مقدمة
وعى الغرب الأوروبي ثقل الإرث الشرقي الحضاري منذ العصور الصليبية، وأدركوا أهمية كنوزه الثمينة، فخططوا للاستيلاء عليه تحت ذرائع مختلفة؛ ودونت أقلامهم صورا متخيلة عن الشرقيين وجعلتها في قوالب عنصرية جاهزة تمهيدا لاحتلال بلدانهم، بعضها مستمد من حكايات ألف ليلة وليلة، بعد أن ترجمت إلى لغات عدة، وبعضها مستوحى من خيال الغربيين أنفسهم لخلق شرق متخيل قابل للتشكيل وللذوبان. فما السمة الشائعة لدور المرأة الشرقية في الأدب والفن عند الغربيين؟ وكيف كانت صورة المرأة الجزائرية في الفن الفرنسي والأدب الاستعماري بصفة خاصة إبان الاحتلال؟ للإجابة عن هذه الإشكالية يجدر هنا توظيف المنهج الوصفي التحليلي لتبيين صورة المرأة الجزائرية كما تمثلتها السرديات الاستعمارية، بالخصوص كتب الرحالين الفرنسيين الذين سنحت لهم الفرصة لزيارة الجزائر المستعمرة في القرن التاسع عشر.
تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على كتابات الرحالين الفرنسيين في القرن التاسع عشر، إذ كانت بمثابة وسائل دعاية للاستعمار، وهم الذين صوروا المرأة الجزائرية تصويرا نمطيا مغرضا يخدم السياسة الاستعمارية، وذلك بالتركيز على الجانب السلبي المتمثل في وصف شهوانية المرأة الأهلية وتمردها، وهو الموضوع الذي كان يشد المتلقي الغربي إلى الطابع الغرائبي الذي ارتبط سرديا بسكان المستعمرات البعيدة.
1. أسطورة المرأة الشرقية في الوعي الغربي
حوّل علماء الغرب الأنثروبولوجيون والإثنولوجيون الشرق كله إلى جنة عدن وفردوس أرضي ساحر، وصور الكتاب المستشرقون هذا السحر في سياق إغرائي إباحي «بالادعاء بأن الشرق هو مكان الفسق والملذات» (قباني 2009: 20)، ورسمت ريشاتهم صورا نمطية التصقت بالمرأة الشرقية، باعتبارها تمثل الشرق المغلوب على أمره، والذي يرمز للأنثى الضعيفة أحسن تمثيل أمام فحولة الغرب المهيمِن.
في بادئ الأمر تشكلت صورة المرأة الشرقية في الأدب الكلاسيكي في القرن السابع عشر، في قصص العشاق ونصوص المسرح الفرنسي، حيث استلهم الكلاسيكيون الفرنسيون موضوعاتهم حول الشرق وفق النظرة الغربية، وركزوا على رسم المرأة الشرقية النموذج، والمستمدة من التاريخ والسرد القديمين، ومن أسماء النساء المشهورات اللاتي اتخذوها أسطورة لأنثى الحرم والحكم والسلطان، ورمزا للجمال والأناقة، وأميرة الغواية والفتنة، وأيقونة للحب والعشق وربما للموت أيضا، فهي الملاك والشيطان، والملكة والحبيبة والجارية اللعوب، سالومي اليهودية، وبلقيس ملكة سبأ العربية، وكليوباترا المصرية، وشهرزاد الفارسية. وقد تجلت صورة المرأة الشرقية اللعوب المستلهمة من تاريخ الشرقيين في مسرحية « باجزات » أو بايزيد لجان راسين، وفي قصة « زاديغ » أو صادق لفولتير متأثرا بحكايات الليالي العربية.
«أمّا غالان، فقد أحاط فضلا عن شهرزاد، كلّ النّساء في اللّيالي بحجاب سريّ، وأضفى عليهنّ صفات كمال لا تشوبه شائبة، وكأنّه أراد أن يجعل من شهرزاد نموذجا للمرأة الشّرقيّة المبهرة، وتثبيت تلك الصّورة في مخيال القارئ الفرنسيّ». (حميدة 2019)
2. رحلة المثقفين الغربيين إلى الشرق
كانت رحلات الكتاب والرسامين الغربيين إلى الشرق موضة في أوروبا القرن التاسع عشر، فاستغل الفن الاستشراقي جسد المرأة وتيمة العري لأغراض متعددة سياسية وفنية وتجارية،
«وامتلأت الصالونات الغربية بلوحات العري التي تصف مفاتن المرأة العربية المسلمة وتحايل الرسّامون في الحصول على هذه المشاهد، ونذكر من بينها سلسلة الأعمال التي أنجزها « هونريماتيس » رائد المدرسة الوحشية، والتي تحمل كلّها عنوان « المومس »، وكذا لوحة « جورج أونتوان » الموسومة « بالعاهرة » ولوحة « أوندريفيجيراس » التي تمثّل مجموعة من النساء العاريات وما إلى ذلك. ورسم المستشرقون المرأة العربية داخل الحمّام وهناك من رسمها تستجم في الواحات على ضفاف الوديان أو تحت الشلالات مع أنّها لا تفعل ذلك إطلاقا في الواقع» (نادية قجال 2012).
رحل الأدباء ونفوسهم متشبعة بأحلام رومانسية، وقلوبهم مفعمة بالأحاسيس الرقيقة والعواطف المتدفقة، تحدوهم رغبة مسعورة، وإرادة شديدة الإصرار لاختراق أسوار القلاع الشرقية المجهولة، يبحثون بشغف عما قرؤوه في كتابات المستشرقين الأوائل عن سحر المرأة الشرقية، وشبقية المرأة الغرائبية، وعن الفضاء الشرقي وعجائب أمصاره. مل الفرنسيون جو السأم والسوداوية الذي ساد بلادهم إثر انهزام نابليون بونابرت وانهيار مجده العسكري العظيم. شعر الناس بالكآبة واستبد بالنفوس اليأس، لاسيما الأدباء والشعراء، فأطلقوا على تلك الحالة النفسية المضطربة «مرض العصر». فروا إلى الجزائر بعد احتلالها ليكتشفوا حياة أخرى، تُنسيهم مرارة الأحداث الصعبة وضيق أعباء العيش، وتخفف عنهم وطأة سوء الأحوال الاجتماعية والاقتصادية التي أثقلت كاهلهم. «فوجدوا في هذا البلد الدافئ المشمس المكان الأمثل والآمن بالضبط لإشباع حبهم للاستكشاف. وعبروا بكل حرية عما كان يختلج في صدورهم» (مساعدي 2012: 28).
1.2. المرأة الجزائرية واللون المحلي
زار الأدباء الفرنسيون الجزائر، وجميعهم ينشد ملامح اللون المحلي الذي طالما تغنت به كتبهم الرومانسية فغذت فيهم رغبة جامحة لاكتشافه في هذه البلاد المختلفة والمجهولة، وحاولوا أن يصوروا الجوانب العجيبة واللامعقولة في ثقافة الآخر، فحولوا المظاهر غير المألوف مألوفة أو العكس حسب العادات والعقائد التي نشأوا عليها. ومن المسائل التي أثاروها قضية المرأة الأهلية الخافية على الأنظار، فأطلقوا الشبهات حول الحجاب والميراث وتعدد الزوجات والتعليم، واتخذت في الأدب طابعا غرائبيا في تصوير الشرق المتخيل، واستخدمها بعضهم ثقافيا وسياسيا حجة للتهجم على الإسلام كدين تعصب مهدت لعملية التنصير، وأداة للسخرية من ثقافة الشرقيين لتحطيم التقاليد وتحرير المرأة من اضطهاد الرجل وأسر العادات البالية، ووسيلة استعمارية للسيطرة على الشرق. إذ
«تُشير الكاتبة والباحثة الكندية كاثرين بولوك في أطروحتها البحثية التي حملت عنوان «سياسة الحجاب» ونالت على أثرها درجة الدكتوراه في جامعة تورنتو ثم تحولت إلى كتاب «نظرة الغرب إلى الحجاب»، إلى أن موضوع الحجاب اتخذ بُعدا سياسيّا جديدا في القرن التاسع عشر حين جعل منه الغرب مسوغا ومبررا لغزو الشرق واستعماره». (خليفة 2020)
اهتم هؤلاء الكتاب بشخصية المرأة الجزائرية الأهلية بصفة خاصة، كونها الركيزة الأساس في المحافظة على المخزون الثقافي في المجتمع الشرقي، يبحثون عن الجوانب الغريبة في حياتها والعجيبة في شخصيتها. فكيف كان موقفهم من المرأة الجزائرية بالذات؟ وما الصورة العامة التي ظهرت عليها في كتاباتهم الرحلية خلال القرن التاسع عشر؟
ظلت المرأة في المجتمع الجزائري قبل الاستعمار كالدر المكنون، محجوبة عن عيون الغرباء، بعيدة عن أنظار الدخلاء، لا يراها سوى النساء أمثالها، ومن الرجال أقرب أقربائها، صونا لكرامتها وعرضها، وحفاظا على شرف عائلتها. وحسب المعتقدات آنذاك كانت لا تخرج إلا محتجبة يغطي خمارها رأسها وكتفيها، ويستر لحافها كامل جسدها، حتى لا تترصدها نظرات الزائغين ولا يصيبها أذى القاذفين. فقد وكل إليها المجتمع مهمة المحافظة على التقاليد والعادات وتربية النشء وتلقينهم اللغة والدين والثقافة، فلا يحق لها أن تعرض سمعتها للشبهات، فهي رمز حامل وحافظ لنظم المجتمع وقيمه السامية.
ونظرا لوضعية التنشئة المحافظة والتربية التي كانت قد تعودت عليها المرأة الجزائرية، والبيئة المغلقة التي عاشت فيها، انبرى الأدباء الفرنسيون للكتابة عنها يزعمون الدفاع عن حريتها المغتصبة، وتحليل مختلف أبعاد حياتها النفسية والاجتماعية، والتعبير عن طريقة عيشها، ووصف جمالها وحركات جسدها وأناقتها، وفق ما يمليه عليهم ضميرهم ويرضي هواهم، بصرف النظر عن مدى مطابقته لواقعها، فتراوحت نظراتهم السلبية بين التهكم والسخرية بحجة تهتكها لإسقاط الحياء والحشمة عن أخلاقها، والعطف والشفقة كونها ضحية مجتمع بدائي ومتخلف.
كانوا يحلمون، سيرا على منوال سردية ألف ليلة وليلة الساحرة، برؤية كائنات أنثوية فاتنة في أركان شوارع المدن الضيقة، أو مصادفة أجساد ساحرة في زوايا الدساكر والقرى الفسيحة، وبين نخيل الصحاري الشاسعة. فسجلوا ذكريات رحلاتهم، وخواطر أسفارهم، وانطباعاتهم، مستعنين بأعمال أنتروبولوجية وإثنوغرافية سابقة، ونصوص عربية قديمة لاختزال شخصية المرأة المهزومة في الجنس والشبق بالتركيز على إباحية الأنثى الشرقية، ومشاهد العري، والرقص المثير للشهوة البهيمية، من أجل الترويج للسياحة الاستعمارية وللاستيطان.
فكيف كان حضور المرأة الجزائرية الأهلية في أعمال هؤلاء الرحالة الفرنسيين غداة الاحتلال إلى نهاية القرن التاسع عشر؟
2.2. حضور المرأة في الاستشراق الفرنسي
اهتم الكتاب الرحالون الفرنسيون الذين جاؤوا إلى الجزائر بعد الغزو العسكري بتمثيل المرأة الجزائرية اهتماما بالغا فنعتوها بالأهلية، وانكبوا على تصوير مختلف حالاتها الاجتماعية طفلة، وزوجة ومطلقة وأرملة، وركزوا على وصف العادات والتقاليد المسؤولة عن حرمانها من التمتع بالحياة، واتهام الدين الإسلامي باعتباره سببا في جهلها وتخلفها لتبرير الفعل الاستعماري. لذا تهدف هذه الدراسة إلى استجلاء تمثلات المرأة الجزائرية التي دفعتها الظروف القاسية والنظام الأبوي إلى الخروج عن الطاعة إلى المعصية.
لقد كان حضورها في البداية من بوابة الفن الاستشراقي الرومانسي، وكان دولاكروا سباقا إلى فتح بابه بإنجاز أشهر لوحة فنية عن المرأة الجزائرية نالت شهرة عالمية «نساء الجزائر في جناحهن1834 Femmes d’ Alger dans leur appartement، ثم انفتح الباب على مصراعيه لما تـأثر به وحاكى إنجازه كوكبة من الفنانين الفرنسيين، فوفد بعضهم إلى الجزائر، بحثا عن الشهرة الفنية والسياسية، من خلال تصوير مشاهد الحرم ومفاتن الحريم المجسدة لمظاهر سحر الشرق الغرائبي.
ولقد كان للمرأة الجزائرية حضور قوي جدا في الكتابات التي ألفها أولئك الأدباء الفرنسيون الذين زاروا الجزائر، ولم يلبثوا فيها إلا قليلا، لاسيما في الفترة الاستعمارية الأولى الممتدة بين عامي 1830م و1900م. جاؤوا لأسباب سياسية أكثر منها ذاتية، حيث سافر بعضهم على متن بواخر عسكرية، أو لأسباب ذاتية لا صلة لها بالسياسة، لكن كانوا تحت حماية ضباط عسكريين في مختلف جولاتهم وتنقلاتهم. وبوعي أو دون وعي، تلونت مؤلفاتهم بنزعة إيديولوجية استعمارية، انبنت على مفهوم الآخر والمغايرة؛ واستهدفت عناصر الهوية الجزائرية، كالتهجم على الدين واللغة، والتهكم على العادات والتقاليد، واحتقار سلوك الأهالي واستصغار إرثهم الحضاري.
1.2.2. تمثيلات المرأة الغرائبية: التمرد على الأعراف
أما الأدب المستوحى من تلك الرحلات الكثيرة والمكثفة، فكانت الانطلاقة الأولى مع الروائي تيوفيل غوتييه Théophile Gautier الذي زار العديد من المدن الجزائرية وأقام بمدينتي قسنطينة والبليدة، حيث سجل انطباعاته عن العادات الغريبة والتقاليد العجيبة، واستلهم قصصا متخيلة نذكر منها على سبيل المثال « رقصة الجن» (Gautier 1999 : 91) التي تناول فيها تصوير رقص شهواني لفتيات شابات من قسنطينة من أجل طرد الجن، و« وصف حكاية شبيهة بحكايات ألف ليلة وليلة كان هو بطلها مع راقصتين » (أحمد منور 2013 : 14،13)، ذهب معهما إلى غرفتهما ليمضي ليلته حالما بمغامرة لا تنسى.
في أجواء غير مألوفة، تجسدت في صور رومانسية وشهوانية وغرائبية في الوقت ذاته، ينقل السارد مشاهد إغرائية من مخدع الفتاتين الراقصتين عائشة وأختها، مركزا على وصف بساطة الأثاث الشرقي، مضيفا إلى هذه الصور النمطية أسماء من القاموس الأسطوري الإغريقوروماني : باخوس، وبسيشي، والمينادي، والميدوزات. وأسماء لمشاهير الفن التشكيلي الاستشراقي الغربي: روبير وغويا وفيرني ورامبرانت، لتسويق فكرة الشرق الأسطوري المليء بالأسرار الغريبة من خلال تقديم نموذج المرأة الأهلية المتمردة.
يتحدث ألكسندر دوما Alexandre Dumas في مذكراته Le Véloce عن الأسباب التي تدفع المرأة إلى التمرد والانحراف والسقوط في مستنقع الرذيلة، فينتقد نظرة الإسلام إليها بسبب فرض الحجاب وإقرار التعدد، ويشير إلى وضعيتها الاجتماعية المهينة المتمثلة في سوء معاملة الرجل لها عبر تهميشها واستعبادها. ومن الأمثلة التي ساقها حول سقوط المرأة أخلاقيا في المجتمع الجزائري ما يعرف عند الناس بغجر بني عداس، حيث «تشتهر نساء قبيلة «بني عداس» بالخروج عن الأخلاق المتعارف عليها، والمرأة فيها، غالبا، غير فاضلة. تحترف الشعوذة والبغاء، ويرتدين لباسا خاصا، ويتمتعن بحرية كبيرة...» (395 :2006 Duumas) ، غير أنهن، في غالب الأحيان، يتعرضن نتيجة هذا التمرد لمصير مأسوي، ويلقون سوء الخاتمة، عقابا لهن على الانحراف والجرأة الشديدة على مخالفة الأعراف. وقد حظي الكاتب والوفد المرافق له بمشاهدة حفلة لشابات موريسكيات تتراوح أعمارهن بين أربعة عشر وخمسة وعشرين عاما، قدم في عنوان (جولة وحفلة) وصفا تفصيليا دقيقا للزي الذي ارتدينه لهذا الشأن. (10 :2006 Dumas)
بعد غوتييه قدّم أوجين فرومنتان E.Fromentinنموذجا للمرأة الأهلية المتحررة والمتمردة في عمليه « عام في الساحل1856 » و« صيف في الصحراء1858 »، ففي العمل الأول وصف مشاهد المرأة الحضرية التي تعيش وحيدة تفعل ما تشاء، حيث تستقبل الرجال الأجانب والضباط الفرنسيين في بيتها دون أي ضوابط أو قيود اجتماعية، ساردا قصة متخيلة بطلتها امرأة راقصة تمردت على المجتمع، فانتقم منها طليقها الذي تركته من أجل الركض وراء نزواتها. قصة شبيهة بحكايا الليالي العربية، حدثت له مع امرأة موريسكية متحررة، رآها أول مرة بقصبة الجزائر في دكان تاجر عربي، وغابت عن ناظره مدة من الزمن ثم التقاها بالبليدة. تعرف عليها، ثم انتهت المغامرة بمقتلها بسبب تمردها على الأعراف. تظهر «حواء» امرأة تعيش خلاف ما يعرف عن عفة وحشمة المرأة العربية آنذاك، وهي نموذج للمرأة الجزائرية المتمردة. (226 :1987 Fromentin) أشار الكاتب في العمل الثاني إلى قابلية المرأة العربية في المدن كما في الصحراء لممارسة الفسق والفجور بسبب وضعها المهين تحت النظام الأبوي، والتمرد أحيانا على عادات المجتمع وتقاليده الصارمة نتيجة الهيمنة الذكورية حسب تعبير بورديو. فتيات صحراويات ذات أعراف سهلة يبحثن عن الثروة في القرى المجاورة عن طريق الرقص في المقاهي. (20 :1887 Fromentin) فقد استغل الكاتب القوالب الجاهزة ليتحدث عن استهزاء المرأة بالحجاب في المناطق المحافظة، ويبين طريقتهن المثيرة للشهوة في لبس الحايك الذي كان من المفروض يحجب المفاتن. (97-98 :1987 Fromentin)
رسم الأخوان إدمون وجول دو غونكور de Goncourt في مذكراتهما الثنائية المنشورة عام1886، وتحت عنوانAlger, notes au crayon، عالم المرأة الأهلية في مدينة الجزائر، وركزا على تجسيد مظاهر الإثارة والإغراء في اللباس والرقص الدالة على تمردها على الأعراف التي يريانها متزمتة، فصورا مشهد النساء بالزي التقليدي الفاخر والأنيق، والمثير بشفافيته. أما رقصهن فهمجي يثير الأعصاب لابتذاله، تحت تأثير ألوان من المخدرات الشائعة في الشرق مثل الكيف والأفيون والقنب والمعجون والحشيش. تلجأ هؤلاء النسوة إلى تعاطي التدخين لنسيان الهموم والهروب من الواقع البائس المفروض عليهن، وطلبا للنشوة والمتعة، يتخلل كلامهن عبارات جريئة وبذيئة، توحي بالرفاهية التي أفضت إلى التميز بأخلاقهن المائعة، «ترقص فاطمة بمنديلين، تجمع رجليها، تتهادى في التواءات غاضبة، المنديلان يطيران، تقلب رأسها إلى الوراء، والجسد بدأ يفقد أعصابه». ويتحول كلامهن بالنسبة للكاتبين إلى خليط لساني غريب وغير مفهوم. (Goncourt 1886 : 272).
وصور ألفونس دودي Daudet Alphonse نموذجا للمرأة الشرقية الماكرة واللعوب في رواية مغامرات تارتاران دو تاراسكون. حيث استطاعت امرأة جزائرية في مدينة الجزائر أن تغري البطل تارتاران الحالم بالشرق السعيد، وتَصرِفه عن حلمه الكبير في خوض مغامرة صيد الأسود في الغابات، فيعيش معها مغامرة أخرى من مغامرات الليالي الشرقية الساحرة في أحد بيوت القصبة العربية المؤثثة على غرار ألف ليلة وليلة، ولسوء حظه يكتشف مكرها بعد أن استنفدت كل أمواله (Daudet Avril 2005) .
قدم بيير لوتي Pierre Loti صورة نمطية للمرأة الأهلية غير الفاضلة في قصتين قصيرتين عام 1882. الأولى عنوانها سيدات القصبة الثلاثLes trois dames de la Kasbah، في قصة «سيدات القصبة الثلاث» هذه، يسرد معاناة أم وابنتيها بعد مقتل زوجها في إحدى المقاومات التي شنها سكان العاصمة ضد الغزو الفرنسي للجزائر، فلم يجدن وسيلة للاسترزاق سوى تجارة الجسد كون المرأة لا تمارس نشاطا ربحيا خارج البيت يكفيها شر الفقر. (1884 Loti). وفي «سليمى» يروي قصة فتاة فقيرة تبيع جسدها بإذن عائلتها كي تشتري حليا وثيابا لتتزوج في الصحراء عند أهلها وفي قبيلتها. (Loti 2016 : 245-248)
في مذكراته الموسومة ب «في الشمس Au Soleil 1884» يصف رائد الواقعية غي دو موباسان Maupassant Guy de فتيات الشوارع، اللاتي كن يصطففن في الطرقات العامة، ويثرن الانتباه بزيهن وزينتهن ووجوهن الموشومة، وطريقة تصفيف شعورهن العجيبة. فهؤلاء الفتيات المنحرفات(النايليات)، يمارسن البغاء منذ القديم باعتبارها عادة اجتماعية متأصلة، يجمعن المال لتغطية تكاليف جهاز العروس، ثم يعدن إلى قبيلتهن للزواج (Maupassant 1925). وفي عمل آخر الحياة الشاردة La vie errante يصف حرية الأخلاق كأحد عوامل ازدهار ظاهرة الدعارة في المجتمع الجزائري بقوله: «إن حرية الأخلاق، وازدهار، على قارعة الطريق، دعارة لا حصر لها، ومرحة، وجريئة بشكل ساذج، تكشف فورًا الفرق العميق بين الحياء الأوروبي والجنون الشرقي» (Maupassant 1890 :155). وهناك من يذهبن إلى المسجد لا للصلاة ولكن للقاء الحبيب: «...غالبًا ما يأتي عشاق لرؤيتهن في هذا المكان لمواعدتهن، ليقولوا لهن بضع كلمات في السر» (Maupassant 1890 :161) .
يصف موباسان انتشار ظاهرة الدعارة في الجنوب المحافظ، ويجسدها في قصة قصيرة «حلومةAllouma »، وهي فتاة صحراوية من أولاد سيدي الشيخ، تتبدى في هيئة استخفافية بالتقاليد تشي بالتمرد، تعيش حياة الرذيلة مع مستوطن فرنسي يملك مساحة واسعة من الأراضي الخصبة في السهول (أحمد منور 2012 : 91). أما المرأة المحجبة فتبدو في مذكراته «في الشمس» تغطي الوجه حسب العادات والتقاليد، بينما تعرض جسدها سافرا لإشباع نزواتها الشبقية وغرورها المرضي.
وتتجلى صورة المرأة البغي عند أندري جيد A. Gide في كتاباته السير ذاتية مثل الأغذية الأرضية Les Nourritures Terrestres، وعديم الأخلاق L’immoraliste التي تحدثت عن المناطق التي زارها في الجزائر باعتبارها تشتهر بالدعارة أكثر من غيرها، فذكر قسنطينة وبسكرة ومدينة الجزائر. يسرد في «الأغذية الأرضية» مغامراته مع نساء عربيات فقيرات، يجتزن السطوح للقاء به، أو يقبعن أمام أبواب بيتهن في انتظاره مع زبائن آخرين، أو يسهر معهن في المقاهي العربية التي تعرض حفلات ماجنة (Gide 2007: 113-114) .
يكرر جيد في قصة رحلية «أمينتاس» Amyntas، كالمعتاد وبشكل رتيب، وصف فضاء الراقصات المشبوه، ويسرد مغامراته معهن بنفس الأسلوب التهكمي الذي عهدناه في العملين السابقين. واصفا ما وقع عليه ناظره من مظاهر غرائبية، يصف هذه المظاهر في مدينة القنطرة ببسكرة :
« في القنطرة نساء يرقصن، طويلات القامة، غريبات أكثر منهن جميلات، متزينات بشكل مفرط. يتحركن ببطء. الشهوة التي يبعنها خطيرة، وقوية وسرية مثل الموت. يصادفهن أمام المقهى أو فيه، وهو فضاء رجاليّ بامتياز، وفي ساحة مشتركة مفعمة بضياء القمر أو الليل، كل واحدة منهن بابها نصف مغلقة.» (Gide .2008 :7-8)
تنتظر الزبائن. وفي البليدة يكرر التعبير نفسه ممزوجا بنبرة احتقار «في شارع النايليات، كل امرأة أمام بابها كأنها أمام البيت تضحك عارضة نفسها للمارة» (Gide 2008 :82)، وهو يحلو له أن يمر على شارعهن فلا بد أنه ينتظر بحماس من عارضة عليه نفسها بمقابل زهيد.
إن نساء أولاد نايل في هذه القصص التي كتبت في هذه الفترة التي شهدت تأثر الأدباء بإيديولوجيا الاستشراق والاستعمار، ظهرت بصورة نمطية وتشويه مقصود، إنهن بغايا الصحراء، وقد اشتهرن بهذه المهنة في شتى ربوع الجزائر، احترفنها بعلم أهاليهن، فتيات من مختلف الأعمار في شوارع المدن الكبرى وفي المقاهي العربية، وما يصاحب هذه الأماكن من ابتذال وامتهان لكرامة المرأة، فلا ريب أن المقاهي موضع شبهة، يرتادها من كل النواحي رجال بلا أخلاق يبحثون عن المتعة، ويركضون وراء الشهوات والنزوات.
تعد رحلة جِيدْ إلى الجزائر تجربة ذاتية للبحث عن الشهوات والملذات، التي دعا إليها بحرارة وشغف استشراقي، فوجدها في ربوعها كما توهم وادعى، وبين بساطة أهلها وسماحة أخلاقهم، كما لم يجدها في أي مكان آخر، لكنه أبى إلا أن يصور المظاهر السلبية كما رأتها عينه الغربية المتحيزة، وأرادتها توجهات فرنسا الإيديولوجية في توصيف علاقة الغرب القوي بالشرق الضعيف، ليصدر أحكاما جائرة على المرأة الجزائرية.
2.2.2. إبرهارد وقصص المرأة البغي
كتبت إيزابيل إبرهارد Eberhardt Isabelle خلال إقامتها الطويلة بالجزائر كثيرا عن قضايا المرأة الجزائرية في مناطق شتى انتقلت إليها، وانتقدت أوضاعها الاجتماعية السيئة في ظل الاستعمار، مستمدة مواضيعها من البيئة المحلية والواقع المعيش المتردي الذي عاينته بنفسها، وحاولت رسم تفاصيله الجزئية التي لا يستطيع الكاتب الأجنبي رؤيته ووصفه. ركزت في معظم أعمالها حول المرأة على قضية «البغاء» التي عرفت انتشارا في مناطق الهضاب العليا والسهبية والصحراء، وامتدت إلى الساحل، وبينت أسباب نشوئها وانعكاساتها السلبية على نفسية المرأة المضطهدة في المجتمع الذكوري، والتي اضطرتها الظروف القاهرة أحيانا إلى ممارسة الدعارة، أو الراغبة في التحرر من القيود الاجتماعية في مجتمع محافظ لا يرحم ضعف المنحرفين.
تطرقت إلى ذكر أحوال المجتمع الصعبة وأثرها في انحراف المرأة الأهلية وفسادها، مؤْثِرة استخدام القالب القصصي المشوق المعتمد على السرد والوصف، في تشريح وضعيات مختلفة عاشتها المرأة البغي في أقاصيص قصيرة وردت في مجموعة «صفحات إسلامية» Pages d’Islam، منها عاشوراء في (صورة أولاد نايل) « مثل الآخرين، شربت الأفسنتين وأمضت ساعات طويلة جالسة على عتبة بابها، والسجائر في فمها، ويدها مشدودة على ركبتها المرتفعة »(Eberhardt 1932 : 93).والمرأتان العجوزان في (بكاء اللوز1903)، و(الخطيبة 1903)، ومريمة (مريم)(Eberhardt 1932).
وفي المجموعة القصصية «في بلاد الرمال» Au pays des sables ترتسم ملامح سيكولوجية لفتيات ساذجات مغرر بهن، أبرزَها أنين الخوف من المستقبل الذي يغشاه الضباب، ووجع الندم على الماضي، ووسوسة القلق على مصيرهن المجهول بسبب الحب الآثم الذي أوقعن فيه البطل الأوروبي الوسيم، وهنّ كثيرات مباركة في قصص (الرائد) وسعدية في (الفوضوي) وتتاني في الروسي (Eberhardt 2012).
3.2. المرأة الأهلية والسرد الإيديولوجي
إن الأعمال المدروسة معظمها سار على نسق إيديولوجي مغرض، موجه للقارئ الغربي (المتلقي الضمني) لشحن فكره بأطروحات موافقة للخطاب الاستشراقي الاستعماري، فجاءت عباراتها منقولة أحيانا كثيرة، وأحداثها مكرورة بعيدة عن المعاينة، تتكرر بعض التفاصيل بطريقة فجة لا جديد فيها، وتردد الصيغ النمطية المبتذلة التي اعتادت عليها كتب الاستشراق. لقد وقعت في مغالطات جمة، لأنها قامت على إيديولوجية استعمارية معادية للآخر، مضخمة للأنا الغربية المتعالية، تكشّفت عن فوبيا مهيمنة على مؤلفيها الذين أظهروا نزعة أبيقورية سادية نحو المرأة الأهلية، أجّجها ميل غير عادي إلى الأفق الشرقي الشبقي.
لقد سُلط الضوء في هذه النصوص السردية على صورة المرأة الأهلية «البغي»، كموضوع مرغوب فيه بدرجة أولى وكائن مفعول به، تماشيا مع الإيديولوجية الاستشراقية التي جعلت المرأة سببا جوهريا في تخلف المجتمع الإسلامي، رغم أن مسألة البغاء استثناء وليس قاعدة، وتصوير العلاقات المحرمة بمختلف حالاتها بين الرجل الجزائري والمرأة من الأهالي، أو المرأة الجزائرية الأهلية والرجل الغربي، لفضحها وإبعاد الرؤية المثالية التي تربعت على عرشها المرأة الشرقية منذ قرون خلت. ولم تهتم بها كذات إنسانية لها كرامتها، وإنما ركزت على وصفها وصفا حسيا وشهوانيا بتوظيف عناصر العجائبية، اقتصر على المبالغة في سرد حركاتها الإغرائية والإيحاءات الجنسية، وتصرفات شبيهة بغرائز الحيوان دون النفاذ إلى تحليل شخصيتها الإيجابية، فتعاملت معها موضوعا عجائبيا وشيئا غرائبيا ليس إلا. تشيؤ أسقط تلك اليوتوبيا الشرقية التي صنعتها المخيلة الرومانسية عن شخصية المرأة الشرقية قبل القرن الثامن عشر.
خاتمة
وبعد فحص النصوص الرحلية موضوع الدراسة يمكن تلخيص نظرة الكتاب الفرنسيين أو كتاب العبور عموما إلى المرأة الأهلية المتمردة والمنحطة، في هذه الحقبة التي آلت فيها زمام الأمور إلى الأجنبي المستعمِر في زاويتين متناقضتين هما؛ كونها ضحية المجتمع الذكوري الأبوي المتسلط والعادات البالية من جهة، أو أنها عاهرة بطبيعتها وأصولها الشرقية، عديمة الأخلاق ذات غريزة شبقية وحيوانية، لا تستطيع السيطرة على نفسها. والأهم من كل ذلك أنهم ضربوا صفحا عن العامل السياسي المباشر، ألا وهو وجود الاستعمار الفرنسي الذي كان وراء هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة والغريبة عن المجتمع الجزائر ي بذلك الشكل الفاضح، فهو الذي شجع الرذيلة حتى تختل القيم في المجتمع، وتختلط الأنساب، وتنمحي الهوية الجزائرية إلى الأبد، وتستأصل من الجذور.