Résumé
مقدمة
طغت مسألة غياب المسرح في الثقافة العربية القديمة على قضايا الدراسات المسرحية وأثارت كثيرا من الجدل وأسالت غير قليل من الحبر عبر عقود من الزمن، لكن سرعان ما برزت قضية أخرى لا تقل عنها أهمية، وهي غياب التراجيديا في المنجز المسرحي العربي بعد عقود من الإبداع المسرحي بدْءا من العرض المسرحي (البخيل) لمارون النقاش عام 1848 م.
وقد انتبه النقادُ إلى عدم اهتداء العرب القدامى إلى فن التمثيل الذي عرفته أمم أخرى احتكوا بها مثل اليونان والرومان وأثار ذلك الكثير من الجدل والتساؤل : لماذا لم تتضح بواكير هذا الفن إلا في منتصف القرن التاسع عشر رغم انفتاح الثقافة العربية على ثقافات تلك الأمم؟ وتأخر ظهور فن المسرح عند العرب رغم أن التثاقف بلغ أوج ازدهاره خلال العصر العباسي، ولم يكن ذلك سببا كافيا لميلاد المسرح لدى العرب في تلك الحقبة.
من النقاد من يرى أن المسرح أنواع عديدة، وأن المسرح اليوناني الذي ينتسب إليه المسرح الكلاسيكي الأوروبي ليس القالب الوحيد، ويذهبون إلى أن المسرح فن أدائي وأن الثقافة العربية عرفت فنونا أدائية مختلفة مثل المسامرات ومواكب العزاء، وظاهرة الأيراد عند قبائل بني سنوس بتلمسان(الجزائر)، وخيال الظل في كثير من البلدان العربية، وغير ذلك من الظواهر الممسرحة، أو ما يصطلح عليه بــ (الأشكال الشبيهة بالمسرح) أو(الأشكال ما قبل المسرحية)، ولهذا فالقول بغياب المسرح عند العرب بصورة مطلقة قول فيه الكثير من التعميم والتجني.1
إن الذي ميز المسرح اليوناني والمسرح الكلاسيكي الأوربي هو العمق الفكري، حيث كانا صدى للفلسفة المرتبطة بمصير الإنسان ووجوده، وتمثل ذلك في المنزع التراجيدي والدرامي عند كبار التراجيديين، وهو ما يثير - كلما لجأنا إلى المقارنة - إشكالية أكثر حدة وعمقا ظهرت بإلحاح منذ ظهور بواكير المسرح العربي، وهي : لماذا تخلو الثقافة العربية من البعد الدرامي كما هو الشأن في المسرح الغربي؟ ولماذا تبقى الرؤية التراجيدية غائبة في المسرح العربي بعد أزيد من مائة وسبعين سنة من ظهوره ؟
1. التراجيديا أرقى الأنواع في نظر أرسطو
خالف أرسطو أستاذه أفلاطون في مسألة النوع الرفيع في الأجناس الأدبية، خلال مقارنتهما بين الملحمة والتراجيديا، فانطلق أفلاطون من نظرة مثالية أخلاقية، ورأى أن الملحمة أفضل الأنواع الأدبية لأنها تمجد الخير وتجعله ينتصر في كل صراع، بينما يمكن للشخص الشرير أن يكون بطل مسرحية تراجيدية2.
ويقصد أفلاطون بالشر تلك الأعمال التي يقوم بها أبطال التراجيديا بوعي أو عن جهل، فيرتكبون الكثير من الأوزار الظاهرة كالخيانات الزوجية والقتل في غير ميادين الحروب، بل وأحيانا يسفكون دم أقرب المقربين إليهم ويتزوجون بالمحارم مثلما فعل أوديب، وغير ذلك من العيوب الأخلاقية التي ترفضها المثالية الأفلاطونية.
وصنف أرسطو (وهو تلميذ أفلاطون) المأساة في الفن الرفيع أو الأسمى، ورأى أنها تمثل الكمال الفني وذلك تمييزا لها عن فن الكوميديا، وظلت هذه النظرة سائدة. فالكوميديا ينظر إليها كفن من الدرجة الثانية في النقد الكلاسيكي، لأنها تهتم بمشاكل الحياة اليومية وهموم الناس، وتوظف شخصيات من الطبقات الدنيا والبسطاء من الناس، حتى أنه يمكن للحداد والنجار والخادم البسيط أن يكونوا شخصيات محورية في الملاهي(الكوميديات) خلافا لأبطال التراجيديا الذين هم من أنبل الرجال في السلم الاجتماعي.
ولكي نبرز الفرق بين النظرة الملحمية والنظرة التراجيدية للبطل، نقف على صورة أجاممنون قائد الجيش اليوناني في الفنين : فهو في الإلياذة صورة البطل المنسجم مع أهله وجيشه الحريص على النصر، وأن شجاعته تدعو إلى الزهو، فـ « نقائصه من الإعجاب بنفسه والتردد في الرأي، وحب الذات مظاهر ضعف إنسانية عامة لا تؤثر في مصيره، ولا تذهب بإعجابنا به، فقد عاد من الحملة متوجا بالنصر والفخار »3.
وحينما يصبح أجاممنون نفسه بطلا للتراجيديا عند أسخيلوس يكون الزهو منذرا بالفاجعة أو المأساة، فالزهو والإعجاب عند اليونـان علامة تستوجب اللعنة، ومن المفاهيم الأساسية السائدة في المأساة الإغريقية :
مفهوم إثم الكبرياء وعقابه الحتمي. وكان الإغريق يردون هذا العقاب إلى الإلهة نميسس Nemesis التي تصب نقمتها على الرجل الذي ينسى دور الآلهة في نجاحه وتبطره معيشته لازدهارها أمدا طويلا. وليس هناك شيء في المأساة يدل جمهور النظارة الإغريق على قرب سقوط البطل، أكثر من إظهار كبريائه4.
وهناك سلسلة من العيوب تعري البطل وتقوده إلى الخطأ الأكبر، مثل خيانة أجاممنون لزوجته كليتيمنسترا Clytemnestra مع الجارية الطروادية كاسندرا في بيت الزوجية، دون أن يعير اهتماما لمشاعر أحد، ولذا تدبر زوجته قتله بمؤازرة عشيقها ايجيستوس، يقول الدكتور غنيمي هلال عن ذلك :
« وتبدأ المأساة بعد انتهاء حملة طروادة التي كانت موضوع ملحمة الإلياذة لهوميروس، وفي المأساة أصبحت الحملة ونتائجها مجال دراسة إنسانية، وصار البطل الملحمي دراميا في أعماله، وفي نتائجها المروعة، بعد أن كان في الملحمة مجال الإعجاب في أعمال بطولته التي يفوق بها الناس. والنهاية في المأساة مترتبة على أعمال البطل، في حين هي في الملحمة لا تتصل مباشرة بالمسلك الخلقي كمالا ونقصا. فكل شيء طيب في الملحمة ما دامت نهايته طيبة، أما في المأساة فالنهاية الفاجعة مترتبة على الأحداث التي يأتيها البطل، بحيث تكون في ذاتها مقنعة من الوجهة الإنسانية، يتشابه فيها البطل مع النــــــاس أو مع علية القـوم، ويتعرض لما يتعرضـون على أسـاس من المسـؤولية أو الاختيـــــار .5»
وتختلف التراجيديا عن الملحمة وتسمو عليها في نظر أرسطو لكونها تعيد للإنسان مكانته في الكون والحياة، بحيث لا يرتفع البطل التراجيدي إلى مرتبة الآلهة، بل هو بشر مختار بعناية ليكون بطلا مناسبا للتراجيديا، ويملك من صفات الكمال الكثير حتى يكاد يرتفع إلى مرتبة الآلهة فيتحداها ويصارعها، ولا يتخلص رغم ذلك من الضعف البشري ومن الخطايا التي تتحين فرص الظهور في سلوكه، فتتسلل إلى أفعال هذا البطل رغم حرصه واتصافه بجلال الخلق ورفعة السلوك. وقد سمي ذلك الخطأ البشري المغير لمصير البطل بـ ( الهامرتيا Hamartia)6.
ويؤكد الفيلسوف الألماني شيلينغ أن المغزى في نظرية أرسطو حول التراجيديا أنه كلما كبر الذنب اكتملت المأساة، وأن الشقاء الأعظم أو التراجيديا هي أن يصبح الإنسان مذنبا بسبب تألب الظروف عليه وبدون أن يرتكب جريمة حقيقية7.
والتراجيديا بهذا المفهوم تكون منزلة بين الملحمة والكوميديا، وهذا التشبيه لا يهمل الفروق بين الجنسين الفنيين، إنما المقصود هنا هو موقع الإنسان أو البطل في هذه الفنون، فالملحمة تؤله الإنسان لدرجة جعله كائنا خارقا يفوق قدرات الآلهة نفسها، بينما الشخصية في الكوميديا بسيطة، ودورها هو كشف وفضح الضعف البشري والأخطاء البشرية المغلفة بالرياء وسوء السلوك كالتسلط والجشع والنفاق الاجتماعي والتصابي والخيانة وغير ذلك.. فالكوميديا تعرية للسلوك البشري وإنزال للإنسان من قمة الأولمب إلى وحل الحياة اليومية.
أما البطل التراجيدي فهو إنسان صاحب مقدرة وإنجازات، يحقق الامتياز بقوته المادية والمعنوية، فأوديب هو ملك بالاستحقاق وأجاممنون بطل لأنه قاد الجيوش اليونانية نحو النصر .. غير أن في سلوك هذا البطل نقطة ضعف هي التي تقوده إلى المأساة. وليس شرطا أن يكون الدافع الذي يقود إلى السقطة معلوما أو مبررا، فأوديب يبدو بريئا أو على الأقل غير مسؤول عن نتيجة فعله، فلم يقتل والده وهو يعلم أنه من صلب هذا الرجل المقتول، ولم يغش فراش أمه وهو يعلم أنه هو نفسه ثمرة هذا الفراش…
وكان أجاممنون حينما ضحى بابنته يعتقد أنه يصنع خيرا ويقدم خدمة لجيوش بلاده وهي تتجه لغزو الأعداء في طروادة، فالتضحية بالبنت أمر جليل لا يقوى عليه سوى أبطال أشداء من طينة أجاممنون، بينما لم تستسغه زوجته كليتيمنيسترا، التي لم تغفر له أيضا ذنبا أثقل هو خيانته لها مع جارية.
إن التراجيديا اليونانية ليست سوى ثمرة فكر متقد وفلسفة متجذرة ومعرفة عميقة بالإنسان، إنه الحس الدرامي الذي ينقل المشاهد (المتلقي) عموما من درجة الاستمتاع بالعرض وما ورد فيه من عناصر الدهشة الجمالية والإبهار الفني إلى طور التفكير في المصير البشري وموقع الإنسان في الكون، والتساؤل حول الوجود والموت والحياة. والجميل والمعجز أحيانا في الفكر اليوناني وآيات أدبه وفنه هو هذا التوليف المعجز بين الفن والفكر، من خلال الجمع بين المسرح والفلسفة، فهذا العمق المعرفي يقابله نضح فني وتقنيات مبهرة في الطرح والمعالجة على يد كتاب مسرحيين يحسنون فن التراجيديا ويتقنون أسرار المسرح الحي الذي يخاطب الفكر دون أن ينفر الجمهور ويدخله في جدل فلسفي تجريدي لا يفهمه سوى الضالعين في المعرفة والمحبين للفلسفة.
2. غياب البعد الدرامي سبب غياب المسرح
كثيرة هي الآراء والفرضيات التي حاولت تفسير غياب المسرح في الثقافة العربية القديمة ولا سيما بعد اتصالها بالثقافات الأجنبية، ومن بين تلك الآراء أن العرب أمة متنقلة دأبت على الترحال وأن المسرح يحتاج إلى الاستقرار والمدينة. غير أن هذا الرأي لا يصمد كثيرا أمام النقد لأن حياة العرب ليست بداوة خالصة، فقد عرف العرب أيام الجاهلية الحياة المستقرة على حدود الفرس والروم، وهي الأمم المتحضرة آنذاك، ولا سيما الرومان الذين ورثوا فن التمثيل والمسـرح عن اليونانيين فلماذا لم يقلدهم العـرب في ذلك لاسيما وأنهم تأثروا بهم في كثير من مناحي الحياة ؟. ثم إن العرب شيدوا المدن المستقرة والكبيرة في العصر الأموي بالشام وأيام العباسيين في العراق، وكذا في الأندلس حيث تفننوا في بناء الدور والقصور، فلماذا لم يفكروا في تشييد المسارح وإقامة العروض المسرحية فيها، وقد عرفوا الفلسفة اليونانية وترجموا آداب أمم أخرى فلماذا لم يترجموا أعمال المسرحيين اليونانيين وقد لقوا التشجيع الكبير والتحفيز القوي في مجال الترجمة؟. ثم إن الكثير من الدول العربية عرفت الاحتلال الروماني الذي أقام على أراضيها قديما المدن العسكرية التي لم تخل من المسارح الكبيرة، مثلما هو الحال في الجزائر وتونس، فقد بقيت المسارح الرومانية في تيمقاد وفي جميلة وفي تيبازة، وفي مدن عربية كثيرة، فلماذا لم تبعث هذه العمارة الثقافية على التفكير في إنشاء العروض المسرحية ؟
إذن المقصود بالمدينة هنا ليست العمارة المادية، وإنما مفهومها العميق والحضاري، فعديدة هي المدن الكبيرة حجما اليوم في مختلف مناطق العالم لكنها ليست مدنا مؤثرة ثقافيا وحضاريا لأنها تفتقد لتلك الصفة الفاعلة التي كانت تتصف بها أثينا اليونانية أيام الملك بركليس، حيث كانت الدولة في هذه المدينة ترعى الثقافة والفنون وتقيم المهرجانات الكبيرة، بل كانت أثينا بسبب تميزها تستقطب المبدعين من كل مكان بحثا عن الشهرة والجاه. ولم تكن التراجيديا مجرد فن، حيث كانت المدينة تعيش بكل هيئاتها العسكرية والسياسية والقضائية على وقع مهرجانات المسرح.8
وإن هناك مسألة هامة تتعلق بالحس الدرامي الذي هو منزع فلسفي حظي به اليونان بفعل الفلسفة والتفكير العقلي الذي بلغته المدنية اليونانية آنذاك وكانت ثمرته أعمال عمالقة التراجيديا، ولم يكن في مقدور العرب فَهْم تلك الأعمال أو إنتاج مثلها لأن طبيعتهم مختلفة والظروف التي أنتجوا فيها شعرهم أشد اختلافا.
ويذهب عز الدين إسماعيل إلى أن العرب لم يعرفوا الشاعر الدرامي الذي ينشئ المسرح أو التراجيديا، ويستطيع تحويل أحداث الحياة ووقائعها إلى مسرحيات، ويؤكد أن التعبير الدرامي يحتاج وهو يفكر في الحياة إلى عرض تفاصيل وجزئيات يركب منها الكل الجامع للشتات المحقق للوحدة بيد أن العقلية العربية في رأيه لا تتصف بذلك9، حيث يقول :
« إذا كانت العقلية العربية نزاعة إلى التجريد لا التفصيل ويعنيها العام في صورته المتجاورة لكل تحديد وتصنيف لم يكن غريبا أن نجدها لا تهتدي منذ البداية للتعبير الدرامي ولا تصطنعه في أزهى عصورها وأوج نشاطها »10 .
ونشير هنا إلى أنه لا ينبغي أن نهمل دور المتلقي في توجيه وإنتاج الأدب والشعر، فالمتلقي العربي أحس أن الشعر الغنائي العربي قد عبر عن مطالبه الجمالية والفنية تعبيرا شافيا11، ولم يدفع الشاعر العربي صاحب الموهبة الكبيرة ولا سيما في العصر العباسي إلى البحث عن طرائق أخرى للتعبير، أو إلى إبداع أجناس أدبية غير معروفة لدى العرب في تلك الفترة، فيفكر في كتابة الشعر الدرامي التمثيلي الذي يحتاج إلى جهاز مرافق وهو المسرح بكل ما يحتاج إليه من فنيين وممثلين وعمارة أو بناية مسرحية.
ويرى لويس عوض أن الذهنية العربية أنسب للصراع الملحمي منها للصراع التراجيدي، فالكاتب المسرحي العربي في نظره شأنه شأن الجمهور العربي لم يصل إلى الإحساس التراجيدي بالحياة، وأن الذهنية العربية تسيطر عليها الفكرة الملحمية، فكرة الجهاد الخارجي، ولا تغتفر في يسر للإنسان ضعفا أو جريمة مهما عمقت جذوره أو دوافعها، ولا تقبل البطولة إلا منتصرة في النزال الملحمي الخارجي12. ومعنى هذا القول أنه لا يمكن أن ننتج التراجيديا إلا إذا عرفنا كيف نأسى للبطل التراجيدي ونتقبل أخطاءه، هذه الأخطاء التي لا ينبغي أن تحجب عنه البطولة.
ونخالف هذه الفكرة بحجة أن قبول التوبة والتسامح إنْ لم تكن ثقافة راسخة لدى العرب في العصر الجاهلي، فهي متجذرة في الثقافة الإسلامية، فالله غافر الذنوب وقابل التوب. وأن الصفح والعفو عند المقدرة فضيلة في الإسلام، وحري بالإنسان المسلم أن يتجاوز عن أخطاء غيره وأن يتصف بالحلم والتسامح. ولذا ففكرة التسامح وتجاوز أخطاء البطل التراجيدي وتفهمها ليست كافية لميلاد التراجيديا، وليست وحدها المسئولة عن غياب التراجيديا العربية.
لكننا نؤيد ما ذهب إليه لويس عوض في أن الصفات الخارجية أو الملحمية هي المسيطرة في رسم معالم البطولة عند العرب، كما يتضح ذلك في شعر الفروسية والفخر، حيث غاب الغوص في الجوانب الذاتية العميقة للبطل، وغاب معه ما يُمكّن من رسم شخصية البطل التراجيدي الذي يتجاوز ظاهر الأشياء إلى عمقها، ويتعدى حدود الفعل إلى نتائجه وفلسفته.
ويرى شكري محمد عياد أن مفهوم (التكفير) موجود في الفكر والدين الاسلامي، لكنه مسنود الى الله تعالى، فهو غافر الذنب قابل التوبة، وأن الله هو العاصم، والأنبياء معصومون من الأخطاء، بينما يجاهد البشر العاديون لتفادي ارتكاب الأوزار، واجتناب الوقوع في الاخطاء، وأن البطل العربي أكثر وعيا بالنسبة لدوافعه وأكثر تفاهما مع القدر.13 في حين أن البطل التراجيدي يكون مدفوعا لا شعوريا إلى ارتكاب أخطائه.
فهذا الانسجام مع القدر هو الذي يخالف النظرة اليونانية للتراجيديا التي تصر على وضع الانسان في صراع مع القدر، ولهذا يرى الناقد ألبير أستر أن الذهنية العربية الاسلامية لا يمكن أن تنتج التراجيديا التي هي صراع الانسان مع القدر، في حين تدعو العقيدة الاسلامية إلى التفاهم مع القدر والايمان به خيرا كان أم شرا14.
والحقيقة أن الفكرة الدينية الاخلاقية موجودة أيضا في التراجيديا اليونانية فامتحان القدر ليس امتحانا حرا مطلقا، وصراع الانسان معه ليس من أجل التغلب عليه وقهره، بل من أجل ابراز انتصاره الديني، ففي تراجيديات سوفوكليس الصراع قائم بين ما هو دنيوي وما هو مقدس، المقدس الذي ينتصر في النهاية كما في (أجاكس) وفي (أوديب ملكا) وحتى في (أنتيجون). فسوفوكليس ينتصر لممارسة الطقوس الدينية، وينحاز للتعبد على حساب السلطة البشرية، فالمقدس يمتحن لكنه ينتصر في النهاية15.
3. أسس مغايرة لتراجيديا جديدة
حاول كثير من الكتاب العرب إنتاج التراجيديا العربية على أسس قريبة من التراجيديا اليونانية مثلما فعل ألفريد فرج في( سقوط فرعون) حيث رد تراجيديا الفرعون اخناتون إلى عيب خلقي قاده إلى المأساة، كما كان توفيق الحكيم أكثر وعيا وفهما للتراجيديا اليونانية ولاسيما من الناحية التنظيرية، وسعى لإقامة تراجيديا عربية بديلة غيّر فيها جوهر الصراع من الصراع بين الإنسان والقدر إلى الصراع بين الإنسان ونواميس كونية أخرى تحيط به وتعمل على الحد من حريته، مثل المكان والزمن والحقيقة، وألح على أن المأساة المصرية يجب أن تقوم أساسا على الزمن، وتُكتب على أساس مناقض للمأساة الإغريقية التي تقوم على القدر16، فأنتج الحكيم مسرحا ذهنيا فاترا، بدل التراجيديا التي قوامها الفعل المأسوي القوي والصادم.
وحينما استلهم الحكيم مسرحية (أوديب ملكا) نظر إليها من زاوية الصراع الذهني الذي كشف عنه في (أهل الكهف)، أي الصراع بين الحقيقة والواقع، ولهذا يتشبث أوديب الحكيم بأمه زوجةً ويحاول إقناعها باستمرار الحياة بينهما، وأن كونه ابنا وزوجا وهي أمه وزوجته لا يغير من الأمر شيئا، وأن الحقيقة ما نحس بها في ذواتنا وليست في العالم الخارجي أو الواقع أو ما صنعه الدين والأعراف، بينما تحتار جوكاستا كيف تناديه ( ابني الحبيب أو زوجي الحبيب)؟ وكيف تتقبل هذا الوضع المشين؟، فيرد أوديب متشبثا بوهم خادع وممقوت :
« ناديني بأي وصف شئت !... فأنت « جوكاستا » التي أحبها.... ولن يغير شيء ما بقلبي.... فلأكن زوجك أو ابنك... فما تستطيع الأسماء ولا الصفات أن تبدل ما رسخ في القلوب من العطف والود !...17 ».
وقد سقط الحكيم في هذه المسرحية سقوطا فنيا وأخلاقيا مريعا فظهر سفوكليس الوثني أكثر أخلاقية منه، فقد أراد توفيق الحكيم أن « يجعل من أوديب بطلا مسلما عربيا وانتهى به الأمر إلى صورة أبشع من تلك التي عرفها العالم الوثني18 »، ولم يستطيع تقديم البديل المنشود لفلسفة التراجيديا اليونانية.
والحقيقة أن ميلاد التراجيديا كجنس أدبي وكفن مسرحي جاء في سياق سوسيوثقافي لا يمكن أن يعاد بالصورة نفسها التي كان عليها لدى اليونان في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، أو في فرنسا خلال القرن السابع عشر. ولهذا كانت محاولة الحكيم سعيا عبثيا لاستعادة سياق تاريخي من غير الممكن عودته، وكانت أعماله أشبه بلعبة الفرضيات المخبرية أو الاحتمالات الذهنية، ولذا افتقرت أعماله إلى الحرارة المطلوبة. ويمكن هنا إبداء ملاحظتين نعتقد أن لهما أهمية كبيرة :
-
الملاحظة الأولى : أن تقبل الفن التراجيدي اليوناني وتذوقه في العصر الحديث لا يعني أن المبدع العربي اليوم قادر على انتاج أعمال مماثلة له، فللإنسان قدرة على تخييل السياق الثقافي المحيط بإنتاج العمل الابداعي، وفي ضوء ذلك يتلقى العمل القديم فيستسيغه ويتمتع بفنه.
-
أما تخيل ذلك السياق من أجل انتاج عمل فني مشابه لأعمال إبداعية يعود تاريخها إلى قرون خلت فأمر مضاد لمنطق الإبداع الذي هو تجدد واستشراف.
-
الملاحظة الثانية : أن التراجيديا كغيرها من الفنون ارتبطت بسياق حضاري فني، فالفن يعكس روح العصر من خلال جدلية الصراع والتجاوز، ففي الغرب لم يحاول كتاب المسرح أمثال أندري جيد (A.Gide) وكوكوتو(à) ومالرو(Malraux) أن يبدعوا مسرحيات مماثلة أو صورا طبق الأصل للتراجيديا اليونانية باعتبارها النموذج الأكمل، بل بحثوا عن تراجيديا جديدة مناسبة للسياق السوسيوثقافي الجديد.
فعند شكسبير أصبح قوام الصراع بين الطباع البشرية، فالطبع قدر البطل التراجيدي الذي يصارعه ويحاول التخلص منه، والبطل التراجيدي في مآسي القرن السابع عشر بفرنسا يعيش صراعا مريرا بين الأهواء كالحب والواجب، وفي المسرح الحديث كما هو الحال عند (ابسن) يصارع الانسان التطور المادي المذهل الذي لم يساوقه تطور في الفكر والروح.
وإنه من الخطأ أن نظل نطالب المبدع العربي أن ينتج تراجيديا مماثلة لتراجيديات اليونان، في حين أن المبدع الغربي سليل تلك الحضارة اليونانية قد ابتعد عن النظرية اليونانية لأنه يفهم سنن التطور والتحديث في الفن والإبداع. فعلينا فهم روح التراجيديا والبحث عن مواصفات عصرية لتراجيديا الإنسان العربي الحديث الذي يعيش مشكلات تختلف عن مشكلات الإنسان في أثينا القديمة، بل وتختلف أيضا عن قضايا الإنسان العربي في الجزيزة العربية خلال العصر الجاهلي وفي أزهي أيام الحضارة العربية الاسلامية.