مقدّمة
لقد استمرّ الإنسان بوصفه كيانًا لغويًا/ نفسيًا/ اجتماعيًا في إبداع المزيد من أنظمة التّواصل، مستغلاً في ذلك كلّ ما تزوّده به المواقف من علامات لسانية وغير لسانية، ولعلّ وقفة سريعة عند العالم الافتراضي، الذي أصبح يستحوذ على حياتنا المعاصرة تؤكّد الحضور المميّز للبدائل غير اللّسانية، والعودة القويّة للكتابة التّصويرية، التي أكّدت نجاعتها في تعويض بعض مستلزمات التّواصل الشّفوي، وعلى رأسها التّنغيم والانفعالات العاطفية. على هذا الأساس، قدّمت وسائل التّواصل الاجتماعي العديد من البدائل لإتمام إنتاج المعنى وضمان تمام تلقّيه في المقابل، ولعلّ أهمّها مطلقًا لغة الإيموجي Emoji (الصور الرّمزية)، التي تعتبر بديلاً أيقونيًا عاطفيًا مهمًّا عن تعبيرات الوجوه من جهة، وعن التّنغيم المرافق للكلام من جهة أخرى. إلى جانب ذلك تبرز وبوضوح الفلوريوغرافيا Floriography (لغة الزهور)، القديمة المتجدّدة، والتي فرضت نفسها بوضوح وأناقة لتكون بديلاً رمزيًّا صوريًّا، يساهم في التّعبير عن العواطف والمواقف التي يعجز المرسل أحيانًا عن التّعبير عنها علنًا لاعتبارات تفرضها ظروف التّواصل.
إنّ اللجوء إلى هذه اللّغة الرمزية المحكومة بنوع الزهرة ولونها، والمحدّدة وفق ثقافات الشعوب المختلفة وتجاربها وارتباطاتها الدّلالية، وكذا حضورها الأدبي الشّعري خاصّة، يفتح الباب واسعًا أمام تعدّد القراءات، ومنه التّأويل، فتشويش عملية التّلقي، إذ يصبح من الصّعب عندها الإلمام بالدّلالات الرّمزية المنشودة، لتباين المسافة بين مقصدية المرسل وفهم المتلقي.
بناء عليه، تحاول هذه الورقة تقديم تصوّر سيميائي عن مفهوم الفلوريوغرافيا (لغة الزهور)، باعتبارها واحدة من أهمّ البدائل غير اللّسانية في عملية التّواصل الاجتماعي، مع التّركيز على دورها في توضيح الدّلالة أو تعتيمها، وما تخلّفه من تشويش في التلقي، وذلك من خلال الإجابة عن السؤال الآتي: كيف تؤثّر ثقافات الشّعوب المختلفة في إيجاد مواضعاتها الرّمزية؟
وكيف يؤثّر هذا الاختلاف في تعضيد الدّلالة إنتاجًا وتشويشها إدراكًا في وسائل التّواصل الاجتماعي؟
1. من الدّليل اللّساني إلى البديل غير اللّساني
لمـّا كانت السيميائيات علمًا يهتمّ بدراسة كلّ مظاهر الوجود، وكلّ ما من شأنه أن يشكّل دلالة في إطار التّجربة الإنسانية بكلّ خلفياتها واختلافاتها، تجاوزت في موضوعها دراسة النّسق اللّساني لتشمل
« ..كلّ الأنساق التّواصلية التي يستعين بها الإنسان في خلق حوار مع الآخر..، فجلّ التصنيفات الخاصّة بالأنساق السيميائية لا تكتفي بإحصاء العلامات المشتقّة من اللّسان، كما لا تكتفي برصد الأنساق البصرية..، بل تدرج ضمن حقل دراستها مجمل الصّيغ التعبيرية التي يستعملها الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر في حواره مع ذاته ومع الآخر، كالشّم واللّمس والسّمع والذّوق، فالحواس تنتج صيغًا تعبيرية تتمتّع بوضع إبلاغي خاص »(بنكراد 2018، 29/30).
إنّ هذا التوجّه السيميائي الشامل في دراسة عملية الإنتاج الدّلالي، والمركّز على كلّ الدّعامات الأساسية المساهمة في عملية إدراك الظواهر الخارجية قبل أن تتحوّل إلى دلالات عامّة وخاصّة في إطار أنساق ثقافية معيّنة، يفتح المجال واسعًا لتقبّل كلّ ما من شأنه أن ينتج الدّلالة ويحقّق التّواصل ذاتيًا وخارجيًا، هذا التّواصل الذي يقوم به الإنسان « بصفة عامّة لكي يعرف، لكي يعلم، لكي يتأثّر ويؤثّر في نفس الوقت »(حمليل 2016، 08)، وهو ما عكسته عديد الممارسات الاجتماعية على مرّ العصور، ومنها موضوع بحثنا؛ الفلوريوغرافيا، التي أصبحت بحكم مقتضيات التّواصل المعاصر لغة تصويرية بامتياز تساهم في تحقيق/ دعم/ إكمال التّواصل بين شعوب الأرض المختلفة لغة وثقافة؛ حيث فرضت هذه القرية الصغيرة التي تضمّ اليوم آلاف اللّغات والثّقافات، مهدّمة في ذلك، وإن جزئيًا، قيود الزّمان والمكان، ومحقّقة في المقابل سرعة التّواصل وسهولته بما وفّرته من إمكانيات لفظية وبصرية لإنتاج المعنى، في محاولة افتراضية جادّة لتقريب المسافات اللّغوية، وكسر الحواجز الدّلالية بين القائمين بالاتّصال، فرضت، وبقوّة، عودة العلامة الخطيّة إلى صدارة التّواصل البشري، وهو ما يؤكّد مجدّدًا أنّ
« أغلب النّاس يتنبّهون إلى الصّور المرئية أكثر من تنبّههم إلى الصّور الصّوتية وسبب ذلك أنّ الانطباعات الأولى أوضح وأكثر ثباتًا من الانطباعات السّمعية: وهي بذلك تحتلّ مكانة مفضّلة على الانطباعات الأخيرة: فالشّكل الكتابي يحدث انطباعًا لدى النّاس على حساب الشّكل الصّوتي. » (دوسوسير 1985، 44)
ولعلّ اختيار النّاس لها اليوم لتحقيق التّواصل اللّغوي الافتراضي مرهون بتمتّعها بعدد من الخصائص تمدّها بالأفضلية على الصّور السّمعية، وأهمّها عامل الديمومة الذي يمنح المتلقّي متّسعًا من الوقت لتلقّي الرسالة، وتكرار قراءتها بأيّ زمان، بل وحتّى تأويلها، فضلاً عن ميزة الاقتصاد اللّغوي التي تتحقّق فعليًا في اللّغة المكتوبة أكثر منها في اللّغة المنطوقة.
لقد حقّق التّواصل الافتراضي المعاصر نقلة نوعية من خلال قدرته على جمع أكبر عدد ممكن من القائمين بالاتّصال، مع اختلاف مرجعياتهم الثقافية ومواضعاتهم اللّغوية والرّمزية، وهو ما خلق رغم ما وفّره من سرعة في إنتاج الدّلالة على مستوى المرسل وسرعة إدراكها على مستوى المتلقي، نوعًا من التّشويش تسبّبت فيه وضعيّتان أساسيّتان: التّعويض اللّغوي والعجز اللّغوي. لقد تسبّبت هاتان الوضعيّتان في الاستعاضة عن لغة الكتابة بلغة أخرى، تشترك معها في صفة المرئية، وتخالفها في عناصر بنائها الجزئية، وهو ما سمح بعودة الكتابة التّصويرية بقوّة، حتّى غدت بديلاً غير لساني يساعد لغة الكتابة في إتمام إنتاج المعنى أيقونيًا أو رمزيًا، لتغدو اللّغة، في إطار هذه الأفضية الافتراضية (فيسبوك Facebook/ ماسنجرMessenger / فايبر Viber / وي شاتWe Chat / واتس ابWhats App ..)، انفتاحًا دلاليًا على بدائل غير لسانية تمنح المزيد من الفرص لتحقيق التّواصل وتجاوز معوقاته، ذلك أنّ
« ..الإنسان لا يستطيع التعبير عن أفكاره إلاّ عن طريق وسيط مادي قادر على التّعبير السليم عن المعاني في الأعمال أو الرسائل الاتّصالية التي لابد أن تتجسّد بصورة ما، ومن دون هذا التجسيد لا يمكن لأحد أن يعرف مضمونها، وهنا يبرز دور اللّغة باعتبارها منظومة رمزية.. »(مؤنس، 2008، 56).
إنّ هذه العودة الصريحة والمركّزة للرّسوم الرّمزية باعتبارها علامات/ بدائل غير لسانية تحقّق بما تقدّمه من سهولة وسرعة في استحضارها تواصلاً لغويًّا منوّعًا تتخطّى فيه بلاغة الصّورة بلاغة الكلمة بما تصنعه من مفاجآت ومفارقات، يرتبط فهمها بنسبة التّطابق الدّلالي أو الاطّلاع الثّقافي الحاصل بين طرفي عملية التّواصل؛ أي بين « المرسل الذي لابدّ أن يرسل الرموز عن طريق وسيط ما والمتلقي الذي سيقوم بالاستقبال فيحلّل الرّموز ويفسّرها »(مؤنس، 2008، 56)، وهو ما يؤكّد أنّ فهم هذه الرسائل المنتجة أيقونيًا أو رمزيًا خاضع بدوره للتّجربة الإنسانية المتعدّدة السّياقات والمقاصد.
2. اللّغة الافتراضية والكتابة التّصويرية
تحاول وسائل التّواصل الاجتماعي اليوم، وباستمرار، استثمار كلّ ما يمكن استثماره من الصّيغ التعبيرية التي يوظّفها الإنسان في تحقيق التّواصل سواء مع أناه أم مع الآخر، ولعلّ أهمّها مطلقًا التّطبيقات الافتراضية البصريّة والسّمعية، في محاولة صريحة لإعطاء حياة/ حيوية لتلك الرّسائل السّريعة، التي باتت تجمع أكبر قدر ممكن من القائمين بالاتّصال، في إطار تعدّدية لغوية/ ثقافية/ اجتماعية تبرز اختلافًا وتباينًا على مستويات عديدة. ولعلّ نظرة خاطفة في طبيعة هذه الوسائل وطريقة عملها تثبت، دون شكّ، أنّ الكتابة التّصويرية باتت تأخذ منها نصيبًا معتبرًا قياسًا بالمكتوب والمنطوق، إنّها العودة لتاريخ الكتابة الأوّل. لقد أعادت اللّغة الافتراضية - رغم التطوّر السّمعي البصري الذي بلغته- الإنسان المعاصر إلى ممارسات الكتابة القديمة، حين كانت المعاني تلخَّص جزئيًا في صور أقرب ما تكون للواقع البسيط الذي يعيشه، كنقوش الطاسيلي الجزائرية، أو الكتابة الهيروغليفية الفرعونية... ويمكننا الحديث بهذا المقام عن نوعين بارزين من الكتابة التّصويرية الافتراضية، هما: لغة الإيموجي ولغة الزهور.
1.2. لغة الإيموجي Emoji
تطلق لغة الإيموجي مجازيًا على مجموعة الرّموز التّعبيرية الرّقمية التي تلخّص لغة الجسد خاصّة في شكل أيقوني، وقد جاء في عدد من المواقع والجرائد الإلكترونية أنّ: كلمة « إيموجي » يابانية الأصل سرعان ما انتشرت بين كلّ اللّغات، وهي تعني اصطلاحًا الصّور الرّمزية أو الوجوه الضاحكة المستخدمة في الرّسائل الإلكترونية اليابانية وصفحات الويب، وأصل الكلمة منحوت من كلمتين؛ (e- إيه- الصورة) و(moji- موجي- الحرف أو الرمز)، ويُقصد بها الكلمة المصوّرة. وقد كانت الكلمة الإنجليزية الشائعة قبلها هي « إيموتيكون » emoticon، اختصارًا لكلمتي emotional أي عاطفي وicon أي الأيقونة، وهي عبارة عن وجوه تحمل مشاعر مختلفة. والحروف الأولى بين الكلمتين هي محض مصادفة، فـ « إيموجي » اليابانية ليست مشتقة من « إيموشن emotion الإنجليزية، أي العاطفة. وأمّا الجانب المشترك بينهما أنّهما يحمّلان نصوص الدّردشة مشاعر مختلفة بلغة يفهمها الجميع مهما اختلفت مشاربهم الثقافية(Wikipedia, Emoji 2024)، إنّها وببساطة لغة الجسد وانفعالاته العاطفية ملخّصة في عدد من الصور.
بناءً عليه، وإذا ما سلّمنا أنّ الأيقونات علامات لها علاقات تشابه وتماثل مع ما تحيل عليه في الواقع، أو «أنّها تلك العلامات التي تستطيع تمثيل موضوعها بواسطة شبهها به» (إيكو 2008، 29) على حدّ تعبير (بيرس)، أمكننا القول إنّ هذه الأيقونات وضعت للمساهمة في نقل العواطف والانفعالات البشرية المصاحبة لفعل التّواصل بالدّرجة الأولى. وتشكّل أيقونات الإيموجي المنتشرة على منصّات التّواصل الاجتماعي، وتحديدًا في إطار خدمة التّراسل الفوري، معجمًا محدودًا من حيث العلامات والمدلولات؛ حيث تنقل مجموعة من المعاني الجاهزة افتراضيًا، ولا تخضع لقوانين النّظام اللّغوي البشري، كالقدرة على التقطيع، أو التركيب، كما لا تتمتّع بسمة الإبداعية في حدّ ذاتها، فهي، ورغم نجاحها، لحدّ ما، في نقل الانفعالات البشرية وتعويض ظاهرة التنغيم المرافق للكلام، أو حتّى المساهمة في إتمام إنتاج المعنى، تبقى غير قادرة على توليد الجمل والمعاني، ما يجعلها لغة آنية الحضور، توظّف كعنصر دعم معنوي لتحقيق السّرعة وإضفاء المتعة على عملية التّواصل.
وبما أنّ «.. العلامة الأيقونية قد تولّد عدّة دلالات بناءً على علاقتها بذاتها وبموضوعها وبمؤوّلها من جهة» (المكي 2021، 134)، وجبت علينا الإشارة هنا، إلى أنّ هذه الأيقونات، رغم كلّ ما تقدّمه من توضيحات عن الحالة الشّعورية لطرفي عملية التّواصل، فإنّها تشكّل حقيقة عنصر تشويش على عملية التلقّي، يتّضح ذلك من خلال الممارسات الآتية :
-
قد تُوظَّف هذه الأيقونات في غير ما وضعت له أساسًا، خاصّة إذا ما علمنا أنّ كلًّا من المرسل والمتلقي يستعملها في غالب الأحيان دون دراية مسبقة بمعانيها الحقيقية، وهو ما يسبّب عدم إدراك فعلي لدلالتها المقصودة في التّواصل.
-
إنّ السّرعة في استحضار هذه الأيقونات وتوظيفها لإنتاج الدّلالة قد تساهم في زيادة احتمالية الخطأ في فعل الاختيار، وهو ما يؤدّي أيضًا إلى تشويش التلقّي.
-
إمكانية تحريف استعمالها المقصود من قبل المرسل أو المتلقّي لأغراض وسياقات خاصّة بهما، كأن يعبّر عن موقف الحزن بأيقونة الضّحك بغرض الاستهزاء مثلاً.
2.2. لغة الفلوريوغرافيا
تعدّ لغة الزّهور التي وقّعت حضورها منذ قرون عديدة في حضارات الشّرق والغرب، كالحضارة الصينية والفرعونية والفارسية واليونانية.. لغة رمزية مشفّرة تستثمر إشارات النّوع واللّون والعطر لبناء رسائل خاصّة(Wikipedia, Language of flowers 2024 )، تتنوّع أو تتمايز دلالاتها استنادًا للجماعة الثقافية التي تتبنّاها، هذه اللّغة التي تشكّل في حقيقتها لغة عاطفية منبثقة من محصّلة التقاء الحواس؛ البصر/ الشّم/ اللّمس، انتقلت بكلّ سهولة ويسر من التّواصل المباشر الحي بين البشر إلى التّواصل الافتراضي في إطار وسائل التّواصل الاجتماعي، لتغدو بذلك لغة تصويرية، فقدت خواصّها الحسيّة الشميّة واللّمسية تحديدًا، لتفتح المجال أمام سيطرة اللّون والشّكل بدرجة خاصّة؛ حيث تعتمد على هذين العنصرين في بناء نصّها الزّهري، القابل لتعدّد القراءة نتيجة تعدّد الثقافات ومواضعاتها الرّمزية.
إنّها لغة عالمية، وُجدت لخلق مجال أرحب من التّقارب البشري؛ حيث تغدو باعتبارها أداة ماديّة لترجمة الأحاسيس والمشاعر لغة واحدة تجمع الفرد بالآخر/ الغريب، مهما كانت انتماءاته اللّغوية والاجتماعية، مكتفية في ذلك بالأثر الذي تحدثه الألوان خاصّة، ثمّ الأشكال فالأنواع في الذات البشرية التوّاقة لكسر حواجز الصّمت مع هذا الآخر. ويتمّ ذلك على مستويين:
-
إمّا من باب التّعويض اللّغوي في إطار العلاقات العامّة/ المجاملات الاجتماعية.
-
أو من باب العجز اللّغوي في إطار العلاقات الخاصّة/ العاطفية.
إذ تسهم الفلوريوغرافيا بحضورها الفوتوغرافي، الذي يمارس نوعًا من الإغراء المقصود عادة، في سيرورة خدمات التّراسل الافتراضي، أي في دعم الاتّصال/ التّخاطب الشّخصي(تشاندلر 2002، 90) المتزامن، فضلاً عن التّخاطب الجماهيري، وهكذا تغدو »لغة الزهور رسالة نبيلة وبسيطة ومعبّرة بصدق عن أي شعور، ففي الفرح تجد الزهور، وفي المرض تجد الزهور، وفي الحب ترسل الزهور أسهم كيوبيد، وفي العزاء تجد الزهور معبّرة، وفي أيّ شعور تجد الزّهور تتحدّث بدلاً منك« (عوض، عالم الزهور، لغة واحدة لكلّ البشر 2017).
وقد حاولنا في مايلي لملمة تفاصيل هذا الموضوع من خلال المخطط الآتي :
ولابدّ من الإشارة هنا، إلى أنّ هاتين اللّغتين، رغم اعتمادهما المطلق على الصّورة ورمزيّتها، فإنّ هناك اختلافات بينهما، تتمثّل في كون اللّغة الأولى؛ الإيموجي، لغة أيقونية، لا تتطلّب في قراءتها خلفية ثقافية وذلك أنّها أقرب نموذج معبّر عن الملامح البشرية العاطفية، وهي واحدة مهما اختلفت انتماءات البشر العرقية والاجتماعية والثقافية، لأنّها تشكّل في حقيقتها معجمًا مصوّرًا عن لغة الجسد.
في حين تعتبر اللّغة الثانية؛ الفلوريوغرافيا، لغة رمزية تتجاوز في قراءتها دلالات اللّون والنّوع وانعكاساتها النّفسية على المتلقي، إلى الخلفية الثقافية للمجتمع الذي يتبنّاها رمزًا للتّعبير عن عواطفه، وهو ما يفتح باب التّأويل واسعًا أمام المتلقّي الغريب عن هذه الثقافة؛ ومنه يتحقّق التّشويش في التلقّي لاختلاف المواضعات أوّلاً، وتخفّي المقاصد القابعة خلف عملية التّواصل أحيانًا، فالزهرة واحدة على مستوى المرجع، لكنّها مختلفة حين تدخل حيّز التّواصل والتّلقي.
3. النّص الفلوريوغرافي وتشويش التلقي :
إن كان استعمال الإيموجي في عملية التّواصل الافتراضي المؤسّس على أيقونات مشابهة للغة الجسد المشتركة التي تعكس العواطف البشرية فتعطي للغة الكتابة شيئًا من التفاعل والتطابق والحيوية والاختصار، ينتهي في كثير من المواقف بتشويش على مستوى التلقّي، فإنّ استعمال الفلوريوغرافيا المؤسّس على رموز يستحضرها المرسل لحظة الإنتاج وأخرى يتأوّلها المستقبل لحظة التلقي يعدّ أكثر تشويشًا، ذلك أنّ إدراك الرّمز الزّهري يختلف من مكان إلى مكان ومن ثقافة إلى ثقافة أخرى، فالمرجع واحد ولكنّ المدلول مختلف، تحكمه المواضعات التي تتباين بدورها من مجتمع إلى آخر.
إنّ عمليّتي الإرسال والتّلقي »..هما عمليّتان عقليتان معرفيّتان يجتهد فيهما المرسل والمتلقي للحصول على أفضل تشكيل لغويّ للتّعبير عن المعاني والمضامين في الرسائل الاتّصالية المتبادلة بينهما« (مؤنس 2008، 56)، وواقعيًّا، فإنّ هذا الاجتهاد يؤتي أكله ويحقّق مقاصده إن كان هناك توافق رمزي/ اجتماعي بين طرفي التّواصل، سواء أكان تخاطبًا شخصيًّا كرسائل الدردشة الخاصّة، أم جماهيريًّا كمنشورات الصفحات الشّخصية والمجموعات العامّة. وبالمقابل فإنّ هذا الفهم الذي يُسعى إلى تحقيقه سيضيع بحالة الاختلاف الرّمزي/ الاجتماعي بينهما.
وهو ما يعني أنّ استعمال الفلوريوغرافيا يخضع بالدّرجة الأولى لسلطة السياق الثقافي، إذ قد يستعمل مرسل ما صورة لزهرة يقصد بها شيئًا ما، ليتفاجأ بعدها أنّ المتلقّي فهم منها شيئًا آخر، ومردّ ذلك اختلاف الدّلالة الرّمزية بين ثقافتي المرسل والمتلقي، بل إنّ الزهرة الواحدة قد تتعدّد رمزيّتها في إطار الثقافة الواحدة، وذلك بتعدّد عناصر قراءتها كالألوان والأعداد والعطور، يظهر هذا بوضوح عند بعض المجتمعات وليس كلّها، إذ هناك تفاوت واضح في استحضار هذه اللّغة الزهرية وفي توظيفها على مستوى العلاقات العامّة (الاجتماعية)، والعلاقات الخاصّة (العاطفية). إنّنا ».. ننتج معاني مرتبطة بسياقات لا حول ولا قوة للأشياء داخلها عدا أنّها مثيرات يعاد تعريف الكون من خلالها ضمن علاقات مستحدثة في الذاكرة الثقافية، لا في الوجود الطبيعي «(بنكراد 2018، 19)
1.3. اختلاف المواضعات
لقد تواضعت الشعوب باختلاف ثقافتها ومعتقداتها منذ أزمان بعيدة على تحميل هذا الكم الهائل من الزهور معاني رمزية خاصّة، فمن الكتب المقدّسة؛ »أنا نرجس شارون، سوسنة الأودية. كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين النبات« (نشيد الإنشاد/ 9.1 :2)، إلى الطقوس الدينية الهندوسية، إلى النّصوص الشعرية الصينية والعربية والغربية.. إلى العصر الفيكتوري حيث تحوّلت هذه الزّهور إلى وسيلة للتّواصل، تعتمد لغة سريّة مشفّرة لها معجم خاص يتمّ توظيفه لنقل الرسائل بين الأشخاص تعبيرًا عن مشاعرهم.
إنّ ترميز الزّهور في الحالة الأولى، أو تشفيرها في الحالة الثانية يصبّ في بوتقة واحدة من الغموض والإيحاء، ويفتح الباب واسعًا للتّأويل، وهو ما يسهم من جهة في تجاوز مواقف العجز اللّغوي والإحراج والخجل والتردّد في التّواصل، كما يسهم من جهة أخرى في تشويش عملية التلقي نظرًا لانفتاح القراءة على احتمالات تزداد تباعدًا بازدياد المسافة بين الهوّيات الثقافية، وبالحالتين فإنّ التّواضع المشترك عليها بين المرسل والمتلقي سيضحي شرطًا ضروريًا لبلوغ المقاصد من هذا التّواصل.
يظهر ذلك بوضوح حين نكتشف أنّ الدّول تختار زهورًا لتكون لها رموزًا تطلق عليها الزهرة الوطنية، ومن أشهر الأمثلة المنتشرة على صفحات الويب عن ذلك نذكر :
-
تركيا: زهرة التوليب، وترمز للسلام والازدهار.
-
مصر: زهرة اللوتس، وترمز للولادو من جديد.
-
الصين: زهرة الخوخ، وترمز لحصاد الحب والسعادة وطول العمر، ولهذا توضع للزينة في العام الجديد.
-
فلسطين: زهرة شقائق النعمان، وترمز للصمود والتراث الفلسطيني الأصيل.
-
اليابان: زهرة الكرز (ساكورا)، وترمز للجمال والحياة سريعة الزوال.
-
الأردن: زهرة السوسنة السوداء، وترمز للملكية.
-
كوريا: زهرة الشارون، وترمز للإخلاص والكرم والمثابرة.
-
بريطانيا: الوردة الحمراء، رمز حزب العمال البريطاني.
والأمثلة على ذلك كثيرة ولا يمكن حصرها، وهي تثبت أنّ للزّهور حضورًا خاصًّا عند الشعوب المختلفة، ويمكن لها أن تكون مرآة تلخّص شيئًا من تاريخها أو تصوّراتها.
2.3. اختلاف المقاصد
إن كانت المواضعة بين المرسل والمتلقي شرطًا ضروريًا لبلوغ المقاصد عمومًا، فإنّ عدم تحقّق المواضعة في الرسائل الزّهرية المتبادلة افتراضيًا سيؤدّي بالمقابل إلى عدم تحقّق المقصد، وذلك أنّ الإفادة من الرسائل الزّهرية المرسلة تحدث بعد تقدّم المواضعة عليها، ولكي تفهم الرسالة الزهرية فهمًا صحيحًا لابدّ من اشتراك المواضعة الرّمزية بين المرسل والمتلقي، ويحدث ذلك من خلال :
-
الانتماء الثقافي؛ حيث تتطابق المدلولات بين الإرسال والاستقبال.
الاطلاع الثقافي؛ حيث تتقارب المدلولات بين الإرسال والاستقبال. ففي الحالة الأولى يكون الفهم واحدًا، فينجح التّواصل ويتحقّق المقصد. وفي الحالة الثانية، قد يأخذ الفهم طريقًا أطول لكنّه أنجح للتّواصل وأقرب للمقصد. أمّا في الحالة الثالثة، والتي يكون فيها الاختلاف الثّقافي صارخًا بين أطراف العملية التّواصلية، يؤيّده بوضوح البعد عن الآخر أو الجهل به، فغالبًا ما سينتهي توظيف الفلوريوغرافيا باعتبارها لغة سريّة مشفّرة إلى تعدّد القراءات بل تباينها وتناقضها، وهو ما يولّد حالات من عدم الفهم بدرجة أخف، وأخرى من سوء الفهم على درجة أعلى.
ومن الأمثلة المنتشرة في صفحات الويب على ذلك أنّ :
-
الفرنسي: يمنع تبادل الورود الحمراء لأنّها في ثقافته للمتحابين فقط وتعبّر عن طلب الزواج.
-
الألماني: يحبّ الأزهار دون تغليف، لأنّ الغلاف يرمز لسوء الحظ.
-
البولندي: يحب أن يكون عدد الأزهار فرديًا في الباقة.
-
الياباني: لا يحب اللون الأبيض لأنّه رمز للموت.
-
الكوري: يمنع تبادل الزنبق في المناسبات السعيدة لأنّه خاص بالجنازات.
ويظهر لنا بوضوح من خلال هذه النماذج أنّ بلوغ المقاصد من تبادل الرسائل الزّهرية مرهون فعلاً بثقافة الشعوب، وأنّ المواضعات الرّمزية المختلفة ستؤدّي لا محالة إلى تشويش عملية التلقي.
4. منطلقات تحليل الخطاب الفلوريوغرافي
إنّ الحديث عن الفلوريوغرافيا ترميزًا أو تشفيرًا يعني أنّنا في صميم العمل السيميائي، ولبلوغ المطلوب من هذه الرسائل الزّهرية لابدّ من تحليل مكوّناتها، هذا التّحليل »..يشير إلى الإجراءات التي تستخدم لوصف موضوع سيميوطيقي. وإذا نظرنا إلى أيّ موضوع سيميوطيقي بوصفه موضوعًا دالاً كليًّا، فإنّ هذه الإجراءات تهدف إلى تأسيس العلاقات بين كلّ من العناصر المختلفة للموضوع، والعناصر المؤلّفة له، ثمّ بينهما وبين الكل"( ماتن، فليزيتاس رينجهام, برونوين 2008، 38). ويتأسّس تحليل الخطاب الفلوريوغرافي على عدد من العناصر نلخّصها فيما يلي :
1.4. سيميائية النّوع
تختلف الشّعوب في إسناد الدلالات إلى الأزهار من حولها، وذلك أنّ الأمر مرتبط بوجود هذا النّوع الزّهري أو غيابه من بيئة ذلك الشّعب، ولذلك نجد أنّ بعض الثقافات تعنى استنادًا لبيئاتها الطبيعية والاجتماعية بالزّهور ورمزيّتها، في حين تغيب في ثقافات أخرى، ودليل هذا الغياب إنزال كلّ الزّهور منزلة واحدة، فلا فرق فعلي بينها.
وقد أثبت البحث في بعض المراجع على ندرتها والمواقع على كثرتها أنّ لكلّ نوع من أنواع الزّهور معنى يعبّر عنه، وأتصوّر أنّ أغلبها مرتبط بمعجم مصغّر باللّغة الانجليزية لمؤلفته (باترشيا تيليسكو): A Victorian Grimoire ؛ حيث تنقل كلّ زهرة منها رسالة مشفّرة للآخر، ومن أشهرها نذكر :
زهرة الأكاسيا: الحب السرّي |
زهرة القرنفل: الحب النّقي |
زهرة الزعفران: كن حذرا مع قلبي |
زهرة الجيرانيوم: أنا أحبك دونًا عن الآخرين |
زهرة الأقحوان: الحقيقة والصدق |
زهرة الأوركيد: الجمال نادر وغريبة |
زهرة مسك اللّيل: الإخلاص |
زهرة الجاردينيا: السعادة والفرح |
زهرة الهندباء البرية: المغازلة |
زهرة اللافندر: الريبة، قلب متقلب |
زهرة الفاوانيا: الخجل |
زهرة التوليب: إعلان الحب |
ومع ذلك، فإنّ هذه المعاني ليست ثابتة بكلّ الثقافات، ومثال ذلك أنّ القرنفل الذي يرمز للحب النّقي يرتبط عند الفرنسيين بالجنازات، وعليه فهو يصلح للتعازي فقط، ويمنع تبادله بالمناسبات السّعيدة كالتهاني والأعياد.
2.4. سيميائية اللّون
لا ترتبط الألوان في حياتنا بالأزهار وحدها، إنّها لغة رمزية أخرى تحضر معنا يوميًا، تؤثّر في اختيارتنا ونفسياتنا، بل وربّما تؤثّر حتّى في علاقاتنا الاجتماعية ببعض المواقف، وإن كانت بعض الشعوب تعطي قيمة للون الأزهار عمومًا، فكلّ ما وقع تحت مظلة الأحمر يعبّر عن ذات المعنى، وكلّ ما وقع تحت مظلة الأزرق أو الأصفر أو البنفسجي... كذلك، فإنّ شعوبًا أخرى تركز في لون الزّهرة ضمن النّوع الواحد منها، فتتعدّد الدلالة الرّمزية للزّهرة الواحدة بتعدّد ألوانها، ومن أشهر الأمثلة عن ذلك نذكر أشهر الأزهار وأحبّها عالميًا؛ زهرة الورد:
الورد الأحمر: يعني الحب الحقيقي |
الورد الأبيض: يعني البراءة والنقاء |
الورد الأصفر: يعني الصداقة |
الورد الأزرق: يعني الغموض |
الورد الأسود: يعني الموت |
الورد البرتقالي: يعني العاطفة |
على هذا الأساس فإنّ إرسال لون معيّن يصلح في مواقف ولا يصلح في أخرى، ومنها أنّه يمنع إرسال الورد الأحمر للاعتذار لأنّه يعبّر عن العاطفة الشّديدة والشّغف، ويمنع إرسال البنفسجي لأنّه يعبّر عن الملكية ومنها التّعبير عن الغرور، والأفضل إرسال الأبيض للاعتذار لأنّه لون النّقاء والسّلام. ومع ذلك فإنّ المرسل مطالب بالحذر عند التّعامل مع الثقافات الآسيوية لأنّ الأبيض عندهم مرتبط بالحزن وبالجنازات.
من جهة أخرى قد تختلف الثقافة الواحدة في رمزية اللّون في الأزهار، فالأصفر مثلاً يرمز عند الفرنسيين إلى الأنانية ويرتبط بدلالة المرض والموت، بالمقابل فهو يعبّر عند الإنجليز عن عاطفة الغيرة، وهو ما يخلق شيئًا من عدم الارتياح.
3.4. سيميائية العدد
-
يلعب عدد الزّهور في الباقة الحقيقية أو الافتراضية باعتبارها صورة عن الأولى، دورًا مهمّا في إنتاج الخطاب الزّهري، وإيصال المعنى للطرف الآخر في الاتّصال، ومن بعض المعاني الدارجة على المواقع والجرائد، والتي تدخل في إطار الإيتيكيت، وبناء العلاقات العامّة بين الأفراد والعلاقات الرّسمية بين المؤسّسات والدّول، نذكر ما يلي :
-
الوردة الواحدة: لها معنى عميق في قاموس الحب، فالصفاء لا يحتاج للثرثرة.
-
الزهرة الواحدة من أي نوع: تؤكد المعنى الذي تعبّر عنه دون غيره.
-
الباقة المتعدّدة نوعًا وعددًا: تعبّر عن مشاعر متعدّدة وهي تصلح لعلاقات الصداقة.
-
الباقة المتعدّدة من نوع واحد: يرتبط المعنى فيها بدلالة العدد في كلّ ثقافة، فمثلاً للعدد 7 دلالة دينية أو روحانية، وللعدد 12 في أمريكا حضور ضروري في الباقة، وفي أوروبا عمومًا لا أهميّة للعدد، أمّا في بعض الثقافات الأخرى فإنّ العدد 13 يحمل معنى سلبيًا فيجب تجنّبه وذلك بثقافتنا الدّينية من التطيّر، وفي بعض دول آسيا يعبّر العدد 4 عن الحظ السيء والشؤم.
الخاتمة
تعدّ الفلوريوغرافيا اليوم واحدة من أهمّ وسائل دعم الاتّصال الافتراضي، بل أصبحت ميزة من مميّزاته؛ حيث يمكنها المساهمة في اختصار المسافات الزّمنية واللّغوية والاجتماعية، لكنّها تبقى بالمقابل خاضعة لسلطة السّياق الثقافي، الذي يؤدّي الجهل به عادةً إلى تشويش التلقي وضياع المقاصد بين أطراف العملية التّواصلية. ولعلّ هذه الآليات المعتمدة في تحليل الخطاب الفلوريوغرافي من نوع وعدد ولون، أثبتت وبنسبة ما أنّ لكلّ طرف من أطراف التّواصل معتقدًا يستند عليه في إنتاج أو إدراك الرّسالة الزّهرية، وبهذه الحالة فإنّ الاعتباطية في الاختيار قد لا تحقّق الهدف المرجوّ من الاتّصال سواء كان ضمن العلاقات العامّة أم العلاقات الخاصّة، بل قد تحرّفه تمامًا، ولهذا وجب علينا أخذ ثقافة الآخر بعين الاعتبار عند التّواصل معه، فللأنواع والألوان والأرقام تفسيراتها المختلفة باختلاف المواضعات الرّمزية بين الشعوب والثقافات.