تمهيد
إن آليات النظم في الشعر الشفاهي تستند على وجه الخصوص إلى ما عرف عند علماء الشفويات بـ«الرواسم والصيغ» أي تلك القوالب الجاهزة والأنماط التعبيرية المتوارثة التي تنتظم وفقها الدلالة ويتّسق الإيقاع دون أن يحس الشاعر بمكابدة كبيرة في عملية النظم والتقصيد...
وعلى الرغم من النمطية التي قد يوحي بها الشعر الشفوي، من خلال تصلب قوالبه، فهو مجال صراع وتحول دائم، فالشعر كما يقول هنري ميمونيك :« الشعر مجال صراعي «دائما » فبالنظر إلى الطابع التاريخي
الأصلي للشعر، فإنه لا يمكن أن يكون، ولك يكن دائما سوى صراع. »1
إن فهم آليات النظم وتنظيم المحتوى في أشعار السجن والمقاومة عموما، يتطلب أولا الفصل بين الشاعر ونصه، تفاديا لتكرار تلك الخطابات النقدية السياسوية التي تحتفي بسياق النص أكثر مما تهتم ببنيته ودلالاته، فالشعر قبل كل شيء صنعة فنية ينبغي على الناقد أن يدرك المعايير التي تحكمها، قبل أن ينكب على خطاب التنويه والدعاية الذي قد تتضمنه، ففي العمل الفني- كما يقول رومان إنغاردن- يبقى المؤلف خارج العمل الأدبي، بكل مصائره وتجاربه وأوضاعه النفسية، خصوصا وأن تجاربه التي يعيشها أثناء خلقه لعمله، لا تشكل جزءا من العمل المنجز.2
بمعنى أن شعرية أشعار السجن، على الأقل في جانبها الإيقاعي الذي سنعكف على دراسته، ليس لها علاقة حتمية بالوضع السياسي الذي تصفه.
في هذا المقام، سنشتغل على مدونة من أشعار السجن، من نمط الأسفرو...لنرى : هل تنطبق نظيرة الرواسم والصيغ حقا على نمط الأسفرو التساعي، مثلما انطبقت على نمط الإيزلي.
إن هدفنا هنا هو أن نبيّن كيفية إنتاج القصائد الشعرية المرتبطة بتيمة السجن، من خلال دراسة مدونة شعرية شفوية متجانسة، من نمط غير الويزلي.
1. المدونة
تتشكل هذه المدونة 3من ست قصائد تساعية من نمط «الأسفرو»، تمثل تنويعا على تيمة واحدة هي «المعاناة وراء القضبان»، أي كل ما يقاسيه السجناء من قهر وهوان وجوع وبرد وأعمال شاقة، في مختلف سجون الاحتلال الفرنسي.
القصيدة المحورية تعود إلى ثورة 1871، بينما التنويعات الخمس كلها من زمن الثورة التحريرية، وهذا الفارق الزمني سيمكننا من التأكد من مدى استمرارية الأنساق الشعرية التقليدية في بناء القصائد [إيسفرا] وإلى أي درجة ترسخت الرواسم والصيغ الشفاهية في الذاكرة الجمعية للشعراء.
القصيدة المحورية |
||||||||
النص الأصلي |
الترجمة |
|||||||
ذيمحـﭙَاسْ ذي لبويره |
ها نحن أسرى في البويرة |
|||||||
آكّا إيذاغ ْيورى |
هكذا قـُدّر لنا |
|||||||
سي انفاق ان واحذ أوسـﭙـعين |
منذ انتفاضة واحد وسبعين |
|||||||
* |
||||||||
نسْثوْحاشْ ياكوْ سَثْميرا |
مظهر لحانا مخيف |
|||||||
نغّوفّلْ مرّا |
والشعر أشعث |
|||||||
نزْوي نعْرقْ إي الوالدينْ |
من فرط الهزال، لم يعرفنا أهلنا ! |
|||||||
* |
||||||||
آالصالحينْ آرْ عينْ بـﭬرا4 |
فيا أولياء، من هنا إلى عين البقرة |
|||||||
ما اتسْحركمْ اﯕرا |
انتفضوا قليلا من أجلنا ! |
|||||||
ماوْلاشْ نمّوث مْكَتفين |
مْكَتفينوإلا، فسنموت مقيدين بالأغلال. |
|||||||
التنويعة الأولى |
||||||||
النص الأصلي |
الترجمة |
|||||||
آقْلاغْ ذي الحـﭙسْ الحرّاشْ |
ها نحن في سجن الحرّاش |
|||||||
الصوبْه سي ﭙـعْاشْ |
الحساء مملوء بالحشرات |
|||||||
آغروم يقْورْ آمْ ازرو |
والرغيف يابس مثل الحجر |
|||||||
* |
||||||||
ذي الشْثوَه لاغومْ لا فْراشْ |
في الشتاء، بلا غطاء ولا فراش |
|||||||
لحزنْ يسّوْحاشْ |
والحزن مخيف رهيب |
|||||||
سشْلاغمْ آقلاغْ نتسرو |
بشنبات وترانا نبكي ! |
|||||||
* |
||||||||
ندْهغْ يِسْوَنْ ذي لعراشْ |
أتوسل إليكم في كل القبائل |
|||||||
يا سيادي كيفاشْ |
فيا سادتي كيف |
|||||||
يرجعْ المنفي الْ دارو. |
يعود المنفي إلى منزله! |
|||||||
التنويعة الثانية |
||||||||
النص الأصلي |
الترجمة |
|||||||
آقلاغ ذي الحـﭙسْ نـﭙـْﭬايثْ |
ها نحن في سجن بجاية |
|||||||
نروى لمرايثْ |
نرزح تحت الهوان |
|||||||
أكورْفي آمْ ييظْ آمْ آسْ |
ونكدح صباح مساء |
|||||||
* |
||||||||
الماكلا انّغْ ذالبايثْ |
لا نأكل سوى البقايا |
|||||||
سـﭬفوسْ نشمايثْ |
من أيدي الأراذل |
|||||||
آيذي فلاّغْ ذاعسّاسْ |
والكلب علينا حارس |
|||||||
* |
||||||||
يا مولْ النّوْ الغايثْ |
فيا صاحب القطر المغيث |
|||||||
فوكّاغْ لحدايَثْ |
كـُفّ عنا المصائب |
|||||||
آدﭙرونْ ياكوْ إيمحـﭙاسْ |
وليطلق سراح كل الأسرى |
|||||||
التنويعة الثالثة |
||||||||
النص الأصلي |
الترجمة |
|||||||
آقلاغْ ذي الحـﭙسْ انْ لامْبيزْ5 |
ها نحن في سجن لامبيز |
|||||||
ماتسْحونْظْ آيا عْزيزْ |
أشفق علينا يا عزيز |
|||||||
نروى الشّطرﭖْ ذوكرفي |
فقد أنهكنا الكدح والسياط |
|||||||
* |
* |
|||||||
ثافجريثْ ورعاذْ ثفريزْ |
كل صباح، قبل الفجر |
|||||||
آدياوظْ سانشيزْ 6 |
يقبل علينا ساشيز |
|||||||
آغْيسّوفغْ ذﭬـْو سافي |
ليخرجنا في عز البرد |
|||||||
* |
* |
|||||||
أولاشْ الفيرمه اورْنـﯕريزْ |
حرثنا كل المزارع |
|||||||
ذي خوجظانْ نتسغيزْ |
وحفرنا بها حفرا عميقة |
|||||||
أويرنى انثدّو حافي |
وأقدامنا حافية ! |
|||||||
التنويعة الرابعة |
||||||||
النص الأصلي |
الترجمة |
|||||||
آيمّى آوي مْيَحكانْ |
أماه! لو تعلمين بحالنا |
|||||||
فالحـﭘـْس انْ وهرانْ |
في سجن وهران |
|||||||
ثاﭬـوني اتسْنكرا سالبوقْ |
ننام ونفيق على صوت البوق |
|||||||
* |
* |
|||||||
العسكرْ غفْ إيّذيسانْ |
الجنود من كل جانب |
|||||||
عوسْنْ آمْ ييظانْ |
يحرسون مثل الكلاب |
|||||||
إيشوفو كل شي مالفوقْ 7 |
يرون كل شيء من أعلى ! |
|||||||
* |
* |
|||||||
الماكلا ياك سالميزانْ |
الأكل بمقدار زهيد |
|||||||
الصوبّه ان ييزانْ |
والحساء مليء بالذباب |
|||||||
وطْريّفْ الخبز محروقْ 8 |
وقطعة الخبز محروقة! |
|||||||
التنويعة الخامسة |
||||||||
النص الأصلي |
الترجمة |
|||||||
آقلاغْ ذي الحـﭘسْ ان تيزي 9 |
نحن في سجن تيزي |
|||||||
الحالْ يتسّزّي |
والجو في اضطراب |
|||||||
واقيلا اسّاﭬـي ذاذْفَلْ |
يبدو أن الثلج سيهطل |
|||||||
* |
* |
|||||||
ذيخجظانْ آيْ نتسغيزي |
طول النهار نحفر |
|||||||
ذامغارْ ذي لمزي |
شيبا وشبانا |
|||||||
آالصالحين نعيى سيالدّلْ |
يا أولياء كفانا من الهوان |
|||||||
* |
* |
|||||||
سي الفثنه ذالنفاقْ نمزي |
أرهقتنا الحرب والفتن |
|||||||
يالْ آسْ ذي مَرزي |
كل يوم في عراك |
|||||||
يـﭬومّا آذْ يسّوسَمْ اطْﭘلْ |
طبل الحرب لا يخرس! |
2. كيفية المقاربة
سنعرض في البداية المقطوعة الأولى، التي سميناها، المقطوعة المحورية، ونحلل بنيتها الإيقاعية والدلالية، للكشف عن الثوابت التي ستغدو في المقطوعات الموالية أساسا للتنويع الدلالي، ثم نحاول فهم آليات البناء التي اعتمدها أصحاب النصوص التنويعية الخمس، من أجل فهم آليات اشتغال الذاكرة الشفوية وكيفية إنتاج المعنى انطلاقا من رواسم أو صيغ نمطية يتم إدراكها بوعي أو بلا وعي في سياق التلقي الشفوي.
وقبل الشروع في تحليل التنويعات الخمس، لابد من الإشارة إلى أن النمط الشعري الذي تنتمي إليه المقطوعات الواردة في هذا المقال، هو نمط الأسفرو10، وهو عادة مبنيّ على فكرة (المقدّمة ـ العرض ـ الخاتمة)، فالثّلاثيّة الأولى تطرح الإشكال والثّانية تضيف عنصرا جديدا والثّالثة تأتي للحلّ. الأسفرو مثلما شاع بداية من القرن 19، قصيدة تساعية مُبنينة Structurée، أي ليست تراكمية خطيا مثل ثقصيط، وتتشكل وفق الترسيمة التالية:
م1 : ــــــــــــــــــــ أ |
ــــــــــــــــــــ أ |
ــــــــــــــــــــ ب |
* |
م2 :ـــــــــــــــــــــ أ |
ــــــــــــــــــــ أ |
ــــــــــــــــــــــ ب |
* |
م3 : ـــــــــــــــــــ أ |
ـــــــــــــــــــ أ |
ــــــــــــــــــــــــ ب |
ثلاثة مقاطع) ثيصدّارينْ) ثلاثية في كل مقطع 3 أبيات.
كل ثلاثية مشابهة للثلاثيتين الأخريين في عدد المقاطع الصوتية ونظام القافية :
الأبيات: (1، 2)، (4، 5)، (7، 8) تنفرد بقافية واحدة.
فيما تأتي الأبيات: (3) (6) (9) بروي مغاير، أي لدينا قافية مزدوجة، أما من حيث عدد المقاطع الصوتية فلدينا أبيات سباعية وأخرى خماسية كالتالي :
1 – 7 |
4 – 7 |
7 – 7 |
2 – 5 |
5 – 5 |
8 –5 |
3 – 7 |
6–7 |
9 –7 |
بحيث لا يتجاوز العدد الكلي 57 مقطعا صوتيا.
يبقى أن نشير إلى أنّ الأسفرو يـُلقى إنشادا بلا ترنيم في المجالس العامة، على سبيل الاستشهاد والحجاج أو لمجرد الرواية والسمر.
ولكن في كثير من الأحيان يغنى (أي إنشاد بترنيم) وقد تغنيه المرأة وحيدة في بيتها أو في حضرة جاراتها على طبع آيسيحل (سيحلي) أو آشويّق أو آحيحا، وغيرها من طبوع الغناء التقليدي.
ولدينا العديد من الايسفرا (القصائد التساعية) التي غنتها الطاوس عمروش ثم حفيدتها من بعد مارغريت عمروش، على نفس الأداء الذي توارثته العائلة (في ايغيل اعلي) بداية من فاطمة آث منصور وما أخذته عن جدتها... مما يؤكد أن الأسفرو قصيدة قد تغنى وقد تنشد بلا ترنيم، وقد تلقى إلقاء عاديا.
وطريقة الأداء التي تميّز الأسفرو حين يكون في فضاء السجن، جديرة بالاهتمام، إذ يقوم الراوي-بغض النظر عن كونه صاحب القصيدة، أو مجرد منشد لها-فهو يقوم بترديدها مرارا كي ترسخ في أذهان السامعين من جهة، وكي يتمكن من ضبط الإيقاع في النهاية. ويبدو أن هذه الطريقة مشتركة بين العديد من الثقافات ذات التقاليد الشفوية الراسخة، فقد ذكرت جين أتكينسون، أن شعب الوانا في إندونيسيا لدبيهم شكل شعري يدعى الكيوري، وهو شعر سياسي بامتياز، يؤدونه على ريتم بطيء مع تثبيت حدة الصوت، يلقى مقطع ثم ينتظر المنشد النفس الثاني، وهكذا11..وهذا تقريبا ما يحدث حين تلقى أشعار الأسفرو في حلقة من الرجال في السجن.
1.2. البنية الإيقاعية في المقطوعة المحورية
االترجمة |
النص الأصلي |
ها نحن أسرى في البويرة |
ذيمحـﭙَاسْ ذي لبويره |
هكذا قـُدّر لنا |
آكورفي يورى |
منذ انتفاضة واحد وسبعين |
سي انفاق ان واحذ أوسـﭙـعين |
مظهر لحانا مخيف |
نسْثوْحاشْ ياكوْ سَثْميرا |
والشعر أشعث |
نغّوفّلْ مرّا |
من فرط الهزال، لم يعرفنا أهلنا! |
نزْوي نعْرقْ إي الوالدينْ |
فيا أولياء، من هنا إلى عين البقرة |
آالصالحينْ آرْ عينْ بـﭬرا |
انتفضوا قليلا من أجلنا! |
ما اتسْحركمْ اﯕرا |
وإلا، فسنموت مقيدين بالأغلال. |
ماوْلاشْ نمّوث مْكَتفينْ |
هذه المقطوعة من نمط « آسفرو »، وهو مقطوعة تساعية تتشكل من ثلاث ثلاثيات شعرية ـ [ثصدّارث وتجمع على ثيصدّارين]. الثلاثية الأولى مشكلة من ثلاثة أبيات، الأول والثالث سباعيان [سبع مقاطع صوتية] أما الثاني فقد جاء خماسيا. وهو نفس ما ورد في الثلاثية الثانية والثالثة، بمعنى أننا أمام توازي مقطعي تام بين جميع الأبيات المتناظرة. وفي الإجمال قصيدتنا مشكلة من 57 مقطعا صوتيا لا أقل ولا أكثر. وعدد كلماتها [بحساب كل الكلمات بما فيها أدوات العطف، أو ما يلعب دور حروف الجر في العربية هو 32 كلمة. وقد راعى مؤلف القصيدة البنية الإيقاعية التقليدية للأسفرو، فجاءت أبياته مقطعيا على الشكل التالي: 7 ـ 5 ـ7 مكررة في كل ثلاثية. أما فيما يخص القوافي، فقد اختار لقصيدته قافية مزدوجة برويين هما: رْ + ن ْ
الراء عليها مد قصير بالفتحة، والنون ساكنة مسبوقة بياء مد: رْا + يــــنْ
أما الإيقاع الداخلي، فقد استقام للشاعر بفضل تكرار حرف السين [حرف همس] وبعض الحروف الرخوة الأخرى مثل الثاء والياء... مما جعل النص قصيدة بوح وأنين أكثر مما هو قصيدة صرخة أو ثورة. إن فضاء ما وراء القضبان هنا ضاغط، خانق للأصوات، وليس بإمكان السجناء العاديين ـ حتى ولو كانوا شعراء ـ أن يكسروا جدار الصمت، لذلك فقصائد هذه المدونة، قصائد حشرجة وأنين أكثر من أي شيء آخر.
2.2. البنية الإيقاعية في التنويعات الخمس
جاءت التنويعات الخمسة إيقاعيا كالتالي:
نمط القصيدة |
المقاطع الصوتية |
القافية والروي |
عدد الكلمات |
الأصوات المهيمنة على الإيقاع الداخلي |
|
التنويعة 1 |
أسفرو تساعي |
57 مقطعا |
مزدوجة آشْ ـ رو |
34 كلمة |
ث ـ س ـ ص |
التنويعة 2 |
// |
57 مقطعا |
مزدوجة يَثْ ـآسْ |
32 كلمة |
ث ـ ي ـ س |
التنويعة 3 |
// |
57 مقطعا |
مزدوجة يزْ ـ في |
34 كلمة |
س ـ ي ـ ث |
التنويعة 4 |
// |
57 مقطعا |
مزدوجة آلْ ـ وقْ |
33 كلمة |
ي ـ س ـ ا |
التنويعة 5 |
// |
57 مقطعا |
مزدوجة زي ـ الْ |
35 كلمة |
س ـ ذ ـ ل |
بمجرد تأمل الجدول أعلاه، يمكن أن يستنتج القارئ ما يلي :
-
التنويعات الخمس كلها من نفس النمط أي من نمط الأسفرو التساعي، على الشكل الذي قدمناه آنفا. ببنيته القائمة على ثلاث ثلاثيات.
-
التوازي المقطعي بين ثلاثيات القصيدة جاء تاما: 7 ـ 5 ـ 7 في كل ثلاثية، وهو ما يعطي في النهاية 57 مقطعا: ستة أبيات سباعية + 3 أبيات خماسية.
-
القافية مزدوجة في كل ثلاثية على شكل تناوبي من نمط: أ ـ أ ـ ب، مكررة ثلاث مرات.
-
عدد الكلمات في كل قصيدة لا يتجاوز 35 كلمة، تقل أو تزيد بحسب عدد الزوائد وحروف العطف، أو بسبب دخول تراكيب من اللغة العربية.
-
الأصوات المهيمنة على الإيقاع الداخلي كلها من الأحرف الرخوة، وأحرف الصفير التي تخلق جوا من الهمس والبوح، مما يجعل القصائد كلها قصائد همسية، تتعلق بالأنين والشكوى وراء القضبان.
إن هذه النمطية الواضحة في جزئيات الإيقاع كما في بنيته العامة لا يمكن أن تكون اعتباطية، إنها نتيجة حتمية لاستمرار الصيغ والرواسم البدئية التي تشتغل مثل قوالب جاهزة، استبطنها الشعراء من جراء حفظهم مدونات كاملة من الشعر الشفاهي، فتعودت أذنهم الموسيقية وذاكرتهم الجمعية على أنساق واضحة يتم استحضارها بشكل شبه آلي عند النظم والتقصيد. والنسق المهيمن هنا إيقاعيا هو نسق الأنين والشكوى، في لحظات قصيرة غير ممتدة في الزمن، إنها ـ القصائد ـ بمثابة آهات وراء القضبان ...
ومن جهة أخرى، فإن فضاء السجن [وراء القضبان] كفضاء خانق اشتغل هنا بمثابة كاتم للصوت، فجعل الشعراء يهمسون بدلا من الصراخ...وما كان يمكن لقصائدهم أن تشكل صرخة دون وجود وعي سياسي مشترك يدرك طبيعة الوضع العام، ويستحضر روح المقاومة والنضال الجماعي، وهي شروط غير متوفرة لدى هؤلاء الشعراء الخمس. وهو ما سنراه في تحليل كيفية تشكل الدلالة والخطاب في الخطوة الموالية.
3.الدلالة وتنظيم المحتوى
إن الثقافات الشفوية، بسبب شفويتها بالذات، اضطرت إلى ابتداع آليات خاصة لتسهيل عملية الحفظ وتخزين المحتوى. تتلخص تلك الآليات في الرواسم12 والصيغ النمطية التي تشبه قوالب جاهزة، تستوعب المادة التي يحتاج كل شاعر أو ناظم أن يصبها فيها دون أن يضطر إلى إعادة إنتاج بنيات جديدة. وبمرور الزمن، ترسخ تلك البنيات في أذهان مستخدميها، فتصبح صيغا نمطية بالمعنى الذي يعطيه إياها آدم باري، ورسخه والتر أونج وغيرهما ممن اشتغلوا على الشفاهية، إذ يقول: « تعد الصيغة مجموعة من الكلمات مستخدمة بانتظام تحت الشروط الوزنية نفسها لتعبر عن فكرة جوهرية بعينها ».13
1.3. العناصر الدلالية المحورية
-
الذات (هنا ذات جماعية بضمير المتكلم الجمع: نحن، إننا ...)
-
الفضاء (كل قصيدة تشير صراحة إلى اسم السجن بنسبته إلى المدينة التي يوجد فيها).
-
النعوت المميزة للذات الجماعية [المساجين]
-
طبيعة المعاناة [البرد، الأشغال الشاقة، الجوع ...]
-
الآخر [سبب المعاناة]
-
توسل أو مناجاة [الأولياء أو الأم].
لدينا إذن ستة عناصر دلالية يمكن صياغتها في بنية تراكمية، كالتالي:
قبل تلخيص العناصر الدلالية الستة التي انتظم وفقها البناء العام في التنويعات الخمس وكذا في القطعة المحورية، تجدر الإشارة إلى أن عنصر الآخر [ سبب المعاناة ] لم يأت صريحا في كل التنويعات ، إذ يكتفي الشاعر أحيانا بالإشارة إلى القضاء والقدر ، وكأن المكتوب هو سبب المأساة وليس طرفا واضحا فرنسا أو الاستعمار ,,, وفي أحيان أخرى ترد الإشارة إلى طرف ثانوي بالنسبة إلى الآلة الاستعمارية ، كأن يشير الشاعر إلى الحرس أو السجّانين أو الجنود عامة ، بل قد يسمّي حارسا بعينه إذا كان شرسا أو متسلطا أكثر من العادة ، وهكذا نجد بخصوص هذا العنصر الدلالي[ الآخر ، سبب المعاناة] ما يلي :
-
المقطوعة المحورية: تشير إلى القضاء والقدر بصيغة : هكذا قُدّر لنا
-
التنويعة الأولى: لا تشير إلى هذا العنصر
-
التنويعة الثانية: أنذال + كلاب الحراسة [مجازا]
-
التنويعة الثالثة: الحارس سانشيز
-
التنويعة الرابعة: العسكر، يشبهون الكلاب
-
التنويعة الخامسة: الحرب والفتنة.
إننا نعتقد أن عدم ذكر فرنسا أو الاستعمار صراحة أمر له دلالة سياسية عميقة ، فهو مؤشر واضح على عدم نضج الوعي السياسي لدى المساجين [ زمن قول هذه القصائد] ، وهو ما نتأكد منه عندما نتوقف على عنصر دلالي آخر هو التوسل ، إذ يتوسل أصحاب المقطوعات الخمس إلى الله أو الأولياء بصيغ نمطية مألوفة كثيرا في الشعر الديني التقليدي، وكأنهم يرون المحنة التي ألمّت بهم مجرد نكبة من صروف الدهر وليس مسألة سياسية ، كما أن عدم ذكر الطرف الأساسي فيها، وهو الاستعمار الفرنسي ، يدل على أن الوعي لديهم كان جنينيا ، ولم يؤثر فيه خطاب الثورة التحريرية بعد ، وكأنهم يعيدون إنتاج نفس الوعي البائس الذي كان أيام ثورة 1871، مما يدل أيضا أن الصيغ النمطية والرواسم البدئية التي أشرنا إليها راسخة جدا في ذاكراتهم الفردية ، ولم يتغير ذلك على نحو واضح إلا في مرحلة لاحقة من نضج الثورة التحريرية ، بحيث انتقلت أشعار السجن إلى سياق تاريخي جديد ،و سارت على نسق مغاير للشعر التقليدي، وأنتجت لنا الأناشيد الثورية والأغاني النضالية التي أصبحت شعارا للثورة في جميع السجون، ولكن تلك قصة أخرى لا يتسع لها المقام هنا ، إذ نحتاج إلى مدونات أخرى لإثبات ذلك .
أما بصدد عنصر التوسل والمناجاة، فمن الضروري أن ننتبه إلى الصيغ النمطية الواردة باعتبارها إعادة إنتاج قوالب ندائية تتوجه إلى قوة عليا، سواء بوساطة الأولياء والصالحين، أو مباشرة عن طريق استحضار أسماء الله الحسنى، وهي طريقة متداولة جدا في الخطاب الشعبي:
-
الأولياء الصالحون 3 مرات. [القصيدة المحورية، التنويعة الأولى، التنويعة السادسة].
-
العزيز [آيا عزيزْ] واحد من أسماء الله الحسنى الدالة على القوة والعزة [التنويعة الثالثة].
-
يا مول النوّ الغايث [يا صاحب المطر المغيث] كناية شائعة عن الله صاحب النعمة [التنويعة الثانية].
-
أمــــاه ... على سبيل المناجاة والشكوى، [التنويعة الرابعة].
إن حضور التوسل في كل المقطوعات يدل على أن الرواسم والصيغ البدئية التي تشتغل كقوالب جاهزة تسهّل عملية النظم أولا، والحفظ ثانيا، هي التي كانت وراء استنساخ البنية الأولى الواردة في المقطوعة المحورية التي تعود إلى سنة 1871 أو ما يقاربها. وما كان لهذه البنية أن تستمر لولا تلك الرواسم المحفورة في الذاكرة الجمعية للمنشدين والشعراء على حد سواء. وفيما يلي جدول توضيحي للعناصر الدلالية [الثوابت] :
القصيدة |
الفضاء |
طبيعة المعاناة |
النعوت المميزة للذات |
صيغة التوسل |
القصيدة المحورية |
سجن البويرة |
أشغال شاقة [آكورفي] |
لحى مخيفة / شعر أشعث |
أيها الصالحون من هنا إلى عين بقرة |
التنويعة |
سجن الحراش |
لا غطاء ولا فراش حساء مليء بالحشرات |
حزن رهيب، بشنبات ونبكي |
أتوسل إليكم في كل القبائل |
التنويعة 2 |
سجن بجاية |
نأكل البقايا من أيدي الأنذال |
نرزح تحت الهوان |
يا مول النو الغايث |
التنويعة 3 |
سجن لامبيز |
سياط وكدح دائم |
أقدام حافية |
ارحمنا يا عزيز |
التنويعة 4 |
سجن وهران |
الأكل بمقدار وحساء مليء بالذباب |
ننام ونفيق على صوت البوق |
أمـــــاه |
التنويعة 5 |
سجن ثيزي |
كل يوم في عراك وكدح دائم |
شيب وشبان أرهقتنا الحرب |
أيا صالحين |
2.3. استنساخ البنية
بدا من الواضح الآن، بعد عرض التنويعات، بأن الشعراء يعمدون دائما إلى استنساخ البنية الإيقاعية المحورية، ويراعون أدنى التفاصيل، بداية من نمط القصيدة المتمثل في الأسفرو بثلاثياته الثلاث، وعدد المقاطع الصوتية في كل بيت (سبعة أو خمسة)، والعدد الإجمالي (57) ...إلخ، لذلك سنكتفي بما عرضناه من تنويعات، مع التأكيد بأن نفس الترسيمة واردة بحرفيتها في كل التنويعات الخمس التي استنسخت بنية المقطوعة المحورية استنساخا تاما ! وهو ما يؤكد طابع النمطية واللجوء إلى ما أشار إليه علماء الشفويات، أي الرواسم والصيغ، بما هي قوالب جاهزة تعين على الحفظ من جهة، وتقتصد الجهد الإبداعي في الثقافة الشفوية، وتعيد إنتاج نفس البنيات والأنساق بشكل آلي، يذكرنا تقريبا بطريقة النسوة في إعادة رسم الموتيفات والرموز على أواني الفخار بنفس الشكل عبر القرون، دون وعي بالهندسة العميقة التي تتحكم في الرمز ولا في دلالته الأسطورية وبعده السيميوطيقي.
استنتاج
لقد كشفت هذه الدراسة المقتضبة، على آليات اشتغال الذاكرة الشفوية وكيفية إنتاجها نصوصها الإبداعية:
-
لقد تبين أن الشعراء يستنسخون البنيات الإيقاعية والأنماط الشعرية في قافيتها وبنيتها الصوتية استنساخا كليا غير واع، لأنهم تربوا على ثقافة السماع والتلقي الشفوي، وتدربت أذنهم الموسيقية على أنماط وصيغ بعينها، فجاءت إعادة إنتاجها موهمة بالإبداع والتجديد، ولكنها في الحقيقة، مجرد إتقان لفنون الصنعة وبراعة في استيعاب الأشكال والبنيات، من دون حاجة إلى موضعتها وإدراكها نقديا، بل ودون حاجة حتى إلى إعطائها أسماء ومصطلحات تميزها. فالشعراء هنا لا يعرفون حتى المصطلحات القاعدية مثل : المقطع الصوتي، البنية، البيت، القافية ...إلخ
-
يمثل التكرار آلية من آليات الحفظ والاستنساخ، سواء تكرار حروف الروي، أو البنية السباعية للبيت، أو على المستوى المعجمي في كل تنويعة.
-
ـ على مستوى الدلالة وتنظيم المحتوى، كشف التحليل على أن الشعراء يستوعبون العناصر الأساسية التي يتلقونها بسرعة فائقة، مما يدل على ملكاتهم التجريدية الأكيدة، إذ استطاع كل واحد منهم أن يعيد إنتاج العناصر الدلالية الستة بطريقته، بمجرد أن استمع إلى المقطوعة المحورية.
-
انطلق كل الشعراء من تحديد الفضاء، أي تسمية السجن الذي يقبعون خلف قضبانه، ثم انتقلوا جميعا إلى وصف المعاناة، وهي مشتركة ومحددة بكليمات قليلة : كدح، جوع، برد...
-
في وصف المعاناة تكررت كلمة « أكورفي » وهي من الفرنسية Corvée، وتعني العمل الشاق، أو العقوبة عن طريق العمل المضني، وهي كلمة دخيلة طبعا، وقد عرفت بداية من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ نجدها حاضرة بقوة في مدونة عمار سعيد بوليفة مثلا. ومن أمثلة ذلك قول شاعر مجهول :
آتسخيلكْ آمسيو لبريفي |
رحماكَ أيها الحاكم العام |
إيليك ذينيفي |
كن نبيلا شريفا |
لعمالاكْ بزّافْ ثحرقْ |
إدارتك علينا شديدة |
الباتينتا ذو كرفي |
كدح وأشغال شاقة |
نخذمْ ورْ نكفي |
نعمل بلا انقطاع |
ثورا نزقى ا نعوّقْ |
وقعنا في مصيدة |
وي لّوزنْ يدّا حافي |
الجائع الحافي منا |
يوغالْ ذيمنفي |
أصبح صعلوكا |
هتث ذق ثزقي ذامنافقْ |
في الغابات متمردا شريدا14 |
ـ بالإضافة إلى تسرب الكلمات الدخيلة من الفرنسية إلى النسيج اللغوي العام لقصائد السجن، فقد لاحظنا وجود نسوج تركيبية عربية كاملة في ثنايا بعض المقطوعات، وهذا أمر طبيعي جدا، سببه أن فضاء السجن يأوي جزائريين من كل الأصقاع، والتواصل اليومي في فضاء مغلق من شأنه أن يحفز آليات الاستعارة والتداخل اللغوي، بحيث يجد الشاعر القبايلي نفسه يكرر بعض الصيغ النمطية التي يسمعها يوميا من أصحابه الناطقين بالعربية، خاصة حين تكون تلك الصيغ مقولبة وفق ما يقتضيه الإيقاع العام للمقطوعة.
من أمثلة تلك التراكيب :
-
التنويعة 1: [يا سيادي كيفاشْ -يرجع المنفي لدارو؟ ]
-
التنويعة 2: [يا مولْ النّو الغايث]
-
التنويعة 4: [إيشوفو كل شي من الفوق] : [وطريّفْ الخبز محروق ْ]
بينما جاءت القصيدة المحورية [وهي أقدم، إذ تعود إلى حدود 1871] خالية من التراكيب العربية الدارجة والمفردات الدخيلة من الفرنسية، وهو أمر طبيعي أيضا، لأن زمن التفاعلات اللغوية الكبرى بين هذه اللغات هو القرن العشرون وليس القرن التاسع عشر.
ـ اتسمت التنويعات الخمس كلها بنمط تفكير تقليدي، بحيث يعزو كل شاعر حالته التي آل إليها هو وأصحابه إلى القضاء والقدر، أو إلى عناصر جزئية ضمن الآلة الاستعمارية، ولم يستوعب أحد منهم جوهر المأساة ولا طريق الخروج منها، إذ اكتفوا جميعا بالتوسل، وهو ما يدل على روح انهزامية واضحة لأن عناصر الوعي السياسي الثوري لم تنضج بعد في أذهانهم.
ـ إن مقولة الرواسم والصيغ أو القوالب الجاهزة في الثقافة الشفوية، تشكل خاصية مميزة للشعر بالدرجة الأولى ، ومن جهة أخرى ، فهي مفهوم إجرائي يمكن التأكد من فعاليته بدراسة مدونات شعرية من ثقافات مختلفة، لأن القاسم المشترك في نهاية المطاف كما يقول والتر أونج هو أنه : « في الثقافة الشفاهية الأولية، عليك ، لكي تحل مشكلة الاحتفاظ بالتفكير المعبر عنه لفظيا واستعادته على نحو فعال، أن تقوم بعملية التفكير نفسها داخل أنماط حافزة للتذكر، صيغت بصورة قابلة للتكرار الشفاهي، وينبغي أن يأتي تفكيرك إلى الوجود إما في أنماط ثـقيلة الإيقاع، متوازنة، أو في جمل متكررة أو متعارضة، أو في كلمات متجانسة الحروف الأولى أو مسجوعة أو في عبارات وصفية أو أخرى قائمة على الصيغة ، أو في وحدات موضوعية ثابتة .. ».15
وهذا بالذات ما فعله شعراؤنا المغمورون في هذه التنويعات الخمس.
فقد كشف التحليل، بأن آلياتهم في النظم تقوم أساسا على:
-
السماع، واستحضار النماذج والصيغ القبلية التي رسخت في ذاكراتهم، انطلاقا من الأهازيج والمقطوعات الجمعية المجهولة المؤلف التي داعبت طفولتهم في كنف الثقافة الشفوية.
-
استنساخ بنية المقطوعة المحورية، بفضل صب الدلالات المطلوبة داخل البنيات والرواسم القبلية، وصياغة المضمون العام في صيغ نمطية، مع محاولة استلهام التجارب الذاتية وصهرها داخل الهرم العام لنمط القصيدة (إيزلي، أو أسفرو...).
-
إن هذا النمط من اشتغال الذاكرة، لا يعني عدم وجود مساحة للإبداع والتميز، لأن تجارب الشعراء مع اللغة وقدرة كل واحد منهم على استيعاب السنن الثقافي العام للجماعة هو الذي يحدد مسألة الإبداع في الثقافة الشفوية، وليس العبقرية الفردية المتمردة عن كل الأعراف الشعرية السابقة، مثلما قد يحدث في الثقافات الكتابية.