصيل عندما أفقت، ونظرة الفزع لم تفارق وجهه. » (ووكر، 2018: ص58)

تعمدت آليس ووكر تصوير صعوبة توليد المرأة الافريقية المختونة برغم توفر كل الوسائل الجراحية في المستشفيات الأمريكية، وذلك لتوضح للمتلقي بأن المرأة في أفريقيا كانت تلد دون هذه الوسائل، وبالتالي كان ألمها مضاعفا يجعل بين نجاتها وموتها خيطا رفيعا جدا.

تقول تاشي مخاطبة التسونغا موضحة أسباب الختان :

« إنّ المرأة غير المختونة واسعة كحذاء مهما كان حجمه فإنّ الجميع سينتعله حسب كلامك، هذا غير ملائم قلت لنا، غير نظيف، المرأة المناسبة يجب أن تختن وتخاط لتلائم زوجها فقط. » (ووكر، 2018: ص172)

يتضح لنا من خلال هذا القول أنّ المرأة تختن تجنبا للقيام بعلاقات غير شرعية ومن أجل تحقيق متعة الرجل الّذي سيتزوجها مستقبلا فقط، وهذا وجه من أوجه السلطة الذكورية الّذي أشارت إليه عائشة بنور إشارات عابرة نذكر منها ما قالته البطلة تاشي عندما جعلتها الكاتبة تستذكر مقولة الختانة مو، تقول تاشي :

« اليوم أنا الطفلة الصغيرة الكبيرة التي نضجت قبل أوانها، أحمل في مخيلتي مفاهيم جديدة للحياة، تعلمتها فقط لحظة رعب بين يدي العجوز مو حين قالت لي ذات يوم: أنت الآن امرأة لا أحد سيقترب منك ! » (بنور، 2020: ص26).

كان عرض آليس ووكر لهذه القضية أكثر عمقا ودقة وجرأة من عرض عائشة بنور خصوصا وأنها أفاضت الحديث عن آثار الختان ونتائجه الوخيمة على مختلف الأصعدة وأنواع هذا الختان مع ذكر أسبابه المتعددة.

2.1.4. المرأة الجلادة والضحية

إنّ النساء الزنجيات ضحايا مجتمع ذكوري جعلهن مستضعفات يعشن حياة الخواء وعدم الوجود في ظل سياسة القهر الجنسي والعرقي والطبقي، تقول الكاتبة النسوية والناشطة الاجتماعية الأمريكية بل هوكسBell Hooks :

« إننا كنساء سود نفتقد إلى الآخر الّذي يمكننا التمييز ضده وقهره واستغلاله، غالبا ما نعيش خبرات حياتية تتنافى مع البناء الاجتماعي القائم على التمييز الجنسي والطبقي والعرقي والايديولوجيا المصاحبة له » (الصدة،2002: ص49)

يتضح لنا من خلال هذا القول بأن المرأة الزنجية لا تقوى على ممارسة أي سلطة على الآخر بعكس

« المرأة البيضاء والرجل الأسود اللذان يتمتعان بعلاقات قوى على مستويين، حيث يمكن لكل فئة منهما القيام بدور القاهر والمقهور، فالرجل الأسود يمكن أن يكون ضحية التمييز العنصري، بينما يمنحه التمييز الجنسي إمكانية استغلال وقهر المرأة باعتبارها الجنس الآخر، أما المرأة البيضاء فقد تكون ضحية التمييز الجنسي بينما يتيح لها التمييز العنصري إمكانية استغلال وقهر السود » (الصدة، 2002: ص48-49)

جميعا رجالا ونساء، ولكن هذا لا يعني بأن النساء الزنجيات يتبوأن منزلة الضحية دائما لأنهن ضحايا وجلادات في الوقت نفسه، خولت لهن أنفسهن المشبعة بالفكر الدوني ممارسة السلطة الذكورية على بعضهن البعض.

وقد تجلى لنا هذا الواقع في كل من روايتي الزنجية وامتلاك سر البهجة من خلال تقديمهما لصورة المرأة الجلادة التي تقهر ابنة جلدتها دون رحمة ولا شفقة. ورد في رواية الزنجية لعائشة بنور القول التالي للبطلة بلانكا :

« ... تغيرت تغيرا كاملا تجاه نفسي وتجاه علاقتي بالآخرين ...خلال تلك اللّحظة التي كنت فيها بين يدي العجوز مو، شعرت أنّ الطفلة التي بداخلي دفنت وإلى الأبد... ألا تشعر هذه العجوز بما أحس وهي تمسك بشفرة السكّين؟ هل هي فرحة لوجعي؟ أم أنها تتذكر الآن ما جرى لها مثلي من قبل، وكأنها تنتقم مني دون سبب. » (بنور،2020: ص24)

وورد في رواية امتلاك سر البهجة لاليس ووكر القول التالي للختانة ماما ليسّا:

« هل تستطيعين تخيل حضور الأحاسيس في حياة تسونغا؟ تعلمت ألاّ أشعر... كنت في هذا أشبه جدتي والتي أصبحت قاسية الفؤاد... كانت تختن الفتيات وتطلب مباشرة الطعام بعد ذلك حتى لو استمرت الطفلة في الصراخ، وكان هذا بمثابة تعذيب لأمي، بعدها أجبرت أمي على ختن الفتيات اللاتي في عمري... لم أعثر على نفسي مرة أخرى، ذلك لأن الفتاة التي نهضت من على البساط بعد ثلاثة شهور، وجرّت نفسها خارج كوخ الختان إلى منزلها لم تكن الطّفلة التي دخلته. » (ووكر، 2018: ص169-170)

يحدث أن تُقهَر المرأة الزنجية على يد زنجية أخرى بحيث تكون هذه الأخيرة قد تعرضت أيضا للقهر في مرحلة من مراحل عمرها ومن قبل زنجيات أكبر منها سنا وأكثرهن تشبعا بالسلطة الذكورية، وهو الأمر الّذي نستشفه من القولين السالف ذكرهما، واللذين يوضحان توارث هذا النوع من القهر عبر الأجيال فالعجوز مو وماما ليسّا مارستا عملية الختن الشنيعة -المتوارثة عن الأم والجدة -على الزنجيات الصغيرات محدثتان شرخا عميقا في ذواتهن التي فقدنها مع أول صرخة، تماما كما فقدتها مو وماما ليسّا عندما كانتا في مثل سنهن، والتي بفقدانها سلبتا معنى الإحساس بالحياة، لقد انسلختا عن انسانيتهما لتتحول كل واحدة منهما فيما بعد إلى مجرد آلة مبرمجة على إعادة ممارسة الأفعال الشنيعة التي مورست في حقها.

2.4. المرأة والهويات المتعددة: الهجرة والحب في سياقات التمييز العنصري 

1.2.4. هجرة المرأة في ظل سياسة التمييز العنصري

شدت الكثير من الزنجيات الرحال إلى بلدان أخرى بعدما يئسن من تدني الأوضاع المعيشية في بلدانهن الأفريقية الفقيرة المعوزة، وذلك بغية الحصول على حياة أفضل يغيب فيها الجوع والضمأ والسراب والسقم والظلم والتمييز العرقي والجنسي وبطش المجتمع الذكوري، ويحضر فيها المأكل والمشرب والمأوى والأمن والسكينة والمعاملة الإنسانية الحسنة، وهذا ما حدث مع بلانكا بطلة عائشة بنور التي هاجرت رفقة زوجها فريكي وقافلة من الزنوج نحو بلاد الشمال الافريقي (الجزائر) هجرة غير شرعية أثبتت من خلالها الكاتبة براعتها في تصوير المصاعب والمشاق التي يواجهها المهاجرون الزنوج كالزوابع الرملية والتيه بين الكثبان اللامتناهية وقطاع الطرق والحيوانات المفترسة الضارية ... وغيرها، تقول بلسان بطلتها موضحة أسباب هذه الهجرة المحفوفة بالمخاطر :« كانت الهجرة عن الوطن الأمّ إلى بلدان أخرى لأسباب سياسية خارجة عن إرادتنا، أو بفعل ظروف اجتماعية اقتصادية، أو فكرية أو أمنية أو بحثا عن رغيف الخبز« (بنور،2020 :ص55). فقد استخدمت الكاتبة رغيف الخبز لتبين درجة الفقر المدقع الّذي يعاني منه الأفارقة والّذي حصر أهدافهم في عملية البحث عن السلام وقطعة صغيرة من أكل لا يتجاوز سعره بضعة دنانير بدل استثمار الوقت في التعلم وتطوير الخبرات والمهارات الذاتية.

وتواصل الكاتبة عرض المخاطر السالف ذكرها بتكريس أحد شخوص الرواية المعروف باسم الرجل الملثم لسرد الواقع المرير، يقول هذا الأخير بنبرة حزينة:

« لقي عدد كبير من المهاجرين حتفهم عطشا في الصحراء، أغلبهم من نيجيريا، ضلوا طريقهم أثناء عاصفة رملية، كنت من بينهم، مشينا أياما وبأجسام متهالكة، بحثا عن رشفة ماء نبلل بها أفواهنا». (بنور،2020: ص103)

وهذا ما لا نجده في رواية آليس ووكر »امتلاك سر البهجة« لأنّ بطلتها تاشي سافرت رفقة زوجها آدم إلى عدة أماكن مثل لندن وباريس وسويسرا...وغيرها إلى أن استقرا في أمريكا، وقد تم ذلك بطريقة شرعية ودون معيقات وعراقيل تذكر، تقول تاشي:

«سافرنا إلى لندن أولا...ثم إلى باريس، بعدها إلى زيورخ، مدينة نظافتها ملحوظة وتجلب النعاس. في الحقيقة بدا من نافذة المطار أنّ سويسرا بأكملها تغط في نوم هادئ.ا» (ووكر، 2018: ص44)

إنّ حديثها عن النوم الهادئ يدل على أنّ المكان مرتب ومنظم وآمن وأوضاعه الاقتصادية مستقرة، ولكن هذا الهدوء لم يدم في البلد الّذي استقرا فيه، بل تحول إلى ضجيج صاخب يدوي أينما وطأت أقدامهما في أرجاء هذا البلد الغريب، وهذه هي النقطة المشتركة بين رواية الزنجية وامتلاك سر البهجة، والمتمثلة في تصوير حياة البؤس والشقاء في المهجر بسبب التمييز العنصري، والتي تؤكدها الكاتبة على لسان تاشي التي تقول مسترسلة:

« بدا آدم متوترا قليلا عند اقتراب القطار من المحطة...أتذكر وصولنا أوّل مرة إلى أمريكا، حماسته لأنّه وصل آمنا وقد عاد إلى الوطن أخيرا، وتفاجؤه من استمرار مضايقته لأنّه أسود. اعتاد أن يصحّح كلامي قائلا: لا لا، إنهم لا يتصرفون بهذه الطريقة لأنني أسود، بل لأنهم بيضا» (ووكر،2018: ص45)

لو تقصينا هذا القول وما حوى من أفكار عميقة لوجدنا فيه رغبة جامحة في مناهضة التمييز العنصري الممارس ضد البشر أصحاب البشرة السوداء سواء الّذين يقطنون افريقيا أو أمريكا، مبينة بأن اللون الأسود يحمل معنى الشؤم والذمامة والشر والخطيئة المتشكلة في المخيال الجمعي للآخر الأبيض فقط، وهو الأمر الّذي منح هذا الأخير حق التنمر على نظيره الأسود، وقد استغلته الكاتبة كما يجب لمرافعة قضية السود واسقاط تلك الصورة النمطية التي رسمها البيض في أذهانهم حقبا من الزمن، وهنا تقلب الموازين فيصير اللون الأسود لونا كسائر الألوان بينما يصبح اللون الأبيض لون التسلط والتجبر والظلم والطغيان.

لم يقتصر وجود التمييز العنصري على أمريكا فقط بل تمركز أيضا في دول شمال أفريقيا، تقول بلانكا في رواية الزنجية بعد وصولها إلى الجزائر:

«...كنت أحسبه عالما مثاليا، لكن بعد رحيلي عن حيزي الرّملي، اكتشفت عالما أكثر بؤسا وشقاء...حاولنا أن ننصهر في مجتمعات غريبة عنّا...ولكن لا جدوى من ذلك، فلوننا الأسود يمنعنا في الاندماج، فقد كنّا نشعر بذلك من خلال نظرات الازدراء التي كانت تلاحقنا وتحدث في نفوسنا ألما عميقا.» (بنور،2020: ص48-49)

صورت لنا عائشة بنور في هذه الفقرة خيبة الأمل التي لحقت بالزنجية بعد ضياع حلمها في الوصول إلى بلاد مثالية، كاشفة لنا –في الوقت نفسه- استمرارية التمييز العنصري بعد مرور سنوات طوال من استرجاع الزنوج لحقوقهم المنتهكة والتي ظنناها مدة كفيلة لتخفيف حدته أو محوه تماما، لكن مادام هذا الأمر لايزال متجذرا في المخيال الجمعي لفئة معتبرة من البيض المستهترين، فإن عملية محقه وسحقه ستكون عسيرة جدا.

وكمجمل للقول في هذه القضية نقول بأنّ المرأة الزنجية الضحية لم تسلم من الاضطهاد في بلاد المهجر التي بخرت أحلامها الوردية عن وجود العالم المثالي الّذي ظنت فيه الخير الأكبر على الصعيدين المادي والنفسي.

2.2.4. المرأة الأفريقية والحبّ 

لخصت روايتا امتلاك سر البهجة والزنجية مظاهر حبّ صادق نبع من أعماق افريقيا السوداء، وذلك من خلال اختلاق قصة حبّ بين زنجي وزنجية رفضا الانصياع لتقاليد الحبّ الأفريقية المتزمتة، وكسرا قاعدته المبنية على لبنة المركزية الذكورية التي تعزز ثقافة التبعية المطلقة للرجل، تقول تاشي في رواية امتلاك سر البهجة:

«كان أشد الأمور تحريما في مجتمع أولينكا هو ممارسة الحبّ في الحقول، كان محرما لدرجة أن ما من كائن حي قد أقدم على هذا الفعل، ومع ذلك فعلناه، ولأنّ لا أحد في المجتمع يمكنه تصور أنّ بمقدورنا الاقدام على هذه الإهانة، ممارسة الحبّ في الحقول يهلك المحاصيل، في الواقع كنّا نعرف صراحة أن أي نوع من الفجور في الحقول يعني أنّ المحاصيل لن تنمو بالتأكيد لم يشاهدنا أحد قط. والحقول أنتجت محصولا كما في السابق» (ووكر،2018: ص39)

نستشف من وراء هذه الفقرة وجود معتقدات افريقية موغلة في القدم تجعل من ممارسة الحب في ربوع الأراضي الزراعية نذير شؤم ينبئ بهلاك الزرع وقلة الخصب والنماء، وهذا ما فندته آليس ووكر بطريقة ذكية، بحيث جعلت علاقة الحب في الحقول غير مؤثرة تماما على المحصول، ولو تعمقنا في طريقتها أكثر لوجدنا فيها تحفيزا على افناء كل المحرمات الافريقية الجائرة وإلحاحا بضرورة المحاولة حتى وإن لم يقدم أحد على فعل ذلك من قبل.

أما في رواية الزنجية فتقول بلانكا: «أمضى ليال كثيرة برفقته. نفترش الرمل الحار ونلتحف السماء، وفي الأعالي قمر يضيء صمتنا أحيانا طويلة.» (بنور، 2020: ص45)

نلحظ من خلال هذا القول تجسيد الكاتبة لفكرة الهروب من الواقع المستبد واحتضان الطبيعة بعد اعلان حالة التمرد والعصيان على هذا الواقع الّذي تشمئز منه الأنفس، وهو الأمر نفسه الّذي حدث في رواية امتلاك سر البهجة حين فر العاشقان إلى الحقول الشاسعة.

على غرار سائر المجتمع الافريقي أنجح هذا الثنائي المتمرد (بلانكا/ فريكي) (تاشي/آدم) علاقة حبها قبل الزواج وبعده، وليس هذا من قبيل المفارقة العشوائية الاعتباطية، بل تشجيعا من الكاتبتين على القيام بثورة ضد الظلم ورد الاعتبار إلى الزنجيات اللائي يزفن إلى عرسانهن كخادمات مطواعات مهمتهن الانجاب وتلبية أوامر الزوج الّذي لا يرمقهن إلاّ بنظرات شبقة مشبعة بفكر الاستعلاء والتقزيم، الّذي يجعلهن مؤمنات بأن حصولهن على الحبّ جريمة لا تغتفر.

3.4. مسارات التحرر: من الاعتراف بالذات إلى مقاومة الاستعمار

1.3.4. كسر حاجز الصمت

كثيرا ما اعتبر «الصمت الامتياز الأنثوي الّذي يتماشى مع خلق المرأة الطبيعي» (صبرة، 2018: ص11) ولكن أسيء فهم هذا الاعتبار إلى درجة انقلابه على المرأة حيث صار حرمانها من الكلام وسيلة لترويضها واخماد فتيلها وهذا ما تصدت له آليس ووكر حيث منحت الزنجيات حق التعبير عن مكنوناتهن الدفينة، تقول على لسان تاشي :

«هل تستطيعون تحمل معرفة ما خسرته؟ قلت وأنا أصرخ على القضاة ذوي الشعور البيضاء المستعارة، وعلى المحامين، -محام خاص بي وآخر عين ليدعي علي- إفريقيان متأنقان ومتناسبان تماما مع لندن، أو باريس، أو نيويورك، سألت هذا السؤال صارخة في وجوه الحضور الفضوليين الّذين ترفه محاكمتي عنهم. ولكن الأهم من ذلك، بأنني صرخت به على أسرتي» (ووكر،2018: ص43)

كذلك الأمر بالنسبة لعائشة بنور فقد رفضت هي الأخرى كتم صوت المرأة رفضا تاما والشاهد على ذلك ما قالته بطلة روايتها بلانكا:

«كان مصير الانسان يتهاوى بداخلي، يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة، ولحظة بعد لحظة، إذ كان لابد لي أن أصرخ في وجه القفار ثم أعلن قيام الانسان بداخلي من جديد وأسترد القوّة الكامنة فيّ، وأن أصرخ وأغضب كسائر الناس من حولي، وأنها الفرصة الوحيدة التي أشعر فيها بالحرية وبإنسانيتي!» (بنور،2020: ص158-159)

عمدت الكاتبتان إلى جعل الشخصيات النسائية الكاتمة غيظها حقبا من الزمن تصرخ بشدة في وجه الجميع بما فيهم الأقربون، لأن الصراخ هو الصوت الجهوري المسموع الّذي يستمد منه الانسان قوة تدفعه لمواصلة الانتفاض ومناهضة الآخر المستبد الّذي لم يطق له صبرا.

2.3.4. اعتراف بالأنا واثبات للوجود

يرى عبد النور إدريس بأن اعتقاد البعض

« بأنّ مكانة المرأة في المجتمع منحطة بسبب ضعفها الجسماني مقارنة بالرجل اعتقاد خاطئ، لأن سبب الضعف الحقيقي هو الاعتقاد بأن قدرات المرأة أقل من قدرات الرجل من الناحية الاجتماعية والسياسية والثقافية والذهنية...» (إدريس. 2013. ص91)

وغيرها من نواحي ومجالات الحياة، ولتجاوز هذا الضعف يستوجب على المرأة الاعتراف بوجودها دون استصغار قدراتها مقارنة بقدرات الآخر، وهذا ما سعت إلى تأكيده آليس ووكر وعائشة بنور، بحيث جعلتا المرأة الزنجية معترفة بأناها ومؤمنة بضرورة اثبات وجودها لتغيير وضعها الفظيع ومنه الانتقال من مركز الضعف المريع إلى مركز القوة الآمن والمريح.

ورد في رواية امتلاك سر البهجة ما يلي:

«وفي سنتي السّادسة كعضوة في جماعة آدم، عرفت أنّي أريد الحديث عن معاناتي الخاصّة، ورغبت أن تكون معاناة النّساء والفتيات الصّغيرات...موضوع الموعظة. أليست المرأة هي شجرة الحياة؟ ألم تصلب هي الأخرى؟ لم تصلب في زمن سحيق لا يتذكره أحد، بل في الحاضر وكل يوم، وفي كثير من بقاع الأرض » (ووكر، 2018: ص207)

نلمح في هذه الرسالة التي كتبتها تاشي إلى ليزيت دهاء وفطنة الكاتبة التي طبعت كلماتها بمسحة دينية بغرض عتاب رجال الدين على عدم اهتمامهم بمعاناة النساء بالقدر نفسه الّذي اهتموا فيه بمعاناة مسيح صلب منذ زمن الفطحل، في حين لاتزال هؤلاء النساء ولاسيما الزنجيات منهن يصلبن إلى يومنا هذا في مختلف بقاع العالم، بصليب القهر والظلم والتعسف والقسوة وغيرها من الصلبان الدنيئة، لذلك جعلت تاشي التي كرست نفسها لخدمة الدين المسيحي جنبا إلى جنب زوجها آدم المبشر تتفطن إلى هذا الأمر وتعرب عن رغبتها في الحديث باسمها كاشفة معاناتها الخاصة التي تعكس في الوقت نفسه معاناة الجمع الغفير من مثيلاتها، معلنة نهاية مرحلة الحديث باسم باقي الجماعة لأن هذا النوع من الحديث يقتضي النزول عند رغبة الجماعة المستهترة، وهو الأمر نفسه الّذي أشارت إليه عائشة بنور عندما فجرت الطاقة الداخلية لبطلتها بلانكا التي جعلتها تقول :« في السابق كان الانسان بداخلي يتكلم باسم الجماعة، أما اليوم فالإنسان بداخلي يتكلم باسم الأنا. » (بنور،2020: ص52)

إن هذه الأنا مضطهدة لم تجد يدا تدعمها فقررت كسر أغلال الصمت والتكلم باسمها لإنصاف أناها التي تجسد أنا كل امرأة زنجية.

3.3.4. مناهضة الاستعمار 

لم تكثف الكاتبات النسويات جهودهن من أجل اثبات وجودهن والرد على السلطة الذكورية وتقويض الأشكال الأدبية الأبوية فقط، بل سعين أيضا إلى مناهضة الاستعمار بأشكاله المختلفة، تقول آنيا لومبا Ania loomba في هذا الصدد: «العديد من نساء الطبقة العليا التي خرج من صفوفها معظم النساء الضحايا تعلمن الكتابة والتعبير عن أنفسهن، وشاركن في نشاطات معادية للاستعمار.» (لومبا، 2017: ص236) وهذا ما فعلته آليس ووكر وعائشة بنور حين قدمتا صورة إيجابية لامرأة زنجية واعية تفضح جرائم المستعمر في حق الشعوب الافريقية، تقول آليس ووكر «إن علينا استرداد أرضنا، والمطالبة باسترداد الذرية التي باعها شعبنا للعبودية في أرجاء العالم» (ووكر، 2018: ص49)، وتردف القول في موضع آخر:

«هؤلاء المستعمرون أكلة لحوم البشر لماذا لا يكتفون بسرقة أرضنا فقط؛ استخراج ذهبنا، واستئصال غاباتنا، وتلويث أنهارنا، واستعبادنا للعمل في مزارعهم، واغتصابنا وأكل لحومنا، لماذا لا يتركوننا في حال سبيلنا؟ لماذا عليهم أن يكتبوا عن البهجة التي نمتلك سرها؟» (ووكر، 2018: ص204)

منحت الكاتبة المرأة الزنجية حق المطالبة باسترجاع الأراضي وما تحمله من ثروات بشرية وطبيعية لتبين للقارئ قابلية هذه المرأة على الوعي بخلفيات الأحداث وإدراك حيثيات مختلف الجرائم الشنيعة التي يرتكبها المستعمِر الغاشم في حقهم، مثل الاستحواذ على الأراضي والاستعباد والتلويث والاغتصاب وغيرها، مع تبيان حرصها الشديد على الدفاع عن الوطن الّذي تنتمي إليه والّذي تريد أن يكتب الأفارقة عنه وعن تاريخه بدلا من الآخر الّذي يحسدهم على البهجة التي يمتلكونها، والتي وضحت الكاتبة سرها في الأسطر الأخيرة من روايتها هذه.

إنّ المقاومة هي سر البهجة التي أرادت الكاتبة أن يخطها الزنوج بأحرف من ذهب بدلا من كتابتها بقلم الآخر الّذي يبغي في أرضهم فسادا، ويرسم صورتهم كيفما شاء ويشوهها بالشكل الّذي يخدم مصالحه ومصالح ذويه، هذه المقاومة هي نفسها التي شجعتها عائشة بنور بدفع الشعوب الافريقية إلى الخوض في غمارها، بحيث تقول:

« نملك من الموارد الطبيعية والبشرية ما يجعلنا في مصاف الدول المتقدمة، ولكن...؟ نركب قوارب البحر من أجل حياة أفضل، دون ذلك قحط وفقر وإرهاب وحروب ودمار، حتى يسهل الاستيلاء على ذلك المخزون الطبيعي من بين أيدينا» (بنور، 2020: ص21-22)

نلحظ من خلال هذا الاستشهاد فضح الكاتبة لسياسة الاستعمار التي تبث الرعب والهلع في نفوس الأفارقة وتشتت أذهانهم لتدفعهم إلى الهجرة أو الاستسلام والرضوخ للواقع بدل التصدي والمقاومة. ولو خضنا أكثر في هذا الموضوع لوجدنا اللوم والعتاب يقف أيضا على أعتاب المستعمَر الّذي عليه الاستمرار في المقاومة بدلا من السماح للثروات بالانفلات من بين يديه.

4.3.4. سبل الردع

سعت آليس ووكر وعائشة بنور إلى تقديم صورة امرأة زنجية قادرة على ردع الآخر بطرق حضارية سلمية، وهاهي عائشة بنور تقول باسم الشخصية بلانكا ما يلي :

« ولكي أثابر على المضي قدما فلابد أن يمتلأ قلبي بالعاطفة نحو قبحهم الإنساني، وأن لا أكترث لتلك اللهجة الآمرة، والنظرة الدونية، وأن لا ألتفت إليهم كما تلتفت الشمس إلى الخلف وهي تغرب وتنشر الظلام خلفها » (بنور،2020: ص158)

نستنبط من هذه العبارة الواضحة المعالم صورة المرأة الزنجية التي تتجاهل الآخر المتحذلق تجاهلا مطلقا، لم ترد به الكاتبة معنى الخضوع والاستسلام بل أرادت به تبيان وسيلة الردع السلمية العاكسة للنضج الفكري الّذي ينمو حينما يجبر الانسان على التعايش مع محتقره، ثم يدرك ضرورة عدم تكليف نفسه فوق طاقته لأنه على دراية تامة بأن الله بصير بعباده، وهذا يتناسب مع مبادئ الدين الإسلامي الّذي تعتنقه الكاتبة.

وبالنسبة لآليس ووكر فتعرض لنا مقولة تاشي التالية:

«...إذا ما تصرف شخص أبيض بتعجرف فإني ألتفت وأحدق فيه ببساطة، لا أعترف اطلاقا بنظام يجيز السلوك الفج، وأتصرف مباشرة مع المسيء يا لك من غير متحضر! كانت الرسالة التي تحملها نظرتيا.» (ووكر،2018: ص46)

تتجاهل تاشي الآخر تجاهلا نسبيا جعلت منه الكاتبة سبيلا من سبل الردع الذكية المكتفية بنظرة التحدي الرافضة للهيمنة، التي تنزل من شأن الآخر الّذي يدعي التحضر وتعيده إلى منزلته المناسبة دون التعدي عليه أو رد سيئته بسيئة أخرى.

4.4. صورة المرأة في السرد الخيالي 

اكتفت عائشة بنور بالسرد الواقعي فقط بينما فضلت آليس ووكر عرض السرد المزدوج القائم على المزج بين عالم الواقع الفعلي وعالم الخيال المفترض المنتمي إلى فضاء روائي آخر يختلف زمانه ومكانه عن سابقه، حيث تم الانتقال بالتناوب بين الأحداث الحقيقية على لسان البشر والخيالية على لسان الحيوان، لتشكل لنا لوحة فنية معبرة عن مأساة الزنجيات المستلبات بالدرجة الأولى، وما هذا المزج -غير المألوف -إلاّ حيلة من الكاتبة للترويح عن القارئ ومنحه فسحة لإدراك متناقضات الحياة التي تجعل الانسان يعلي من شأنه ويدني من شأن الآخرين باستمرار ودون هوادة حتى يبلغ من الكبر عتيا ولا يجد متسعا لإصلاح أوضاعه أو أوضاع الآخرين الّذين أساء إليهم دون رحمة حتى وافتهم المنية على حين غفلة، وفي كل ذلك توصية لهذا الانسان بأن يدرك دينامية حياته ويراجع حساباته ليعيش متوازنا دون أن يسرح في خياله فيضيع في سحر الفانتازيا أو يغوص في عمق الواقع ليتشرب نقيع سمه فقط، وذلك كله تجنبا له لمطبات الدهر السالف ذكرها، التي ترفع الستارة عنها عند نهاية مسرحية الحياة ، تقول الكاتبة   » وكانت لارا غير مرغوب فيها، حاملا ومعتلة ومفطورة الفؤاد، فالجميع يعلم أنّها غير محبوبة« (ووكر،2018: ص20-21)

رتبت لنا الكاتبة على لسان تاشي قصة الكشماء لارا ( أنثى الفهد) الجميلة والحزينة المنبوذة من قبل الجميع، والتي تموت غرقا في الجدول وهي مرتاحة نفسيا بعد صنعها لعالمها الخاص الّذي رأت من خلاله حسنها الفتان الذي لم يفتن أحدا من مجايليها، ولو تعمقنا في تحليل هذه القصة الخيالية لوجدناها موازية ومكملة للأحداث الحقيقية المسرودة في الرواية، لأنّ صورة الكشماء ما هي إلا انعكاس لصورة تاشي المرأة الزنجية التي تموت وهي راضية عن نفسها في نهاية المطاف.

خاتمة 

لقد وفقت الروائيتان آليس ووكر وعائشة بنور في رسم صورة المرأة الزنجية التي عانت كثيرا من ويلات التحيزات العرقية والجنسية ومن القمع والاستغلال على مختلف الأصعدة وقد تمكنتا أيضا من نقل أحاسيسها ومشاعرها الممزقة بكل صدق وأمانة وعفوية ويرجع الفضل في ذلك إلى فكرهما الناضج ووعيهما الحذق، المتماشي مع قناعتهما الشخصية المشبعة بالقيم الإنسانية السامية التي استحوذت على قلوب القراء، وسلبت عقولهم بفضل القالب اللغوي المتميز والراقي الّذي حواها وحوى معها مختلف القضايا الشائكة التي تغوص في عمق جراح الأنثى الافريقية، كالختان والاغتصاب والاسترقاق والاضطهاد والتعنيف... وغيرها، من القضايا المشتركة بينهما التي تجعل القارئ يتساءل ما إذا تأثرت عائشة بنور بآليس ووكر خصوصا وأنّ هذه الأخيرة سباقة إلى طرح مثل هذه الموضوعات منذ سنوات، ولكن على الأغلب فإنّ هذا الاعتقاد خاطئ ولا يمكن الجزم بصحته، لأنّ التقارب بينهما يعود بالدرجة الأولى إلى تشابه الظروف التي مرت بها الزنجيات في كل زمان ومكان، بالإضافة إلى تفرد كل رواية عن الأخرى، لأنّ لكلّ كاتبة طابعها الخاص الّذي طبعت به عملها الإبداعي والّذي استمدته من بيئتها ومجتمعها، وحسب رؤيتها للعالم ومعتقداتها الدينية والدنيوية وتأثير تجاربها الحياتية على سيرورة فكرها، وغيرها من الأمور التي تجعل من الاختلاف أمرا طبيعيا، فلو نظرنا إلى عائشة بنور لوجدناها تنتمي إلى قطب يبعد عن قطب آليس ووكر بعد المشرق عن المغرب.

تتشكل أغلب صور معاناة المرأة في رواية آليس ووكر بطريقة فلسفية يسودها الغموض الّذي يدفع بالقارئ إلى بذل جهد أكبر عند محاولة فكّ شيفراتها، وهي أقل غموضا في رواية الزنجية لعائشة بنور، كما كان عرض أليس ووكر أكثر جرأة وعمقا، نظرا لما مرت به من تجارب التمييز العنصري القاسية، وما رأته من مشاهد العنف ضد الفئات المهمشة حين ساقتها رياح القدر إلى أماكن عديدة في افريقيا وامريكا معا، بحيث توسعت خارطتها الجغرافية مقارنة بعائشة بنور التي ركزت على فئات محددة وهم ركاب أمواج الهجرة السرية حينما سنحت لها الفرصة للتعرف عليهم وعلى معاناتهم في الجزائر، ووقد كانت نزعتها تفاؤلية أكثر بالمقارنة مع آليس ووكر، بحيث ساقت القارئ بذكاء ليتتبع مراحل تفجيرها لطاقة الزنجية الإيجابية خطوة بخطوة إلى أن بلغت منتهاها.

بنور، عائشة. (2020). الزنجية. الجزائر: دار خيال للنشر والترجمة.

بنور، عائشة. (2021, 29 mars). رسالة فايسبوك.

بوغرارة، خميسي. (2013). النقد الأدبي الزنجي الأمريكي. الجزائر: دار الألمعية.

بن السايح، الأخضرا. (2010). نص المرأة وعنفوان الكتابة. In ملتقى دولي (الكتابة النسوية: التلقي، الخطاب والتمثلات). الجزائر: المركز الوطني للبحث في الأنتروبولوجية الاجتماعية والثقافية.

سميث، شارون. (2019). في تنظير قمع المرأة: النسوية السوداء والتقاطعية. الحوار المتمدن ، العدد 6155.

صبرة، أحمد. (2018). الدراسات النسوية. سياقات اللغة والدراسات البينية ، العدد 02، المجلد 03.

الصدة، هدى. (2002). أصوات بديلة (المرأة والعرق والوطن في العالم الثالث). ترجمة هالة كمال. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.

"عائشة بنور". (د.ت.). تاريخ الاطلاع: 04 أبريل 2021. من https://www.diwanalarab.com

عبد النور، إدريس. (2013). النقد الجندري (تمثلات الجسد الأنثوي في الكتابة النسائية). الأردن: دار فضاءات.

كرينشو، كمبرلي. (د.ت.). استكشاف الهامش: التقاطعية، سياسات الهوية والعنف ضد النساء الملونات. ترجمة موافي تامر، اختيار.

لومبا، آنيا. (2017). في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار. ترجمة غنوم محمد عبد الغني. سورية: دار الحوار.

ليتش، فنست. ب. (2000). النقد الأدبي الأمريكي (من الثلاثينيات إلى الثمانينيات). ترجمة محمد يحيى. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.

محمد، عبير. (2018). السيرة الذاتية للكاتبة أليس والكر. تاريخ الاطلاع: 04 يناير 2021. من https://www.almrsal.com

ملحم، إبراهيم أحمد. (2016). الأنثوية في الأدب: النظرية والتطبيق. عالم الكتب الحديث: الأردن.

ووكر، آليس. (2018). امتلاك سر البهجة. ترجمة دلال نصر الله. لبنان: دار المدى.

Nenni, S., & Asci, Y. (2018). Indicators of feminism and feminist views in Alice Walker’s novel The Color Purple and the Moore Grimké’s work Letter on the Equality of the Sexes and the Condition of Woman. The Journal of International Social Research, 11(54), 135-150.

Peteghen, I. V. (2012). Alice Walker: La sublimation pourpre. Lyon: Merry World Editions.

سيهام برواقن Siham Berouaken

جامعة الجزائر2Alger

مليكة بن بوزة Malika Benbouza

جامعة الجزائر2Alger

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article