مقدمة
لقد أجمعت العديد من الدّراسات الحديثة والتي أجريت في ميادين العلوم عامة والإنسانية خاصة، أنّ الثقافة تميل إلى الهيمنة والاستلاب والاستعلاء ظاهريا ولكنّها ضمنيا تحتفظ بالكثير من الممارسات كشكل من المقاومة والرفض لهذه الهيمنة والتسلّط، وانشغل نقاد النقد الثقافي في العالم العربي بهاجس إكساب النص حضورا ماديا وسياسيا وثقافيا في العالم بالاعتماد على مفاهيم عديدة. وتتوسّع دائرة النقد الثقافي لتشمل كل ما هو خطابي من أدبي وغير أدبي وكذلك ما هو غير خطابي المرتبط بالأحداث والمؤسسات والممارسات الاجتماعية، وتتداخل الدّراسات الثقافية وتتفاعل بل وتتطفل على أسئلة السّياسة والسّلطة والدّين والتاريخ والجنس والمهمش وكلّ ما له تأثير عميق في حياة الأفراد والجماعات باسم جمالية تقليدية سلوكية ومركزية ضاغطة. والجدير بالملاحظة أن مجالات النقد الثقافي كثيرة جدا وغالبا ما تكون أرضيته النص، ليس المكتوب فقط بل المرئي الذي يتجلى في اللوحات التشكيلية ووسائط الإعلام المختلفة وكذلك في كلّ الممارسات المادية أو الفكرية الحاملة لدلالة ما.1 ولعلّى من تلك المجالات نجد النقد النّسوي أو النسائي كما يحلو للكثير تسميته، والذي يمكن ربطه بدراسات الجندر، وهو ترجمة اجتماعية حضارية للجنس البيولوجي الذي يسعى نحو توسيع المفهوم العام حول السؤال الاجتماعي، الذي مفاده كيف ينبغي على النساء والرّجال أن يتصرّفوا ويظهروا بالتلاؤم مع المجتمع مع رموز اجتماعية معرّفة والقائمة على أفكار نمطية تبعية مقبولة في المجتمع والتي تستوفي مكوّنات الأنوثة. إذ لجأت الكثير من النّساء إلى النضال السّياسي والاجتماعي وإلى الإبداع الشعري والكتابة الصحفية والأدبية كالرواية والقصة والمقالة، للمطالبة بحقوقهن ولكن عوامل كثيرة أسهمت في تهميش هذه الإبداعات وعدم توثيقها حيث إنّ معظم المبدعات بدأن الكتابة عبر مجلات الصحف والمجلات فأُتلفت أسماء عديدة، وضاعت الكثير من الكتابات وهُمشت حتى أصبحت في خانة الأدب المهمش، ذلك لأنّ المركزية الذكورية وأنظمتها البطريركية سيطرت على مجالات النقد، ولم تترك الفرصة للكتابة النسوية للبروز والإدلاء بدلوها سواء في العالم الغربي أو العالم العربي. وتتبادر إلى أذهاننا مجموعة من التساؤلات أبرزها: كيف تجلّت مظاهر هذا الرفض والسلوك المقاوم في التراث الثقافي العربي وفي الدّراسات النقدية الثقافية المعاصرة؟ وهل تمكّنت المرأة من مقارعة الرّجل عبر المراحل التاريخية وألزمته أن يقتنع بحضورها الفكري والثقافي؟
وظهرت أسماء لامعة في الدّراسات النقدية وعلوم الاجتماع من أمثال «عائشة التيمورية» و«مي زيادة» و«ليلى بعلبكي» ونخص بالذكر «آسيا جبار» في الجزائر، و«نوال السعداوي» بمصر و«فاطمة المرنيسي» بالمغرب الأقصى إذ سنتوقف عند دراستهن ونظرتهن للمجتمع العربي من خلال كتاباتهن. نضيف إلى هذه القائمة أسماءً تراثية أخرى تحدّت الرّجل وقارعته من أمثال شاعرة الرثاء «الخنساء»، وكذا الشاعرات المتغزّلات اللائي خرجن من قيود المجتمع وحاولن التمرّد على الواقع الذي ينصّ على أنّ الغزل هو ملك للرّجل دون سواه.
1. حول مفهوم مصطلح الجندر ونشأته
ويرجع الفضل في استخدام مصطلح «الجندر» إلى منظّمة العمل الدّولية، ومنذ إعلان العام الدولي للمرأة سنة 1975، وترسّخ خلال العقد الدولي للمرأة، فبرزت الاهتمامات بضرورة معالجة الفجوات النوعية القائمة بين الرّجال والنّساء في العديد من المجالات التشريعية والصّحية والتعليمية والمهنية والحياة السياسية وغيرها، من أجل تحقيق عدالة النوع الاجتماعي.2 وهو مصطلح يشير إلى العلاقات والفروقات بين الرّجل والمرأة التي ترجع إلى الاختلافات بين المجتمعات والثقافات والتي هي عرضة طوال الوقت للتغيّير. ومصطلح الجنس يُستخدم في التعدادات الإحصائية، أمّا الجندر فيُستخدم في تحليل الأدوار والمسؤوليات والحاجات الخاصة بكلا من الرّجال والنّساء في كلّ مكان أو في أي سياق اجتماعي. وحاليا تؤكّد الأبحاث الاجتماعية أنّ الجندر أصبح يعني بما هو أبعد من الإطار الجنساني، ليصل إلى المدى الذي يعني فيه بالعلاقات الاقتصادية، كما أنّ التعريفات الجندرية الاجتماعية مجزئة وغير ثابتة فالجندر عادة ما يتعلّق بالدينامكية الإثنية والطّبقية. أمّا في السّاحة العربية فقد أستخدم مصطلح الجندر تحت لفظ الجنوسة أو الجنسانية ومرادفات أخرى تمّ الإجماع على تعريبها تحت لفظ «النّوع الاجتماعي» وهذا اللّفظ يقابل مفهوم البيولوجي أو الجنس.3
1.1. تعريف الجندر
الجندر أو النّوع الاجتماعي أو الجنوسة حسب بعض الترجمات في العربية، وباللغة الأجنبية (gender) وهو علم الجنس السوسيولوجي/الاجتماعي، ويعني المصطلح دراسة المتغيّرات حول مكانة كلّ من المرأة والرّجل في المجتمع بغضّ النّظر حول الفروقات البيولوجية بينهما وفقا لدراسة الأدوار التي يقومان بها. أي أنّ المرأة والرّجل ينبغي النّظر إليهما من منطق كونهما إنسانين، بغض النظر عن جنس كلّ منهما وهذا العلم لا يخصّ المرأة فحسب وإنّما يعني الرّجل كذلك. فمصطلح الجندر هو ترجمة اجتماعية حضارية للجنس البيولوجي الذي يسعى نحو توسيع المفهوم العام حول السؤال الاجتماعي المتمثّل في الكيفية الصحيحة التي على النساء والرّجال أن يتصرّفوا ويظهروا بها، بالتوافق مع مجتمع يحترم كل طرف الطرف الآخر ويستوفي مكوّنات وشروط الحياة. وأنّ الفرق في الجندر أو بين الأنواع الاجتماعية للنوع الاجتماعي بشكل أساسي وعلى التوقّعات التي يبنيها المجتمع نفسه من النوع الاجتماعي السابق ذكره. ويمكننا القول إنّه وفي غالب الحالات يرى ذلك المجتمع أنّ المرأة هي النوع الاجتماعي الذي يحتاج إلى تعديل وليس سواها.4 وذهب الكثير من علماء الاجتماع إلى القول إنّ «العدالة الجندرية لا تعني الدعوة إلى أن يكون الجنسان متماثلين، وإنّما تعني الدّعوة إلى إزالة المفاضلة بينهما حتى لو كان الجنسان مختلفين في أدوارهما وصفاتهما».5 وحسب علماء الاجتماع يُطلق مصطلح النوع الاجتماعي «الجندر» على كلّ العلاقات والأدوار الاجتماعية والقيم التي يحدّدها المجتمع لكل من المرأة والرجل، وتتغير هذه الأدوار والعلاقات والقيم وفقا لتغير المكان والزمان، وذلك لتداخلها وتشابكها مع العلاقات الاجتماعية الأخرى مثل: الدّين والطبقة الاجتماعية والعادات والتقاليد والعرق والبيئة والثقافة والإعلام، والنوع الاجتماعي يجب أن يترادف معه مصطلحا تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، نقصد بتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية المساواة جميعا بين الرّجل والمرأة في جميع النواحي، إن كانت سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية، ونقصد به أيضا الحدّ من التمييز القائم على الجنس.
2.1. التحليل الجندري
هو أداة تحليل الفروقات بين الرجال والنّساء مع مراعاة خصوصية الأنشطة والظّروف والاحتياجات والوسائل التي تؤثّر في تحكّمهم في الموارد، وكذلك وسائل الإفادة من التنمية واتّخاذ القرار. فالتحليل الجندري –إذن- هو الأداة التي يتمّ بواسطتها دراسة الروابط بين هذه العوامل وغيرها في أوسع السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية. ويتطلّب هذا التحليل تجميع كافة المعلومات ذات البعد الجندري المتعلّقة بالسّكان، كونه الخطوة الأولى نحو قياس ورصد مدى تحقّق العدالة على أساس الجندر في المجتمعات. ومن باب الإفاضة والتحديد الدّقيق نقول بأنّ مفهوم الجندر يفضي إلى إبانة واستجلاء مضمونه الذي ينطوي على مطالبات المرأة العصرية في المجتمع الحديث المتقدّم والمتطوّر بالمطالب التالية:
-
تساوي حقوقها بحقوق الرّجل من الناحية القانونية والسياسية والمدنية.
-
رفع الوصاية عليها من قبل الرّجل والنّظام الاجتماعي.
-
الاعتراف من قبل المجتمع والرّجل باختلال توازن القوى بين الرّجل والمرأة الذي يجعل من الأخيرة تابعة للأوّل.
-
الاعتقاد من أنّ ظروف المرأة هي من صنيعة المجتمع لذلك يمكن تغييرها عندما تتغيّر ظروفها.
-
على المجتمع أن يصغي لصوت المرأة في التغيير والتمثيل دون الحاجة إلى راشد يتصرّف نيابة عنها أو يكون محرما لها عندما تكون خارج المنزل.
وعليه فإنّ جميع هذه المطالب تقول لنا بأنّ المرأة ترمي وتهدف الدخول إلى عالم كان مقتصرا على الرجل فقط، ومخطط له من قبل القيم الذّكورية، وأن يكون حضورها قائما في مناشط الحياة العامة والخاصة على السواء.6
2. الأدب والمرأة في التراث العربي القديم والحديث –نماذج مختارة-
يؤكّد نقاد الدّراسات الثقافية في الآونة الأخيرة أنّ حقل «الأدب والمرأة» يهتمّ بدراسة وقراءة كلّ ما تجاهلته النظريات النقدية الأدبية والاتجاهات الحداثية العقلانية والمركزية والمشعبة بقناعات إيديولوجية ومرجعيات سلطوية معيّنة، خاصة تلك التي تتعلّق بالمرأة وإنتاجها الفكري والأدبي والثقافي، وقد كان لإبداع المرأة في العالمين الغربي والعربي هذا التغيب والنسيان المقصود، وإلى وقت ليس بالبعيد عنّا، هُمشت كتابات المرأة لفترة زمنية طويلة، لم ترَ الحياة ولم يعرفها القراء إلا بعد نضال طويل وعصيب وشجاعة وتحديات متواصلة عبر كلّ المجتمعات وإلى اليوم، لذلك يصعب على أي دارس أن يدقّق في ما تبدعه المرأة. والغريب في الأمر أنّ حتى نوعية التسمية التي تُنسب للمرأة لم يتم تحديدها بدقّة، إذ يقال عنه أدب النسوي أو أدب نسائي؟ وهذا التساؤل أنشأ إشكالية معقدّة جدا ترتبط دائما بموقع المرأة في المجتمع، الذي يوظّف كل الوسائل لقمع صوتها وإسكاته، وبالتالي إخفائها حضورا وصورة ورغبة، فكان الجميع بما فيهم الطبقة المثقّفة يرى أنّ المرأة منبع مباشر للفتنة عبر مختلف المراحل التاريخية. وسنسعى في هذا العنصر تمثيل المرأة في التراث العربي القديم والحديث عبر نماذج مختارة.
1.2. المرأة وحضورها في كتابات التراث العربي القديم
لم تكن علاقة المرأة العربية بالكتابة الإبداعية ذات طبيعة واحدة وثابتة عبر التاريخ بل تميّزت بالتغيّر والتنوّع والتطوّر بحسب الشروط السوسيو-تاريخية للمجتمع العربي، انطلاقا من أجناس أدبية ضئيلة مثل فن الوصايا مع «أمامة بنت الحارث الشيباني» التي أوصت ابنتها «أم إياس» ليلة زفافها إلى «عمرو بن حجر» أمير كندة قائلة:
«أي بنية إنّ الوصية لو تركت لفضل أدب تركت لذلك منك، ولكنّها تذكر للغافل ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدّة حاجتهما إليها كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال. أي بنية إنّك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فاحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخراً ».7
ونستخلص مجموعة من الوصايا تتمثّل الأولى في الخشوع له بالقناعة وحسن السمع والطاعة، والثانية في اكتساء مظهر جميل والتعطّر بأطيب الريح، والثالثة التفقّد لوقت منامه وطعامه فإنّ تواتر الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة، وأمّا الرابعة فالاحتراس بماله والإرعاء بحشمه وعياله حتى قيل إنّ ملاك الأمر في المال حسن التقدير وفي العيال حسن التدبير. وأخيرا ألا تعصي له أمرا وألا تفشي له سرا فإنّها إن خالفت أمره أو غرت صدره وإن أفشت سرّه لم تأمن غدره لا محالة. يتّضح لنا من خلال هذه النص الجاهلي أنّ المرأة خُلقت لتكون ملكا للرّجل وأن تكون له خادمة مطيعة، وأنّها حينما تترك أهلها عليها أن تنساهم تماما لأنّ بيت زوجها هو الحاضر والمستقبل. إنّ هذا النّص يؤكّد هيمنة الرجل على المرأة وأنّها لا يمكن لها أن تتحرّر إطلاقا من تبعيتها للذّكر، ولمّا جاء الإسلام أخذت المرأة تخرج قليلا من تلك البقعة التي كانت تحتقرها وتجعلها كائنا أدنى من الرّجل، خاصة انقضاء تلك العادات السيئة التي كانت تصيبها مثل وأد البنات خوفا من العار أو تعليق خطوط حمراء أثناء السفر في رحلات تجارية مثلما كانت تفعل قبيلة قريش قبيل الإسلام. وممّا لا ريب فيه أنّ الصورة الحقيقية للإسلام ظهرت بخطوط غير واهية ولكنّها واضحة في كتب السِّيَر والتاريخ الإسلامي التي ذكرت كيف كان للمرأة في عهد الرسول كيان مستقل عن الرجل، تطالب بحقّها الذي أعطاها إياه الإسلام بكل جرأة، فأخذت تمارس التجارة بكلّ إقدام مثلما كانت تفعل «خديجة بنت خويلد» أوّل النّاس إيمانا بالرسول، وها هي أيضا «عاتكة بن زيد» تقف في وجه عمر بن الخطاب تطالب بحقها في صلاة الجماعة في المسجد، وتُطالب أيضا أن تُمارس حقها بإدارة أموالها بمعزل عن زوجها كما فعلت «ميمونة أم المؤمنين» بجاريتها دون علم رسول الله. دون أن نغفل عن ما فعلته «أم سليم بنت ملحان» التي أهدت رسول الله يوم عرسه هدية تليق بمقامه الشريف باسمها لا باسم زوجها، وهي القائلة: «يا أنس، اذهب بهذا إلى رسول الله فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرؤك السلام وتقول: إنّ هذا منّا قليل يا رسول الله».8 وإنّ أمثلة عن هذه الجرأة كثيرة في مجتمع صدر الإسلام، غير أنّ تبعية المرأة للرجل تواصلت ذلك أنّ الإسلام عبر نصوصه أمر بضرورة طاعة المرأة للرّجل وعدم الخروج عن شوره. ومع ذلك ظهرت بوادر الحرية في لسان الكثير منهن حينما أطلقن العنان لقول الشعر، مثلما هو الحال للشاعرة الكبيرة المخضرمة «الخنساء» وموقعها في الشعر العربي القديم وهي التي احتضنت صوت المرأة الإبداعي، وقد هيمنت أغراض محدّدة على إبداعها الشعري مثل غرضي الرثاء والغزل وكأنّ البكاء والحزن والاستعطاف صفات مرتبطة فقط بالمرأة. وكانت صاحبة همة وشأن في الوسط الشعر الجاهلي وقد رُويَ عنها أنّها هي من اختارت زوجها «مرداس بن أبي عامر السُلمي» ورفضت الزواج من «دُريد من الصّمة» شيخ بني جُشم، وكانت تحضر سوق عكاظ الشهير وتنافس أفحل الشعراء بل وتتفوّق عليهم في النظم والكتابة، كما احتكم إليها شعراء كثر كانوا يتنافسون فيما بينهم حول جودة شعرهم، وهناك شاعرات أخريات عُرفن بتفوقهنّ في نظم الشعر من أمثال: «الدّعجاء بنت وهب بن سلة الباهلية »، وكذا «الخِرنِق بنت بدر» زوجة سيّد بني أسد، و«ليلى الأخيَليَّة» من قبيلة بني صعصعة وهي شاعرة مرتدّة عن الأعراف عُرفت بعلاقتها مع الشاعر اللّص «توبة بن الحُمَيّر الخفاجي ».9
ويمكن لنا أن نمثّل بأخريات مثل: «ضباعة بنت عامر» شاعرة من شاعرات العرب المخضرمات اُشتهرت برثاء زوجها «هشام ابن المغيرة»، و«صفية بنت عبد المطلب» وهي عمّة الرسول و«أم الزبير بن العوام» شاعرة مخضرمة، رثت والدها بطلب منه، ورثت النبي كما رثت حمزة والزبير وفخرت على قريش ومن شعرها في رثاء النبي ما يلي:
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا |
وكنت بنا برا ولم تكن جافيا |
وكنت رحيما وهاديا ومعلما |
لبيك عليك اليوم من كان باكيا |
فدى لرسول الله أمي وخالتي |
وعمي وخالي ثم نفسي وماليا10 |
2.2. المرأة المتغزلة
إنّ الغزل هو الشعر الذي يصوّر فيه الشاعر شوقه وإحساسه تجاه المرأة، وما أصابه من الآلام التي يُكاد بها والشقاء الذي يعانيه، ويصوّر الشاعر جمال المرأة في أجمل الصّور كما يصوّر أيضا لقاءه معها أو حدوث قطيعة معها أو انفصال أحدهما عن الآخر. وأكّدت دراسات كثيرة أنّ المرأة الجاهلية عاشت حياتها سليبة الحرية ضائعة الحق، مهيضة الجناح، تحجب نفسها عن كلّ العيون ما عدا الرجل الذي سباها وجعلها أداة للمتعة لا أكثر ولا أقل. وكان الوضع الاجتماعي لها في العصر الجاهلي أغلبه سلبيات وإهدار حق لها، إلا أنّها كانت أحسن حالا من المرأة التي جاورتها في البلاد المتاخمة حيث لم يكن لها من الحرية ما يساعدها على البقاء حية بعد موت زوجها، على حين كانت المرأة العربية بوجه عام تقرّر أمور حياتها وتشارك الرجل في بعض ألوان الحياة.11
فكما أحبّ الرّجل وعشق المرأة وتغزّل بها، فإنّ المرأة تحبّ وتعشق الرّجل هي الأخرى، وهذا من حقّها أيضا، وعانت حرارة الحبّ والاشتياق مثله، وكما وُجد في الشعراء من هو عفيف في حبّه، كذلك وُجد بين النساء العفيفات، وكما وُجد الحسيون الذين ينظرون إلى الحبّ على أنّه شهوة، كذلك كان حال بعض النّساء اللائي منهن من تتلذّذ بالشهوات الجنسية، أصحاب الحب الحسي لديهم المقدرة على الوصول إلى غايتهم، بينما يعجز أصحاب الحبّ العفيف الوصول إليها، كون عواطفهم تغلبهم وتخور قواهم فيعانون حرارة الوجد طيلة حياتهم.12 تقول أعرابية:
الحبّ أوّله ميل تهيم به |
نفس المحبّ فيلقى الموت كاللعب |
يكون مبدؤه من نظرة عرضت |
أو مزحة أشعلت في القلب كاللهب |
كالنّار مبدؤها قدحة فإذا |
تضرمت أحرقت مستجمع الحطب13 |
تحيلنا هذه المقطوعة إلى طبيعة الشعر لدى بعض النّساء في الجاهلية، فحسب هواها فإنّ المحبّ لا يستطيع التحكّم في عواطفه، فالهوى يذهب ويعود مقترنا بقرب الحبيب من حبيبته. وكانت المرأة وبالرّغم من ذلك تبوح بحبّها وشوقها لحبيبها حتى وإن كانت تتلقّى التعذيب والضرب المبرح من مجتمعها وعائلتها، ويُروى أنّ رجلا من «بني عقيل» تزوّج امرأة من قبيلته، وذات يوم دخل بيته ووجد زوجته تتمثّل بيت غزل، فقال لها: ما هذا الذي تتمثّلين به؟ لعلّك عاشقة، فقالت: لا، ولكن أبيات حضرتني، فقال: لئن سمعتك تعودين إلى مثل هذا لأوجعن ظهرك، فأنشدت تقول:
فإذا تضرب ظهري وبطني كليهما |
فليس لقلب بين جنبي ضارب |
يقولون عزيّ النفس عمن توده |
وكيف عزاء النّفس والشوق غالب |
وبعد سماعه للبيتين قام وطلّق زوجته. ويُروى عن امرأة تُدعى «شقراء بنت الحباب» تهوى ابن عم لها يقال له يحيى بن حمزة، فلمّا خشي أهلها من الفضيحة قالوا لها: إذا نطقت فيه بشعر قطعن لسانك، فقالت:
خليليّ إذا صعدتما أو هبطتما |
بلادا هو نفسي بها فاذكران |
ولا تدعا إن لامني ثم لائم |
على سخط الواشين أن تعذرانيا |
فقد شفّ قلبي بعد طول تجلّدي |
أحاديث من يحيى تشيب النواصيا |
سأرعى ليحيى الودّ ما هبّت الصبا |
وإن قطّعوا في ذاك عمدا لسانيا.14 |
فأصرّت المرأة الشاعرة هنا البوح بمشاعرها ومن لوعتها وصبابتها، فاكتسبت جرأة غير معهودة، فلاحت بحبّها وصوّرت حالها، وتحدّت أهلها على الرّغم من تحذيرها إيّاها بقطع لسانها. وذاقت في حبّه ألوان العذاب فلم تتحوّل عن حبّها له بل احتملت الضرب والعذاب في سبيل حبّها وهي عفيفة في شعرها. وهناك من الشاعرات من يقصدن مجالس الخمر مثل «أم حكيم بنت يحيى الأموية» وهي امرأة متهتكة تشرب الخمر وتمجن، وتكشف عما كانت عليه المرأة من تهتك ومطارحة الغرام والغزل، وتصرف نقودها في الخمر وهي القائلة:
ألا فاسقياني من شرابكما الوردي |
وإن كنت أنفذت فاستر هنا بردي |
وأرسل لها عشيقها شعرا يقول فيه إنّه رآها في المنام تعانقه فردّت قائلة:
خيرا رأيت وكل ما عاينته |
ستناله مني برغم الحاسد |
إنّي لأرجو أن تكون معانقي |
فتبيت مني فوق ثدى ناهد |
وأراك بين خلاخلي ودمالجي |
وأراك بين مراحلي ومجاسدي15 |
وهناك أشعار غزلية كثيرة أفحشت فيها المرأة إفحاش شعراء الغزل الصريح، فمنهن من ذكرت ليلة قضتها مع عشيقها ومنهن من تغزّلت بالرجل غزلا ممقوتا.
وهناك شاعرات أخريات عرفن عن تغزلهن بالرجال خاصة في البيئة الجاهلية، ولعلّ «أم الضحاك المحاربية» أشهرهن، وكانت زوجة لأحد من أبناء قبيلة ابن ضباب وطلّقها وهي تحبّه، فقالت فيه شعرا أورده أبو تمام في الحماسة الصغرى، ورُوي بها «ابن الشجري» مقطوعتين في حماسته، ولمّا طلّقها زوجها أنشدت قائلة:
هل القلبُ إن لاقى الضبابي خاليا |
لدى الركن أو عند الصفا متحرّجُ |
وأعجلنا قرب الفراق وبيننا |
حديث كتنشيج المريضين مزعجُ |
حديث لو إن اللحم يشوى بحرّه |
طريّا أتى أصحابه وهو منضجُ |
ووصل الأمر بالشاعرة إلى الكشف عن أغوار رغباتها الجنسية الجامحة في مجتمع فرض عليها الكبت، وها هي تتذكّر علاقتها الشرعية مع زوجها، وتنشد قائلة:
شفاءُ الحبّ تقبيل وضمّ |
وجرّ بالبطون على البطون |
ورهزٌ تهمل العينان منه |
وأخذ بالمناكب والقرون16 |
وهو غزل حسّي غايته الوصال وهو مبني على ذكر العشرة بين الحبيبين أو تخيّلها، وكلّ معانيه وأخيلته حسية وأوصافه جسدية لا مكان للروحانية فيه، وتتمتّع صاحبته بالجرأة الكبيرة. وهناك من الشاعرات من وصلت إلى أبعد درجات الفحش والإباحية إذ يدرجن العلاقات الجنسية ويصفن الرجل، منهن «أم الورد العجلانية» التي تقول في شعرها:
رب غلام قد صري في فقرته |
ماء الشباب عنفوان شدته |
يمشي بعرد قد دنا من ركبته |
أقعس لا من أود في خلقته |
وارتفعت خصيته في عانته |
وقربت عانته من سرته |
وانقلب جلده أعلى فروته |
فهو إذا تنضنضه لدفعته |
ينشب في المسلك عند رزهته |
تقاعس الضب عصا في كديته.17 |
والظاهر في هذا النص الشعري أنّ المرأة تعدّت الرجل في غزلها الجنسي وأوصافها الحسّية، وانقادت المرأة هنا لشهوتها وجاهرت ببغيتها في غياب الرقيب وانعدام النازع الدّيني، الذي يقيّد النصوص الشعرية ويعاقب أصاحبها في حين تجاوزوا المحظور.
وفي العصر العباسي ظهرت مجموعة من الشاعرات ممن اُشتهرن بقول الشعر في الرجال مثل «صفية البغدادية» و«طيف البغدادية» و«عائشة بنت الخليفة المعتصم» وغيرهن، كما ظهرت مجموعة أخرى من شاعرات فصيحات بالأندلس تتقدّمهن الشاعرة «عائشة بنت أحمد بن محمد ابن قادم القرطبية» والتي قيل فيها لم يكن في زمانها في حرائر الأندلس من يعدلها علا وفهما وأدبا وشعرا وفصاحة تمدح أمراء وملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة، وكانت حسنة الخط.
وفي عصر النهضة (الحديث) لا نكاد نعثر تماما على نصوص شعرية نسوية صريحة تُكتب في الرّجل خاصة منها أشعار الغزل، و يعود ذلك إلى الظروف السياسية والاجتماعية التي كان يعيشها الوطن العربي وها هي الشاعرة «عائشة التيمورية»18 تتقمّص دور الشاعر الغازل، بالرغم من أنّها في مجتمع يحرم على المرأة البوح بمشاعرها والتعبير عن عواطفها، ولأنّ البوح بمكبوتات القلب ينقلب عليها آثرت كما ينظّم الشعراء، ليأخذ شعرها الغزلي صفة الشرعية لدى مجتمعها من الرجال المحافظين وعلى حرمان المرأة من البوح بمشاعرها وكتبت تقول:
تركتُ الحبّ لا عن عجز طول |
ولا عن لوم واش أو رقيب |
ولا من روع زفرات التصابي |
ولا من خوف أجفان الحبيب |
ولا حذر الفراق وخوف هجر |
به تجري المدامع كالصبيب |
ولكنّي اصطفيت عفاف نفس |
تقرّ بصفوه عين الأريب |
وذاك لأنّني في عصر قوم |
به التهذيب كالأمر العجيب19 |
وتعبّر هذه النصوص من صريح الشعر وجريء المعاني عن شكوى وبكاء وهجر وعتاب، بالإضافة إلى ذكر العشرة بين الحبيبين، وذكر محاسنه، فهناك من الأشعار ما كان عفيفا وعذريا، يرضى صاحبها بأقل القليل يلازم العفّة ويتحمّل نتائجها النفسية القاسية، وهناك من الأشعار ما تعدى الحدود وبالغ صاحبها في وصف الجسد والعلاقة الحميمية.
3. نماذج نسوية معاصرة في النقد الثقافي
لا يؤكّد التاريخ بدّقة أولى الكتابات المتّصلة بالمرأة سواء كان في العالم العربي أو الغربي سوى تلك المحاولات في الشعر، وربّما كان السبب في ذلك تدخل سلطة الرّجل والأنظمة البطريركية (le patriarcat) التي تحكّمت في التدوين والتأريخ إلى أوقات متأخرة. وفي العصر الحديث، لجأت النساء إلى النضال السياسي والاجتماعي وإلى الإبداع الشعري للمطالبة بحقوقهن، ولكن عوامل كثيرة أسهمت في تهميش هذه الإبداعات وعدم توثيقها حيث إن معظم المبدعات بدأن الكتابة عبر مجلات الصحف والمجلات فأتلفت أسماء عديدة تكتب في مواضيع معيّنة لا يمكن الابتعاد عنها حتى لا تقع في مشاكل، وكانت مصر بحكم مجموعة من المكونات التاريخية والفكرية والثقافية مرجعية واضحة بالنسبة لبعض البلدان العربية الأخرى، ذلك لأنّ بوادر النهضة العربية الحديثة ظهرت فيها وازدهر النشاط الفكري والثقافي وأعطت المرأة حق الكتابة والتعبير ومشاركة الإنتاج الفكري والأدبي. وعليه فإن علاقة المرأة بالكتابة في مصر وبلدان المغرب والخليج ارتبطت بشكل كبير بالتطور الاقتصادي والتنموي والانفتاح على العالم الخارجي.
وإذا حاولنا البحث عن علاقة المرأة العربية بالكتابة فإنّنا نجدها قد ارتبطت بمقاومتها للعادات والتقاليد والفكر القديم المتخلّف وقصر الرؤية تجاه المرأة، وخصوصا مع كتابات «عائشة التيمورية» في أواخر القرن التاسع عشر، هذه الكاتبة التي طرحت المسألة النسائية عبر مجموعة من النصوص الشعرية، وكان زمنها قد بدأ يشهد «سؤال الأنثى »، فتحوّلت وظائفها ومواقعها في المجتمع، لتنتقل المرأة من البيت إلى فضاءات العمل والإبداع/الخارج.
وهكذا وإلى غاية الأربعينات من القرن العشرين تطور سؤال المرأة المبدعة ولاسيما مع نماذج نسوية معروفة «كمي زيادة» التي حاولت أن تغير الرؤية السائدة في الثقافة العربية آنذاك، ومع أنّها كشفت أن ثمة عقليات متصلبة ومحافظة ترفض أي موقع للمرأة يخرج عن دائرة المتعة والطاعة. وفي هذه الفترة لم يطرح مشكل الإبداع النسائي، لأنّ السؤال انصبّ على الكاتبة كامرأة حررت المجلس الثقافي وفرضت واقعا جديدا، ولم تطرح بعد مسألة استقلالية المرأة الكاتبة كذات منتجة للمعرفة والمعرفة بالأنا، الضمير الأنثوي الحر في القول والكتابة والحياة، وقد مثّلت هذا الخط الكاتبة «ليلى بعلبكي» التي نقلت المرأة من موضوع إلى ذات، فراحت تبحث عن هوية مستقلة، وكان ذلك بعد أن اجتاحت المرأة عالم التعلم والثقافة ودخلت الجامعة ومشاركتها في الحركات الجماعية والتظاهرات المختلفة في المشرق ثم في المغرب مع كتابات الكاتبة الجزائرية «آسيا جبار »20
1.3. السلطة الأبوية –آسيا جبار أنموذجا
مثّلت الكاتبة الجزائرية «آسيا جبار»- المرأة ومعاناتها في المجتمع الجزائري عبر نصوص روائية كثيرة مثل روايتها «لا مكان لي في بيت أبي»21، إذ استطاعت الروائية من خلال سيرتها الذاتية البوح بما يختلج خواطرها من أفكار جدّ حساسة وبشكل جريء، من ظلم المرأة أو البنت والتقليل من شأنها في مجتمع ذكوري سلطوي، جسد السلطة الأبوية والسلطة الاجتماعية، محاصرة بالتقاليد والأعراف والممنوعات، والتي كانت مترسّخة منذ الأزل، ومنذ تاريخ العهد القديم في معتقد فكر الرجل محملا ومعبأ بالثقافة الأبرسية، وتتحدّث عن أحداث كثيرة جرت لها مع والدها أو مع أخيها أو حتى مع والدتها التي يبدو وأنّها استسلمت للأمر الواقع، ووافقت على تلك السلطة الذكورية المطلقة. ومن الأعراف والتقاليد التي جرت عليها العادة أنّ البنت تلعب مع مثيلاتها وأقرانها من البنات ولا يحقّ لها أن تلعب مع البنين، إلا أنّ الروائية تحدّت الأمر: «رآني أبي أنا وطفل ألعب بدراجة لكن الأب تظاهر بتجاهلي... وبصوت عال ونظرات حادة ناداني باسمي... كرر عاليا اسمي». وهذه الحادثة لم تنل إعجاب الأب والأم أيضا تقول: «... هرعت صامتة هي الأخرى لا أريد أن تظهر ابنتي ساقيها وهي تركب الدراجة». وإنّ تمسك كل من الأب والأم بهذه الأعراف ومناداتهما لها بصوت عال جعلها تتساءل: «هل أبي لا يزال هو أبي؟». ولشدة استغرابها ظنت أن شخصا آخرا «مجهولا قد دلف وتقمص شخص أبي «فهو قد غدى» كائن لا هوية له مزود بصوت من حديد».22 ومن خلال الشواهد السالفة الذكر نفهم قلق الوالد على شرف البنت، ذلك أن البنت أو الأنثى في الأعراف الجزائرية مراقبة مراقبة شديدة ومحاصرة حصارا متبعا بل تبتعد عن عالم الذكورة، العالم الأعلى ولا يجوز لها في أي حال من الأحوال الاقتراب منه.
2.3. نوال السعداوي ودعوتها إلى تحرير المرأة
ويظهر أن انتشار الكتابة بأقلام نسوية كان في أواخر القرن التاسع عشر، عندما انفتحت المرأة العربية على الثقافة الغربية وخاصة ما تعلّق بقضية تحرير المرأة الغربية، الذي عمل على نشر مجموعة من المبادئ التي لقيت صدى واسعا في الوسط النسوي كوجوب تعلم المرأة وخروجها إلى العمل، وكان طبيعيا أنّ مثل هذا الخطاب لم يستوعبه الرّجل العربي بسهولة23 ولو أنّ نمط التفكير عند المرأة مختلف، فهناك دراسات وآراء تعدّت كل قواعد المجتمع الإسلامي فمنها الصريحة ومنها ما زاد عن حدّها، مثل التي جاءت بها الناقدة المصرية «نوال السعداوي»24 التي تضع عنصر الأنوثة مقابل الذكورة في صراع المرأة وتعتبر اضطهادها هو بسبب عنصر الذكورة للرجل. وفي حقيقة الأمر هن كثيرات ممّن يدعون إلى تحرّر المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية.
ويرى الناقد «مكارم إبراهيم» أنّه لو استطاعت الناقدة المصرية «نوال السعداوي» وبقية النّساء الخروج من هذه السذاجة النضالية والوقوف مع أخيها الرجل جنبا إلى جنب في الساحة الحقيقية للصراع، والتي هي الصراع ضد الاستغلال الاقتصادي لجهود المرأة والتي يتعرض لها الرجل أيضا على حد سواء، فستتحرّر المرأة من كلّ أشكال الظلم التي يمارس عليها تحت أسماء مختلفة. علينا أن ندرك بأن الجميع معرض للقمع المرأة، الرجل، الطفل، وحتى الكهل لأنّه وببساطة الظالم هو شخص مريض أخلاقيا والمرض الأخلاقي يمكن أن يصاب به الرجل والمرأة على حد سواء. فالمرأة يمكن أن تظلم نفس جنسها إذا كانت مريضة أخلاقيا. وعلى سبيل المثال فهناك القوادة التي تبيع النساء في سوق البغاء ولا تقتصر هذه المهنة على الرجل. وهناك رئيسة العمل امرأة تستغل جهود العاملات بساعات عمل مجانية، قد رأينا برنامجا وثائقيا عن ختان الفتيات في السودان حيث كانت النساء هن من يسحبن الفتيات إلى القابلة التي تقوم بعملية الختان لهن دون علم الآباء25 ولكن ما يلفت للانتباه أنّ الناقدة المصرية ورغم عدم توازن شخصيتها وتعارض مواقفها، تبقى من أهم النقاد الذين كتبوا حول المرأة وعن ضرورة تحرّرها من قيود الذكورية والسّلطة البطريركية التي تستحوذ عليها، وجاءت أعمالها متنوّعة ولعلّ أبرزها رواية »زينة» التي تعدّ من أهم الرّوايات النسوية الإفريقية والعربية على العموم وتسلّط الضوء على أستاذة جامعية مصرية تتعرّض للعديد من الضغوطات والقهر الذي يمنعها من إثبات نفسها، وهو ما جعلها تلذّ بالفرار من بيتها الزوجي لتحقيق مبتغاها في الحياة. وفي عمل آخر بعنوان: «امرأة عند نقطة الصفر» تروي لنا الكاتبة قصّة امرأة تتلاعب بها الأقدار، وساقها الرّجال إلى مصيرها المحتوم في مجتمع ذكوري مريض، إذ تجسّد الرواية تملك الذكور للسّلطة والثروة والشهوة، بينما تكون المرأة أداة طيعة لنيل شهوة الرجل وإرضاء سلطته. ونتوقّف أخيرا عند روايتها بعنوان: «امرأتان في امرأة» والتي تروي أحداث امرأة تثور على القيم الاجتماعية التي يحكمها الرّجل وتريد التحرّر منها وهي ترصد امرأة في امرأتين، الأول منهما متمرّدة والثانية مستسلمة تتقبل الواقع وتعيش على مضض من الأيام.
3.3. أعمال فاطمة المرنيسي
والتي كانت اهتماماتها تنصبّ في وضعية النساء في المجتمعات المسلمة المتغيّرة بسرعة في العالم العربي، وفي المغرب بنحو خاص. ومن أهم أعمالها نجد «ما وراء الحجاب : ديناميكيات ذكورية-نسائية في المجتمع المسلم الحديث» وحوّلها الكتاب على إثره إلى ناقدة نسوية عربية رائدة، فقد أثار من نواحي عديدة قضايا خطيرة في الفكر النّسوي وفي الدّراسات النقدية الثقافية في الوطن العربي. ويتناول الكتاب دراسة أدوار الرجال والنساء الجنسية في المجتمع، ويبحث في المفاهيم المعروفة عن الجنس وعدم المساواة الجنسية بين الرجل والمرأة في المجتمعات الإسلامية، وينطلق الكتاب من مبدأ اختلاف الفكرة والفعل والتفكير والتطبيق في الإسلام (بالمقارنة مع المسيحية مثلا)، مع عدم تطبيقها في المجتمعات الإسلامية، بل ويتمّ تطبيقها بشكل عكسي في هذه المجتمعات كردّ فعل لمفهوم النص الإسلامي. ويتجلّى ذلك في تطبيق الحدود والتحكّم المفرط للمجتمعات الإسلامية وعلماء الإسلام في حرية النساء الجنسية، التي يرون فيها تهديداً للمجتمع المتحضر، كما يناقش الكتاب الأسباب التي يرجع لها رد الفعل المعاكس هذا، ويناقش الأسباب وراء اعتبار حرية النساء الجنسية تهديداً، وأسباب قهر النساء الاجتماعي- الجنسي، كما يقوم برصد بعض الظواهر المؤثرة في بنية المجتمع مثل تعدّد الزوجات والطلاق. وقد تحدّت الناقدة الأنماط الغربية عن الإسلام التي تقاسمتها أيضا بعض النسويات الأوروبيات. وساعدت التمثيلات الغربية للإسلام في النزعة الشرعية عن الخصائص الثقافية والعناصر المعرفية، التي تشكّل ذوات النساء العربيات والمسلمات. وكانت ميزة الكتاب الأخرى محاولته في إعادة تأويل التاريخ واللاهوت الإسلاميين من منظور نسوي يراعي الفوارق بين الجنسين.
كما صنع كتاب فاطمة المرنيسي بعنوان : «الإسلام والديمقراطية» دعوى أخرى ويبدو أنها أكثر التهابا من الأولى لاستعادة الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي. وتحاول في دراستها هذه تحليل خيوط العمليّة المعقّدة التي يوظّف من خلالها الطغاة الرّموز الإسلامية لقمع العمليات الديمقراطية، وتؤكّد أيضا أنّ الدّين وسيلة بحدّين مختلفين، إذ إنّه يدعّم أو يقمع المطامح الشرعية الديمقراطية لدى عموم النّاس. ومن انجازات فاطمة المرنيسي والتي تثير قضية تأويل الإسلام من منظور نسوي بلورتها وتوسيعها في ما يُعرف حاليا باللاهوت النسوي. الأمر الذي قادها إلى إعادة كتابة تاريخ الإسلام مُعلية من شأن فعالية زوجات النبي محمّد في تطوير الإيمان. وكان عملها هذا بارزا من خلال كتابها بعنوان: « تحقيق لاهوتي وتاريخي» وفيه أعلت الناقدة من دور النساء في نشر الإسلام، وقدّمت حجّة مهمّة بل ومثيرة للجدل على أنّ الشريعة قد شوّهها الرّجال عمدا. وإذا بدت اليوم أداة بطريركية فذلك لأنّ النّساء لم يحظين يوما بفرصة التأويل في سياق يراعي الفوارق بين الجنسين.26 وأخير لا بدّ أن نشير إلى عمل آخر للناقدة ذاتها بعنوان : «السّلطات المنسيات في الإسلام» 27 تعود فيه إلى الماضي الإسلامي لتطرح بجرأتها المعهودة أسئلة كانت ومازالت تؤرق المهموم بوضع المرأة المسلمة في بداية الكتاب، على أنّها تتحدث عن « الإسلام السياسي »، الإسلام كممارسة لسلطة المدفوعين بمصالحهم والمشبعين بالأهواء، وهو ما يختلف عن الإسلام الرسالة الإلهية، وعن الإسلام المثالي المدون في القرآن. كما تشير إلى أنها عندما تتحدث عن هذا الأخير، فإنّها تعبّر عنه بالإسلام كرسالة أو الإسلام الروحي، لتشرح للقارئ المتعصب أنّها تفصل بين الروحاني والدنيوي. وتساءلت الناقدة المغربية عن كيفية نجاح نساء الأزمنة القديمة اللواتي يفترض فيهن أنهن أقل تأهيلا منا في الوصول إلى مراكز صناعة القرار، في الوقت الذي فشلنا نحن العصريات بشكل مثير للشفقة، وهذا ما تؤكده أرقام تمثيلية النساء في المسرح السياسي في الدول الإسلامية.
خاتمة
وصفوة القول إنّ النقد النسوي لعب دورا كبيرا في سبيل الدفاع عن المرأة خاصة في مجتمع وظّف كل الوسائل المُتاحة لقمع صوت المرأة وإسكاته، وبالتالي إخفائه فهناك من يرى أنّها منبع مباشر للفتنة عبر مختلف المراحل التاريخية. مثلما هو الحال للمرأة العربية التي حاولت الدفاع عن نفسها والردّ انطلاقا من أجناس أدبية معيّنة مثلما هو الحال لنصوص الغزل التي عايناها وما أنتجته قريحة النساء من صريح الشعر وجريء المعاني عن شكوى وبكاء وهجر وعتاب، بالإضافة إلى كتابات نقدية نسوية لناقدات عربيات معاصرات حاولن استمالة الرأي العام والبحث في المفاهيم المعروفة عن الجنس، وعدم المساواة الجنسية بين الرجل والمرأة في المجتمعات العربية الإسلامية.