إشكالية الهويّة الثّقافية في إفريقيا جنوب الصّحراء

بين التّغيير والثّبات

Le problème de l'identité culturelle de l'Afrique sub-saharienne entre stabilité et changement

Sub-Saharan Africa’s Cultural Identity Problem Between Stability Aand Change

مونة عبد الله بشريف Abdallah Becherif Mouna

p. 65-77

Citer cet article

Référence papier

مونة عبد الله بشريف Abdallah Becherif Mouna, « إشكالية الهويّة الثّقافية في إفريقيا جنوب الصّحراء », Aleph, 10 (1) | 2023, 65-77.

Référence électronique

مونة عبد الله بشريف Abdallah Becherif Mouna, « إشكالية الهويّة الثّقافية في إفريقيا جنوب الصّحراء », Aleph [En ligne], 10 (1) | 2023, mis en ligne le 15 décembre 2022, consulté le 19 avril 2024. URL : https://aleph.edinum.org/7611

نسعى في هذا المقال إلى اسقاط الضوء على إشكالية الهويّة في خضم الصّدام القائم بين الثّقافة الإفريقية وبين الثّقافة الغربية؛ الذي أصابت سهامه كل العناصر المكونة للهويّة في إفريقيا جنوب الصّحراء ممزقا بذلك أواصر أبنائها، الذّين وجدوا أنفسهم تائهين مشتتين يبحثون عن هويّتهم بين منظومة قيم إفريقية تقليدية ومنظومة قيم غربية حديثة. وفي هذا الصّدد سنحاول التّعرض للمرجعيات التي شكلت الهويّة الافريقية وظروف تكوينها وبخاصة شعوب افريقيا جنوب الصّحراء، مستشهدين ببعض أعلام الفكر الافريقي، ومتسائلين عن حال هذه الهويّة عند تصادم هتين الثقافتين. فهل تتغيّر- الهويّة- أم تبقى ثابتة أمام هذه الثنائية الضدية؟

Nous cherchons dans cet article à mettre en évidence le conflit entre la culture africaine et la culture occidentale qui a frappé de ses flèches tous les éléments constitutifs de l'identité culturelle en Afrique, et qui a déchiré le lien de son peuple, qui s'est retrouvé perdu et dispersé ; cherchant son identité entre le système de valeurs traditionnel africain et le système de valeurs moderne occidental. 
À cet égard, nous allons essayer d'exposer à des référents qui ont formé l'identité africaine et les circonstances de sa composition, en particulier les peuples de l'Afrique subsaharienne.
et Nous citons quelques opinions des drapeaux de la pensée africaine, et Nous nous interrogeons sur cette identité dans la collision d'une culture ; L'identité change-t-elle ou reste-t-elle immobile devant cette dualité contrastée ?

We seek in this article to highlight the conflict between the African culture and Western culture; which hit his arrows all the constituent elements of cultural identity in Africa, and he torn apart the bond of her people, who found themselves lost and scattered; looking for their identity between the system of values of traditional African and values system modern western.

In this regard we will try to exposure to of referents that formed the African identity and the circumstances of its composition, especially the peoples of sub-Saharan Africa.
and We cite some opinions
of the flags of the African thought, and We wonder about this identity in a culture's collision; Does Identity Change or she stay still before this contrasting duality?

مقدمة

تتعرض الهويّة لحقبة من الاهتزازات وبشكل خاص عند صّراع ثقافتين مختلفتين غير متماثلتين؛ حيث يملك أحد الطرفين أساسا عسكريا واقتصاديا متطورا؛ والحال ذاته في الصدام بين الثّقافتين الغربية والإفريقية؛ إذ مرّت شّعوب القارة السّمراء بصفة عامة وشعوب جنوب صّحرائها بصفة خاصة بمراحل قاسية وتجارب عسيرة خلال تاريخها الاستعماري الغربي، بداية من مرحلة الاسترقاق إلى التّبشير الكنيسي إلى مرحلة قمع اللّغات المحلية ومحاربتها، ثم إلى مرحلة تعدّد اللّغات الأجنبية التي مزقت أواصر أبنائها، إضافة إلى قصور البنية التّحتية والتّخلف الّذي نال منها حتى بعد الاستقلال لتجد نفسها تائهة مشتتة تبحث عن هويّتها بين منظومة قيم إفريقية تقليدية ومنظومة قيم غربية حديثة.

ونتيجة حمأة هذا الصراع الثقافي أصبحت الهويّة شعاراً طوطميا، منذ ستينات القرن الماضي للعديد من المجتمعات (خاصة المستقلة حديثا)، حيث ظهرت خطابات فكرية تنفي ثبات الهويّة واستقرارها، الأمر الذي يجعلنا نتساءل في هذا المقال عن حال الهويّة عند تصادم الإرث الثّقافي الإفريقي بالحضارة الغربية؛ فهل تتغيّر- الهويّة- أم تبقى ثابتة أمام هذه الثّنائية الضّدية؟

1. الهويّة الثّقافية ومكوناتها

1.1. تعريف الهويّة الثّقافية

ترتبط الهويّة الثقافية عند جورج لارين(George Lauren) ارتباطا وثيقا بمسألة الهويّة الشخصية من خلال معنيين؛ أولهما يحدد الثّقافة على أنّها إحدى المحددات الرئيسية للهويّة الشّخصية. وثانيهما يضبط الثّقافة بتلك التّي تتسم دائما بالاختلاف أو التّنوع العظيم لطرق الحياة (لارين، 2002، صفحة 241). ومن زاوية أخرى نجد أنّ مفهوم الهويّة الثّقافية لدى بعض الدّارسين هي حصيلة مجموعة من السّمات التّي تتصف بها جماعة من النّاس في فترة زمنية معينة، والتي تولد الإحساس لدى الأفراد بالانتماء لشعب معين، والارتباط بوطن معين، والتّعبير عن مشاعر الاعتزاز والفخر بالشّعب الذّي ينتمي إليه هؤلاء الأفراد. تتجلى هذه السّمات بوضوح في الخصائص الثّقافية الموزعة على اللّغة، والدّين، والتّاريخ، والتّراث، والعادات، والتّقاليد، والأعراف... وغيرها من المكونات الثّقافية، فالهويّة الثّقافية تستمد مقوماتها من عناصر راسخة شكلتها ثوابت جغرافية، ومتغيّرات تاريخية يتيح الرجوع إليها الفهم العميق للمستقبل. لكن حين نتكلم عن الهويّة الثّقافية الإفريقية يتطلب منا الإشارة إلى أنّها تعاني من تداخل في مستوياتها المختلفة، المادية والروحية، وهي عبارة عن ثنائية ناتجة عن الاحتكاك بالثّقافة الغربية، التّي فرضها المستعمِر على الشّعوب الافريقية، كأداة لطمس هويّتها، إذ إنّ« السيطرة على ثقافة شعب هي السّيطرة على الأدوات التي يَعرفون بها هويّتهم الذّاتية في العلاقة مع الأخرين » (غريفت، 2009، صفحة 43)، ومع ذلك نجد أنّ الإنسان الإفريقي احتفظ بأهم مقوماته ومكوناته اللّغوية، والدينية، والتاريخية التي تميزه عن غيره؛ إذ يؤكد المستفرق جيرالد مور(Moore Gerald)أن المستعمِر لم « يجد القارة الإفريقية قاعا صفصفا كما زعم دعاته، بل ثبت حتى بأقلام الأوروبيين والأمريكيين المحدثين أنفسهم، أنّ القارة الإفريقية جنوب الصحراء قد عرفت حضارات وثقافات تاريخية، عميقة الوجود والأثر في وجدان سلوكها اليومي» (مور، 1977، صفحة 10) وهو ما يؤكّده أيضا الكاتب النيجيري شينوا أشيبي (Chinua Achebe) في إحدى تصريحاته سنة1994 أنّ الشّعوب الإفريقية لم تسمع بالثقافة لأول مرة عن طريق الأوربيين، وأنّ مجتمعاتهم تملك غالبا فلسفة عميقة جدا لها قيمتها وجمالها، بل ولديها فوق كل هذا كرامة (غريفت، 2009)، ولكن حقبة الاستعمار الغربي الحديث هي التّي أحدثت تغييرات جوهرية في بنياتها الجغرافية، واللغوية، والاقتصادية، والزراعية، والمعمارية، والسياسية، والثقافية.

2.1. مكونات الهويّة الثّقافية الإفريقية 

إنّ فهم أبعاد الهويّة الثّقافية الإفريقية يقتضي منا بالضرورة التّعرض للمرجعيات التي تشكلها وظروف تكوينها. لذا سنركز على دور اللّغة والدّين في تكوين ثقافة الشّعوب الإفريقية الواقعة جنوب الصّحراء، وهما عنصران مركزيان لأي ثقافة أو حضارة، ودون أن نلغي التّاريخ الذي يمثل العامل الأساسي الذي تلتف حوله الشّعوب لإثبات هويتها الأصيلة.

1.2.1. الأديان والمعتقدات 

يمكن الجزم أنّ في إفريقيا وتحديدا في جنوب صحرائها، لا يوجد بلد يعتنق جميع سكانه دينا واحدا، فإذا كانت الدّيانة المسيحية انتقلت إلى افريقيا، قبل نفوذ الاستعمار الأوروبي الحديث، وذلك عبر الإرساليات التّبشيرية، وما شهدته بعد ذلك من توسع وامتداد مع المستعمر وبعده؛ نتيجة لنشاطات الكنائس الأوروبية والأمريكية، فإنّ الإسلام يشكّل نسبة قليلة عند الأقليات الإفريقية في البلدان الواقعة جنوب الصّحراء، رغم وصوله إليها قبل المسيحية بواسطة العلماء، والمتصوفة، والتجار، والحكام، وأصحاب النفوذ، في حين تبقى الوثنية متواجدة بنسب كبيرة في جميع بلدانها، بوصف الوثنية هي الاعتقاد الذّي يذهب إلى أنّ الطبيعة محكومة بالأرواح المتناظرة مع إرادة البشرية، فوفقا للاعتقاد الدّيني الإفريقي فالإنسان يشبه الآلهة، ويشارك في الألوهية (موسى، 1997، صفحة 171)، ومعروف عن الوثنية أنها ليس لها مرجع ديني على مستوى الدولة، فمعظم القبائل الوثنية في إفريقيا جنوب الصحراء تؤمن بإله واحد يسيطر على الكون، ولكنّهم يتخذون الأوثان والطوطمية والأسلاف وسطاء لهذا الإله المسيطر، فنجد مثلاً قبائل الباميرا في كينيا تسمي هذا الإله (فارو)، وتسميه قبائل الأشانتي في غانا (نانا)، كما يسميه شعب الكيكيو في كينيا (مولونجو)، ويسميه الدينكا في السودان (نيال) كما يسميه (الزولو) في جنوب إفريقيا (كانكوكو)...إضافة لذلك أن هناك قصصاً وأساطير عند هذه القبائل الإفريقية نابعة من ديانتهم الوثنية، فمثلاً قبائل «التشاجا» في تنزانيا ترى أنّ الله غضب على أعمال البشر، فأهلكهم ماعدا قلة، وهذه تشبه قصة طوفان سيدنا نوح عليه السلام. كما أن قبائل البامبورت والميرو في كينيا تعتقد أنّ الله حرّم أكل شجرة معينة على الإنسان، ولكنّه عصى، وهذه قصة سيدنا آدم عليه السلام...وإلى غير ذلك من هذه القصص التي كانت منتشرة في الأديان الإفريقية، ولذلك ربّما قربّت هذه الحقيقة الشقة بين الإفريقي والإسلام (أبوكروق، 2010)، ما يدل على أنّ الدّيانات الوثنية في إفريقيا فيها ما يشابه المعتقدات الإسلامية، وهذا ما يجعلنا نعتقد أنّ الشّعوب الإفريقية التّقليدية كانت ذات فطرة سليمة.

كما تتميز المعتقدات الإفريقية بصورة خاصة بالطّقوس والاحتفالات التّي تقام لإحياء ذكرى الأجداد والألهة المختلفة، التّي هي أقرب للإنسان من الآلهة المتفوق (اله الآلهة) (إسبر، د ط، صفحة 171)المهيمن على الوجود بأسره، فعلى الرغم من اختلاف التّنظيمات الدّينية وتعدد الآلهة وتمايز الطّقوس والعبادات فإنّ المقاييس المشتركة التّي تجمع بين هذه الأمور كلها كتقديس الأجداد، وتقديم القرابين واللّجوء إلى التّنجيم، تشكل في النّهاية ديانة الإفريقي، فلا يمكن تصور هويّة ثقافية إفريقية أصيلة من دون هذه الطقوس والمعتقدات باعتبارها إحدى السّمات المميّزة لشعوب إفريقيا جنوب الصّحراء.

2.2.1. اللّغة 

اللّغة جزء لا يتجزأ من ماهية الفرد وهويته، كما أنّها تتغلغل في الكيان الاجتماعي والحضاري لأي مجتمع بشري، وتنفذ إلى جميع نواحي الحياة فيه؛ لأنّها من أهم مقومات وحدة الشّعوب، وقد أشارت منظمة اليونسكو على لسان مديرها إلى أهمية الحفاظ على اللّغات الخاصة بالمجتمعات حيث قال:

«إنّ اللّغات هي من المقومات الجوهرية لهويّة الأفراد والجماعات، وعنصر أساسي في تعايشهم السّلمي، كما أنّها عامل ‏استراتيجي للتّقدم نحو التّنمية المستدامة، وللربط السلس بين القضايا العالمية والقضايا المحلية... في جميع مجالات الحياة الفردية والجماعية» (ماتسورا، 2008)،

لذلك نجد أنّ المجتمعات التّي تشعر بهويّة واحدة تقوم بصياغة لغة خاصة بها، تحقق من خلالها تواصلها وتمكنها من التّعبير عن ذاتها، وتميزها عن هويّة الشّعوب الأخرى، وطبيعة التّواصل هذه هي التّي تحدد هويّتها.

تعتبر إفريقيا- وفقا للإحصاءات والتقديرات- قارة لغوية بامتياز؛ إذ يقدر عدد اللّغات بها بـ1500 لغة، فضلا عن تلك التي لا يتكلم بها أحيانا إلا مجموعات صغيرة، والتّي نذكر منها: الهوسا، والفلاني، والسواحلية، ومانديكان، والولوف وغيرها (سعودي، 1980، صفحة 114)، إضافة إلى هذه اللّغات التي تتعامل بها كثير من البلدان الإفريقية، نجد لغات أجنبية أخرى مثل الفرنسية والانجليزية والبرتغالية التي فرضها المستعمِر؛ والتي لا تزال تحتل الواجهة في البلدان الإفريقية المستقلة حديثا، مما يدل على أنّ المستعمِر حاول ضرب البنى التّحتية للمجتمعات الإفريقية، وزعزعة أهم ركيزة فيها. وذلك إيمانا منه أنّ اللّغة المحلية هي مصرف الذاكرة لتجربة الإنسان في التّاريخ، فقد تعرضت هذه اللّغات إلى التّهميش باعتبارها الوسيلة الرئيسة للارتباط بالموروث الثّقافي للأجداد. لقد فرضت لغة المستعمِر كبديل عن اللّغة الأم في المدارس والإدارة، حيث استعملت «الرصاصة كأداة للإخضاع الجسدي، واللّغة للإخضاع الروحي» (واثينغو، 2011، صفحة 31)، فاللّغة ليست وسيلة تعبير وتفاهم فقط، بل هي رابطة اجتماعية، وأداة تواصل بين الماضي والحاضر، وبين الذّاكرة التّاريخية، وقوام الشّخصية، فهي المحيلة على الأصل؛ لأنّها أساس الهويّة.

ومن هذا المنطلق تسعى بعض المجتمعات الإفريقية للاستغناء عن استعمال اللّغات الأجنبية؛ وذلك لشعورها بإمكانية زوال الشّخصية الإفريقية جراء تمثّل الثّقافة الأجنبية، على الرّغم من ملائمة تلك اللّغات للحياة الحديثة، وخاصة التّجارة والصلات الثّقافية مع الخارج، إذ نجد من الأفارقة المعاصرين من ينادي بالعودة إلى اللّغات المحلية الإفريقية كتابة ونطقا باعتبارها الصورة الكاملة للهويّة الثّقافية الإفريقية، وهذا ما يشير إليه الكاتب الكيني « نغوجي واثينغو » (Ngugi Wathiong’o) في إحدى حواراته « إنّ الكتابة باللّغات الإفريقية خطوة لا مفر منها لتحقيق استقلال ثقافي عن قرون الاستغلال الأوروبي، إنها أداة مقاومة... » (الدين، 2013)، ويؤكد ذلك الرئيس الأسبق لغينيا أحمد سيكوتوري في كتابه « إفريقيا والثورة » قائلا: «. ..إن تدوين لغاتنا الوطنية يقدم لنا الوسيلة المجدية، إذ أنّ هذه اللّغات ستصبح قادرة على نشر ثقافتنا » (سيكوتوري، 1986، صفحة 250)، ومن مظاهر ذلك الابتداء بتغيير تسمية بعض الدول، فساحل الذهب أصبح « غانا » على سبيل التيمن بغانا القديمة، والسودان الفرنسي أصبح « مالي »، و« نامبيا » صارت زمبابوي، وبالتالي يسعى الإفريقي بهذه التّسميات إلى محاولة مسح أثار الاستعمار، والتّي ماتزال متمثلة في حياته، تجعله يتخبط في أزمات اقتصادية واجتماعية وإثنية وحتى نفسية.

3.2.1. التاريخ المشترك

لا يمكن لأية أمة أن تشعر بوجودها بين الأمم إلا عن طريق تاريخها؛ الذّي يمثّل أحد مكونات هويّتها، فالتّاريخ هو السّجل الثابت لماضي الأمة، وديوان مفاخرها وذكرياتها، فهو يسجل معاناة الشّعوب في أثناء مسيرتها التاريخية في الحياة، وكيف واجهت العقبات وتغلبت عليها، إنّه التّاريخ الذّي يستقر في ذاكرة الشّعوب، يربط الأحياء بالأموات، ويمدها بالمواقف والتّجارب والخبرات، بل هو الذي يميز الجماعات البشرية بعضها عن بعض، فكل الذّين يشتركون في ماض واحد يعتزون ويفخرون بمآثره ويكونون أبناء أمة واحدة، فللتاريخ المشترك دور مؤثّر في تشكيل الهويّة، وعلى ذلك يكون طمس تاريخ الأمة أو تشويهه هو أحد الوسائل الناجحة لإخفاء هويتها أو تهميشها.

4.2.1. الأرض 

تمثل الأرض الواحدة التي يقطنها البشر عنصرا مهما في تشكيل هويّتهم الجماعية، فوجود الأفراد على أرض ذات مساحة وحدود جغرافية تسمح للجماعات البشرية بالتجمع والاجتماع عليها، وتمثل كذلك عاملا مهما ومؤثرا في بلورة هويّة مشتركة بينهم، وقياسا على رأي جوموكينياتا في كتابه «في مواجهة جبل كينيا» فـ «إذا كانت الأمّ تحمل جنينها في بطنها تسعة أشهر ثم ترضعه عامين، فإنّ الأرض تطعم الانسان طوال حياته وبها يدفن. وفي أعماقها توجد أجساد الأجداد وأرواح الاقدمين» (كينياتا، دت، صفحة 26)، لذا نجد أن عنصر الأرض لا يمكن أن يسهم في تشكيل الهويّة بمفرده، بل تدعمه مكونات أخرى لها علاقة بوحدة وروح الجماعة، فالأرض مجرد عامل مساعد ومهيئ لتشكيل هويّة الجماعة، فثمة العديد من المجتمعات تشترك في حدود جغرافية واحدة، لكن لكل منها هويّة خاصة.

وتأسيسا على ما سبق يمكن أن نقول: إن ما يكوّن الهويّة الثّقافية لشّعوب افريقيا جنوب الصحراء، هو ما يكوّن ثقافة أي شعب من شعوب العالم، رغم ما تتصف به من غرابة، فلهم من التّراث الأدبي والفني ما يشكّل الخلفية التّاريخية والطبيعية للصورة العامة لشّعوب القارة الافريقية.

2. الهويّة في الفكر الإفريقي 

1.2. مفهوم الهويّة في الفكر الإفريقي 

لم يكن الأفارقة في جنوب القارة الإفريقية في منأى عن سياسة الأوروبي التّي كرسها في كل مستعمراته، إلا أنّها كانت أكثر استدمارا من غيرها، إذ يعود وجوده في هذه المنطقة إلى بداية القرن 15م، لذا نجد الإفريقي الزنجي أكثر حساسية، لتلك الصورة النّمطية التّي قدمه بها الأوروبي في النّصوص الثّقافية الغربية، من كتابات روائية وتخيلية وحتى الكتابات العلمية، كان الإفريقي فيها «يمثل الإنسان في حالته الطبيعية، الهمجية غير المروضة تماما. وهذا يعني أنّ الأوروبي قد حدّد صورة الإفريقي من خلال مجموعة صفات، وأبشعها كانت صفة آكلي لحوم البشر»، فـ «الزنجي يمثل الخطر البيولوجي...وإنّ الإصابة بخواف الزنجي (la phobogène)، تعني الخوف من البيولوجي، لأنّ الزنجي ما هو سوى كائن بيولوجي؛ أي همجي بدون عقل يفكر» (فانون، 2004)، إذ يمكن أن يتصرف كحيوان متوحّش.

تلك هي رؤية الغربي(الأوروبي) اتجاه إفريقيا جنوب الصّحراء، بحيث يراها مأوى للمتوحشين، وموطنا للزنوج آكلي لحوم البشر، وفي هذا الإطار الذّي هو نفي للآخر يطرح الإفريقي سؤلا وجوديا نراه في صميم البحث عن هويّته، من أنا في الواقع؟

1.1.2. في فكر فرانز فانون (Frantz Fanon)

يعتبر فرانز فانون مرجعية ابستميولوجية في تحديد الهويّة في الفكر الإفريقي، وفي فكر المجتمعات المستعمَرة سابقا، فالرجل مزيج بين مجموعة من التّخصصات مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، والفكر، والأدب، والسياسة.

لقد جسد فانون بحثه عن الهويّة أحسن تجسيد في كتابه «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» سنة 1952م، الذي يرى فيه أنّ الاستعمار، بإعلائه من شأن الجنس الأبيض على باقي الأجناس غير البيضاء، قد خلق إحساسا بالانقسام والاغتراب في هويّة الشّعوب المستعمَرة حيث تم اعتبار تاريخ المستعمِر الأبيض، وثقافته، ولغته وتقاليده، ومعتقداته، كونية ومعيارية ومتفوقة بالنسبة لثقافة المستعمَر، وهذا ما يخلق إحساسا قويا بالدونية داخل الذات المستعمَرة، ويقودها إلى تبني لغة المستعمِر وثقافته وتقاليده (أشكروفت، 2005، صفحة 10).

إنّ التّمييز بين الأبيض والأسود عايشه فانون وتعرض له شخصيًا قبل أن يدرسه كحالة مرضية، إذ كان في مطلع شبابه قد توهّم أنّ في وسعه أن يتغلب على حاجز اللّون مستندا إلى ثقافته وعلمه وطاقاته الشّخصية، ويوضح ذلك في الفصل الخامس من كتابه هذا، تحت عنوان تجربة الأسود المَعْيُوشَة واصفا حال الزّنوج عموما، «ففي أمريكا يوضع الزنوج على حدة، وفي أمريكا الجنوبية يجلد الزّنوج المضربون، وتطلق نيران الرشاشات عليهم في الشوارع، أما في إفريقيا الغربية الزنجي بهيمة بهيمة» (فانون، 2004، صفحة 121)، ليصل إلى وصف حالته وردة فعل العالم نحوه ليس كمثقف له من العلم الغزير، بل كزنجي (رجل ذو لون أسود)، فيقول عن ذلك:

«كنت قد جئت إلى العالم وأنا مشغول بإعطاء معنى للأشياء، فنفسي مفعمة برغبة أن أكون في أصل العالم... العالم الأبيض، وحده كان يمنعني من كل مشاركة، فمن الإنسان كان يطلب سلوك إنساني – مني أنا-، كان يطلب سلوك إنسان أسود، كنت أنادي العالم والعالم يبعدني عن حماسي، فكانوا يطلبون مني أن أنزوي، أن أنطوي، وأتقلّص» (فانون، 2004، صفحة 117).

بعد هذا الصّد القاسي من العالم الأوروبي رفع فانون التحدي، ليُعرّف بنفسه ليس كرجل علم، بل كرجلٍ ذي بشرة سوداء، فيقول عن ذلك: «وما دام من المستحيل عليّ أن أنطلق من عقدة فطرية، قررت أن أؤكد نفسي كأسود، طالما أنّ الآخر متردّد في الاعتراف بي، لم يبق سوى حلّ واحد: جعله يعرفني» (فانون، 2004، صفحة 123)، من هذه اللحظة أخذ فانون على عاتقه، مسؤولية دراسة العلاقة بين الأبيض والأسود، انطلاقا من مجال تخصصه في علم النفس التحليلي ومتأثرا بفرويد، ليتمكن من فهم «الأنا الزنجية» فيقول عنها:

«نفهم الآن لماذا لا يستطيع الأسود الاكتفاء بجزيرته، فبالنسبة إليه لا يوجد سوى باب خروج واحد، وهو يطل على العالم الأبيض، ومن هنا كان هذا الاهتمام الدائم بلفت اهتمام الأبيض، هذا الهم بأن يكون قويا كالأبيض، هذه الإرادة المصممّة على اكتساب ممتلكات تجديد الكسوة، أي القسم الوجودي والإمتلاكي الذّي يدخل في تكوين كل» أنا «...سيحاوّل الأسود من الداخل، الانضمام إلى المحراب الأبيض» (فانون، 2004، صفحة 56).

ليصل فانون إلى حقيقة مفادها أنّ الأسود لا يحقق أناه إلا من خلال الأبيض، أي من خلال الآخر المختلف عنه في اللون والعرق والثقافة.

2.1.2. في فكر مؤسسي حركة الزّنوجة 

تعبر هذه الحركة عن وعي الزّنوج بحالتهم إزاء العالم، إذ يحاولون من خلالها إثبات هويّتهم «ثقافيا وسياسيا»(Tobnerodil, 1989 :  6). برز مصطلح الزّنوجة أوّل مرة على لسان المارتينيكي ايمي سيزير(Aimé Césaire)، وتطوّر على يد السينغالي ليبولد سيدار سنغور (Léopol -Sedar Senghor).

ولئن كانت الزّنوجة من المفاهيم الحاسمة لتطوّر وعي السّود، وصوتهم الصّارخ والمعبّر عن الهويّة الإفريقية، فإنّ المارتينيكي إيمي سيزير يرى أنّ الزّنوجة هي وعي باختلاف الزّنجي عن الآخر الأبيض، وهي تضامن بين أفراد العرق الواحد. أمّا عند سنغور فهي تمثل روح الثّقافة الزّنجية والموروث الثّقافي. وعند ثالث شخصية مؤسسة لهذه الحركة وهو السنغالي ديوب عليون (DiopAlloune) ينظر إليها بأنّها تأكيد على العرق الزنجي، وهي الثورة ضد عنصرية الغرب والإمبريالية والمطالبة بالاستقلال (Tobnerodil, 1989, p. 12). من آراء الشخصيات الثلاث، والتّي تمثل الفكر الإفريقي الفراكفوني، يتبّدى لنا أنّ هؤلاء يتّفقون على أنّ جوهر حركة الزنوجة، زيادة على أنّها وسيلة كفاح، هو تأكيد على هويّة الزنجي (الأسود)في مقابل الآخر الأوروبي (الأبيض)، وهذا عن طريق العودة إلى التّراث الإفريقي الأصيل، وبذلك تسعى حركة الزّنوجة إلى خلق هويّة سوداء نقيّة من وصمة الاستعمار.

3.1.2. في فكر الأفارقة النّاطقين باللّغة الإنجليزية 

عارض الأفارقة النّاطقين بالإنجليزية فكرة الهويّة النّقية التي تنادي بها حركة الزنوجة، فالهويّة السّوداء النقيّة بالنسبة إليهم نوع من المثالية التّي من الصعب تحقيقها وتجسيدها على أرض الواقع، فهي نظرة متأثرة بالفكر المثالي الأوروبي، ولعلّ أشهر نقد وجه إلى هؤلاء هي العبارة الشهيرة التي نطق بها الكاتب والمفكر ويلي سوينكا(Wole Soyinka)« النمرة ليست بحاجة إلى تأكيد نمورتيها »، وذلك ردًا منه على مبدأ حركة الزنوجة الداعي إلى تأكيد العرق الزنجي كجوهر ثابت وملازم للثّقافة الإفريقية، وهذا ما يؤخذ على الزنوجة في فصلها التعسفي فيما بين الجوهر الداخلي للزنوج والعملية التاريخية التي من المفترض أن تتطور الهويّة في اطارها (طه، 2005، صفحة 103).

كما يوضح الكاتب الكيني نغوغي واثينغوNgugi Wathiong’o) (في كتابه « تصفية استعمار العقل »أن الاستعمار قام باختراق الثّقافة المحلية من خلال السّيطرة على اللّغة، فاستبدال اللّغة الأمّ بلغة أو لغات أجنبية، هو في حقيقة الأمر تضييع لذاكرة الأمة، وتمهيد لانسلاخها عن هويتها ودينها، فهو نوع من التّغريب أو التّغييب الثّقافي للعقل، وهو ما يولد أجيالا غير قادرة على تحديد هويتها، أجيالا مشتتة في انتماءاتها ووعيها، وارتباطها بمقومات هويتها الثقافية. وهذا ما أدركه المستعمر الغربي في إفريقيا، الذّي بدأ من الوهلة الأولى تدميره المنتظم لمعالم الهويّة، فكان تركيزه على المكوّن اللّغوي، الذي يمكن من خلاله تكيّف الهويّة الثّقافية الإفريقية ويطوعها، وفقا للمتطلبات النّموذج الثّقافي الغربي؛ فالسيطرة على ثقافة شعب تتم بالسّيطرة على مرتكزات هوياتهم الذّاتية، والتّي تحدد علاقاتهم بالآخرين.

وعليه يقرر(نغوغي) أنّ العودة للكتابة باللّغة المحلية هي خير معبر عن الهويّة الإافريقية. بذلك يقدم نغوغي دعوة لإعادة اكتشاف اللّغات الإفريقية وادراجها ضمن النّظام التّعليمي، ليكوِّن جيلا جديدا بهويّة ثقافية إفريقية (واثينغو، 2011، صفحة 53).

يبدو جليا من أراء المفكرين الأفارقة أنّهم جعلوا من التّراث الزّنجي وحضارته القديمة، شرطا ضروريا لكي يحقق الزّنجي سلامه الداخلي وتوازنه مع واقع وجوده، فبدونهما يصعب الحديث عن استعادة هويّتهم. هذا ما يوضّح بشكل عام اشتراك الأفارقة في نفس التجربة، وفي وحدة الدافع للبحث عن الهويّة الإفريقية في اطار صلتهم بتراثهم الزّنجي، وبتأكيد خصوصياتهم واختلافهم عن الآخر الغربي.

من هذا المنطلق نصل إلى أنّ الهويّة في الفكر الإفريقي لا يمكن تصورها خارج الإرث الثّقافي الإفريقي، الذي دع فرانز فانون لإحيائه في كتابه « معذبو الأرض »، كنوع المناهضة الاستعمارية؛ حيث يؤكد أنّ الكفاح المنظم الواعي الذّي يخوضه شعب من الشّعوب لاسترداد سيادة الأمّة هو أكمل مظهر ثقافي ممكن.

2.2. الهويّة الإفريقية بين الثّبات والتّغيير 

يرفض بعض مفكري ما بعد الاستعمار فكرة أنّ الهويّة ثابتة ومستقرة، حيث يرى المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد أنّ « هويّة الذّات أو هويّة الآخر أبعد ما تكون عن الثّبات والجمود، بل إنّها جهد وحركة متواصلة تاريخيا واجتماعيا وفكريا وسياسيا، فهي تتّخذ صورة النّزاع الذّي يشترك فيه الأفراد والمؤسسات في جميع المجتمعات » (سعيد، 2005، صفحة 504). يشير ادوارد سعيد هنا أنّ الهويّة ليست ثابتة بل هي نتاج تفاعل بين مجموعات من البشر، وأنّها مركبة من الظروف التّاريخية والبيئية على مدى الزمن، وعلى رأي الباحث ستيوارت هول هي نتاج لعمليات القص والمزج.

في ذات السياق يؤكّد المفكر الهندي هومي بابا أنّ « مسألة تعيين الهويّة ليست أبدا مسألة تأكيد على هويّة متعينة مسبقا، ولا هي نبوءة تحقق ذاتها، إنّها على الدوام انتاج صورة للهويّة، وتغيير للذات باتجاه اتخاذها تلك الصورة » (بابا، 2006، صفحة 104). ويرجع هومي بابا عدم ثبات الهويّة إلى أنّ العالم يتواصل ويتلاقح ويتصارع عبر فضاءات ثقافية « تفسح المجال لبلورة الاستراتيجيات متعلقة بالذات والذاتية – فردية كانت أم جماعية – الأمر الذي يطلق دواليل (جمع الدوال والمدلولات) جديدة للهويّة، ومواضيع جديدة للتعاون، والتّنازع لدى القيام بتحديد وتعريف فكرة المجتمع ذاتها » (بابا، 2006، صفحة 107)، ولذلك يضع هومي بابا فكرة الهجنة والفضاء الثّالث بدلا من الهويّة، للتأكد على عدم استقلالية المستعمَر والمستعمِر عن بعضهما البعض، فالهويّات من كلا الطرفين، ليست مستقرة، بل هي متألمة ومتأزمة، وهذا يوهن ادعاءات كل من المستعمِرين والقوميين بوجود هويّة ثابتة.

لكن في حالة إفريقيا بالذات، نجد أنّ معاقرة التّاريخ والتّراث والنبش في الماضي بحثا عن الهويّة هي السّمة الطاغية على النشاط الفكري الحديث والمعاصر، إذ تم تشخيص هذا الهاجس في المقاربات الفكرية والأدبية، فتميزت كتابات الأفارقة بالمناشدة المستمرة للعودة إلى الأصول الإفريقية لإثبات الهويّة، حيث اهتموا في بدايات كتاباتهم بتوضيح حالة المثقف الإفريقي الذي يبحث عن هويّته بين ثقافتين مختلفتين، منطلقين من تجربتهم الشّخصية التّي وجدوا فيها ضالتهم، للتعبير عن ذلك الصراع النفسي الذّي اصطحبهم خلال رحلتهم في البحث عن هويّتهم المتشظية بين ثقافتين، والتي تمثل في جوهرها أزمة في الهويّة، حيث تعرضت هذه النخبة إلى تنازعات وتناقُضات، تجذبها تارة نحو حضارتها الإفريقية ولغتها المحلية، وتارة نحو الحضارة الأوربية المكتسبة، وهذا ما يسميه المحلل النفسي الأمريكي إريك إريكسون (Erik.H. Erikson) بالهويّة المشتتة الناتجة عن ثنائية اللّغة والثّقافة (E.ERIKSON, 1993, p. 4)، فليست الإزدواجية اللّغوية عبارة عن لغتين فقط، بل هي مجموعتان بشريتان وثقافتان متداخلتان في علاقة صراعية، تحاول كل منها اخضاع الأخرى. أنتجت هذه الإزدواجية فئتين من المتعلمين والمثقفين، ترى الأولى أنّ الارتباط بالموروثات الثّقافية واللّغوية سببا للتخلف، ومن ثمة لا سبيل إلى التّقدم والتّطور سوى النموذج الغربي، في حين ترى الثانية عكس ذلك تماما؛ فهي تتصور النهضة عبر الرجوع إلى التّراث والتّاريخ والموروث الثّقافي.

انعكست هذه الأزمة الموجودة لدى المثقفين الأفارقة في السياسة كما في الأدب، فتمخض عنها الأدب الإفريقي الحديث المكتوب باللّغات الأجنبية، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ ظاهرة الكتابة بلغة الآخر المستعمِر التي عمد إليها الكُتّاب الأفارقة كحتمية تاريخية، كانت أحد أسباب ظهور السّرد الإفريقي باللّغات الأوروبية كالفرنسية والإنجليزية والبرتغالية؛ إذ استخدموها ليفندوا بها تلك الصورة الزائفة التي دأب على رسمها الكتاب الأوروبيين وأتباعهم، تلك الصورة التي تُخرج إفريقيا من التاريخ.

قدم هذا الأدب بأجناسه المختلفة صورة واضحة عن التزام الكُتاب بقضية تأكيد الهويّة الثقافية الإفريقية، عبر محاولتهم ربط مؤلفاتهم بالجذور الحضارية الإفريقية، والاستفادة من تراثها المحلي. فما كان عليهم سوى أن يلتزموا برحلة البحث عن ماضيهم، رحلة العودة إلى الماضي من أجل بناء المستقبل يصارعون في ذلك ثقافتين؛ الأولى: ثقافته الإفريقية التقليدية، والثانية: الغربية الوافدة

كما حاول الأديب الإفريقي في كتاباته أن يوضح الصورة المتأزمة التي يعيشها المثقف، من خلال استثارته موضوع الهويّة الإفريقية الخالصة، والّي تمتاز بخصوصية معينة تختلف عن الهويّة الرّجل الأبيض. كمثال على هذه الأعمال الإبداعية الإفريقية التي كتبت باللّغة الفرنسية يمكن أن نذكر: رواية « باتووالا » للكاتب رينيه ماران، ورواية « الطفل الأسود » للكاتب كامارالاي، وروايتي « حمال الميناء الأسود »، ورواية « نتف خشب الله » للكاتب السينغالي سمبين عثمان. فضلا عن هذه الرّوايات اعتنت الرواية الإفريقية المكتوبة باللّغة الإنجليزية بقضية إثبات الهويّة أيضا، فنذكر رواية « صبي المنجم » للكاتب بيتر أبراهامز من جنوب إفريقيا، ورواية « الأشياء تتدعى » للكاتب النّيجيري تشنوا أتشيبي (نجيريا)، التي نجحت نجاحا منقطع النظير في إبراز الثّقافة الإفريقية.

لعل الملمح المشترك في الرّواية الإفريقية سواء كتبت باللّغة الفرنسية أو الإنجليزية، طرحها أسئلة كبرى تتعلق بالهويّة الإفريقية وكنه وجودها، فهي تسأل عما إن كان الآخر يمثل نموذجا يجب محاكمته، أو رمزا يجب نفيه، أو خيارا يمكن انتقاء بعض رموزه دون بعضها الآخر، والمزاوجة بينها وبين رموز الحضارة الإفريقية القديمة، وعما إذا كان من الممكن محاربة الآخر بأدواته وأسلحته.

خاتمة 

من خلال ما تقدم حول الهويّة الثقافية الإفريقية التي أساسها بحث الفرد لمعنى في علاقته بذاته وبعالمه؛ هذه العلاقة التّي لم تعد تتسم بالثبات خاصة في ظل الثورة المعلوماتية المعاصرة، فهي لم تعد( الهويّة الثقافية) معزولة بشكل من الأشكال بل هي مرتبطة ومتأثرة بمحيطها الذّي يتجاهلها ويوفرلها الظروف لتواجدها في الوقت ذاته، فالهويّة الثّقافية بالنسبة للأفارقة ليست معطى جاهزا يريدون إظهاره بوصفه مظهرا من مظاهر تحررهم الثّقافي من أثار الطمس الذي مارسته الهيمنة الغربية، بل هي واقع عليهم إعادة بنائه في ضوء ثقافة متعددة الميادين قائمة على أسس علمية، دون ما أن يتعارض هذا مع منظومة القيّم والعادات داخل المجتمع الإفريقي، فلا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فالتغيير قد حصل.

المراجع:

Tobnerodil, B. M. (1989). Dictionnaire de la Négritude. Paris : l’Harmattan.

أحمد سيكوتوري. (1986). افريقيا والثورة. مطبوعات وزارة الثقافة والسياحة والارشاد القومي.

ادوارد سعيد. (2005). الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق. (محمد عناني، المترجمون) القاهرة: دار رؤية للنشر والتوزيع.

الناصر أبوكروق. (6 أوت, 2010). التنصير الحديث في أفريقيا وخلفيته التاريخية وبعض وسائله. تاريخ الاسترداد 2022 12, 03، من أخبار الدفاع والتسليح: https://colibris.link/oxBNB/ أمين إسبر. (د ط): إفريقيا: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. دمشق: دار دمشق.

إيناس طه. (2005). الذات والآخر في الرواية الإفريقية. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.

جورج لارين. (2002). الايديولوجيا والهويّة الثقافية، الحداثة وحضور العالم الثالث. القاهرة: مكتبة مدبولي.

جومو كينياتا. (دت). في مواجهة جبل كينيا. (يحي عبد العظيم، المترجمون) مصر.

جيرالد مور. (1977).: سبعة أدباء من افريقيا. (علي شلش، المترجمون) القاهرة: دار الهلال.

غاريث غريفت. (2009).: المنفى المزدوج. الكتابة في افريقيا والهند الغربية بين ثقافتين. (محمد درويش، المترجمون) أبو ظبي: دارالكلمة، دار الثقافة.

فرانز فانون. (2004). بشرة سوداء أقنعة بيضاء. (خليل أحمد، المترجمون) الجزائر: دار الفارابي، بيروت، منشورات انيب ANEP.

فيصل محمد موسى. (1997). موجز تاريخ افريقيا الحديث والمعاصر. منشورات الجامعة المفتوحة.

كويشيرو ماتسورا. (2008). رسالة من السيد كويشيرو ماتسور االمدير العام لليونسكو بمناسبة الاحتفال «بالسنة الدولية للغات ٢٠٠٨»"للغات وزن هام. تاريخ الاسترداد 01 12, 2018، من Unesco: https://colibris.link/XVR p8

محمد عبد الغني سعودي. (1980). قضايا افريقيا. الكويت: عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والادب.

نغوجي واثينغو. (2011). تصفية استعمار العقل. (سعدي يوسف، المترجمون) دمشق: دار التكوين.

هالة صلاح الدين. (06 10, 2013). العرب. تاريخ الاسترداد 17 03, 2014، من كل اللغات...لغة واحدة: https://colibris.link/FgBZs

هومي بابا. (2006). موقع الثقافة. (ثائر ديب، المترجمون) دار البيضاء: المركز الثقافي العربي.

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article