الحكمة الإيكولوجية، من أجل أخلاق وجماليات المدينة عند أرني نايس وفليكس غتاري

L’écosophie d’Arne Naess et Félix Guattari : Une approche éthique et esthétique de la ville

Arne Naess and Félix Guattari’s Ecosophy : An Ethical and Aesthetic Approach to the City

بلقصير مصطفى

بلقصير مصطفى, « الحكمة الإيكولوجية، من أجل أخلاق وجماليات المدينة عند أرني نايس وفليكس غتاري », Aleph [], 13 November 2024, 24 November 2024. URL : https://aleph.edinum.org/12946

يهدف هذا المقال إلى الكشف عن تطبيق مفهوم الحكمة الإيكولوجية عند أرني نايس وفيلكس غتاري في المجال الحضري، مما يتيح التوفيق بين مجالين من الدراسة الفلسفية اللذين ظلا منفصلين: الإيكولوجيا والمدينة. تعد الحكمة الإيكولوجية إطارًا نظريًا للفكر، لكنها أيضًا فلسفة عملية متجذرة في « الممارسة ». من خلال النظر إلى الظاهرة الحضرية من منظور إيكولوجي عند نايس وغتاري، يمكننا تجديد رؤيتنا للمدينة وتحدياتها الحالية. يعتمد هذا النهج على عدة أبعاد تكاملية.

Cet article vise à dévoiler l’application du concept de sagesse écologique d’Arne Naess et Félix Guattari au domaine urbain, permettant ainsi de concilier deux champs d’études philosophiques longtemps séparés : l’écologie et la ville. L’écosophie constitue à la fois un cadre théorique de réflexion et une philosophie d’action ancrée dans la « pratique ». Réfléchir au phénomène urbain à travers la perspective écologique de Naess et Guattari nous offre la possibilité de renouveler notre perception de la ville et de ses enjeux actuels. Cette approche se déploie selon plusieurs dimensions complémentaires.

This article aims to explore the application of Arne Naess and Félix Guattari’s concept of ecological wisdom to the urban realm, thus bridging two previously disconnected fields of philosophical study : ecology and the city. Ecosophy serves as both a theoretical framework and a practical philosophy rooted in « action. » By examining the urban phenomenon through the ecological lens of Naess and Guattari, we can refresh our understanding of the city and its current challenges. This approach involves several complementary dimensions.

مقدمة

إحتلت مسألة التقدير الجمالي مكانة مركزية في الفلسفة الجمالية منذ عصر التنوير، وكان الإهتمام فيها يتعلق بشكل أساسي على الأعمال الفنية، ومنذ النصف الثاني من القرن الماضي، تحول الإهتمام نحو الأشياء وكذلك البيئات البشرية وغير البشرية، وهذا الجانب الثاني هو الذي يهدف إليه بحثنا، خاصة ما يتعلق منه بجماليات البيئات الحضرية. لقد أصبحت جماليات البيئة الجديدة خطابا موجه نحو الجماليات وكذلك الأخلاق البيئية التي تدافع عن الاهتمام والموقف الأخلاقي اتجاه الطبيعة، تجلى بشكل أساسي في خطاب السياسات العامة البيئية في عصرنا.

إن الوعي بحقيقة أننا نمر بأزمة بيئية تشكل في الستينيات، وأدى إلى تعديل عميق في فكرة أن الإنسان يهيمن على الطبيعة ويحتل مكانة متميزة فيها. ومن الفلاسفة الذين أسهموا في تشكيل هذا الوعي، نجد الفيلسوف النرويجي أرني نايس والفيلسوف الفرنسي فليكس غتاري، من خلال تقديمهم رؤيتين مختلفتين، لكن إنطلاقا من مفهوم مشترك وهو الحكمة الإيكولوجية، فكلاهما يرى أننا بحاجة إلى ما يسمى الحكمة الإيكولوجية (Ecosophie) بدلاً من (الفيلوسوفيا) أي الفلسفة، وأرني نايس هو أول من نحت مفهوم الحكمة الإيكولوجية.

لم يلتقي نايس مع غتاري ولم يشير أحدهما إلى الآخر، ولكن هذا لم يمنعهم من تقاسم أرضية مشتركة، تؤكد على الجمود الاجتماعي، وإنتقادهم الرأسمالية لدورها في هذا الجمود. تُستنبط الحكمة الإيكولوجية وفقًا لأرني نايس من فلسفة البيئة، لأنها تقدم مفتاحًا للقراءة وإطارًا للفكر، وفلسفة للفعل أو السياسة، وهي رؤية لمشروع تحول عالمي. في حين يعد الإنتاج النظري والتوجه نحو التطبيق العملي لمعالجة الحقائق المعقدة للعالم، علامة للإنتاج في رؤية فليكس غتاري للحكمة الإيكولوجية، وهي غنية بحساسية حضرية. تجعلنا كلا الرؤيتين نطرح الإشكالية التالية :

كيف تمكنت الحكمة الإيكولوجية المقترحة بشكل خاص في بُعدها التحليلي من تجديد نظرتنا للمدن كظاهرة، والتشكيك في ممارساتنا الحضرية؟

والفرضيات التي يمكن أن تغطيها الإيكولوجيا الحضرية، يمكن التعبير عنها بمفاهيم وقيم كالتالي :

  • تحالف الإنسان مع الأرض والمحيط الحيوي من أجل مدينة عضوية.

  • التعاون المتبادل والترابط بين سكان المدن والمناطق الحيوية الحضرية.

  • التواصل عبر المدينة كمتجه للوفاء الفردي والإبداع الجماعي.

  • الإحسان كأخلاق حضرية للتضامن والضيافة واحترام تفرد المكان.

أما الأهداف التي نسعى إليها فهي :

  • إمكانية التفكير فيما إذا كان مفهوم الحكمة الإيكولوحية، يناسب بشكل واضح في فهم الظاهرة الحضرية العالمية، كما نختبرها في عصرنا، وتحفيزنا على فتح مسارات جديدة لإعادة التفكير في طريقة حياتنا وعيشنا في المدينة.

  • من المهم تتبع نسق تشكل مقاربتين لكل من أرني نايس وفليكس غتاري، ومجالات تأثيرهم والمسار الذي قادهم إلى إبداع مفهوم الحكمة الإيكولوجية.

ولمعالجة الإشكالية التي وضعناها، وبما يتناسب معها إستخدمنا المنهج التحليلي والمنهج المقارن في تحليل نصوص ومقارنة رؤيتين مختلفتين للحكمة الإيكولوجية.

1. السيرة الذاتية والمسيرة الفكرية لنايس وغتاري

1.1. أرني نايس 

إسمه الكامل أرني ديك أيد نايس Arne Dekke Eide Naess ولد سنة 1912، وتوفي في 12 يناير 2009، فيلسوف نرويجي ومتسلق جبال وناشط في المجال البيئي. كان عضوًا في دائرة فيينا، وعمل لاحقًا على نطاق واسع في القضايا البيئية، وتطوير مفهوم « الإيكولوجيا العميقة ». نشر أكثر من ثلاثين كتابا، والعديد من المقالات حول مجموعة واسعة من الموضوعات، بما في ذلك علم البيئة، وعلم الدلالة التجريبي، والعقل والشك وسبينوزا وغاندي. في عام 1958، أسس مجلة الفلسفة Inquiry متعددة التخصصات (Wayne Martin & Kristian Bjørkdahl.2011).

في عام 1969، في سن السابعة والخمسون، يترك الأستاذ أرني نايس وظائفه في الفلسفة من جامعة أوسلو بالنرويج، بعد تأثره الشديد بنشر كتاب الربيع الصامت لعالمة الأحياء الأمريكية راشيل كارسون، ثم يذهب الفيلسوف بحثا عن حكمة إيكولوجية حيث لم يعد ينظر إلى نفسه منفصلا عن الطبيعة.

يعتبر كتاب (علم البيئة والجماعة وأسلوب الحياة) لأرني نايس أول تأليف ظهر في الفلسفة البيئة والمنتج الرئيسي له، نشر لأول مرة في النرويج في عام 1976، وباللغة الإنجليزية في عام1989. وباللغة الفرنسية في عام 2008، وباللغة العربية في عام 2009، عرض فيه بنية النظام العام لمذهبه المسمى الإيكولوجيا العميقة، قدم فيه التفسيرات حول رؤية جديدة للعالم ومكانة الإنسان في الطبيعة، ومنظومة القيم والمعايير المتوقعة في توجيه سلوكاتنا في حالات محددة (Hess.2013 : 340).

2.1. فليكس غتاري 

إسمه الكامل بيير فليكس غتاري، من مواليد 30 أبريل 1930، بكولومب، فرنسا - توفي في 29 أغسطس 1992، طبيب نفسي وفيلسوف فرنسي وقائد حركة مناهضة للإستعمار. إشتغل غتاري كمحلل نفسي، وعمل خلال الخمسينيات من القرن الماضي في وهي عيادة بالقرب من باريس اشتهرت بممارساتها العلاجية المبتكرة، في هذا الوقت بدأ غتاري التحليل مع المحلل النفسي الفرنسي الشهير جاك لاكان، الذي بدأ إعادة تقييم مركزية « اللاوعي » في نظرية التحليل النفسي. في منتصف الستينيات، انفصل غتاري عن لاكان، وأسس عياداته الخاصة، وجمعية العلاج النفسي المؤسسي (1965) ومركز الدراسات والأبحاث المؤسسية (1970).

تعاون غتاري مع الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925-1995) لإنتاج عمل من مجلدين في الفلسفة الاجتماعية والتحليل النفسي. المجلد الأول بعنوان Anti-Œdipe ضد أوديب (1972) حول الرأسمالية وأنفصام الشخصية، استندوا فيه على الأفكار اللاكانية اللاكانية في نقد مفاهيم التحليل النفسي الكلاسيكي الفريدي، التي حسب غتاري ودولوز تستخدم لقمع والتحكم في الرغبة البشرية وبشكل غير مباشر لإدامة النظام الرأسمالي، وأن الفصام يشكل أحد الأشكال القليلة للتمرد ضد حتميات النظام الاستبدادية . بدلاً من التحليل النفسي التقليدي، أوصوا بتقنية جديدة مستوحاة من الحركة المضادة للطب النفسي، وهي التحليل الفصامي، حيث يتم تحليل الأفراد على أنهم « آلات راغبة  » منتشرة بشكل ليبيدي (رغبة جنسية) بدلاً من أن تكون ذاتية فرويدية مدفوعة بالأنا.

المجلد الثاني بعنوان Mille plateau ألف منصة (1980) حول الرأسمالية وانفصام الشخصية، يتميز  بأسلوب نظري مفكك ذاتيًا للبحث الفلسفي، مما يعكس اقتناع المؤلفين بأن التنظيم « الخطي » للفلسفة التقليدية يمثل شكلاً أوليًا من أشكال السيطرة الاجتماعية. والعمل يقدم كدراسة فيما يسميه دولوز وغتاري « إضفاء الطابع الإقليمي » - أي محاولة لزعزعة المفاهيم السائدة والقمعية للهوية والمعنى والحقيقة، إنتهى فيه المؤلفان برفضهم للميتافيزيقا الغربية باعتبارها تعبيرًا عن « فلسفة الدولة ». أما العمل الثالث والأخير لغتاري الذي كتبه مع دولوز، هو ما هي الفلسفة؟، تم نشره في عام 1991.

كان غتاري مدركًا لأدق الانقسامات في النظام الاجتماعي، وباحثًا عن طرق إبداعية لتقويض الأفكار الجامدة والحقائق الموروثة، كما وأصبح مدافعًا عن الثورات الأقلية في الحياة والفكر. ولذلك إنضم إلى الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984) الذي كان يهدف إلى ثورة إجتماعية شاملة، يمكن إستلهامها من نضالات الفئات المهمشة، بما في ذلك المثليون جنسياً والنساء وعلماء البيئة والمهاجرون والسجناء (Encyclopaedia Britannica.2022).

2. مفهوم الحكمة الإيكولوجية عند نايس وغتاري

جملة المفاهيم الخاصة بالحكمة الإيكولوجية عند أرني نايس شاع تداولها في ميدان أخلاقيات البيئة، وهي حاضرة عند الفيلسوف الفرنسي فليكس غتاري، حيث

« تتكون كلمة  «Ecosophie»من  «éco»التي نجدها في  «écono- mie»وفي«écologie»، واللاحقة  «Sophie» الموجودة في  «Philo-Sophie». لا تتضمن كلمة صوفيا أي مطالبة علمية محددة، على عكس الكلمات المكونة من اللوغوس ك«علم الأحياء » و«الأنثروبولوجيا والجيولوجيا» وغيرها، ولكن يجب أن يكون لأي وجهة نظر روحية تسمىSophique السفسطي  صلة مباشرة بالعمل، وصوفيا تدل على المعرفة الحدسية (التعارف) والتفاهم بدلاً من المعرفة المجردة، وغير شخصية » (نايس.2009 : 70).

كما تعود البادئة « éco » بدورها إلى الكلمة اليونانية oïkos، التي تشير إلى المنزل والأسرة والموطن وبالتوسع إلى البيئة، ويصف غتاري الحكمة الإيكولوجية بأنها تعبير أخلاقي سياسي لثلاثة سجلات إيكولوجية، وهي البيئة، والعلاقات الإجتماعية، وذاتية الإنسان (Guattari.1989 : 12-13). إذا يستنتج غتاري ثلاثة مجالات من المشاكل، ينبغي التفكير فيها من منظور أخلاقي وسياسي : العلاقة بالطبيعة والبيئة؛ العلاقات مع المجتمع، وبالحقائق الاقتصادية والاجتماعية؛ ثم العلاقة بالذات، مسألة إنتاج الذاتية البشرية. هذا الاعتبار الجديد هو الذي يسميه غتاري بالحكمة الإيكولوجية. وهي تعني عنده أنه ثمة تقاطع وتداخل بين ثلاثة ضروب من الايكولوجيا : الإيكولوجية البيئية « الخاصة بالطبيعة » والإيكولوجية الاجتماعية « الخاصة بشكل الوجود الجماعي » والإيكولوجية العقلية « الخاصة بالذاتية » (المسكيني.2017).

وروح هذه المفاهيم يجعل من الأفراد هم أساس تحسين علاقة الإنسان بالبيئة إلى درجة الحلول فيها، لأن الضرر واحد على الإنسان والبيئة من ناحية التفاعل، رغم تنوع فروع الإيكولوجية من ناحية الحكمة، وهذا ما يؤكد عليه غتاري الذي يرى بوجود تعددية إيكولوجية (Antonioli.2015 : 47). ومن بينها إيكولوجية إدارية تهدف إلى تنظيم التشريعات ليس فقط بين الأفراد بل أيضا داخل المؤسسات والأنظمة الليبرالية وداخل المجتمعات الصناعية، حتى لا تكون البيئة في موقع الإستهلاك، وهي عند نايس تسمى بالإيكولوجية السطحية التي تنحصر فيها حلول الأزمة البيئية على الابتكار التكنولوجي بطريقة مفترضة وأكثر إستدامة، على عكس الإيكولوجيا العميقة التي تهدف إلى حفظ مواردنا وتقليل الأثر البيئي لـطرق الإنتاج والاستهلاك لدينا(Antonioli.2015 : 47)،

الإيكولوجية العميقة لنايس ترى أن الأزمة البيئية تشير إلى أزمة أكثر عمومية في المجتمع، سياسية ووجودية ولا يمكن حلها بتدابير مخصصة لحماية البيئات الطبيعية، بينما يرى غتاري أن القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحالية، بجب إصلاحها بما يتناسب بشكل أفضل مع مشاكل التضاريس المحلية ومشاكل الكواكب العالمية، لا يتعلق الأمر بمجرد تعديل في معنى « الإستدامة  »الإطار الكلاسيكي للاقتصاد الرأسمالي، بل لتصميم « أشكال الحياة « بديلة تتيح لنا التحول ليس فقط من نموذج الإستدامة، ولكن قبل كل شيء من نمط حياة لا مرغوب فيه، يؤدي إلى التعاسة(Antonioli.2015 : 43).» فمثلما تحدثت الفلسفات الكلاسيكية عن بؤس الإنسان وسط الليبرالية، فإن بؤس البيئة يكون داخل المجتمعات الصناعية الإستهلاكية، التي تهتم بتوازن الإنتاج بدلا من التوازن الطبيعي، ومن أجل تحقيق التوازن الطبيعي لا بد من إحداث تعايش يقوم حسب نايس على وجود علاقات بين الكيانات، تُفهم على أنها المكونات الأساسية لما هي عليه هذه الكيانات في حد ذاتها (نايس.2009 : 69). كما يعرف نايس الفلسفة البيئية، بأنها :

« مجال دراسة يتقاطع فيه علم البيئة والفلسفة، المجال الوصفي والتحليلي الذي لا يملك الإختيار
لأولوية القيم الأساسية من أجل إيجاد حلول أمام الأوضاع العملية والسياسية التي نتشارك فيها،
فمن الضروري تطوير ‘‘حكمة إيكولوجية’’، يمكن أن تساعد في توجيه الإيكولوجيا العميقة
نحو رغبتها في تحويل الهياكل الاجتماعية والسياسية المناهضة للبيئة » (نايس.2009 : 69-71).

لا يقدم نايس الحكمة الإيكولوجية كبديل عن العلم، بل يبحث عن حوار بيئي علمي دون صدام ينعكس سلبا عن العلم والطبيعة، حوار يراعي الإختلاف بين مجال البيئة ومجال العلم، لأن الإيكولوجية في حد ذاتها فرع من العلوم، فيمكننا القول أن الحكمة الإيكولوجية لا تعارض العلوم بل هي في حوار متواصل مع العلوم المؤسسية أو الرئيسية كالإيكولوجية المعروف باسم العلمية، أو الممارسات المختلفة المسماة التنمية المستدامة.

3. الإيكولوجيات الثلاث لغتاري وموقعها في فكر نايس

1.3. الإيكولوجية العقلية 

تتقارب رؤية نايس وغتاري حول الإيكولوجية العقلية، وهي مفهوم إشتغل عليه غتاري في عمله بالعيادة حيث يُمارس العلاج النفسي المؤسسي، إنطلاقًا من نقد اللاوعي الفرويدي واللاكاني، وضع غتاري رؤية لفاقد للوعي منفتح على التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والأحداث التاريخية والسياسية، ولم يعد يركز حصريًا على الأفراد في السياق الفردي والعائلي، الإيكولوجية العقلية

 «تجد هدفها ضمن إشتغال على اختراع أشكال جديدة من الذاتية مغايرة لذاتية الفرد الرأسمالي الهشَّة، إنَّ الأمر لا يتعلَّق باشتغال على سيكولوجية الفرد، كما هو معمول به في عيادات التحليل النفسي منذ سيغموند فرويد Sigmund Freud (1856م-1939م)، إنَّما يتعلَّق بالاشتغال على السيكولوجي في علاقته بما هو جماعي؛ أي بأشكال إنتاج ذاتيَّات جماعية خلاَّقة وقادرة على اختراع أقاليم وجودية جديدة» (المسكيني.2017). 

وبالتالي تقوم الإيكولوجية العقلية على نوع من الرغبة التي تتيح تجاذب بين الإنسان والطبيعة، فتتطور المحبة إلى عاطفة على النحو الأوديبي الفرويدي، حيث تدخل البيئة في اللاشعور الأفراد وتتجلى من خلال لاوعي الأفراد وأهوائهم وخيالاتهم وشهواتهم وتحويلها إلى مستودعات لتجارب سياسات الإنعاش الامبريالية، ما يهدف إليه غتاري هو إختراع أشكال جديدة من الحياة النفسية التي لا تقوم على قيم الرفاهية والترف والسلبية الاستهلاكية الليبيرالية، بل بذاتية خلاَّقة قادرة على الانخراط ضمن ضروب من الاتيقا الجماعية الكفيلة بجعل العالم مكانًا صالحًا للسكن (المسكيني. 2017).

أما نايس يتجاوز مفهوم الرغبة إتجاه البيئة ليجعل من البيئة والإنسان شيء واحد، وهذا يعود بنا إلى وحدة الوجود وفكرة الجوهر عند الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632م-1677م)، حيث

« إستوحى نايس من معرفته بفلسفة سبينوزا وعمل علماء النفس الجشطالت أوائل القرن العشرين. فيقوم نايس من جانبه بإدراج هذا المستوى « الإيكولوجيا العقلية»  ضمن رؤية نفسية وأنطولوجية في نفس الوقت، تتطلب الحكمة الإيكولوجية تحويل نظرنا إلى العالم، حيث يمكننا أن ننظر إلى أنفسنا كجزء من بين أمور أخرى للمجموعات المترابطة، كجزء من العالم والطبيعة، متجاوزين التعارض التقليدي بين الذات والكائن، يفكر نايس في عملية التحديد هذه من جميع الجوانب الطبيعة إنطلاقا من مفهوم  «تحقيق الذات» الغير المتمركز، وهي عملية ندرك فيها تدريجيًا أفعالنا كجزء من نمو الجشطالت »(Antonioli.2015 : 46).

وبهذه الصورة يعطي نايس للإيكولوجيا معطى شعوري يجعلنا لا نحكم على البيئة من خلال الملاحظة الحسية والقوانين العلمية والسياسية فقط، بل إنطلاقا من العاطفة والإرادة والرغبة والشعور، فالطبيعة نفهمها وهذا هو جوهر وحدة الوجود عند أرني نايس.

2.3. الإيكولوجية الإجتماعية 

مفهوم الإيكولوجية الإجتماعية، هو طرح مشترك بين نايس وغتاري الذي يعكس مشروع نايس نحو تحقيق الذات الذي يقلل من أهمية الوساطة الاجتماعية والتقنية لتحقيق علاقة حدسية بين الذات والطبيعة، في هذا النهج تكون التقنية وخاصة التكنولوجيا موضوع رؤية سلبية في الأساس، كعقبات أمام « نمط الحياة » الذي تسعى إليه الفلسفة، البديل المقترح عن الإسراف الذي يميز التقنيات الصناعية وعدم شخصية العلاقات التي تعززها التقنيات الإدارية هو النموذج الاسكندنافي « friluftsliv » التقليدي، وهو إقامة الكوخ والعودة إلى الطبيعة التي عاشها نايس بنفسه خلال معظم حياته في ملجئه الجبلي، وبالرغم من أن نايس يعتبر أن الإيكولوجيا العميقة لا تهدف إلى رفض جذري للتكنولوجيا أو الصناعة، بل للدعوة إلى سيطرة ثقافية عامة على تطورها وإدخال « تقنيات خفيفة » تحترم التوازنات البشرية والموارد الطبيعية(Antonioli.2015 : 46) ».

يتجلى تميز نايس في ربطه بين كينونة الإنسان وكينونة الطبيعة، وهو يختلف عن غتاري الذي يبرر الإيكولوجيا الإجتماعية، بعلاقات ميكانيكية تربط الإنسان بالطبيعة، لذلك لا بد من إعادة صياغة العلاقات الإنسانية، ويمكن أن نؤسس لممارسات ميكروسياسية وميكرواجتماعية جديدة، أشكال جديدة من التضامن، قيم الرحمة إزاء الآخر، ممارسات جمالية جديدة، وفي كلمة واحدة تقوم الإيكولوجية الإجتماعية على ضرب من الإستثمار العاطفي والبراغماتي على جماعات إنسانية متعدِّدة، والمقصود من هذا الإستثمار العاطفي هو إختراع أشكال جديدة من الجماعات الإنسانية (Guattari.1989 : 45)، وهي التي يشير إليها غتاري عند الحديث عن العيش وسط الجماعة فيربط المجتمع والإنسان والبيئة بالعاطفة والرغبة مثل الأسرة، ويطلق عليها تسمية إيروس الجماعة، وهنا ينبغي الإشارة إلى أنَّ الرهان العميق لغتاري هو مناهضة كل الإيديولوجيات الجماعوية القائمة على تصورات أصولية ماضوية لشكل الحياة المشتركة، سواء تعلَّق الأمر بالنعرات القومية أو الدينية أو المذهبية، ويحذِّرنا من الجماعات التي تؤسس وجودها على خطوط الموت، من قبيل كل الجماعات الفاشية والإرهابية » (المسكيني. 2017).

أما من خلال رؤية نايس للإيكولوجيا الإجتماعية، فإن الحفاظ على البيئة يستلزم الحفاظ على الإنسان لأن مظاهر البيئة وجماليتها إن اختلت يختل معها التوازن الإجتماعي والإقتصادي الذي نؤسس عليه مستقبل البيئة، نحو البحث عن تعايش مشترك بين الإنسان والطبيعة.

3.3. الإيكولوجية البيئية

ينبهنا غتاري عند حديثه عن الإيكولوجية البيئية إلى عدم الاقتصار على الحركات البيئية التي تتحوَّل أحيانًا إلى ضرب من الفلكلور القائم على محبَّة الطبيعة وحماية حقوق الحيوان. رغم أهمية هذه الحركات البيئية في التنبيه على خطورة الأزمة الإيكولوجية، إلا أنه ينبغي الإنتباه إلى أن هذه المسألة هي مسألة عالمية، بحيث لا يجب تركها بين أقلية أنصار محبي الطبيعة. مسألة الإيكولوجية أخطر من ذلك بكثير لأنَّها ترهن شكل الحياة الممكنة في العالم وتكون موضع مساءلة كل الخرائط والأجندات والتكنولوجيات التي ترسم شكل الهاوية (المسكيني. 2017). لذلك ينبغي حسب غتاري أن يتوقف إرتباط دلالة الإيكولوجيا بصورة أقلية صغيرة من محبي الطبيعة أو المتخصصين المعتمدين، لأنه يثير التساؤل حول كل تشكيلات الذاتية والسلطة الرأسمالية (Guattari.1989 : 48).

الحكمة الإيكولوحية هي إذن خلق للأقاليم الوجودية القابلة للسكن حيثما تنشئ صنع الرأسمالية عالمًا من السلع لأفراد معزولين ولمستقبل لا أحد يضمن إمكانية حدوثه. والأقاليم الوجودية ههنا ليست بالعوالم الطوباوية بل هي فن التدبير الخاص بكل أشكال تطويع العالم إلى السكن. وهذه الأقاليم ليست عودة إلى الأصول بل هي نضال وتحرر وخلق لأشكال كثيفة من الذاتيات الحرَّة (المسكيني.2017). لذلك ينيغي علينا التنبه إلى عدم التوافق والانسجام بين إنتاج الأقاليم الوجودية في تصور الحكمة الإيكولوجية وطبيعة الذاتية المريضة التي تصنعها الرأسمالية العالمية، التي لا تعرف سوى منطق السوق والربح الأوفر والخسارة الأقل، إنها تستحوذ على اللاوعي لدى الأفراد للهيمنة وإدراجهم ضمن أجنداتها.

يقترح جاتاري سلوكا جديدا لمعالجة الأزمة الإيكولوجية العالمية، يستلهمه من مفهوم الحكمة الإيكولوجية. وهو مفهوم يراهن على براديغم عابر للاختصاصات إتيقي- إستطيقي وسياسي معا، وواعي بتعقد السياق الحالي للمسألة، كما يتقاطع مع البراديغم التكنوقراطي التقليدي. أي ينبغي أن نكفَّ عن إقامة الحدود والجدران بين مجالات الحياة المشتركة، لأن تلك الجدران قد إنتهت بإنتاج نمط بائس من الكينونة في العالم، نمط الفرد النرجسي المعزول الذي تصنعه علب الاستهلاك والشاشات الرقمية والإدمان على حضارة السلع الكئيبة. يجب خلق علاقات جديدة داخل المجتمع باستعادة كل المشاعر الخلاقة من التضامن مع الآخرين إلى قبول التعدُّد والاختلاف إلى فرحة الحياة (المسكيني. 2017).

إذا كانت الحكمة الإيكولوجية لنايس تشجعنا على تصور الطبيعة كآخر، أي كوحدة شاملة وغير قابلة للتجزئة، فإن غتاري يربط الإيكولوجية البيئية بالاجتماعية، ورؤية العالم في ضوء الموضوع البشري. تساهم هنا مقاربة غتاري الإيكولوجية في إعادة التفكير حول الذاتية لا اعتبارها بديهية، ولكن كإنتاج وتتويج لمكونات مختلفة للذاتية في العمل. رغم تمايز مقاربة نايس وغتاري في الايكولوجية البيئية، في عملية تحقيق الذات كما سنراها مع نايس أو إنتاج الذاتية مع غتاري، إلا لأنهم يعيدان طرح سؤال العيش في العالم، وفي المدينة من باب أولى.

4. الحقيقة الحضرية والحكمة الإيكولوجية

بعد هذا العرض لكلا الرؤيتين عند نايس وغتاري حول الحكمة الإيكولوجية، نلاحظ أن الحكمة الإيكولوجية يتم تعريفها وفقًا لنايس بما يتعلق بالطبيعة، وعند غتاري بما يتعلق بعلم البيئة وهي عند نايس على نحو لا يتعلق بالمدينة أو الحضري، التي هي المنتجات النقية للنشاط البشري، والتي غالبًا ما تكونت من خلال تمييز نفسها عن الطبيعة، لتؤدي في الفترة المعاصرة إلى البيئات أو المصنوعات الفنية المعقدة، وغالبًا ما تكون مفككة عن بيئتها أو الركيزة الطبيعية، هذا حاضر بشكل واضح في الحكمة الإيكولوجية عند نايس وبشكل أساسي في مقاربته، وإهماله عن قصد تقريبا للحقيقة الحضرية للتركيز فقط على العلاقات بين الكائنات الحية وغير الحية في العالم. بالإضافة إلى ذلك نلاحظ عدم وجود ترسيخ مفهومي دقيق للحكمة الإيكولوجية وفقًا لنايس، وذلك من أجل فسح حرية تسهيل تخصيص المصطلح لتأويلات متعددة هذا من ناحية، وكذا مخاطرة التخفيف ونقص التشغيل للمصطلح لعدم وجود حدود واضحة من ناحية أخرى، مما يسمح لنا تقديم نسخة للحكمة الإيكولوجية في المجال الحضري، حيث يُسمح لنا بتصميم فلسفات متعددة، من خلال احترام عدد معين من الشروط ولكن دون مخالفة الأسس التي وضعا أرني نايس في مقاربته.

في حين نجد أن فرضية الحكمة الإيكولوجية لغتاري مفصلية تمامًا مع المفهوم الحضري، حيث يجب أن تسعى الحكمة الإيكولوجية إلى إعادة نشر القيم الجمالية والبيئية والتضامنية، كما يجب أن تساعد في تغيير طريقة ممارسة التعليم، والطب النفسي، والسياسة، وكذلك تخطيط المدن (Guattari.1992 : 14)، لذلك نجد أن المدينة غير معلنة في الحكمة الإيكولوجية عند نايس، بينما يعالج غتاري الحقيقة الحضرية بشكل واضح ومرتبط بانتظام بحكمته الإيكولوجية.

وبالتالي نلاحظ مقاربتان متميزتان ولكن كل منهما يفتح مجالًا جديدًا في إستجواب إمكانية محاولة تطبيق مصطلح الحكمة الإيكولوجية على المناطق الحضرية. تقودنا هذه الفرضية إلى طرح السؤال التالي : كيف تسمح لنا الحكمة الإيكولوجية تجاوز التعارض الكلاسيكي بين الطبيعة والتقنية، والطبيعة والمجتمع، والخروج من هذه الثنائية الموجودة أيضا بشكل تقليدي في المجال الحضري : المدينة ضد الريف، والمدينة ضد الطبيعة. فكيف ستسمح لنا الحكمة الإيكولوجية من خلال الدعوة إلى شكل من أشكال الكلية، بإعادة التفكير في هذه الروابط، وتجاوز أي شكل من أشكال الثنائية؟

5. أخلاق وجماليات المدينة

إن دراسة البعد الأخلاقي والجمالي للحكمة الإيكولوجية معًا أمر ضروري، بسبب اقتراح غتاري النظر في نموذج « أخلاقي-جمالي » جديد، و إذا كانت الأخلاق في قلب إيكولوجيا نايس، فإن الإدراك الجمالي للطبيعة عنده يعني أيضًا شكلاً من أشكال الاحترام وحاجتها المنطقية إلى الحماية، وبعيدًا عن الاعتراف التاريخي بحركة الحفاظ على الطبيعة أو إنشاء حدائق وطنية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتقدير الجمالي لجمال هذه الطبيعة التي تُعتبر « بريًا » أو غير موطن، يتعلق التفكير مع الحكمة الإيكولوجية التفكير بهذا التشابك أو التعبير عن مجالين : التجربة الحسية الفردية في مواجهة الطبيعة، والمعرفة العميقة والحساسة للعالم الحي في خصائصه الأساسية، وفي قوته الإبداعية الدائمة للكائنات الحية، من الأنواع إلى الموائل البيئية، وهكذا فإن الحكمة الإيكولوجية في بعدها المشترك بين الأخلاق والجماليات، تجمع بين شعورنا بالإعجاب لجمال الطبيعة وواجباتنا والتزاماتنا اتجاهها. علاوة على ذلك، إذا اعتبرنا أن الجماليات هي كل ما يتعلق بالحساسية، والتي لا تقتصر على الفنون أو التمثيلات المرئية أو أحكام الذوق، فإن الحكمة الإيكولوجية تتضمن بالتالي جزءًا حساسًا ينبغي التحقيق فيه أيضًا في إطار حضري .

1.5. مكانة الأخلاق في الحكمة الإيكولوجية عند نايس 

يتم تصور الإيكولوجيا من خلال جذر الحكمة (صوفيا) حيث تتجه نحو الأخلاق مع إمكانية وضعها موضع التنفيذ، وهكذا يتم اقتراح شكل من أشكال السلوك الفاضل الذي يتوافق مع أخلاقيات معينة يتعين تحديدها. يجب أن تصبح الأخلاق وفقًا لنايس مركزية بيئية وليس بشرية. فنايس مثلا ينتقد نية الأخلاق البيئية التي دعا إليها الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN) من خلال افتقارها إلى التعمق، عندما تم التأكيد في إعلان عام 1980 على أخلاق جديدة، تحتضن النباتات والحيوانات وكذلك البشر، مطلوب من المجتمعات البشرية أن تعيش في وئام مع العالم الطبيعي الذي تعتمد عليه من أجل البقاء والرفاهية. ولكن بالنسبة لنايس حتى الأخلاقيات البيئية الموصى بها مع حملتها التثقيفية البيئية المصاحبة لها، تجعل البشر في وئام مع الطبيعة من أجل خير الإنسان فقط. من المؤكد أن مثل هذه الأخلاق ستكون أكثر فاعلية لأنها تصرفت من قبل أشخاص يؤمنون بصحتها، وليس من قبل أولئك الذين يؤمنون فقط بفائدتها (Naess.2005 : 36).

يستعير نايس مفهوم الأخلاق من ملهمه سبينوزا من خلال عمله المكرس للفيلسوف، حيث يرى نايس أن سبينوزا يصف ما يعنيه أن تكون إنسانًا وأن تؤسس مجتمعًا بشريًا، بالنسبة لنايس سيكون سبينوزا منطقي أنطولوجي أكثر منه أخلاقي. باعتبار أن الأنطولوجيا توفر الإطار الذي يمكن من خلاله اتخاذ خيارات قائمة على أسس أخلاقية. في نظامه الفلسفي يستحضر نايس الأعراف والقيم بدلاً من الأخلاق، بالنسبة له تتوافق القواعد مع «العبارات التوجيهية»: «بمعنى وصفات أو تحذيرات للتفكير أو التصرف بطريقة معينة. تكتب بعلامة تعجب، فعلى سبيل المثال، نقول: «لا استغلال! أو «كن صادق!» أو «لا تلوث!»  (نايس.2009 : 126). الحكم الأخلاقي وفقًا لنايس ليس سوى التعبير اللفظي للحدس الأخلاقي العفوي ولا يقدم سببًا لتبريره، هذا هو السبب في أن نموذج تنظيم المعتقدات المعيارية المسمى الحكمة الإيكولوجية لا يشير إلى أي عقيدة أو نظرية محددة، وبناءً على التجارب العفوية والفردية لا توجد معتقدات من المحتمل أن تتوافق مع إطار مفاهيمي محدد مسبقًا.

فيما يتعلق بالقيم، تدرك الحكمة الإيكولوجية أنه ليس فقط البشر ولكن أيضًا جميع أشكال الحياة في الطبيعة لها قيمة في حد ذاتها  «قيمة جوهرية» . ففي الغابة مثلا يتم التمييز بين  «القيمة الأداتية»  التي تهدف إلى  « خدمة المصالح التجارية أو الترفيهية»، و « القيمة الجوهرية» باعتبارها تشكل غاية في حد ذاتها » (نايس.2009 : 82). الغرض من مقاربة الحكمة الإيكولوجية، هو المساهمة في إعادة التوجيه، وإحداث نقلة نوعية لحضارتنا بأكملها إن إعادة التأكيد على هدف القيم أمر ضروري، لأن حداثة الأزمة البيئية تتطلب توضيح القيم النهائية التي تحكم تنظيم حياتنا (نايس.2009 : 81). لتوضيح ذلك يقدم نايس رؤيتين مختلفتين بين الإيكولوجيين ورجال الأعمال وتجربتهم في الغابة، الفئة الأولى تريد الحفاظ عليها، والفئة الأخرى تريد تشييد طريق يمر عبرها مع تجنب « قلب الغابة »، بالنسبة إلى نايس فإن الاختلاف بين هذين الموقفين المتعارضين هو اختلاف وجودي وليس اختلافًا أخلاقيًا. قد يكون للإيكولوجيين ورجال الأعمال وصفات أخلاقية أساسية مشتركة، لكنهما يطبقانها بشكل مختلف لأنهما يدركان ويختبران الواقع بشكل مختلف تمامًا» (نايس.2009: 116). ما يهم نايس هو تجربة العالم.

من وجهة النظر هذه، تعتمد الأخلاق على الأنطولوجيا لأنها هي الوحيدة التي يمكنها تحديد الطريقة التي يُنظر بها إلى الواقع يقول نايس:

« في الحكمة الإيكولوجية، من المهم على ما أعتقد التحرك ذهابًا وإيابًا من الأخلاق إلى الأنطولوجيا، يمكن أن يساهم توضيح الاختلافات الوجودية بشكل كبير في توضيح الاختلافات السياسية ودعائمها الأخلاقية » (نايس.2009 : 117).

ترتكز إذا الأخلاق حسب نايس على الأنطولوجيا، والمعايير هي المبادئ التي تهدف إلى التغلب على ثنائيات المادة / الروح والثقافة / الطبيعة الكلاسيكية لصالح أنطولوجيا العالم التي تريد أن تكون عالمية ومتكاملة في تنوعها.

ومع ذلك فإن التجربة الحساسة والشخصية للعالم التي يشير إليها نايس يمكن استيعابها في البعد الجمالي حتى لو لم يستخدم هذا المصطلح صراحة، فهو يفضل فكرة الفرح والإيجابية على مفهوم الجمال، كما أنه يدين على سبيل التوضيح المعايير التي يستخدمها مهندسو الغابات، الذين يسعون إلى تعزيز المناظر الطبيعية الجديرة بإعجاب، بدءا من مسار الطريق المختار في الغابة، يكتب نايس

«سيهتمون على سبيل المثال، في جمال المناظر الطبيعية التي يراها المرء من مكان معين، ولكن ليس في جمال الغابة ككل، حفظ الأماكن الجميلة بدلاً من الأماكن القبيحة » (نايس.2009 : 226).

وبالتالي نلاحظ أن نايس يميل إلى أخلاق المقاربة الجمالية للفيلسوف البيئي الأمريكي جون بايرد كاليكوت (J.Baird Calicott) الذي يدعو إلى :

« جمالية طبيعية مستقلة، ينبغي أن تحرر نفسها من هيمنة المرئي لتشمل جميع الطرائق الحسية.
بهذا المعنى فإن جمالية الأرض تكمل أخلاقيات الأرض في نظرية قيمة الحفظ، فهي قد تحفز جمالية الأرض عبر السلوك المحافظ بشكل أكثر إيجابية، وبالتالي فإن جمالية الأرض وأخلاق الأرض متكاملان، هناك امتداد لأخلاقيات الأرض في رؤيتها للحفظ مع جماليات الأرض » .(Callicott.1983 : 354)

وبالتالي فإذا لم يحدد نايس بالتفصيل المكون الجمالي لحكمته الإيكولوجية، تظل الحقيقة في أنه يشجعنا على تجاوز الرؤية الجمالية التي هي بالضرورة ذاتية لأنها تتمحور حول الإنسان، بنفس طريقة الأخلاق التي تركز إحتياجات الإنسان وحدها.

2.5. تحقيق الذات وسكن العالم والمدينة

التحقيق الذاتي وفقًا لنايس أو أنماط الخضوع وفقًا لغتاري، تتساءل من خلالهم الحكمة الإيكولوجية عن تحقيق الذات في الفرد وإدراكه لذاته، ولكن أيضًا في هويته جماعيًا مرتبطًا بالمجتمع وأيضًا في علاقته بالعالم، أبعد من التواجد في العالم، إنها أيضًا مسألة استيطانها، بالمعنى الهايدجري، التي تطرح من خلال المقاربة البيئية. لا تفرض الفلسفة وفقًا لنايس نظامًا تفسيريًا عالميًا، يتعلق الأمر قبل كل شيء بتطوير نظام فردي خاص، تأويل الخاص بلغة نيتشه وفقًا لوسائل الفرد الخاصة، وبوصفه فقط معيار « تحقيق الذات»  .(Naess.2017 : 93)إن المفهوم الشمولي للعالم لا يخترق أي عمق كما لو أن الذات بعيدة عن كونها محتواة في الكل، تتطلب الذات نوع أخر من النضج في جميع أشكال العلاقات الأساسية ومن بينها الطبيعة.

يميز نايس ثلاث مراحل من النضج الذاتي أو التحقيق الذاتي : «من الأنا إلى الذات الاجتماعية (بما في ذلك الأنا)، ومن الذات الاجتماعية إلى الذات الميتافيزيقيا (بما في ذلك الذات الاجتماعية)» . لكن هذا النضج يستبعد التماثل مع الكائنات الحية الأخرى غير البشرية والطبيعة، لذلك يقدم نايس مفهوم «الذات الإيكولوجية» ليوسع نطاق علاقاتنا مع المجتمع البشري ومع «مجتمع مختلط» يشمل أيضًا كائنات حية أخرى. يمثل تحقيق الذات تحقيق جميع إمكاناتنا، أي توسيع وتعميق الذات لتشمل كل الكائنات الحية وغير الحية.

6. نحو حكمة إيكولوجية حضرية

نلاحظ أن الحكمة الإيكولوجية كما رأيناها لا تتوافق مع تخصص جامعي جديد، بل يتمثل هدفها قبل كل شيء في وصف أو شرح عقيدة شخصية، هذا التمييز يضعها في جانب الالتزام الشخصي النشط من خلال إبراز مسلمات القيم أو المعايير الأعلى، بمعنى آخر التأكيد على وجهة نظر موقف معين لكنه موجه نحو العمل، يقول نايس : « في الحكمة الإيكولوجية، على عكس الفلسفة الأكاديمية، ليس العموميات التي يمكن للمرء أن يرتقي إليها، بل هي القرارات والأفعال » (نايس.2009 : 76). وإذا كانت الفلسفة هي فن تكوين المفاهيم واختراعها وتصنيعها (دلوز، غتاري.1997: 30)، كما صاغها دولوز وغتاري، فلا يبدو أن غتاري قد صاغ الحكمة الإيكولوجية كمفهوم فلسفي على نحو ما تم نشره في العمل المشترك (ما هي الفلسفة؟) مع جيل دولوز عام 1991، مقارنة بعمله «الإيكولوجيات الثلاثة» عام 1989، الذي لا يوجد فيه خطة جوهرية أو شخصيات مفاهيمية، بل تعبير عن الكائن الإيكولوجي حول أربعة أبعاد (التدفق والآلة والقيمة والمنطقة الوجودية).

من جانب نايس، ينبغي أن تقدم الحكمة الإيكولوجية إجابات للأسئلة الأساسية للأزمة البيئية من خلال قبول أن الإجابات تختلف من شخص لآخر لأنها ستحتفظ بسمات مشتركة على المستويين المجرد والعام، باعتبار أن الحكمة الإيكولوجية لا تستجيب لعقيدة ثابتة، كما أنها لا تشير إلى الجوهر بل إلى طريقة الاستجواب والوظيفة العملية. هذه المرونة النسبية للمفهوم تجعل من الممكن تكييفه مع المواقف المتنوعة وتطوير تنوع فردي خاص، وهو أفضل ضمان للمشاركة الشخصية في بيئة إيكولوجية شخصية، بهدف الاقتراب من المواقف العملية التي نشارك فيها.

وفق هذا الاقتراح، يمكننا أن نتصور فلسفة مطبقة على الحقيقة الحضرية على المدينة، وفلسفة حضرية متصورة كرؤية عالمية تستهدف القضايا الحضرية المرتبطة بشكل خاص بالقضايا البيئية والمناخية، كما يمكننا الاعتماد على التفكير الحضري لغتاري في مقاله  »الممارسات البيئية واستعادة المدينة الذاتية« ،Pratiques Ecosophiques et Restauration de la Cité Subjective، كمحاولة لاستخدام مصطلح  »الحكمة الإيكولوجية الحضرية« ، من خلال تساؤلات أساسية التي يمكن أن تنظر فيها الإيكولوجية الحضرية.

1.6. سؤال بيئي مرتبط بالمدينة

عدم إمكانية إتباع خطاب الإطار المفاهيمي الذي اقترحه دولوز وغتاري في  »ما هي الفلسفة؟« ، يسمح لنا فحص المشكلة التي يجب حلها في الحكمة الإيكولوجية الحضرية، واستلهاما من نايس نقترح نظامًا توضيحيًا لهذه الحكمة الإيكولوجية مع مفهوم المعايير والفرضيات والبيانات الوصفية أو الإرشادية. إذا كانت الحكمة الإيكولوجية التي طورها نايس كما عرضناها تفترض موقف خاص بعلاقة الإنسان بالطبيعة، فكيف يمكن للحكمة الإيكولوجية الحضرية أن يكون لها معنى، وفي نفس الوقت تتجاوز مفهوم الطبيعة في مقابل المدينة؟

لا يمكن أن نقيم تصالح بين الطبيعة والحضر، إلا عبر التجاوز الديالكتيكي الذي يحيلنا إلى إقتراح إيكولوجي جديد وعملي، يتعلق بإنشاء خطاب حول المدينة وإنتاج سردية قادرة على تعزيز الذاتية أو السماح للفرد بتحقيق الذات، وإستشراف مستقبل عملي مشترك، أي كما يقترح نايس يجب أن تكون أي وجهة نظر في أي حكمة إيكولوجية ذات صلة أيضًا بالفعل.

وإذ لم تكن الحكمة الإيكولوجية لنايس وغتاري متماثلة، تظل الحقيقة أنهما متفقان على الحاجة إلى تغيير العقليات لمواجهة الأزمات البيئية المختلفة التي نواجهها. إن ما يتم تأكيده مع الحكمة الإيكولوجية لكلا الرؤيتين هو العلاقة بالعالم وبالطبيعة وبالمدينة التي نريد توسيع نطاقها هنا، أي علاقة الإنسان بالمدينة، وعلاقة ما هو حضري بالإنسان بطريقة عكسية، من خلال سؤال : ما طبيعة العلاقة بين الإنسان وهذه البيئة الحضرية المعاشة الخاصة والمبتذلة، أي المدينة، وكيف يتفاعل العمراني في امتلائه، مع شخصياتنا؟

يتطلب منا ذلك معرفة اعتمادنا على المدينة كما نظهر حاجتنا إلى الطبيعة، ليس في علاقة منفرة أو سجن أكثر تقييدًا، ولكن كرابطة عاطفية متنامية وحساسة تثرينا، تهتم المدينة الإيكولوجية بإثراء نفسها عبر رؤية إيكولوجية تنتقل من نهج علمي أو مادي بحت إلى شكل من أشكال الحكمة والحصافة المعرفية. إنها مسألة إعادة الاتصال بالإيكولوجية السياسية والإيكولوجية الاجتماعية عبر مفاهيم الحرية والوفاء والاستقلالية والتمكين للأفراد والجماعات. وهكذا يصبح هدف الحكمة الإيكولوجية الحضرية ليس الحد من التلوث والحفاظ على التنوع البيولوجي في المدينة، ولكن العمل من أجل ظهور عدد لا يحصى من الذوات الجديدة التي لا تستند إلى أولوية الطبيعة المثالية.

إذا مكون آخر للحكمة الإيكولوجية الحضرية، وهو الإيكولوجية السياسية التي تتضمن العمل وتحفزه، ولكن أيضًا البيئة الجسدية الحساسة لعلاقات أجسادنا بالبيئات الحضرية، وأخيراً إيكولوجية رقمية (افتراضية) وذاتية تتضمن التمثيلات العقلية، هنا نجد الخطوط الرئيسية لاقتراح غتاري بما يسميه المدينة الذاتية.

2.6. مدينة غتاري الذاتية

خطاب غتاري حول المناطق الحضرية جلي ومتطور للغاية، حيث يمكن اعتبار مقاله » الممارسات البيئية واستعادة المدينة الذاتية» Pratiques Ecosophiques et Restauration de la Cité Subjective على أنه دليل للحكمة الإيكولوجية الحضرية، لأنه يعرض بطريقة جلية مقاريته حول الحكمة الإيكولوجية، كما يتضمن أيضا بعدا عمليا من خلال استخدام مصطلح  «الممارسات البيئية» ، مما يسمح لنا بتحديد الخطوط الرئيسية لما يمكن أن تكون عليه الحكمة الإيكولوجية الحضرية المعاصرة.

بداية يدلي غتاري ببيان واضح من خلال الإشارة إلى كل من عدم المساواة والفرص في المدن فيقول :

« لم نعد نكتفي اليوم بتعريف المدينة من حيث المساحة. الظاهرة الحضرية التي غيرت الطبيعة، إذ أصبحت المشكلة الأساسية مرتبطة بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية، تحقق المدينة مصير الإنسانية وترقياتها، ومستقبل الابتكار الاجتماعي، والإبداع في جميع المجالات» (Guattari.1992 : 106).

مشروع الحكمة الإيكولوجية موجه نحو إعادة تحديد طريقتنا للعيش في العالم، وهذا ينطبق بالتساوي على الاقتصاد والإنتاج وجميع الممارسات الاجتماعية والثقافية والفنية والعقلية، مع تحديد المناطق الحضرية بطريقة محددة يقول غتاري : « لا يمكننا أن نأمل في إعادة تكوين أرض صالحة للسكن البشري دون إعادة اختراع الأغراض الاقتصادية والترتيبات الإنتاجية والحضرية والاجتماعية، الممارسات الثقافية والفنية والعقلية » (Guattari.1992 : 96).

بالنسبة إلى غتاري، فإن الغرض من الممارسة داخل الحكمة الإيكولوجية هو إنشاء مدينة ذاتية، وهذا يعني التحرك نحو إزالة إقليمية جديدة بعد تلك التي أفرزتها الرأسمالية الموجهة للربح ولاستقطاب المدينة نحو عوالم جديدة ذات قيمة، مما يمنحها كهدف أساسي لها إنتاج ذاتية غير منفصلة ومع ذلك متفردة، أي في نهاية المطاف، متحررة من هيمنة التقييم الرأسمالي الذي يركز فقط على الربح» (Guattari.1992: 101). التأسيس الإيكولوجي للممارسات يجب أن يغير طريقة التخطيط الحضري، بنفس طريقة التعليم أو الطب النفسي أو السياسة أو العلاقات الدولية.

يقدم غتاري مجموعة من التحولات الحضرية المستقبلية تمكن من إختراع تقنيات جديدة، لا سيما عند التقاطع بين الوسائل السمعية والبصرية والإعلام الآلي وتكنولوجيا المعلومات :

« - إمكانية تنفيذ المهام الأكثر تنوعًا في المنزل عن طريق الاتصال الهاتفي مع مختلف المحاورين؛
- تطوير الهواتف المرئية بالارتباط مع توليفة الأصوات البشرية، مما سيبسط إلى حد كبير استخدام الخدمات عن بعد وبنوك البيانات، التي ستتولى المكتبات ودور المحفوظات وخدمات المعلومات؛
- تعميم توزيع الأسلاك أو الهاتف، وإتاحة الوصول إلى عدد كبير من البرامج في مجالات الترفيه والتعليم والتدريب والمعلومات والتسوق من المنزل؛
- إجراء اتصالات فورية مع الأشخاص المتنقلين في أي مكان في العالم؛
- وسائل نقل جديدة غير ملوثة تجمع بين وسائل النقل العام ومزايا النقل الفردي (قوافل النقل الفردية المتكاملة، حزام النقل عالي السرعة، المركبات الصغيرة المبرمجة المنتشرة في مواقع محددة)؛
- فصل واضح بين المستويات والمواقع المخصصة للنقل وتلك المخصصة لحركة مرور المشاة؛
- وسائل جديدة لنقل البضائع (أنابيب هوائية، روابط ناقلة مبرمجة تسمح على سبيل المثال، بالتوصيل إلى المنازل » (Guattari.1992 : 106-107).

بعد هذا السرد يدعو غتاري إلى جرأة معمارية وحضرية أكبر، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمكافحة التلوث والنفايات، كل ذلك يمثل حافزا للإبداع، ويعتبر أحد العوامل الرئيسية أو السمات البارزة للحكمة الإيكولوجية الحضرية. يهدف هذا التصور عند غتاري، إلى نقل تفرد الفنان الذي يخلق الفضاء إلى الذاتية الجماعية. إنه يسمح بتأويلات للمهندسين المعماريين والمخططين الحضريين في عملهم لتخطيط وتصميم أماكن المعيشة، بما يتجاوز الإجراءات التوافقية والديمقراطية العادية، كذلك هو تجديد حقيقي للممارسات المهنية للمخططين الحضريين (Guattari.1992 : 114). الذي يشجعه غتاري من أجل المضي قدمًا في الترحال الإيكولوجي، ويتجلى من خلال مشاريع التخطيط.

في نهاية هذا التحديد للتحولات الحضرية الرئيسية الجارية، يحدد غتاري العوامل الإيجابية المحتملة للتأثير من خلال تحديد شروط تحقيقها والتي تجعل المدينة وسيلة لإنتاج الذاتية من خلال ممارسات إيكولوجية جديدة، فيستشهد بـثورات الإعلام الآلي والروبوتات وتكنولوجيا المعلومات، لأنه من المناسب وفقًا لغتاري تصميم مدينة بيئية ليست كارهة للتكنولوجيا ولكنها قادرة على دمج الابتكارات التكنولوجية التي تساهم في الرفاهية العامة دون إبعاد سكانها عن العيوب - الأدوات التقنية، على عكس البيئة العقابية والمسببة للشعور بالذنب، تسعى الحكمة الإيكولوجية الحضرية إلى نقل القيم الإيجابية وديناميكية التقدم(Guattari.1992 : 108) .

خاتمة

بعض عرضنا لكلا الرؤيتين المختلفتين حول مفهوم الحكمة الإيكولوجية عند نايس وغتاري، وضرورته في تشكيل رؤية جديدة في علاقة الإنسان بالطبيعة وتوسيعها لتشمل بالمدينة عبر تطبيق مفهوم الحكمة الإيكوبوجية، ودور البعد الأخلاقي والجمالي في تشكيل هذه الرؤية، ومن تم تجاوز الأزمة البيئية التي تحدق بكوكبنا. يمكننا ذكر أهم النتائج التي توصل إليها تحليلنا كالتالي :

  • مقاربة كل من نايس وغتاري حول الحكمة الإيكولوجية، وتطبيقاتها حول الحقيقة الحضرية هي تحليل أو معرفة في شكل رؤية ولكن أيضًا برنامج يهدف إلى وضع موضع التنفيذ. حيث تبرز وتجلب قيمة مضافة مقارنة بالمقترحات المختلفة الموجودة حول المدينة البيئية، التي لا تضعها على مستوى الإرادة السياسية ولا تقترح نماذج مثل المدينة الحساسة والمدينة المرنة والمقتصدة والمستدامة، أو حتى المدينة الذكية، ففي السنوات الأخيرة تم إثراء المدينة بمختلف المواصفات باعتبارها واعدة، وبغض النظر عن كونها فاضلة أو شرعية قد تظهر بشكل فردي، فإن الاقتصاد والاستدامة أو حتى المرونة لا يمكن أن تشكل في حد ذاتها غاية مرغوبة وحافز لمعظم سكان المدن. كما يمكن أن تلقى هذه المقترحات في بعض الأحيان صدى مثل العديد من الادعاءات غير المجسدة التي تلبي أولاً التوجهات السياسية لمصمميها.

  • تحالف الإنسان مع الأرض للجمع بين المسارات والإيقاعات المشتركة للإنسانية والمحيط الحيوي كما رأيناها مع نايس، يجعلنا نعيد التفكير في أنواع الشراكة مع الكائنات الحية غير البشرية لتعزيز الاستخدامات المستدامة للأراضي. وبقدر ما يتعلق الأمر بالمدينة، يمكن تصور التحالف مع الركيزة الطبيعية والغطاء النباتي والماء وكل ما يشكل التنوع البيولوجي. يمكن تصور شكل آخر من أشكال التحالف في السياق الحضري، ذلك الذي يربط الإنسان بالمصنوعات الفنية، من خلال الاستخدام السليم لإمكانيات التقنيات الجديدة. لقد رأينا أن مقاربة غتاري لا ترفض التكنولوجيا، بل هناك حاجة لتطوير تحالف بين المدينة « الميكانيكية » والمدينة « العضوية »، تحفزها ديناميكية الحياة.

  • فكرة التواصل التي تسلط الضوء على التعاون المتبادل بين الكيانات أو المجموعات المختلفة على المستوى الحضري، تتعلق بالتفكير حول الترابط بين المدينة والريف، وإخراج الإقليم أو المنطقة الحيوية الحضرية بدوائر قصيرة في اقتصاد دائري يربط في إتقان التدفقات والموارد لإطعام سكان المدينة وتلبية احتياجاتهم الحيوية، فعلى المستوى الاجتماعي في المدينة، يفترض الاتصال إعادة الروابط التكميلية مع مختلف الفاعلين الاجتماعيين الممثلين. يتعلق الأمر بإعادة إيجاد شكل من أشكال التواصل الاجتماعي من خلال نشر ثقافة جماعية إقليمية.

  • مسار تحقيق الذات الذي دعا إليه نايس، ليس إبطالا للأنا، بل هو الإنجاز الشخصي أو إنتاج الذاتية، فمن خلال الروابط العاطفية التي تربطنا بالعالم، أو تربطنا بالطبيعة، يستجيب العالم والذات لبعضهما البعض في نوعية العلاقة التي تعزز معنى وجودها. عند تطبيقه على العالم الحضري، يتم التعامل مع المدينة باعتبارها ناقل للوفاء الفردي والتحرر والإبداع الجماعي. إنه شكل جديد من الارتباط و الاعتماد المتبادل، ولكن ليس فقط في شكل علاقة ثنائية بين الفرد والبيئة، ولكن بشكل جماعي في شكل ترتيبات جماعية، لها بعد سياسي في الاهتمام بإيجاد تداول نشط وتحولي لأنظمتنا الديمقراطية.

  • الإحسان كآداب واحترام الآخرين في اختلافاتهم. يمكن ترجمته إلى مخطط حضري، يمكن أن يغطي أبعادًا مختلفة : المرتبطة بشكل من أشكال الأدب، والتحضر بالمعنى الأصلي. بالإضافة إلى إعادة تأهيل التعاطف ومحاربة شكل من أشكال السيطرة التي يمكن التعبير عنها على المستوى التقني من خلال شكل من أشكال التمدن الاستبدادي والإقصاء وإنتاج مجتمعات مغلقة على نفسها، وبشكل أكثر تحديدًا، يمكن أن يُترجم هذا إلى نوايا أو برامج مختلفة حول المدينة الشاملة الموحدة. إنها مسألة الاعتراف بشكل من أشكال التضامن ولكن أيضًا بالاحترام بين الأفراد، تجاه تاريخها ومسارها وتراثها البنائي والثقافي. إن الإحسان المندمج في الأخلاق الحضرية يؤثر على الكوني والخاص ليؤلف معهم شكل من أشكال توحيد المنطقة الحضرية.

أخيرًا، مقترنة بنظرية المعرفة حول فهم العلاقة بين المدينة والطبيعة، ومع أخلاقيات علاقتنا بالمحيط الحيوي، والأجيال الحالية والمستقبلية، تقدم الإيكولوجيا الحضرية بُعدًا إضافيًا : فهي تستكشف المعنى وتعمق القيمة المنسوبة من قبل كل ساكن في المدينة وكل مجتمع لبيئته الحضرية. من خلال هذه العملية يضفي معنى وزخمًا يساهم في الاستيلاء الفردي والجماعي على هذه الصلة المعززة بين الإنسان وبيئته المباشرة.

دلوز، جيل، وغتاري، فليكس. (1997). ما هي الفلسفة؟ (ط. 1). لبنان : مركز الإنماء القومي.

المسكيني، أم الزين بن شيخة. (2017، تشرين الأول). إيكوصوفيا البشرية في أرجوحة إنعاش جهنمية. مجلة معابر الإلكترونية. استرجع في 05/04/2023، من http://maaber.50megs.com/issue_october17/deep_ecology1.htm

نايس، أرني. (2009). علم البيئة والجماعة وأسلوب الحياة (ط. 1). القاهرة : الدار المصرية اللبنانية.

Callicott, J. B. (1983). The Land Aesthetic. Environmental Review : ER, 7(4). Environmental History. Consulté le 03/03/2022, de https://www.jstor.org/stable/3984176

Guattari, F. (1992). Pratiques écosophiques et restauration de la Cité subjective. Chimères. Revue des schizoanalyses, (17). Fichier PDF généré le 23/09/2021, https://www.persee.fr/doc/chime_0986-35_1992_num_17_1_1847

Glasser, H., & Drengson, A. (2005). The Selected Works of Arne Naess. Springer : The Netherlands.

Hess, G. (2013). Ethique de la Nature (1ère éd.). France : Presse Universitaire.

Antonioli, M. (2015). Les Deux Ecosophies. Chimères, 2015/3(87). Téléchargé le 14/10/2020, de https://www.cairn.info/revue-chimeres-2015-3-page-41.htm

Naess, A. (2017). La Réalisation de Soi. Marseille : Edition Wilproject.

Wayne, M., & Bjørkdahl, K. (2011). Arne Dekke Eide Naess. Inquiry : An Interdisciplinary Journal of Philosophy, 54. Consulté le 13/02/2022, de http://dx.doi.org/10.1080/0020174X.2011.542942

Wolin, R. (2022, August). Pierre-Félix Guattari. In Encyclopaedia Britannica. Consulté le 04/04/2023, de https :/www.britannica.com/biography/Pierre-Felix-Guattari

بلقصير مصطفى

جامعة الدكتور مولاي الطاهر سعيدة

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article