المقدّمة
يُعَدّ الانغماسُ اللغويُّ إحدى أهمِّ الاستراتيجياتِ الحديثةِ في تعليمِ اللغات، إذ يتيحُ للمتعلّمِ فرصةَ التفاعلِ المباشرِ والمستمرّ مع اللغةِ المستهدفةِ في سياقاتٍ طبيعيةٍ أو شبهِ طبيعية. ويقومُ هذا الأسلوبُ على مبدأ أنّ اللغةَ لا تُكتسبُ من خلال التعلّمِ الصريحِ للقواعدِ والمفرداتِ فحسب، بل عبر التعرّضِ المستمرّ لها في بيئاتٍ غنيّةٍ بالمحفّزاتِ التواصلية.
لقد حظي مفهومُ الانغماسِ اللغويِّ باهتمامٍ متزايدٍ في الدراساتِ اللسانيةِ والتربوية، لما له من أثرٍ بيّنٍ في تنميةِ الملكةِ اللسانية، أي القدرةِ الراسخةِ على إنتاجِ اللغةِ وفهمِها بسلاسةٍ مع مراعاةِ أبعادِها النحويةِ والدلاليةِ والسياقية. ويتطلّبُ تحقيقُ هذه الملكةِ مجموعةً من المهاراتِ والآلياتِ المتكاملةِ التي تُيسّرُ عمليةَ الاكتساب، بدءًا بـ السماعِ وفهمِ المدخلات، مرورًا بـ التكرارِ والمحادثةِ والممارسةِ الشفوية، وانتهاءً بـ جودةِ المحفوظِ والفهمِ والتذوّق.
وانطلاقًا من ذلك، تطرحُ هذه الدراسةُ الإشكاليةَ الآتيةَ : كيف يمكنُ لآلياتِ الانغماسِ اللغويِّ أن تُسهِمَ في تنميةِ الملكةِ اللسانيةِ لدى متعلّمي اللغةِ العربية؟
وللإجابةِ عن هذه الإشكاليةِ، يقومُ البحثُ على فرضيةٍ مفادُها أنّ تطبيقَ آلياتِ الانغماسِ اللغويِّ بصورةٍ منهجيةٍ ومتكاملةٍ يُسهمُ بفاعليةٍ في تطويرِ مهاراتِ المتعلّمين وتعزيزِ قدرتِهم على اكتسابِ اللغةِ اكتسابًا راسخًا.
ويهدفُ هذا البحثُ إلى إبرازِ مفهومِ الملكةِ اللسانية من منظورٍ لسانيٍّ معاصر، وتحليلِ الآلياتِ الرئيسةِ للانغماسِ اللغويِّ ودورِها في اكتسابِ اللغة، إضافةً إلى بناءِ تصوّرٍ منهجيٍّ لاستراتيجيةٍ تعليميةٍ قادرةٍ على تنميةِ هذه الملكةِ اعتمادًا على مبدأِ الانغماس.
أمّا من حيثُ المنهجيةِ، فقد اعتمدتِ الدراسةُ على المنهجِ الوصفيِّ التحليليّ، من خلالِ رصدِ المفاهيمِ النظريةِ المتعلّقةِ بالملكةِ اللسانيةِ والانغماسِ اللغويّ، وتحليلِ آلياتِ هذه الاستراتيجيةِ في ضوءِ الشواهدِ اللغوية، بما يتيحُ تقديمَ رؤيةٍ علميةٍ متكاملةٍ لآليةِ تنميةِ الملكةِ اللسانية.
1. الملكة اللسانية : مقاربة نظرية في المفهوم والخصائص
1.1. مفهوم مصطلح الملكة
1.1.1. في العرف اللغوي
يُعرِّف ابن منظور « الملكة » في لسان العرب بقوله :
« طال مِلْكه ومُلْكه ومَلْكه ومَلَكَتُه (عن اللحياني) أي : رِقُّه. ويقال : إنه حسن المِلْكَةِ والمَلْكِ (عنه أيضًا). وأقرّ بالملكة والملوكة أي : الملك. وفي الحديث : “لا يدخل الجنة سيئُ المَلَكَةِ” أي الذي يسيء صحبة المماليك. ويقال : فلان حسن المَلَكة إذا كان حسن الصنع إلى مماليكه. وفي الحديث : حسن الملكة نماء ». (ابن منظور، الصفحات 492-493).
أمّا ابن فارس فقد أرجع أصل الكلمة إلى الجذر الثلاثي (م–ل–ك) الذي يدلّ، كما يقرّر، على « قوّة في الشيء وصحّة »، فيقول :
« أملَك عجينه : قوّى عجنه وشدَّه. وملّكت الشيءَ : قوّيته. ثم قيل : ملك الإنسان الشيءَ يملكه مَلْكًا، والاسم المَلِك، لأن يده فيه قوية صحيحة ». (معجم مقاييس اللغة، 1399–1997، الصفحات 351–352).
وفي المعجم الوسيط ورد أنّ الملكة هي :
« صفة راسخة في النفس، أو استعداد عقلي خاص لتناول أعمال معينة بحذقٍ ومهارةٍ؛ كالملكة العددية والملكة اللغوية. ويقال : فلان حسن الملكة، يحسن معاملة خدمه وحشمه ». (مجمع اللغة العربية، 2008، ص 886).
وفي المعجم الوجيز جاء تعريف قريب :
« استعداد ذهني أو وجداني لتناول أعمال معينة بحذق ومهارة، مثل : الملكة العددية، والملكة الفنية، والملكة اللغوية ». (مجمع اللغة العربية، 1999، ص 590).
يتبيّن من هذه التعريفات أن مفهوم « الملكة » في العرف اللغوي يحمل دلالاتٍ متعدّدة، يمكن تلخيصها فيما يلي :
-
دلالة خُلُقية : فهي صفة أخلاقية راسخة في النفس، تتّصل بحسن التعامل مع المماليك والخدم.
-
دلالة عقلية وذهنية : باعتبارها استعدادًا عقليًا ثابتًا يمكّن الإنسان من أداء أفعال معيّنة بإتقانٍ ومهارة.
-
دلالة على القوّة والقدرة : إذ ترتبط بتمكّن الإنسان وتصرّفه وقدرته على التملّك.
ومن ثمّ، يمكن القول إنّ الملكة هي « نوع من الاستعداد النفسي والفطري والعقلي لتناول أعمال معينة بحذقٍ ومهارةٍ وصنعة ». (جميل حمداوي، 2007، ص 66).
وتتنوّع الملكات بحسب المجال : عددية، فنية، لغوية وغيرها من الملكات الإنسانية المتخصّصة.
2.1.1. في العرف الاصطلاحي
توسّع علماء اللغة العرب في تحليل مصطلح الملكة نظرًا لأهميته البالغة في الدراسات اللسانية، إذ يُعَدّ محورًا رئيسًا في فهم عملية اكتساب اللغة وتفسيرها. وفيما يلي عرضٌ لأبرز التعريفات التي قدّمها بعض الأعلام في التراث العربي والإسلامي.
(يُستكمل هذا القسم في الفقرة التالية حول الفارابي، ابن خلدون، الشريف الجرجاني…)
2.1. تصوّرات الفلاسفة والعلماء حول مفهوم الملكة
1.2.1. الملكة عند الفارابي
يُعرّف أبو نصر الفارابي (339هـ/950م) « الملكة » بقوله :
« والإنسان إذا خلا من أوّل ما يُفطر ينهض ويتحرك نحو الشيء الذي تكون حركته إليه أسهل عليه بالفطرة، وأوّل ما يفعل شيئًا من ذلك، يفعله بقوة فيه بالفطرة وبملكةٍ طبيعيةٍ، لا باعتقادٍ سابقٍ ولا بصناعة. فإذا كرّر فعلَ شيءٍ من نوعٍ مرارًا كثيرةً، حدثت له ملكةٌ اعتياديةٌ، إمّا خَلقيّةٌ أو صناعيّةٌ ». (الفارابي، 1970، ص 135).
يتبيّن من قول الفارابي أنّ الملكة نوعان : فطرية ومكتسبة. فهي فطريةٌ إذا وُجدت في الإنسان منذ ولادته دون تعليمٍ أو معرفةٍ مسبقةٍ بقوانينها، بل يكون مهيّأً ذهنيًا لممارستها. ثمّ تتحوّل إلى مكتسبةٍ حين يتعرّض الفرد لتجارب بيئته الاجتماعية ويتدرّب على أصولها وقواعدها.كما يشير الفارابي إلى أنّ قوّة الملكة تكون أعظم في صورتها الطبيعية لا الصناعية؛ فمن فُطر على الشعر مثلاً ليس كالذي تعلّمه بالمران، لأنّ ما يُمنح فطريًّا يرسخ أكثر في النفس. ومع ذلك، فإنّ بقاء الملكة – سواء أكانت فطريةً أم مكتسبةً – مرهونٌ بالتكرار المستمر، إذ هو الشرطُ الأساسي لترسّخها في النفس وتحولها إلى عادةٍ ثابتةٍ.
2.2.1. الملكة عند ابن خلدون
أمّا ابن خلدون فيُعرّف الملكة بقوله :
« إنّ الملكات صفاتٌ للنفس وألوانٌ، فلا تزدحم دفعةً واحدة، ومن كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات وأحسن استعدادًا لحصولها. فإذا تلونت النفس بالملكة الأخرى وخرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكة، فكان قبولها للملكة الأخرى أضعف، وهذا بيّنٌ يشهد له الوجود ». (ابن خلدون، 2004، ص 100).
يرى ابن خلدون أنّ الملكة صفةٌ في النفس تشمل أنواعًا كثيرةً : كالملكة اللغوية والمنطقية والغنائية والطبيعية والفنية والشعرية وملكة الحفظ، وغيرها من الملكات الإنسانية. ويؤكد أنّ قوّة الملكة تكون أعظم إذا كانت فطرية، غير أنّ إتقانها يتطلّب التركيز على ملكةٍ واحدةٍ لتنميتها؛ فمحاولةُ تحصيل عدّة ملكاتٍ في آنٍ واحدٍ أمرٌ غير مجدٍ بل متعذّرٌ في نظره. ويضرب لذلك مثلاً بتعلّم أكثر من لغةٍ في الوقت نفسه، حيث يصعب على المتعلّم أن يُكوّن ملكةً راسخةً في جميعها معًا، بل يكتسبها في لغةٍ واحدةٍ ثم ينتقل بعدها إلى غيرها.
3.2.1. الملكة عند الشريف الجرجاني
يُعرّف الشريف الجرجاني (816هـ/1413م) الملكة بقوله :
« الملكة صفةٌ راسخةٌ في النفس، وتحقيقُها أنّه تحصل للنفس هيئةٌ بسبب فعلٍ من الأفعال، ويقال لتلك الهيئة كيفيةٌ نفسانية، وتُسمّى حالةً ما دامت سريعةَ الزوال، فإذا تكرّرت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية فيها وصارت بطيئة الزوال فتصير الملكة ». (الجرجاني، ص 193).
وعليه، فالملكة عند الجرجاني صفةٌ لا تُكتسب بالفعل الواحد، بل تتطلّب التكرار والمران المستمرّ حتى ترسخ في النفس وتصبح بطيئة الزوال. أمّا إذا كان الفعل عارضًا ولم يتكرّر، فلا يُنتج ملكةً بل حالةً مؤقّتةً تزول بسرعة. ومن هنا يؤكد أنّ المران والتكرار هما الشرطان الأساسيان لاكتساب الملكة وترسيخها.
4.2.1. الملكة عند عبد السلام المسدّي
يُوضّح عبد السلام المسدّي أنّ :
« الملكة مفهومٌ متعدّد الجوانب، متداخل المقاصد، غير أنّه ينحصر إجمالًا في القدرة على اكتساب ما لم يكن مكتسبًا بضربٍ من التملّك والحوز. فهي لذلك تحويلُ المفقود إلى الموجود بعد إثباتِ حقّ الملكيّة فيه بالرياضة والاقتناء ». (المسدّي، 1986، ص 214).
ويُفهَم من قوله أنّ الملكة كامنةٌ في الإنسان بالقوّة، لكنها لا تتحقّق بالفعل إلّا بالاكتساب والتدريب. فمن وُهب موهبةً معيّنةً – كالرسم مثلاً – يمتلك استعدادًا ذهنيًّا لممارستها، غير أنّ هذه الموهبة لا تصير ملكةً راسخةً إلّا عبر المران المتكرّر والممارسة الفعلية.ومن ثمّ، فإنّ رسوخ الملكة مرتبطٌ بانتقالها من الاستعداد الذهني إلى التحقّق العمليّ.
يتبيّن ممّا سبق أنّ الملكة صفةٌ فطريةٌ راسخةٌ في النفس تتحوّل إلى مكتسبةٍ حين تنتقل من مجرّد استعدادٍ إلى ممارسةٍ فعليّةٍ. ولا تُصبح ملكةً ثابتةً إلّا عبر التدرّب والمران والتكرار، وهي بذلك بطيئة الزوال.كما أنّ قوّة العادة عاملٌ معزّز لترسيخ الملكة، كما ذهب إلى ذلك إخوان الصفا بقولهم :
« واعلم أنّ العادات الجارية بالمداومة عليها تُقوّي الأخلاق الشاكلة لها، كما أنّ النظر في العلوم والمداومة على البحث عنها والدّرس لها والمذاكرة فيها يُقوّي الحذقَ بها والرّسوخ فيها، وهكذا المداومة على استعمال الصنائع والتدرّب فيها يُقوّي الحذقَ بها والأستاذيةَ فيها ». (إخوان الصفا، ص 198).
وعليه، يمكن القول إنّ الملكة تتأسّس على ركنين أساسيين : الفطرة والاكتساب؛ فهي منحةٌ ربانيةٌ من جهة، وتنمو بالاكتساب والمثابرة من جهةٍ أخرى.وقد تزول عند البعض كما قد تنمو وتتطوّر عند آخرين. وهذا ما يؤكّد وجود نوعين من الملكات :
-
فطرية عقلية وراثية
-
وتجريبية حسية مكتسبة مما يعني أنّ الإنسان كائنٌ فطريٌّ ومكتسبٌ في آنٍ واحد، وأنّ ثبات الملكة أو زوالها رهينٌ بالاستمرار في الممارسة والتكرار.
3.1. خصائص الملكة
أورد عصام المراكشي مجموعةً من الخصائص التي تتميّز بها الملكة، يمكن إجمالها فيما يأتي :
(المراكشي، 2006، الصفحات 29–30)
-
الملكة صفةٌ في النفس، وليست مجرد معلوماتٍ أو قواعد : فالذي يحفظ الألفاظ الفقهية ومعانيها، ويعرف ترتيب الأبواب الفقهية، ويستحضر أقوال الفقهاء في مسائل متعددة، لا يُعَدّ صاحبَ ملكةٍ فقهيةٍ إلا إذا صار الفقهُ له سجيةً وصفةً متأصّلةً في نفسه.
-
الملكة تُكتسب بالعمل والممارسة : وإن كانت القدرةُ على تحصيلها موهبةً ربانيةً في أصلها، فإنّ هذه الهبة لا تُثمر إلا بالسعي والجدّ والاجتهاد، ولا يظهر أثرُها للعيان إلا بالتوفيق الإلهي. وبعبارة أخرى، فالملكة في أصلها هبةٌ إلهيةٌ، غير أنها لا تتحقق إلا بالاكتساب والممارسة الدؤوبة.
-
التكرار شرطٌ لترسيخ الملكة : إذ لا تحصل الملكةُ لصاحبها إلا بعد كثرة التكرار للفعل، أما الفعل القليل دون تكرار فقد يُنشئ صفةً في النفس لكنها سريعة الزواللضعف رسوخها.
-
الملكة تنمو تدريجيًا : فهي تبدأ ضعيفةً صغيرةً ثم تقوى مع الزمن والتجربة. فمرحلة التأسيس تكون بتلقّي المبادئ الأولى للعلم، ثم تشتدّ الملكةُ بازدياد المعرفة بالأصول والقواعد، حتى تترسّخ بفضل اتّساع التحصيل وكثرة القراءات، فيصبح صاحبها قادرًا على التصرف في فروع العلم وأصوله دون عسرٍ أو تكلّف.
وبناءً على هذه الخصائص، يتضح أنّ الملكة صفةٌ راسخةٌ في النفس الإنسانية، قد تكون فطريةً يولد بها الإنسان، أو مكتسبةً بفضل عوامل خارجية. وهي تبدأ ضعيفةً ثم تنمو بالتكرار والممارسة حتى تترسّخ وتغدو علامةً على الإتقان.
ولا يكفي في تحققها مجردُ الإحاطة بالقوانين والقواعد، بل يظهر أثرها حين يصبح صاحبها قادرًا على التصرّف في هذه القوانين واستنباط الفروع من الأصول والإحاطة بجزئيات العلم وتفاصيله.
وعليه، فإنّ الحذقَ والتفنّن في العلم هما اللذان يمنحان المتعلّم جودةَ ملكته، ويجعلانها راسخةً وثابتةً، ويظلّ بقاؤها مشروطًا بالاستمرار في التكرار والممارسة.
.2. مفهوم الملكة اللسانية
1.2. عند ابن خلدون
1.1.2.الملكة اللسانية عند ابن خلدون : بين الفطرة والاكتساب
يقول ابن خلدون :
« واعلم أنّ اللّغات كلّها ملكاتٌ شبيهةٌ بالصّناعة، إذ هي ملكاتٌ في اللّسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنّما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التّامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة التأليف الذي يطبّق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلّم حينئذٍ الغايةَ من إفادة مقصوده للسامع، وهذا هو معنى البلاغة. والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأنّ الفعل يقع أوّلًا وتعود منه للذات صفة، ثمّ تتكرّر فتكون حالًا، ومعنى الحال أنّها صفة غير راسخة، ثمّ يزيد التكرار فتكون ملكةً، أي صفةً راسخةً ». (ابن خلدون، 2004، ص 378).
من خلال هذا القول، يتبيّن أنّ ابن خلدون جعل اللغةَ ملكةً لسانيةً محلّها اللسان، باعتبارها ترجمانًا للمعاني وأداةً للتعبير عنها. وقد أبرز في تعريفه جملةً من القضايا الجوهرية :
-
اللغة ملكةٌ شبيهةٌ بالصناعة : أي أنّها تُكتسب بالتعلّم والممارسة كما تُكتسب الصنائع الحسية كالحياكة والنجارة. فحتى وإن كان الإنسان مهيّأً فطريًا للنطق، فإنّه لا يمتلك اللغة إلا عبر المعايشة والاكتساب.
-
جودة الملكة تُقاس بالتراكيب لا بالمفردات : فإتقان اللغة مرتبط بإدراك تراكيبها ونُظُمها وسياقاتها، لا بمجرد معرفة مفرداتها. وهو ما أكّده عبد القاهر الجرجاني بقوله :
« الألفاظُ المفردةُ التي هي أوضاعُ اللغة لم توضع لتُعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يُضمَّ بعضها إلى بعضٍ فيُعرف فيما بينها فوائد ». (الجرجاني، 1986، ص 415).
ومن ثمّ، فإنّ جودة الملكة اللسانية تتحقق من خلال النظم التركيبي السليم لا من خلال المفردات المنعزلة.
-
الملكة مرتبطة بالبلاغة : يرى ابن خلدون أنّ اكتمال الملكة اللغوية مشروطٌ ببلوغ البلاغة؛ فإذا كانت الأولى تُعنى ببناء التراكيب، فإنّ الثانية تهتمّ بمطابقة الكلام لمقتضى الحال، أي بإيصال المعنى إلى السامع بوضوحٍ وتأثير.
-
التكرار شرطٌ أساسي لاكتساب الملكة : فالملكة لا تُرسَّخ إلا بالمران والتكرار المستمرّ للأفعال اللسانية. أما التكرار القليل فلا يُنتج سوى “حالٍ” لغويةٍ مؤقّتةٍ تزول سريعًا، في حين أنّ الاستمرار في الفعل يحوّلها إلى ملكةٍ راسخةٍ وبطيئة الزوال.
وقد لخّص ابن خلدون هذا التطوّر في مخططٍ دلاليٍّ بيّن :
فعل لساني → صفة → مع التكرار → حال → مع التكرار المستمر → ملكة راسخة.
(انظر : ميشال زكرياء، 1986، ص 71).
2.1.2 الفرق بين الملكة اللسانية وصناعة العربية عند ابن خلدون
تُشكّل هذه الفقرة امتدادًا طبيعيًا لتصوّر ابن خلدون للّغة بوصفها ملكةً مكتسبةً تتكوّن عبر الممارسة، لا معرفةً نظريةً فحسب. وقد حرص ابن خلدون على التمييز بين الملكة اللسانية باعتبارها ممارسةً حيّة، وصناعة العربية باعتبارها علمًا نظريًا ينظّم تلك الممارسة.
-
الملكة اللسانية : هي صفةٌ راسخةٌ تُكتسب بالممارسة المباشرة، وتمثّل القدرة العملية على توظيف التراكيب اللغوية السليمة في المواقف التواصلية. ويؤكّد ابن خلدون ذلك بقوله :
« أنّ صناعة العربيّة إنّما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصّة، فهو علمٌ بكيفيّةٍ لا نفسِ كيفيّةٍ ».(ابن خلدون، 2004، ص 385).
-
صناعة العربية : هي معرفةُ قوانين هذه الملكة ومقاييسها، أي الإلمامُ النظريُّ بقواعد الإعراب والنحو. ويقول ابن خلدون :
« وهكذا العلمُ بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإنّ العلمَ بقوانين الإعراب إنّما هو علمٌ بكيفيّةِ العمل وليس هو نفسَ العمل ».(المصدر نفسه، ص 385).
ويؤكّد ابن خلدون أنّ العلمَ بالقوانين النحوية ليس هو الملكةَ ذاتها، بل مجرّد معرفةٍ تنظيريةٍ بكيفية الممارسة. فالممارسةُ الفعلية هي التي تُنتج الملكة، في حين تبقى الصناعة تأمّلًا نظريًا لتلك الممارسة.
ومن هنا، يمكن القول إنّ اللغة عند ابن خلدون تنقسم إلى مجالين متكاملين :
-
الملكة = ممارسة حقيقية
-
الصناعة = معرفة نظرية
وهكذا تتّضح العلاقة الجدلية بين الفعل والمعرفة : فالأولى تُثمر الملكة، والثانية تنظّمها وتفسّرها.
فالملكة اللسانية صفةٌ راسخةٌ تُقاس بسلامة التراكيب وحُسن النظم، لا بكثرة المفردات، ولا تُكتسب إلا بالتكرار والمران المستمرّ.
وقد أشار ابن خلدون إلى أنّ اللغة تُكتسب كالصناعة بالممارسة، وأنّ الملكة تسبق الصناعة من حيث كونها تجربةً حيّةً، بينما تبقى الصناعة علمًا بقوانين تلك التجربة.
كما أكّد المراكشي وزكرياء هذا التوجّه، مبيِّنَيْن أنّ جوهر الملكة يقوم على الفهم الدقيق للكلام الفصيح، وحُسن التعبير عن المعاني، والقدرة على استعمال اللغة في سياقاتها المتعددة بمهارةٍ وبلاغةٍ.
فالملكة اللسانية إذن ثمرةُ تفاعلٍ بين الفطرة والاكتساب، ولا تترسّخ إلا عبر التكرار والممارسة المستمرة.
2.2. عند عصام المراكشي
يُعرّف عصام المراكشي الملكةَ اللسانيةَ بقوله :
« الملكةُ سجيّةٌ راسخةٌ في النفس، تمكّن صاحبَها من قوّة الفهم لدقائق الكلام العربي الفصيح، وحُسن التعبير عن المعاني المختلفة بلسانٍ عربيٍّ سليمٍ من أوضار العُجمة ومفاسد اللحن، مع القدرة على الجمع والتفريق والتصحيح والإعلال ونحو ذلك ». (المراكشي، 2006، ص 26–30).
يتّضح من هذا التعريف أنّ الملكة اللسانية تقوم على ثلاثة أبعادٍ متكاملة :
-
قوّة الفهم : إدراك دقائق الكلام العربيّ الفصيح ومعانيه العميقة.
-
حُسن التعبير : صياغة التراكيب اللغوية صياغةً سليمةً بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، بعيدٍ عن اللحن والعُجمة.
-
القدرة على الممارسة : التصرف في اللغة وقوانينها وقواعدها بمهارةٍ ودرايةٍ، أي تحويل المعرفة اللغوية إلى ممارسةٍ حيّةٍ.
3.2. عند ميشال زكرياء
يقول ميشال زكرياء :
« هي المقدرة على استعمال اللغة استعمالًا صحيحًا في شتّى ظروف التكلّم أو الكتابة، وليست على كلّ حالٍ الإلمام المباشر والدقيق بقوانين الإعراب، فالإنسان الذي اكتسب الملكة اللسانية وأتقن التعبير في لغته ليس بالضرورة عالمًا بأساليب الإعراب وصناعة العربية ». (ميشال زكرياء، 1986، ص 25).
وعليه، فالملكة اللسانية عند زكرياء هي قدرةٌ على الاستعمال السليم للغة في مواقفها المختلفة دون الحاجة إلى معرفةٍ نظريةٍ دقيقةٍ بالقواعد النحوية. ويُشَبّه ذلك بـ قارئ القرآن الكريم الذي يتقن التلاوة أداءً وتطبيقًا وفق الأحكام، وإن لم يكن ملمًّا تفصيلاً بعلم التجويد النظري.فالملكة إذن ممارسةٌ تلقائيةٌ واعية للغة لا تعتمد على الحفظ المجرد للقواعد، بل على الاعتياد والمران المستمرّ.
3. آليات الانغماس اللغوي ودورها في صقل الملكة اللسانية
1.3. آلية السماع
يُعدّ السماع أوّل الآليات التي يعتمد عليها المتعلّم لاكتساب اللغة وترسيخ ملكته اللسانية. وقد أولى التراث العربي–الإسلامي حاسّة السمع مكانةً مركزيةً، إذ اعتبرها العلماء المدخل الأوّل لاكتساب اللغة وتمثّلها.
فالإنسان يسمع الأصوات قبل أن يُدرك المعاني أو يُنتج الكلام، ولذلك عدّ اللغويون السماع البوّابة الأولى لتكوين الملكة اللسانية.
وفي إطار الانغماس اللغوي، يشكّل السماع وسيلةً أساسيةً لتزويد المتعلّم بالنماذج الصحيحة للنطق والبنية، سواء من خلال الاستماع إلى المحادثات الحيّة، أو إلى النصوص المسجّلة، أو إلى التلاوات والنصوص الأدبية الفصيحة. فمن خلال السماع المنتظم والمتكرّر، تترسّخ القوالب اللغوية في ذاكرة المتعلّم، ويصبح قادرًا على إنتاجها في مواقف تواصليةٍ طبيعيةٍ.
أهمية السماع في صقل الملكة اللسانية يقول ابن خلدون :
« السماع أبو الملكات اللسانية ». (ابن خلدون، 2004، ص 368).
ويُضيف موضّحًا :
« والسبب في ذلك أنّ البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارةً علمًا وتعليمًا، وتارةً محاكاةً وتلقينًا بالمباشرة، إلا أنّ حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشدّ استحكامًا وأقوى رسوخًا ». (المصدر نفسه، ص 358).
يتّضح من ذلك أنّ السماع هو العامل الأساس في تكوين الملكة اللسانية، إذ لا يقتصر على التقاط الأصوات، بل يشمل الانتباه والفهم وربط الرسائل اللغوية بالسياقات والخبرات. وبناءً على ذلك، فإنّ تطوير مهارة السماع يُعدّ شرطًا لاكتساب اللغة ممارسةً واستعمالًا.
أهمية البيئة السماعية في تحصيل الملكة اللسانية يؤكد ابن فارس أنّ اللغة تُؤخذ اعتيادًا وسماعًا، فيقول :
« تُؤخذ اللغةُ اعتيادًا كالصبيّ العربي يسمع أبويه وغيرهما، فيأخذ اللغة عنهم على مرّ الأوقات، وتُؤخذ تلقينًا من معلّمٍ، وسماعًا من الرواة الثقات ». (ابن فارس، 1993، ص 73).
ويضيف ميشال زكرياء أنّ الإنسان يكتسب لغته منذ الطفولة من خلال التعرّض المباشر لأصوات البيئة اللغوية المحيطة به، لا من خلال جنسه أو قدراته الوراثية، بل عبر الاحتكاك والتفاعل اللغويّ اليوميّ. (ميشال زكرياء، 1986، ص 64).
يتّضح من ذلك أنّ البيئة السماعية عاملٌ حاسمٌ في اكتساب اللغة، ولا سيّما بالنسبة للعربية الفصحى. فتعريض الطفل لها منذ المراحل المبكرة يُسهِم في تكوين الملكة الفطرية، بينما يؤدّي غيابها وازدواجية الاستعمال بين العامية والفصحى إلى عرقلة اكتساب الملكة الطبيعية وجعل التعلّم آليًا وغير تواصلي.
يُستنتج أنّ السماع، مقرونًا بـ البيئة اللغوية السليمة، يمثّلان آليتين متكاملتين لاكتساب الملكة اللسانية. فالسماع يزوّد المتعلّم بالمدخل الطبيعي للغة، بينما تمنحه البيئة الفصيحة مجالًا لممارستها بعيدًا عن الازدواجية اللغوية، وبذلك يتحقق الانغماس اللغوي الفعّال.
2.3. آلية التكرار
يُعَدّ التكرار من الركائز الأساسية لترسيخ اللغة في الذاكرة، إذ يضمن ثبات التراكيب والمفردات وتحويلها إلى ملكةٍ مستدامةٍ. وفي إطار الانغماس اللغوي، يُوظَّف التكرار في أنشطةٍ متنوّعةٍ تشمل الإعادة الشفوية للنصوص، والمراجعة الدورية للمفردات، وإعادة كتابة التراكيب، وتكرار المحادثات في سياقات مختلفة. ويشير الجرجاني إلى أنّ تكرار النماذج الفصيحة يُورث الطبع السليم، وبذلك يشكّل التكرار في بيئة الانغماس آليةً لتعزيز الاستيعاب وتثبيت الأداء اللغوي وضمان استمرارية الطلاقة عبر الممارسة المستمرة.
التكرار في الفكر اللغوي التراثي : إنّ تحقيق الانغماس في اللغة العربية لا يقف عند حدود آلية السماع، بل يقترن بها عنصرٌ آخر لا يقلّ أهميةً، وهو التكرار؛ إذ يُعدّ أداةً فعّالةً في تعلّم اللغات، وبه تُكتسب الملكة اللسانية. وقد أشار ابن خلدون إلى ذلك بقوله :
« الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تُنُوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه ».(ابن خلدون، 2004، ص 347).
وهذا يؤكد أنّ استمرار المتعلّم في تكرار ممارسة اللغة يفضي إلى ترسيخها ملكةً راسخةً في النفس. ولعلّ المداومة على تلاوة النصوص العربية الرفيعة – كالنصوص القرآنية أو الأدبية الفصيحة – تمثّل مثالًا واضحًا على أثر التكرار في ترسيخ اللغة وتكوين الملكة، إذ يكتسب القارئ من خلالها ملكة الحفظ والفهم معًا، مما يُيسّر عليه استرجاع التراكيب وتوظيفها في مواقف مختلفة.
التكرار في النظريات التربوية الحديثة : ذهب B. F. Skinner، أحد أبرز ممثلي المدرسة السلوكية، إلى أنّ :
« تكرار العمليات اللغوية عنصرٌ أساسٌ لاكتساب السلوك اللغوي، وعندما تكون نتائج التكرار إيجابيةً فإنّها تؤدي إلى الاحتفاظ بالرسالة اللغوية وإغنائها بصورٍ جديدةٍ، أمّا إذا كانت سلبيةً أو غابت عنها آليات التعزيز المناسبة فإنّها تُضعف هذا السلوك أو تجهضه ».(الدسوقي).
ويُستفاد من هذا الطرح أنّ التكرار لا يُثمر إلا إذا اقترن بالتعزيز المناسب، وإلا فقدَ قيمته في عملية التعلّم.
-
شروط التكرار الفعّال : لا يُشترط في التكرار أن يكون آليًا أو ميكانيكيًا، بل ينبغي أن يتم في مواقف طبيعيةٍ قائمةٍ على الفهم والإدراك. وقد أكّد خبراء التربية أنّ التكرار الفعّال لا يقتصر على تسميع الحقائق المتعلَّمة، بل يشمل تطبيقها في مواقف جديدةٍ، واستنتاج القوانين منها، وتوظيفها في حلّ المشكلات. فالتكرار الحقيقي هو استرجاعٌ واعٍ للمادة اللغوية بما تحمله من معانٍ وعلاقاتٍ، لا مجرّد إعادةٍ لفظيةٍ للنصوص. (إمباري ورضوان، ص 39).
التكرار وبناء الكفاءة التواصلية : لا يتمثّل هدف آلية التكرار في حفظ القواعد أو الأساليب اللغوية فحسب، بل في توظيفها ضمن سياقاتٍ تواصليةٍ حيّةٍ. فالمتعلم الذي يكرّر دون أن يمارس اللغة ممارسةً طبيعيةً لا يُعدّ صاحبَ ملكةٍ، بل يبقى في حدود الصناعة اللغوية النظرية. أما الملكة اللسانية فتتحقّق حين يتمكّن المتعلّم من استدعاء ما اكتسبه من تراكيب ومعانٍ وتوظيفه في مواقف متنوّعة، الأمر الذي يمنحه كفاءةً تواصليةً حقيقيةً.
يتّضح ممّا سبق أنّ التكرار ليس إعادةً آليةً للألفاظ، بل وسيلةٌ لترسيخها في الذهن وتثبيتها في الاستعمال، بما يُهيّئ المتعلّم لاكتساب الملكة اللسانية بصورةٍ طبيعيةٍ. ومن ثمّ، فإنّ التكرار يُعدّ أداةً تربويةً محوريةً تجمع بين التثبيت المعرفي والتدريب العملي، وتحوّل اللغة إلى ممارسةٍ حيّةٍ قابلةٍ للنموّ والتطوّر.
3.3. آلية الممارسة
يُحيل مفهومُ الممارسة إلى المداومة والنشاط المستمرّ؛ إذ يُترجِم المتعلّمُ ما تلقّاه نظريًّا إلى أداءٍ فعليٍّ في الحقل المعرفيّ الذي ينتمي إليه. لذا تُعَدّ الممارسة إجراءً معتمدًا في مختلف الحقول (الطبّ، الصيدلة، العلوم التقنية…) بوصفها تحويلًا منظّمًا للمعرفة إلى أداء (فاطمة الصغير، 2018، ص 54).
وفي تعليم اللغات، تُعدّ الممارسة الفعلية للغة الهدف الطريقَ الأمثل لتمكين المتعلّم من التوظيف الواقعي لما يتعلّمه؛ فثمة فرقٌ بيّن بين التلقّي النظري وبين المزاولة الحقيقيّة للغة، وبين فهم القواعد وبين استثمارها في القول والكتابة ضمن مواقف تواصليّة متنوّعة. وبوجهٍ عام، إتقان أيّ مهارة—عقلية كانت أو لغوية—مشروطٌ بالمران والاستمرار؛ فمن يُحسن قواعد السياقة ليس كمن يُحسن ممارستها على الطريق.
ولا تقتصر الممارسة على وضع المتعلّم في سياق لغته المرجعي، بل تشمل الاحتكاك بالنصوص الرفيعة : تلخيص المقروء، وعرضه شفهيًّا، والكتابة عنه. وبهذا تُنمَّى المهارات الأربع (الاستماع، التحدّث، القراءة، الكتابة). وعليه، فإنّ صقل الملكة يقتضي تكامُل هذه المهارات؛ فالسماع—على أهميته—لا يكفي من دون تدعيمه بالتحدّث والقراءة والكتابة، فيغدو المتعلّمُ قادرًا على تذوّق اللغة واستعمالها استعمالًا سليمًا في المواقف الفعليّة.
-
علاقة مهارة التحدّث بالممارسة: يُعدّ التحدّث مهارةً إنتاجيّةً تمكّن المتعلّم من صياغة رسائله ولتعبير عن مقاصده بسلامةٍ وبلاغة، عبر الحوار والإلقاء وغيرهما، مع مراعاة المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية والتداولية، وحُسن الصياغة في إطارها الاجتماعي (ماهر شعبان، 2011، ص 72). والتحدّث عمليّةٌ إدراكيةٌ تتضمّن دافعًا للتكلّم ومضمونًا ونظامًا لغويًّا تُترجَم به الرسالة إلى كلامٍ مسموع؛ وهذه العملياتُ داخليةٌ لا يُلاحَظ منها إلا الناتج الشفهي (حسن شحاتة ومروان السمان، 2012، ص 70). وبالانتقال إلى التطبيق، يتّصل نجاحُ اكتساب التحدّث بقدرة المتعلّم على إيصال الرسالة بلسانٍ مبينٍ وإيقاعٍ تعبيريٍّ سليم، واستدعاء التراكيب المكتسَبة عبر السماع، وتوظيفها في سياقاتٍ مختلفة؛ وبذلك تظهر علامات الملكة وتتدعّم الممارسة.
-
ممارسة اللغة وفق نظرية عبد الله الدنان :تؤكّد نظريةُ عبد الله الدنان في تعليم العربية بالفطرة والممارسة أنّ الفصحى تُكتسب بالمزاولة المستمرّة منذ الطفولة، لا بوصف القواعد فقط؛ لذا لاقت اعتمادًا مؤسّسيًّا في عدد من الوزارات. ويُشير الدنان إلى عقبتين رئيستين أمام الممارسة الصحيحة :
-
هيمنة العاميّة في التواصل الشفهي مقابل حصر الفصحى في المكتوب؛ وهو ما يضعف الانغماس ويُفقر الأداء الشفهي.
-
تعليم الفصحى بوصفها لا بممارستها : فإفراد الوقت للحفظ والإعراب من دون تواصلٍ شفهيٍّ دائم أسلوبٌ غير مُجْدٍ، إذ لا يُفضي إلى إتقان المهارات الأربع. والخلاصة : مزاولة الفصحى داخل الصف وخارجه شرطٌ لبناء ملكةٍ راسخة، بينما الاقتصار على القواعد أو العاميّة يُبقي الفصحى في دائرة “المكتوب فقط”.
يتّضح من مجمل ما سبق أنّ الممارسة اللغوية تمثّل الحلقة المركزية في تكوين الملكة اللسانية، إذ تُحوّل المعرفة النظرية إلى أداءٍ فعليٍّ وتطبيقيٍّ يُرسّخ المهارة في الذهن واللسان معًا. وتُبرز المقاربة التحليلية أنّ فعالية الانغماس اللغوي لا تتحقق إلا حين تتكامل عناصره الأساسية : الاستمرارية في التدريب، وثراء البيئة اللغوية، والتفاعل المتوازن بين المهارات الأربع.وعليه يمكن تلخيص أهمّ نتائج هذا الجزء فيما يأتي :
-
الممارسةُ تحوّلُ المعرفة إلى قدرةٍ فعليّة.
-
الاستمراريةُ والبيئةُ الغنيّةُ شرطان للحذق.
-
تكامُلُ المهارات الأربع يُفعّل الانغماس ويُرسّخ الملكة.
4.3. آلية الحفظ
يُعَدّ الحفظ وسيلةً تقليديةً وفعّالةً لترسيخ البنى اللغوية واستدعائها وظيفيًّا. والمطلوب هو حفظٌ وظيفي لا آليّ : يحفظ المتعلّم التراكيب والنظُم ليُعيد توظيفها في القول والكتابة. ويتأسّس الحفظ الفعّال على ركنين :
1جودة المحفوظ : الاعتمادُ على نصوصٍ عربيةٍ رفيعة (قرآنيةٍ، حديثيّةٍ، أدبيةٍ فصيحةٍ) يرفع سويةَ الأسلوب ويُحسّن النسج التركيبي. يقول ابن خلدون :
« فعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال ثم إجادة الملكة… فالطبع إنما ينسج على منوالها » (2004، ص 406). ويضيف : « وجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم… من القرآن والحديث وكلام السلف وفحول العرب… حتى يتنزّل منزلةَ من نشأ بينهم » (ص 384).
2كثرة المحفوظ :يُعَدّ الإكثار من الحفظ أحد أهمّ المسالك لترسيخ الملكة اللسانية، لأنّ الكمّ الكبير من النصوص الفصيحة يُنشئ لدى المتعلّم نمطًا داخليًا للغة يُوجّه تفكيره وصياغته دون وعيٍ منه. فالحفظ ليس غايةً في ذاته، بل وسيلةٌ لبناء قاعدة لغوية ذهنية يستند إليها المتكلم في فهم التراكيب وتوليدها. ومن خلال تكرار النصوص المعيارية واستيعابها، تتكوّن لدى المتعلّم صورة ذهنية متكاملة عن نظام اللغة وأساليبها الرفيعة. ويقول ابن خلدون في هذا السياق :
« حصولُ ملكةِ اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في الخيال المنوالُ الذي نسجوا عليه تراكيبهم… »(ابن خلدون، 2004، ص 386).
يتّضح من قوله أنّ كثرة الحفظ تُكسب المتعلّم قدرةً على محاكاة التراكيب السليمة واستحضارها بطبيعةٍ تلقائيةٍ، كما لو كان قد نشأ في بيئة لغوية فصيحة. وفي ضوء مبدأ الانغماس اللغوي، يأخذ الحفظ بعدًا وظيفيًا لا آليًا، إذ يتجاوز الترديد المجرد إلى فهم المعاني وتطبيق التراكيب في مواقف تواصلية حقيقية شفوية كانت أو كتابية.
ومن خلال هذا التصور، يمكن تلخيص أهمّ نتائج هذه الآلية فيما يلي :
-
الحفظُ معيارٌ لقياس مستوى الملكة.
-
الجودةُ تُصقِل الذوقَ، والكثرةُ تُرسّخ الأسلوب.
-
التوازنُ بين الحفظ والفهم يمنع الاتّكالَ على الحفظ الآلي.
5.3. آلية الفهم والتذوّق
يمثّل الفهمُ والتذوّق المرحلةَ المتقدّمةَ في الاكتساب : ينتقل المتعلّم من الحفظ إلى استيعاب المعاني العميقة واستشعار الجماليات الأسلوبيّة.
-
جودة المقروء : مجالسةُ الكتب الأدبية الرفيعة تُنمّي الذائقة وتوسّع الخيال.
-
جودة المحفوظ مقابل كثرتِه : الكثرةُ تنشّط الانغماس، أمّا الجودةُ فتُنمّي الذوق وتُحدث التأثير (عبد القادر حمراني، 2019، ص 18).
-
دور الفهم : الحفظُ وحده لا يكفي؛ فالفهمُ هو الذي يُمكّن من استثمار المحفوظ< وتصرّفه في الاستعمال (بكار أحمد، 2021، ص 544). وإذا اقتصر الحفظُ على ترديدٍ شكليٍّ بلا وعي، ضاع الغرضُ (حسن الطويل، 2022، ص 30).
يُعدّ الفهم والتذوّق المرحلة الأرقى في سلّم اكتساب اللغة، لأنهما يمثّلان انتقال المتعلّم من مجرّد حفظٍ آليٍّ للنصوص إلى وعيٍ دلاليٍّ وجماليٍّ بأساليبها. فالتعلّم الحقيقي لا يتحقّق بمجرد التكرار، بل حين يُدرك المتعلّمُ العلاقات والمعاني الكامنة وراء الألفاظ، ويتذوّق جماليات التعبير في ضوء سياقاتها التواصلية. ومن خلال التفاعل مع النصوص الراقية قراءةً وفهمًا واستيعابًا، يكتسب المتعلّم حسًّا لغويًا دقيقًا يُنمّي ذائقته ويجعله أكثر قدرةً على التصرّف في اللغة إنتاجًا وفهمًا.
وفي ضوء ذلك يمكن تلخيص أبرز نتائج هذه المرحلة فيما يأتي :
-
التذوّقُ يُنمّي حبَّ القراءة ويُنشئ « عالمًا لغويًّا » خاصًّا للطفل.
-
جودةُ المقروء والمحفوظ أهمُّ من كثرته في صقل الذوق.
-
الفهمُ شرطٌ لتفعيل ما حُفِظ وتوظيفه في التواصل الحقيقي.
خاتمة
تؤكد نتائجُ هذه الدراسة أنّ الملكة اللسانية ليست مهارةً طارئةً تُكتسب بالتلقين، بل قدرةٌ راسخةٌ تنمو من تفاعلٍ متوازنٍ بين الفطرة والاكتساب، ولا تُصقَل إلا بالتكرار والممارسة الواعية. وقد بيّن البحث أنّ آليات الانغماس الخمس — السماع، التكرار، الممارسة، الحفظ، والفهم والتذوّق — تشكّل منظومةً متكاملةً تتيح للمتعلّم الانتقال من المعرفة النظرية إلى الأداء العملي السلس، مما يجعل اللغة ممارسةً حيّةً لا حفظًا جامدًا.
وتلتقي الرؤى التراثية التي عبّر عنها فلاسفة العرب مع المقاربات اللسانية الحديثة في الإقرار بأنّ المران المتواصل هو الشرط الحاسم لترسيخ الملكة واستدامتها. ومن هذا المنطلق، تفتح الدراسة آفاقًا بحثيةً جديدةً لتجريب هذه الآليات في بيئاتٍ صفّيةٍ فعلية، تقيس أثر الانغماس المنهجي والممارسة المستمرة في صقل الكفاءة اللغوية وتنمية الأداء اللساني للمتعلمين.