مقدمة
يبدو الزمان على تعدد لحظاته(الآن والما قبل والما بعد) للفيلسوف بشكل خاص معلما لتحديد لحظات تمفصل الفكر الإنساني أو لحظات تراكمه، قطيعته أو تواصله، فبعد أن استغرق الفكر الفلسفي لردح من الزمن تفكر موضوعاته وفقا لمقولة الما قبل( ما قبل التاريخ، ما قبل الإنسان، ما قبل العقل، ما قبل الحداثة، ما قبل العلم، ما قبل الدولة، ما قبل الجغرافيا) وغيرها من الما قبليات، أتى عليه حين من الدهر أن تفكر في موضوعاته وقضاياه على نحو مأساوي وفقا لمقولة النهايات (نهاية التاريخ، نهاية الفلسفة، نهاية الإنسان...إلخ)، لكن ما لبث أن تداعى الفلاسفة المعاصرين والمفكرين والعلماء، ممن لهم اهتمام بالدراسات المستقبلية، الاستشرافية بالدعوة إلى نشأة مستأنفة، أو لنقل انبعاث جديد لما تم الاعلان عن وفاته؛ والحال هكذا تكون الفلسفة أشبه ما تكون بطائر العنقاء الذي ينبعث من رماده.
ها هو الفيلسوف المعاصر يجترح اليوم مقولات جديدة للتعبير عن لحظات مفصلية وفارقة، أهم ما يميزها الحديث عن الاحراجات والمآزق التي صار إليها العقل الغربي في العصر المعاصر من جهة، وما يأمل أن يصير إليه حال الإنسان والإنسانية في ظل التكنولوجيا الفائقة والذكاء الاصطناعي. هذه المقولة ستتفتح عصرا جديدا، هو عصر ما بعد النهايات، أي عصر الما بعديات. ومن ضمن الما بعديات التي وقع الجدال حوالها، ويتم في الوقت الراهن صياغة فصولها ومحاورها « ما بعد الإنسان » أو في صيغة أخرى « ما بعد الإنسانية »، كمقابل أو نقيض أو حتى نشأة مستأنفة لسردية أخرى هي مرحلة الانسان العاقل.
إن تباشير أو نذر، هذه المرحلة ذات الوقع المتزايد والمتسارع بدأت تلوح في الأفق، بفعل التقدم العلمي والتكنولوجي المتسارع، الذي أصبح يثير أكثر من أي وقت مضى، مزيدا من القلق لدى عدد كبير من العلماء ورجال الدين والفلاسفة حول مستقبل الإنسان ومدى تأثر العلاقات الإنسانية بنتائج البحوث الكثيرة والمتنوعة، التي تمس من دون شك حياة الفرد والمجتمع بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
وما يعزز هذا الأمر أن طبيعة البحث العلمي في عصرنا هذا طرأ عليها من التعقيد ما يجعل العَالم مضطرا إلى الإذعان لسلطة أقوى منه، فالعَالم أصبح مجرد ترس في آلة ضخمة هي الدولة أو الشركات الاقتصادية الخاصة، وهكذا أصبحت الاعتبارات السياسية أو الاقتصادية هي الَّتي تتحكم في عمله العلمي، وهي الَّتي ترسم له الخطة، وتحدد له اتجاهات بحثه، وتتخذ القرار النهائي بشأن التَّصرف فيه.
ونتيجة هذا المآل، يشعر كثير من المفكرين والعلماء في حقل العلوم الإنسانية في الغرب بالقلق إزاء الوضع الحالي للعلوم الإنسانية ومدى قدرتها على الصمود في المستقبل أمام التقدم العلمي الجارف الذي يبدو أنه لن يتوقف عند أي حدود، وتوجه الدول نحو الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة، والانصراف بشكل واضح عن الاهتمام بالدراسات الإنسانية والنأي بها عن موضوعات وأزمات تنتج عن الافراط في استخدام التقنية، أبرزها أزمة القيم؛ القيم الأخلاقية والقيم التربوية، القيم الاجتماعية، القيم الجمالية( الجمال في معناه الكلاسيكي؛ الجمال المعطى والطبيعي، وليس الجمال المصنع والمصطنع)، وغيرها من القيم التي تعتبر الركيزة الصلبة التي يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني، وهوية النوع الإنساني.
ويهدف المقال الموسوم بـــ «ما بعد الإنسانية وأزمة القيم في العلوم الإنسانية» البحث في مفهوم جديد، بدأ يفرض نفسه بوصفه عنوان لمرحلة قادمة ــــ قد لن نكون فيها بحاجة إلى العلوم الإنسانية ــ هي مر حلة ما بعد الإنسان، الفاعل الرئيس فيها ــ فيما يعتقد منظروها ـــ نوع آخر من الإنسان، هو من ابداع وخلق الإنسان في حد ذاته.
وسيتم تناول هذا الموضوع من خلال ثلاثة محاور رئيسة، يتعلق المحور الأول، بتحديد مفهوم مصطلح «ما بعد الإنسانية»، وبيان نشأته وأصوله، أما المحور الثاني فسيخصص إلى تحليل فكرة الانتقال من مركزية الإنسان إلى مركزية ما بات يصطلح عليه السيبورغ. وفي المحور الثالث والأخير سنعرج بعض الأزمات والمشكلات القيمية والأخلاقية المترتبة عن مرحلة ما بعد الإنسان، من خلال التطرق إلى آراء بعض المختصين في العلوم الإنسانية والفلسفة ومن بينهم ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ فرنسيس فوكوياما ويورغن هابرماس.
1. مرحلة ما بعد الإنسانية المفهوم والنشأة
من الصعوبة بمكان تقديم تعريف محدد لمصطلح «ما بعد الإنسانية»، يعود ذلك إلى حداثة تشكل هذا المصطلح وراهينيته، وكونه عابرا لجميع التخصصات، كالأدب، النقد الأدبي، النقد البيئي البيوـــ تكنولوجيا، السينما، الفلسفة التطبيقية، السياسة، والاقتصاد وغيرها من المجالات العلمية والمعرفية الأخرى. ومكمن الصعوبة يظهر أيضا، في التداخل الحاصل بين مصطلحات تقع منهجيا في حقل «ما بعد الإنسانية» أو «ما بعد البشرية» أو «الإنسانية البعدية» من قبيل Post Humanism ـــ Meta Humanism ـــTrans Humanism. وبالرغم من تعدد المفاهيم المنبثقة عن مصطلح «ما بعد الإنسانية» وتشعب مجالات التطبيق، فإن أحد الدلالات البارزة تتعلق بالرغبة الجامحة في استغلال التكنولوجيا لتحسين خصائص النّوع البشري وشروط الوجود ذاته 1.
يوحي هذا التداخل أو التواشج الاصطلاحي، بأننا اليوم أمام مرحلة أو براديغم جديد سيصبح بموجبه إنسان العلوم الإنسانية الذي عرف ولادته خلال القرن التاسع عشر، قاب قوسين أو أدنى من الاختفاء أو الموت، وهي النبوءة التي اشتهر بها ميشيل فوكو معلنا من خلالها عن ميلاد جديد للإنسان؛ هو إنسان النسق ما بعد البنيوي، حيث تكون اللغة هي السمة أو الدّال الرئيس على هذا الإنسان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى مرحلة «ما بعد الإنسانية» في منظور بعض المفكرين هي نهاية مرحلة النزعة الإنسانية (Humanism) كمذهب سيطر لردح من الزمن، فالتأكيد النظري الحديث لمسألة ما بعد الإنسانية
«يزعزع بصورة جذرية مزاعم المدافعين عن الجنس البشري، القائلة بهيمنة الإنسان على مختلف صور الحياة، ويزيل أوهاما ترسبت وترسخت حول انفصال الإنسان عن بقية أجزاء الطبيعة باعتبار الإنسان مركز الكون وقطب الرحى فيه. هو خطاب يقطع الصلة مع الثنائيات الحدية (عقل/ جسد، إنسان/طبيعة، إنسان/حيوان، إنسان/آلة) التي شكلت جوهر خطاب الحداثة: لقد وهب التطور دوما للكائنات الحية قدرات على التكيف تمكنها بشكل أفضل من البقاء، وربما أدى مزج الخصائص الميكانيكية والبشرية إلى استحداث صنف من الكائنات يمتلك إمكانات أكثر تفوقا من أجل البقاء. وقد يكون البشر، بحسب هذا المنحى من التفكير، في طريقهم لصنع الأجسام للمرحلة القادمة من التطور البشري»2.
وكغيره من خطاب الما بعديات (ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد النسوية، ما بعد الكولونيالية....إلخ) ظهر هذا الخطاب مطلع القرن الواحد والعشرين، إذ تم تداوله في التسعينيات، حيث شكل التقارب بين النانو ــــ تكنولوجيا ( Nano-technology) والبيو ـــ تكنولوجيا (Bio-technology) والمعلوماتيات (informatics) والعلوم المعرفية(cognitive sciences) والتي تعرف اختصارا بـ(NBIC) مناسبة هامة لتصدر خطاب ما بعد الإنسانية، المجال التداولي المعاصر، بوصفه توجها نقديا لخطاب السرديات الكبرى وخطاب الحداثة (عصر التنوير)الذي نكث بوعوده وأهمها تحقيق الرفاه والتقدم، وبداية مرحلة جديدة بموجبها سينزاح الإنسان في مفهومه التقليدي عن المركز. ووفقا لهذا التصور تعد مرحلة «ما بعد الإنسانية» بمثابة القطيعة التاريخية والمعرفية مع المرحلة الإنسانوية والنزعة الإنسانية(Humanism) فالجنس البشري اليوم على عتبة إبستيمي جديد، غير مسبوق في تاريخ النَّوع البشري، يتم فيه الانتقال من طور الإنسان العاقل (Homosapien) إلى طور تكنوــــ إنسان(Technosapien). ذلك أن البشر الحاليين هم نموذج عفا عنه الزمن، وهم مخيرين إما للانضمام بسلام إلى الديناصورات كأنواع، حكمت ذات مرة الأرض ولكنها عفا عليها الزمن، أو القبول بتحولهم من الإنسان العاقل إلى إلى تكنو إنسان (Technosapien).، ويدافعون عن موقفهم بأن النَّاس هم أصلا على طريق ما بعد الإنسان، حيث أنهم يستخدمون التكنولوجيا لتعزيز وتوسيع القدرات البشرية، كالهواتف المحمولة والإنترنت والأطراف الصناعية الطبية وما إلى ذلك3. وربما يطمح الإنسان أن يتولى عملية الخلق بنفسه؛ فيصر الإنسان/ الإله (HOMO- DEUS ).
لكن، مقابل القول بالقطيعة هناك من يرى أن «ما بعد الإنسانية» هي انتقال إلى عصر سيحقق الإنسان من خلاله أحلامه المستحيلة، كالخلود، الشباب الدائم والقضاء على الوضع الصحي الهش، والتغلب على كل ما يكدر صفو الحياة سيتحقق أخيرا حلم جلجامش4، فهذه المهمة الصعبة باتت اليوم ــــ في نظرهم ـــــ ممكنة بواسطة المخلوقات فائقة الذكاء، في هذا الصدد يكتب عالم الحاسوب والكاتب، الداعية الأول لعصر ما بعد الإنسانية، أو عصر (الإنسانية 2.0)5 الأمريكي راي كيرزويل (Ray Kurzweil)
« سيكون القرن الواحد والعشرين مختلفا ذلك أن الجنس البشري مختلفا، فسوف يستطيع الجنس البشري بمساعدة تكنولوجيا الكمبيوترات التي ابتكرها حل مشكلات قديمة قدم الدهر، مثل الفقر، وربما الرغبة، وستكون لديه القدرة على تغيير طبيعة الموت في مستقبل ما بعد الكائنات الحية »6.
وبالفعل يبدو أن ما يتم التحضير له في المخابر البيوــــــ تكنولوجية يتجاوز تصور إنسان النسق ككائن لغوي، ناهيك عن التصور الأرسطي، والديكارتي، والكانطي... وغيرها من المفاهيم الكلاسيكية التي اختزلت الإنسان في كوجيتو الذات، فالفكر ما بعد الإنساني يطمح إلى عالم تتلاشى فيه الفوارق بين الإنسان والآلة، ويضع حدا لفكرة هيمنة الإنسان، وأوهام التفوق البشري، أي تفكيك المركزية البشرية على جميع الصعد.
ومن هذا المنظور يستخدم مصطلح« ما بعد الإنسانية» للإشارة إلى تلك الحركة التي تستهدف تجاوز الحدود الطبيعية التي تحكم الإنسان، بتجاوز قدراته البيولوجية والعقلية، بواسطة التكنولوجيا المتقدمة، وخصوصا في حقل الذكاء الاصطناعي، وإيجاد المبررات الداعمة لهذا التجاوز وتشريعه عقليا وأخلاقيا والتأهيل المسبق لقبوله عبر مختلف الوسائط الفنية(أفلام الخيال العلمي، أفلام الكرتون) والثقافية والتربوية(الروايات العلمية)، بل حتى عن طريق الجوائح (جائحة كورنا) التي تفرض اليوم نمطا معيشيا افتراضيا.
وبالنسبة إلى الفيلسوف السويدي نيك بوستروم (Nick Bostrom) ما بعد الإنسانية، هي ذلك الاتجاه الفكري والثقافي الذي يؤمن بإمكانية الاستعانة بالعقل الأداتي لتنمية الكفاءات والمهارات الإنسانية. ودراسة مختلف مخاطر التكنولوجيا على الوضع الإنساني وتحويل ذلك إلى صالحه وبناء مستقبل بديل للإنسانية. وذلك بناء على معطين أساسين:
-
الرغبة العقلانية في تطوير الوضع البشري جذريا عن طريق إيجاد تقنيات متطورة للتعامل مع الشيخوخة ومشاكله، ودفع إمكانات الإنسان الفكرية والإدراكية والنفسية نحو حدودها القصوى،
-
الاعتماد على التقنيات التي ستسهم في تخطي العوائق التي تحول دون تحقيق الإنسان لحياته المستقبلية.
ومرحلة «ما بعد الإنسانية» في نظره امتداد للنزعة الإنسانية من حيث الإيمان بمركزية الإنسان وتنمية حقوق الإنسان والديموقراطية والتسامح والحرية. والانطلاق من مفهوم الحرية، لتمكين الإنسان من تطوير ذاته، وعدم الانحسار في الإطار الضيق للنزعة الإنسانية، بحيث يمكن تشجيع التفكير والبحث وخصوصا في مجال التكنولوجيا للولوج إلى عالم ما بعد الإنسان7.
وبعيدا عن هذا الجدل، ومن وجهة نظر تاريخية، ملامح براديغم «ما بعد الإنسانية» بدأت تتشكل فيما يرى العالم الفيزيائي الأمريكي ميتشيو كاكو(Michio Kaku) مع نهاية القرن العشرين حيث وصل العلم إلى نهاية حقبة، كاشفا أسرار الذرة وجزيء الحياة ومخترعا الكمبيوتر الالكتروني. وبهذه الاكتشافات الثلاثة الرئيسية التي انطلقت بتأثير ثورة الكم quantum وثورة الـ DNA وثورة الكمبيوتر ثم أخيرا التوصل إلى القوانين الأساسية للمادة والحياة والحوسبة. إن هذه المرحلة البطولية للعلم تقترب من نهايتها، فقد انتهى عصر العلم، وبدأت معالم عصر آخر تظهر، هو عصر ما بعد الإنسان أو السيبورغ. (...)، لقد ظللنا ـــــ فيما يضيف كاكاو ـــ خلال معظم التاريخ الإنساني نقف موقف المتفرج المنفعل على رقص الطبيعة الجميل، ولكننا اليوم على أعتاب عصر جديد نشارك بشكل إيجابي في تصميم رقصاتها8. قد يطلق عليها يوما ما رقصة السيبورغ.
وإذ يرجع بعض المهتمين بتاريخ الأفكار استخدام المصطلح وعالم الأحياء الدارويني المحدث الإنكليزي، جوليان هكسلي(Julian Huxley) لما نشر عام 1957 مقالا بعنوان «ما بعد الإنسانية»، معرفا إيَّاه على أنه عملية تحسين الحالة الإنسانية من خلال التغيير الاجتماعي والثقافي، فإن مؤرخون يرون أن المصطلح ولد ضمن النظرية الأدبية، وتحديدا من خلال مقال شهير نشر في عام 1977 من قبل إيهاب حسن (بروميثيوس : نحو ثقافة ما بعد الإنسانية؟) مع الناقد الأمريكي ذو الأصول المصرية إيهاب حسن (1925 ــ 2015) حين أشار إلى ضرورة فهم التحولات التي ستؤثر على شكل وطبيعة الذات الإنسانية بفعل التطور التقني، وأهمية إعادة التفكير في ماهية الإنسان، حيث كتب «قد تقترب الإنسانية من نهايتها حيث تحول الإنسانية نفسها إلى شيء يجب على المرء أن يسميه بلا حول ولا قوة ما بعد الإنسانية». وثمة من يرى أن ظهور مفهوم «ما بعد الإنسانية» بدلالته الحالية المتداولة Post humanism يعود إلى عام 1999، حين أطلقه الفيلسوف الألماني المعاصر، بيتر سلوتيردايك ( Peter Sloterdijk)على تيار فكري سيؤسس لمفهوم جديد للإنسان يكون من ابداع الإنسان، بالانتقال من آلية الانتخاب الطبيعي كما هو معروف في نظرية التطور الداروينية، إلى تقنية الانتخاب البيوـــــ تكنولوجي؛ لقد تطوَّر النوع البشري بيولوجيا، ووفقا لتراكمات جنينية بسيطة استغرقت ملايين السنين حسبما أكده علم الإحاثة، ولم يكن الإنسان طرفا فاعلا في عملية التطور البيولوجي، لا بالنسبة إلى نوعه البشري ولا بالنسبة إلى الأنواع الأخرى؛ مقابل آلية التطور الطبيعية، ذات الإيقاع البطيء والتلقائي، تحدث آلية التطور الاصطناعي بفعل مباشر ومتعمد من جانب الإنسان ذاته بواسطة الطبيعة التكنولوجية الجامحة ذات الوثبات الفجائية السريعة، من خلال زرع ودمج أعضاء غير بيولوجية (plants) ومكونات اصطناعية في الكائن الحي9.
وهكذا نجد أنفسنا في مواجهة سلالات ما بعد بشرية في المستقبل، حيث يمكن أن ينطبق على «الحظيرة البشرية» ــــــ الوصف لسلوتيردايك ــــــ ما ينطبق على بقية حظائر الحيوانات، بل وحتى مشاتل النباتات، من تجريب، وتنويع وتحسين. ولتحقق ذلك لابد من أمرين اثنين: فإذا كان الأمر الأول؛ يوجب النظر إلى «بشرية» البشر بحسبانها نتاج «إستئلاف» و«اصطفاء» ؛ أي بعدها ثمرة تربية «تقنية» بشرية فإن الأمر الثاني؛ يقتضي ــــــ تحقيقا للمبتغى الأول ــــ وضع سنن ونواميس و«قواعد من أجل حظيرة بشرية»، يتم من خلالها تأنيس الإنسان10. وتحقيق الأمر النيتشوي الذي جاء على لسان زرادشت لما قال: أبدع نفسك بنفسك.
وبالنظر إلى أهمية المرحلة وخطورتها في الآن نفسه، تأسست جمعية عالمية لـــ «ما بعد الإنسانية»، وتضمن البيان الذي وقعه بتاريخ (4مارس 2002) عدد من المفكرين، جملة من المرتكزات أهمها : الاعتقاد اليقيني بالعجز الإنساني، والاقتناع بالقدرة على تجاوز النقص البيولوجي والنفسي والذهني للإنسان، إلى جانب القدرة على التحكم في إمكانات الذات وتجاوزها. والوصول إلى تحسين مستوى العيش، مع الإيمان بإمكانية الوصول إلى التفوق الخارق(11). أي أن يرتقي الإنسان إلى حال «ما بعد الإنسان» أو السيبورغ.
2. من مركزية الإنسان إلى مركزية السيبورغ
إنّ السؤال: ما الإنسان؟ أو ــــ في صيغة لاحقة ــــ من هو الإنسان؟ هو السؤال المعلن مرة والخفي مرات أخرى. وبين جدلية الخفاء والتجلي، تعددت الإجابات بتعدد الصيغ التي طرح من خلالها هذا السؤال وبتعدد مصادر الإجابة عنه كذلك. فإذا كان مبحث الإنسـان مبحث الفلسفة الأثير والسؤال: ما هو الانسان؟ السؤال الأعقد في الفلسفة، إلا أن الجواب عنه ليس جوابا فلسفيا خالصا، تتميز به الفلسفة وتحتكره، ففي الأسطورة، كما في الدين، كما في العلم إجابات عن هذا السؤال.
لقد امتزجت المحاولات الأولى الخاصة بفهم الإنسان، في الكثير من الأحيان بالأسطورة التي حاكت قصصا عن خلق الإنسان ومصيره. كما اشتمل الخطاب الديني على تصور ما ينفك مهيمنا على السواد الأعظم من الأمم تصور يؤكد الصلة ــــ وإنّ تميزت بالاختلاف ــــ بين الخالق والمخلوق. لقد نظر اللاهوت الكنسي في العصور الوسطى للإنسان من زاويتين: الزاوية الأولى تجعله يتحمل الخطيئة الأولى، التي كان مصدرها الجسد وشهوات الجسد، لأن آدم آثر وزوجه أن يأكل من الشجرة المحرمة(شجرة المعرفة). والزاوية الثانية هي تشطير الإنسان وتقسيمه إلى نفس وجسد، النفس في جهة والجسد في جهة أخرى. النفس تنتمي إلى المقدس، إلى ملكوت الرب، والجسد ينمتي إلى المدنس ينتمي إلى ملكوت الشيطان، لذلك لابد أن يهان. والخلاص يكون بمحاولة التكفير عن الخطيئة الأزلية، عن طريق إنكار الذات والعزوف عن الابتهاج والمسرات، هكذا كانت تنظر الكنيسة والفكر الذي تحلق حولها إلى الإنسان.
أما الخطاب الفلسفي وهو في نظر الكثيرين الحاضنة الأساسية لمبحث الأنسان في صورتيه الميتافيزيقية، والعلمية (العلوم الإنسانية)، إذ نظر الفيلسوف إلى الطبيعة فألفى أنها لغز كبير يتكفل بحله يوما بعد يوم المارد الجبار الذي يطلقون عليه اسم العلم. ثم رفع عينيه نحو السماء فبدا له الله سرا محجبا لا يدري من أمره شيئا، بقي الإنسان فاستمسك به الفيلسوف، وأعلن على الملأ أن هذا العالم الأصغر، هو ــ على الأقل ـــ ميدانه الخاص الذي لا ينازعه فيه منازع 12. وعبر مسارها الطويل حفلت الفلسفة بالعديد من الإجابات عن هذا السؤال حتى غدا سؤال الإنســان الهم الفلسفــي الأبرز لجل الفلاسفة على اختلاف مللهم ومذاهبهم، لقد كان أبوحيّــــان التوحيدي (210-414 هـ) فيما يقول محمد أركون:
«أحد الكتاب والمفكرين النادرين الذين ثاروا وتمردوا باسم الإنسان ومن أجل الإنسان. وقد قال هذه الجملة الحديثة بالمعنى المعاصر للكلمة: إن الإنسان أشكل عليه الإنسان»13. وقريب من هذا قيل أيضا: « إنَّه الموجود المشكل l’être problématique بأعلى درجات الإشكال »14.
وارتبط الكلام في الفلسفة الحديثة عن سؤال الإنسان بمذهب تأصيل الإنسان (جعل الإنسان هو الأصل) أو ما يسمى كذلك بالنزعة الإنسانية. وقد جاء هذا المذهب كرد فعل على مفهوم الإنسان الذي كان سائدا في العصور الوسطى الكنسية، حيث الرب هو المركز، ومفوضيه (رجال الكنيسة) هم الأوصياء على الإنسان في الأرض. وسعى هذا المذهب إلى صياغة نموذج إنساني جديد، يُنظر من خلاله إلى الانسان كمحور، كمركز، كنهاية، كغاية في ذاته ولذاته.
وتعد اللحظـة الديكارتية لحظة مفصلية في تاريخ الفلسفة الحديثة؛ لما تساءل ديكارت بشكل معلن عن الإنسان، وانتهى عبر الكوجيتو (أنا أفكر أنا موجود) إلى اقرار أن الذات(الوعي) هي المركز لما عداها، مؤكدا من خلال ذلك على ما أقره المذهب الإنسي قبله، ثم تواصل طرح سؤال الإنسان مع آخر فلاسفة الأنوار إيمانويل كانط، معتـــبرا إيَّاه الســــؤال المحـــــوري الذي يختـــزل كـل الأسئـلة؛ فــكل ما يثيره البشر من موضوعات لا يكاد يعدو أسئلة ثلاثة: ما الذي يمكنني أن أعرفه؟ وما الذي ينبغي لي أن أعمله؟ وما الذي أستطيع أن آمله؟ وهذه المسائل الثلاث تتلخص جميعا في سؤال واحد: ما هو الانسان؟ والحال هكذا، فإن المدخل الأنتربولوجي هو المدخل الذي اختاره كانط. ولئن أقر كانط بقصور العقل الإنساني، إلا أن فلسفته النقدية (المشبعة بمبادئ الفيزياء النيوتينية) لم تستطع زحزحة الإنسان عن مركزه، وبقي كانط وفيا لتقاليد النزعة الإنسانية.
لكن النزعة الإنسانية التي احتفى بها فلاسفة التنوير ومن جاءوا بعدهم، وتوجوا بموجبها الإنسان ملكا وسيدا لقراره وصانعا لتاريخه، ومجده عن طريق ما أنتجه من تقنية، أضحت ـــــــ بتأثير من الثورات العلمية المعاصرة ـــــــ محل إدانة ورفض من طرف العديد من المفكرين والفلاسفة المعاصرين. ولقد كان هذا الرفض إيذانا بدخول الفكر الغربي مرحلة جديدة، لا ترفض التفاوت بين البشر وحسب، وإنَّما ترفض التَّفاوت بين البشر والكائنات الحية الأخرى؛ أي أنها ترفض الطبيعة البشرية كمرجعية نهائية وكمركز ثابت وتقبل الطبيعة/ المادة وحسب كمقياس وحيد. فالإنسان في هذا الإطار، سقفه مادي ودوافعه مادية وأهدافه مادية، وماعدا ذلك فمجرد أوهام وأضغاث أحلام15.
وتظهر دعوى تسوية الإنسان بالكائنات الأخرى (نبات، حيوان)، في أفكار عالم الأحياء التطوري البريطاني ريتشارد دوكنز (Richard Dawkins) الَّذي يرى أن الإيمان بإله متجاوز للنظام الطَّبيعي إن هو إلاَّ خلل في العقل يشبه الفيروس الَّذي يصيب الكومبيوتر المبرمج بدقة، وفي اعتقاده: «الإيمان هو عذر رائع لتجنّب الحاجة إلى التفكير وتقييم الحجج. الايمان يوجد عند الافتقار للحجة...الإيمان هو الاعتقاد الذي لا يقوم على برهان وهو العيب الذي يعاني منه كل دين»16. ثم يضيف أن الإيمان بأنَّ الإنسان يشغل مكانة خاصة في الكون تعبير عما سماه العقل غير المستديم، أي العقل الَّذي يرى عدم استمرار في الكون، أي يرى أنَّ ثمة مسافة بين الإنسان والطبيعة، وهو مفهوم مطلق مختلف عن مفهوم القرد، أما النظرية التَّطورية فهي تنكر عدم الاستمرار، وترى استمرار كاملا بين الإنسان والقردة، لذا فإن مقولة قرد تتضمن مقولة إنسان. وظهر في إطار ما سمته عالمة الأنتروبولوجيا الهولنديـة بربارة نوسكي (Barbara Noske) فك التمركز حول الإنسان، ما يسمى مشروع القرد الأعظم الَّذي بدأ في لندن يوم 14 يونيه 1993. بدأ بمقال في مجلة التايمز كتبه أستاذ من جامعة برنتسون يسمى آلان ريان (Alan Ryan) بعنوان : « هل للقردة العليا حقوق؟ » وسانده في ما ذهب إليه مجموعة من الأكاديميين من بينهم ريتشارد دوكنز وبربارة نوسكي الَّذين دعوا إلى تصنيف الإنسان على أنه نوع ثالث من أنواع الشمبانزي، وطالبوا بتأسيس جماعة مشتركة تضم: البشر-الشمبانزي ــ الغوريلا ــ والأورانج أوتاج، وأصدروا إعلان القردة العليا على غرار إعلان حقوق الإنسان17.
إضافة إلى هذا يبدو أن ما تحقق في العقود الأخيرة من ثورات وطفرات علمية وتقنية، هو الأكثر أهمية والأكثر خطورة، إذ هو يتعدى مسألة السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لمنافع الإنسان ومطامحه وأهوائه. ويتعدى دعاوى مساواة الانسان بغيره من الكائنات الحية الأخرى قردة كانت أو ما سواها، لأنه يفتح إمكاناً لا سابق له لتغيير طبيعة الإنسان بالذات، لكي يدخله في طور جديد ليس من عمل الطبيعة، بل من فعل الإنسان نفسه. هذا ما تتيحه الفروع والمجالات المعرفية الراهنة، كما تتجسد في الاستنساخ أو ما يعرف في الأوساط العلمية بمشروع الجينوم البشري.
وتعتبر تقنية الاستنساخ التكاثري أو ما يعرف أيضا بمشروع الجينوم البشري أبرز نتائج الثورة البيو تكنولوجية. وهو توالد لا جنسي « فبدل أن تقابل الخلايا الجنسية بين ذكور النوع وإناثه لتؤدي إلى إنتاج ذرية جديدة، يمكن أن تنشأ الذرية من خلايا المخلوق الجسدية لا الجنسية »18 بحيث تكون النسخة المستنسخة، مطابقة تماما من جهة الخصائص الوراثية والفيزيولوجية عن النسخة الأصل. وباتباع هذه الطريقة تم استنساخ النعجة «دوللي» عام 1996 من طرف فريق من العلماء الأسكتلنديين. وهو ما فتح المجال واسعا أمام العلماء لإمكانية استنساخ البشر، أو كما صار يتردد «فاليوم النعجة وغدا الراعي» 19. والحديث عن الاستنساخ البشري ((Clonage، هو في وجه من وجوهه المتعددة حديث عن تغير في التطلع إلى المستقبل؛ لقد تغيرت التطلعات وتغيرت وسائل النظر، فمن التنجيم حيث كان المنجمون بتمائمهم وتعاويذهم، يربطون مستقبل النَّاس بما يتلألأ في السماء من نجوم وكواكب، إلى علماء خبروا أدق تفاصيل الإنسان بتقنيات تعدهم بالكثير عن معرفة دقيقة بما يريد أن يكون الإنسان، عن هذا كتب العالم الأمريكي المعاصر جيمس واطسن 20«لقد تعودنا على التفكير بأن مستقبلنا في النُّجوم، ولكننا نعلم الآن أنه كامن في جيناتنا»21. فالإنسان مشروع ذاته، والجين هو مفتاح الخريطة الوراثية، يكفي فك شفرته حتى نمضي قدما في مشروعنا، وفي اختيار ما يروق لنا من الذرية وفقا لمعايير الجمال والذكاء التي نريدها. ويبدو أن من النتائج اللازمة عن ذلك، أن» الإنسان المستنسخ «( (Homo Conatus أنه يعد بأن يغيّر من المفهوم المنطقي ـــ التقليدي للإنسان؛ فالعقل (وما يرادفه، كالروح والذات) بدلالاته الأنثروبولوجية والفلسفية المتعاقبة، بات اليوم من مخلفات الميتافيزيقا، ومن الضروري التفكير على نحو جدي ـــ من منظورهم ــــ في مسألة الخلود، طالما أن الفساد يطال الجسد.
والأكثر من ذلك أن ما يحدث من تحولات وانقلابات معرفية وتقنية، يتعدى مسألة تعديل الخارطة الوراثية، أو استخدام التقنيات الرقمية في مضاعفة القدرات، هو التوجه صوب مرحلة جديدة تقوم على ردم الهوة بين المادة والحياة بين الجامد والعضوي بإقامة نوع من التهجين بين الإنسان والآلة، لإنتاج/ صناعة كائن جديد (Cyborg) هو ما يسمونه «ما بعد الإنسان». والسيبورغ مصطلح نحته عالم الفضاء الأمريكي مانفرد كلاينز، وهو اختصار لتعبير (cybernetic organism) وتعني حرفيا كائن حي مهجن من الآلة والأعضاء الحية22. وعرفه الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع الفرنسي دافيد لو برتون بأنه «بقية إنسان مزيَّن بترميمات، ومنبهات، وبطريات، وأجهزة ميكروبية تحلّ محلّ الوظائف الفيزيولوجية أو الأعضاء التي تعمل بشكل غير كاف»23. ووفقا لهذا التعريف يعد عالم «ما بعد الإنسان» بوجود بشر يشبهون الروبوتات وروبوتات تحاكي البشر. ويعد أيضا بوجود أعضاء غير بيولوجية (plant) تستزرع في الكائنات الحية، وأنسجة بيولوجية تدغم في محركات الكائنات الآلية وبين أسلاكها ونواقلها وتروسها وبراغيها.
هذه الهوية المرتقبة للنَّوع الإنساني تجد ـــ كما أشرنا سابقا ــ أساسها في مانفستيو فوكو عن «موت الإنسان» كما تقدمه أركيولوجيا العلوم الإنسانية، وفي مضمون فكرته عن تقنيات الذات، الذي يشير إلى الإمكانيات المتاحة أمام الذات في المستقبل؛ إذ ستسمح هذه التقنيات
«للأفراد بتطبيق، بوسائلهم الخاص أو بمساعدة الآخرين، عدد معين من العمليات على أجسامهم وأرواحهم وأفكارهم وسلوكهم وطريقة وجودهم، وذلك لتحويل أنفسهم من أجل بلوغ حالة معينة من السعادة والنقاء والحكمة والكمال، أو الخلود»24.
كما يعتبر بعض المهتمين بهذا الموضوع ومن بينهم فيراندو فرانشيسكا(Ferrando Francesca) أن «ما بعد النسوية» قد وجدت في مفهوم «ما بعد الإنسان» خير معين لها، للدفع بأفكارها النقدية نحو حدودها القصوى، ومن ذلك فكرة «ما بعد القندر» . وساهمت الكاتبة والأكاديمية ورائدة« نسوية السيبورغ» دونا هاراوي (Donna Haraway)عبر بيانها الذي نشرته عام1985 تحت عنوان : (بيان السيبورغ : العلم والتكنولوجيا والنسوية الاشتراكية في أواخر القرن العشرين) في بلورة مفاهيم «ما بعد الإنسان» من خلال ما أثارته من مناقشات وما وجهته من انتقادات للنسوية التقليدية بمختلف صورها25. السيبورغ بالنسبة إلى هاراوي رمز جديد يقوض مفهوم «الجندر» أو النوع الثقافي؛ فهو يجمع الهويات المتكسرة والمناطق الحدودية لأنواع كثيرة، مادية وسيميائية، واقعية وخيالية، دنيوية ولاهوتية؛ إنه مثل جسر يردم الهوة بين جسم الإنسان والكائنات الحية الأخرى، الافتراضية والحقيقية. وهو أيضا انهيار الحدود بين الواقع والخيال، والطبيعة والثقافة، والمتجسد واللامتجسد في شبكات العلم، الذكر والأنثى. والسيبورغ يحرر المرأة من أن تكون آخر، فالرقمية القائمة على الدماغ بدلًا من العضلات وعلى شكل الشبكات بدلًا من التسلسل الهرمي تبشر بعلاقة جديدة بين النساء والآلات، وبين الذكور والإناث، وتمكن البشر من اختيار هويات بديلة وافتراضية 26. وتأمل في الانتقال إلى ما وراء الثنائية، ليس فقط المتعلقة بالنوع الاجتماعي، ولكن بأي نوع من الثنائيات (ذكر/ أنثى الطبيعة/ الثقافة العقل/ الجسد الحقيقة/ الوهم...إلخ.
وإن يتطلب تحقيق هذا الهدف حسب هاراوي ضرورة اهتمام النسويات بالدراسات التكنولوجية المعاصرة والانخراط فيها، من منطلق أن المرأة هي الأنسب للحياة في العصر الرقمي وعالم ما بعد الجندر، فإن تحول الإنسان إلى سيبورغ بدأ يعرف طريقه إلى التحقق، ويعتبر نيل هاربيسون (Neil Harbisson) أوّل سيبورغ يُعترف به قانونيا، إذ لديه جهاز هوائي مزروع في جمجمته يمنحه القدرة على تجاوز إعاقته المصاب بها منذ الولادة(عمى الألوان) والتي حرمته من رؤية جميع الألوان. تمكن هاربيسون منذ عملية زرع الجهاز الهوائي من التغلب على الإعاقة بحيث تمكن من «سماع الألوان». وكأننا لا نرى بالعين فقط، ولا نسمع بالأذن فقط! استطاع هذا الفنان رؤية ألوان لا يراها غيره من الأصحاء، والأكثر من ذلك فيما يذكر، أن هناك الكثير من الألوان حولنا لا يمكننا تمييزها، لكن العين الإلكترونية(Ey borg) تستطيع ذلك، فقرر مواصلة توسيع نطاق حواسه اللونية، وأضاف الأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية إلى جدول الصوت إلى الألوان. والآن بامكانه سماع الألوان التي تستطيع العين البشرية تمييزها. وأروع ما في الأمر أن الحياة ( في نظره المسموع) ستكون مثيرة أكثر بكثير عندما نتوقف عن انشاء تطبيقات الهواتف النقالة، ونبدأ في انشاء تطبيقات لأجسامنا الخاصة، طلبا لمزيد من الكفاءة والاستمتاع بالعالم من حولنا(27). وهو الأمر الذي ستتكفل به المؤسسة التي قام بإنشائها.
المؤكد أن ثمة نماذج أخرى تطمح في أن تصيرا إنسانا مزيدا، لتجاوز اعاقات معينة (جسدية كانت أو عقلية) أو لمنح الجسم كما الدماغ كفاءة عالية. ولا يصير الإنسان مزيدا (L’homme augmenté) من وجهة نظر الفيلسوف الفرنسي المعاصر جان ميشال بيسنيي (Jean Michel Besnier) إلا بفضل التطعيم أو إضافة أعضاء اصطناعية28، كما هي حال نيل هاربيسون السابق الذكر.
وليس الأمر ببعيد، فأثناء كتابة هذه السطور قرأت إعلان إحدى شركات الروبوتات (Promobot)عن وظيفة بأجر مغر، مقابل امتلاك وجه بشري وسيم، ليكون الوجه البشري لروبوتاتها الجديدة التي سيتم توظيفها في الفنادق ومراكز التسوق والمطارات، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ابتداء من العام 2023 بحسب صحيفة (Daily mail) البريطانية. وتمنح الشركة مبلغ 200 ألف دولار للمتطوع الشجاع، الذي يجب أن يكون على استعداد لنقل حقوق استخدام وجهه إلى الأبد، في المقابل تشترط الشركة على المتبرع أن يمتلك ملامح «لطيفة وودودة» لكي تغطي وجه روبوتاتها عند مقابلة العملاء والترحيب بهم29. وهي خطوة في اتجاه أنسنة الروبوت.
وهناك يذهب من يذهب في استبصاره إلى أبعد من ذلك، فمن
«المعقول الافتراض أنه قد يكون لدينا بحلول 2050 أجهزة إنسان آلي يمكنها أن تتواصل مع البشر بذكاء، وآلات لها عواطف بدائية وقدرة على تمييز الحديث، وتمتلك الحس والذوق السليمين. وبعبارات أخرى ستكون قادرين على الكلام معها، والحصول على محادثات شائقة إلى حد ما. ومن أجل العمل في مجتمع حديث، فمن الضروري أن يكون للإنسان الآلي عواطف ومقدار معين من التمييز، حتى يتمكن البشر من التواصل معه بسهولة. وقد يزيد هذا من درجة “التعلق بالإنسان الآلي»30. وقد يورثه. ولم لا؟
بل الأمر يتعدى هذا في استشراف البعض، حيث يتحدث، جريجوري وكوكس، عن إمكانية تفوق التكنولوجيا السبيرتية، متمثلمة في الحاسبات والروبوتات المفكرة (الآلات المفكرة أو الروحية كما يسميها كريزويل) على الذكاء البشري وعلى الإنسان، ويطرحان السؤال التالي: هل يمكن لهذه الآلات أو «أطفال العقل/ Mind Children » (والتسمية لــHans Moravic) لأن يستبعدوا الإنسان ويقصونه، لأنه لم يعد صاحب المكان ولا الزمان في الحضارة السيبرنية؟31. وفي هذا السياق تساءل الروائي والكاتب الصيني في روايته (زانج جبل الصين)، عن الحدود الفاصلة بين عالم البشر وعالم «أطفال العقل»، حيث كتب «قيل دائما أننا نتحكم بالنظام، ولكن ما الذي يمنع النظام من التحكم فينا؟ نحن المتعايشون (عن طريق التكامل وتبادل المنفعة) في القريب العاجل ربما سيكون من المستحيل أن نعرف أين تنتهي البشرية وتبدأ الآلات؟ »32. وبدورنا نتساءل هنا عن الأزمة القيمية المؤكدة.
3. ما بعد الإنسان وأزمة القيم
من الواضح أن سقف هذه الأبحاث عال جدا، وأن ما تعده به مرحلة ما بعد الإنسان يفوق أسئلة تتبادر إلى أذهاننا ومنها: إذا ما قدر لهذه الأبحاث أن تتحقق وتنجز، فهل ستساهم في الإجابة عن العديد من القضايا المستعصية والمثيرة للجدل في علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وعلم التاريخ، وعلوم التربية وغيرها من العلوم الإنسانية والاجتماعية؟ وهل ستعرف تلك الأحلام الطوباوية طريقها نحو التحقق، فنكون ـــ أو بالأحرى سيكونون ــــ أمام الجمهورية المثالية والمجتمع الفاضل، حيث لا أمراض جسدية أو نفسية، لا آفات اجتماعية، لا صراع طبقي لا تفاوت، أو سنكون أمام الحقائق الواقعية التي نتنكر لها تحت مسمى الأخلاق والدين والإنسانية، أليس من قوانين الطبيعة والتطور، وجود السادة والعبيد؟
تذكر نانسي ويكسلرNancy Sabin Wexler1945-؟ رئيسة فرع العواقب الأخلاقية والقانونية والاجتماعية لمشروع الجينوم البشري، أن المعلومات الجينية بحد ذاتها لن تؤذي الجمهور؛ فما يؤذيه هو البنى الاجتماعية والسياسات والتحيزات القائمة، والتي يمكن أن تصطدم بها هذه المعلومات. إننا في حاجة إلى معلومات جينية الآن من أجل أن نوفر خيارات أفضل، بحيث نستطيع أن نحيا حياة أفضل، لذلك علينا أن نحاول جعل النظام الاجتماعي أكثر قبولا للمعارف الجديدة33. فالمسألة ذهنية ولا بد من تغيير الذهنيات لغد أفضل.
مقابل هذا التفاؤل، يتحدث الرافضون لمشروع الجينوم البشري عن أبرز مخاطره؛ إننا في علم الاستنساخ لم نعد نعلم إلى من تؤول ملكية جسدنا، لأنَّ الشركات العالمية أصبحت تتنافس لامتلاك الجينوم البشري والتحكم فيه والمتاجرة به. وخير دليل على هذا، سيطرة الشركة الأمريكية التي تأسست في ماي 1998 والمعروفة باسم :Celera Genomics، فإذا كان إنشاء احتكار على الاستخدامات التجارية لمتوالية الجينوم البشرية في مصلحة شركة Celera من الناحية التجارية، فلن يكون ذلك في مصلحة العلم أو عامة الجمهور34. والأمر نفسه ينطبق على براءة الاختراع الخاصة بالجينات، والفيروسات. ومن المخاطر كذلك أن الاستنساخ تهديد حقيقي لبنى المجتمع الأساسية، وهي الأسرة والعائلة، لأن هذا النوع من التجارب يمكن أن يؤدي إلى القضاء على مفهوم الوالدية، وما يلزم عنه من موت الأسرة ونهاية العائلة:
« فنحن في ظل تطور كهذا لا نعود بحاجة إلى وجود الأب أو الأم بقدر ما نحن بحاجة إلى مؤسسة كبيرة تقوم برعاية النسخ التي يتم إنماؤها صناعيا في أجهزة خاصة، وليس المتصور أن مثل هذه النسخ ستحتاج إلى أن تنشأ في وسط عائلي بالمعنى المفهوم حاليا، مما يعني أننا سنقضي على معنى الوالدية وبالتالي على معنى العائلة »35.
وبإزاء هذا الوضع نتساءل : ماهي مبررات وجود علم الاجتماع الأسري مثلا؟ وعلم النفس الطفل؟ وفروع أخرى؟ وإذ يوجد من الفلاسفة والعلماء من يحتفى بقدوم العصر ما بعد الإنساني، فيوجد منهم من توجس منه، لقد أبدى فرنسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) تخوفه مما سيكون عليه الإنسان في هذه المرحلة أو كما يسميها ما بعد البشرية. كما ندد بفكرة «مجاوزة الإنسانية» واعتبرها الفكرة الأخطر في العالم، لأنَّها فكرةٌ تتهدد مفهوم الهوية لإنسانية وهوية النوع البشري؛ فمن الممكن أن يتسبب الفيض الغزير المتلاحق من المعارف الوراثية والبيولوجية في أن يظهر منا جنس بشري جديد ينقلب علينا فنفنى، وبمعنى آخر تعديل المعطيات البيولوجية الأساسية لأفراد النوع معناه نهاية الإنسان(36). وبالنَّظر إلى الخطورة التي يمكن أن تشكلها هذه المرحلة، تساءل فوكوياما :
« ما الذي يجب أن نقوم به إزاء البيوتكنولوجيا التي ستمتزج، في المستقبل، المزايا المحتملة الهائلة بتهديدات قد تكون بدنية وواضحة أو روحية وخفية؟ الإجابة واضحة : علينا أن نلجأ إلى سلطة الدولة لتنظيمها، فإذا ما اتضح أن هذا يفوق قدرة أية دولة بمفردها، فلا بد أن يكون التنظيم على المستوى الدولي. علينا من الآن أن نبدأ التفكير بشكل واقعي حول الطريقة التي نقيم بها مؤسسات قادرة على أن تميز بين الاستخدام الطيب والاستخدام الخبيث للبيوتكنولوجيا، وأن نفرض وبشكل فعلي قوانين وطنية وقوانين دولية »37.
ومن جهته يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع يورغن هابرماس أن التعديل الوراثي والبرمجة الجينية وأيديولوجيتهما التي يسميها بالنسالة الليبرالية من شأنهما أن يمسا بقضية جوهرية تشكل نقطة التقاء العلوم الإنسانية بمختلف فروعها، ألا وهي «هوية الإنسان النوعية»، ومقوماتها الأساسية : الحرية، الكرامة الإنسانية والمساواة. ولم يخف رفضه للتحسين الجيني، وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحل البرمجة الوراثية محل التنشئة الاجتماعية، فإذا كانت هذه الأخيرة تقبل المراجعة والنقد، فإن الأولى لا تتاح فيها هذه الإمكانية؛ فلا يمكن للفرد المعدل جينيا أن يراجع ميراثه البيولوجي. وهكذا، بينما يتم التعامل مع «الطفل تحت الطلب»، «الطفل البطاقة»، «الطفل الاستعمال»، كشيء في الحالة الأولى، فإنه يتم التعامل مع الجنين أو الفرد غير المعدل جينيا، كشخص38. ولأجل هذا يقرر هابرماس عدم قابلية التلاعب بالشخص الإنساني، بوصف هذا الأمر أخلاقي وإنساني، ومداره الحق(القانون) وليس ميدانا للتجريب. فالمسألة معيارية، ورهان العلوم الإنسانية (علم الاجتماع على وجه الخصوص) هو رهان إتيقي بالدرجة الأولى، ملقى على عاتق الفلاسفة؛ فمن الواجب عليهم أن يضعوا محاذيرا لهذه التقنية الجينية، التي تستهدف مستقبل الطبيعة الإنسانية، من خلال أخلقتها ووضع ضوابط تحدّ من هيمنتها بالاعتماد عل إتيقا التواصل.
ولا يتوقف الأمر على تداعيات الثورة البيو ـــ تكنولوجية بل يتعداه إلى تداعيات الثورة الصناعية الرابعة، التي توشك بموجبها البشرية على وشك التحوَّل نحو جبل جديد من المجتمعات فائقة الذكاء، يتعدى ما تمّت تسميته مجتمع المعلومات، ليظهر مجتمع ما بعد المعلومات. وتجاه هذا المآل:
« يعتقد بعض المنظرين أن العلاقة بين الإنسان والآلة في »مجتمع ما بعد المعلومات سوف تترك بعض التداعيات الإنسانية السلبية، لأن من شأن ذلك أن يفصل الإنسان تدريجيا عن محيطه الاجتماعي والبشري الطبيعي، وأن تفقد العلاقات البشرية مرونتها التقليدية، ويجعلها أكثر صلابة وجمودا، فتتحول طرق التفكير والتفاعلات البشرية من التعقيد المفيد إلى التنميط ولوكان منتجا »39.
بصرف النَّظر عن هذه المخاوف ولو إلى حين، الثابت أن «ما بعد الإنسان» سيكون حاملا لمقومات هوية ستثير الكثير من الأسئلة، من قبيل ما طرحه عالم الاجتماع الفرنسي دافيد لو برتون(David Le Breton) لما تساءل : كيف نلغي الجسد أو نجعله أكثر فعالية من خلال استبدال بعض عناصره، من دون أن نُفسد، في الوقت نفسه الوضع البشري؟ ما مدى تأثير زرع عضو كالدماغ مثلا على الهوية الإنسانية؟ هل الإنسان المزيد أو المجاوز الذي جرى تعزيزه ليصبح «ما بعد إنسان» يظل نفسه؟ إذا صار في استطاعة أحدهم تعزيز خواصه تعزيزا جذريا، ما الذي يضمن أن يظل هو هو؟40 خاصة وأنه في نموذج السيبورغ لا يتضح من يصنع ومن يتم صنعه في العلاقات بين الإنسان والآلة. وليس من الواضح ما هو العقل وما هو الجسد، من يمكن اعتباره إنسانا ومن يم يتم استثناؤه؟ إذا كان الجواب يتأرجح بين الإثبات والنفي، فقطعا سيضعنا سؤال الهوية، من جديد أمام مفارقة سفينة ثيسيوس41. لكن ما لا يمكن الجدال حوله أن الواقع الافتراضي، البنية الأثيرة لما بعد الإنسانية يوشك أن يصبح المحدد الأساسي للهوية والوجود، فنحن اليوم نعيش لحظة الكوجتو الافتراضي؛ فبدلا عن «الأنا أفكر إذن أنا موجود»، أصبحنا فيما كتبت إلزا غودار أمام هوية جديدة صيغتها: «أنا أوسيلفي إذن أنا موجود». وبين وجود واقعي ووجود افتراضي، تكتسب الهوية الإنسانية في الفضاء الرقمي سمات المجتمع الشبكي، في انتظار أن تصير نوعا جديدا من الأناسي أو بالإنسانية الزائدة (humanity+).
الخاتمة
من الصعوبة بمكان أن نضع خاتمة لموضوع كهذا؛ فهو شديد الإرباك فيما يثيره وفيما يكتب عنه، وتزداد الصعوبة أكثر عند محاولة الجمع بين مجالين معرفيين يبدو أحدهما (العلوم الإنسانية) في طابعها الحالي على وجه التحديد أشد ارتباط بالحاضر وأحيانا بالماضي، بينما يبدو الثاني (الدراسات الما بعدية) أكثر انجذابا إلى المستقبل. لكن يمكن القول أن هذا الجمع ليس من قبل الترف العقلي، بقدر ما هو جسر للهوة الموجودة بين ما هو علمي وما هو إنساني. وتجاوزا لهذه الصعوبة، سنكتفي بذكر نتائج، نرى أنها تلزم عما ورد في التحليل، ومن ذلك:
-
مرحلة ما بعد الإنسان، وعبر طريق وسائطها الأساسية(الذكاء الاصطناعي، البيو ــــ تكنولوجيا، وسائل الاتصال الذكية...)، سترفع الستار عما هو خفي بين الواقع والمصطنع، بين المرئي واللامرئي، بين الواقعي والافتراضي، في الوقت نفسه، وكل هذا سيرتب لا محالة انزياحا دلاليا في مفهوم الانسان؛ فمن كوجيتو الذات إلى كوجيتو الجسد، إلى كوجيتو السيبورغ، هذا الانزياح مؤشر دال على تحول في هوية النَّوع الإنساني وما يترتب عنه من تغيرات سلوكية وأنماط اجتماعية جديدة، ها نحن نعيش ونتعايش مع بعض مستجداتها، فالبشر في الوقت الحالي، في بعض الحالات هم سيبورغات.
-
عصر ما بعد الإنسان سيعيد طرح سؤال الهوية البشرية وسؤال الكينونة وسؤال الوجود وسؤال الماهية، وستكون الاجابة عنه داخل مختبرات عالية الدقة وشديدة الذكاء، واعدا(هذا العصر) بأن ثمة خلقا جديدا ونسلا جديدا، لا يكون بحاجة إلى محددات كالروح والعقل بدلالته الكلاسيكية كفصل نوعي للإنسان، كما لن يكون هذا النسل بحاجة البتة إلى القيم، سوى قيم إرادة القوة، وإرادة الخلود.
-
وليس هذا فحسب، فسيلزم عن النسل الجديد تغيرا جذريا في هوية الإنسان، وهنا ستكون العلوم الإنسانية في مواجهة سؤال أو إشكال هوية النَّوع الإنساني، فكل مرحلة انعطاف في تاريخ البشرية يرافقها اهتمام بقضايا مصير الإنسان ومستقبل البشرية وهوية النَّوع الإنساني. ومن جهة أخرى بات يؤكد أن الإنسان بصدد تدشين مرحلة جديدة تحتاج إلى فروع مستحدثة في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، تواكب التطور الحاصل وتكون على قدر الرهانات المعرفية والمنهجية لمرحلة ما بعد الانسانية.
-
الثابت من كل هذا، أن تقدما وتطورا متسارعا يحدث على مستوى هذه العلوم مرتبا نتائجا لها آثرها على حياة الإنسان، ليس في مستوياتها التقنية والبيولوجية، بل في مستوياتها النفسية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، مما يصنف عادة على أنه من موضوعات العلوم الإنسانية.
-
تعد مرحلة ما بعد الإنسان بتحقيق اليوتوبيا المفقودة، والسعادة الأبدية بواسطة الإنسان الإله الذي تم ابداعه، وهنا نتساءل: أليس في هذا الجموح والجنوح والتطرف؛ قلب لعملية الخلق؛ فبدلا أن يكون الله هو خالق الإنسان، سيصبح الإنسان هو خالق الإله، لكن ليس رهبة ولا خوفا من الطبيعة كما اعتقد فيورباخ ذات يوم، وإنما هو تحقيق يوتوبيا الأمل التي طالما حلم بها الإنسان؛ حيث لا موت ولا شقاء. وهيهات أن يحدث.
قد يقول قائل: إن هذا العصر (العبثي) المأمول لا يمكن أن يتحقق، ولن يتحقق، لكن ما هو أكيد أن التطورات المتلاحقة في مجال البيولوجيا والتكنولوجيات الرقمية والمعلوماتية، وعلوم الذكاء الاصطناعي، وكذلك التغيرات الجارية في مختلف الأنظمة الاجتماعية، باتت اليوم تهديدا حقيقيا لكرامة الإنسان، وأنها تعصف بسنن كونية إلهية، تدخل في إطار العبث بعملية الخلق. ولذلك فإن العلوم الإنسانية اليوم أكثر من أي وقت مضى مطالبة للقيام بدور أخلاقي قيمي، يضع ضوابطا للعلم، ومحاذيرا، لا أن تكون عونا له، ورافدا ومعينا، كما كان الأمر مع علم الاجتماع الكونتي والدوركايمي، التحليل النفسي، وعلم النفس السلوكي.... وغيرها من العلوم الإنسان التي ضحت بمبحث القيم لصالح الانتصار للتفكير الوضعي.