مقدمة
لطالما كان النقاش حول الترجمة حبيس المفاهيم الثنائية : الخيانة مقابل الأمانة، الحرفية مقابل الحرية، الإمكانية مقابل الاستحالة، الأصل مقابل التقليد، المقدس مقابل الدنيوي، ...إلخ، (على غرار شيشرون وأوجين نيدا وهمبولت والجاحظ في ترجمة الشعر، وغيرهم). لكن التفكير المتعلق بالترجمة تحرر من هذه المقابلات المتناظرة. وقد ساهمت أعمال عدد من المفكرين منهم منظرون للترجمة (ه.ميسكونيك، فرمير ورايس، إ.إ. زوهار وج توري، هولمز، غامبيي ...) وسيميائيون (غريماس، ديندا غورلي، أومبرتو إيكو) ومحللون نفسيون (مارت روبير، جاك لاكان، جون غانيوبان) وفلاسفة (دريدا، فوكو، ريكور) وسوسيولسانيون (جون بيترز، لابوف، هايمس، بيرنيي) وتداوليون (أوستن، بنفنيست) وعلماء اجتماع (جيزيل سابيرو، بورديو) ومقارنون (سوزان باسنيت، كاظم جهاد، إدوين غينتسلر، فريال جيزيل غزول) وغيرهم، ساهمت أعمالهم في بلورة التفكير والتساؤلات حول فعل الترجمة وتقديم تصور جديد له، خاصة مع ظهور أشكال جديدة للترجمة تدخل في إطار شبكة سيميائية متعددة شديدة التعقيد من بينها الترجمة السمعية البصرية وبالتحديد العنونة التحتية موضوع دراستنا.
سنبين من خلال مساءلتنا لهذه العملية الترجمية المتجسدة في العنونة التحتية كيف تتفاعل مختلف السياقات، الداخلية والخارجية لهذا الشكل من الأشكال الترجميّة، لتُقَــــدَّمَ للمعنوِن في شكل كتلة أو شبكة متكاملة تؤثر على خياراته واستراتيجياته وتأويلاته واستقباله للنص موضوع الترجمة؛ باعتباره القارئ والمستقبل الأوّل له ويملك تصورا عن المشاهد المستقبِل للنص الفيلمي المُعَنْوَن. تتسم الترجمة السمعية البصرية بطابعها السيميائي والبُعديّ المتعدد، وقد تمثل العلاقة الرابطة بين الخطاب والصورة والصوت عائقا رئيسيا في العملية الترجميّة أو العكس قد يُسهِّل عمل المعنون واختياره لاستراتيجية معينة حسب درجة تجذّر النص الفيلمي وحواراته في العالم السوسيوثقافي للنص موضوع الترجمة. إذ يندرج الحوار وأشكال التلفظ الأخرى في واقع بصري وسمعي معين، فالملفوظ هنا يكون مرفوقا بدوال أخرى قد تلعب دورا بالغ الأهمية في مستوى دلالة الخطاب. وهو ما تشير إليه فرنسواز دوكروازات Françoise Decroisette، وهي تتحدث عن الترجمة المسرحية، مسطرة على الاختلاف الأساسي القائم بين الترجمة الأدبية (ومجمل النصوص التي ترتكز على النص المكتوب فقط) والترجمة المسرحية، تشير إلى أن النص المكتوب أو النص الدرامي ما هو إلا « أثر موجه لأن يقال/يؤدى خلال التمثيل في مزيج دوال منطوقة/صوتية/بصرية يطلق عليها بـ« النص المشهدي » »1 (Decroisette، 2017 : 20) والتي يطلق عليها في حالة العنونة التحتية بـ« النص الفيلمي ». فمجمل مكونات الخطاب السمعي – البصري يكوّن « النص الفيلمي » أي شبكة دوال لسانية وسمعية وبصرية تَبني المعنى وتصوغه، والمشاهد المستقبل يبني معنى وتصورا انطلاقا من هذه الشبكة. إنّ لغة النص الفيلمي هي، كما يشير إليه باتريس بافيس Patrice Pavis، وهو يتحدث عن اللغة المسرحية، « لغة-أجساد، لغة-أصوات، لغة-حركات، لغة-صور » (مذكور في Decroisette، 2017 : 20) وهذا الأمر ينطبق على « اللغة الفيلمية ». من جهة أخرى، قد يختلف ويتنوّع كل مُكَوِّن من هذه المكونات حسب الجنس السمعي البصري.
وسنركز هنا على سياقين اثنين :
-
السياق السوسيوثقافي الذي يدخل في إطار ما يطلق عليه بالسياق الأكبر أو الخارجي،
-
السياق الأصغر أو الداخلي أي السياق الفيلمي الذي سنتناول فيه الطابع السيميائي المتعدد لوحدة المعنى من خلال الدوال الحوارية (اللسانية والبصرية والسمعية) والدوال الفيلمية (التقنيات السينمائية والدوال البصرية والصوتية غير الحوارية).
1. السياق الأكبر والسياق الأصغر
يقول باتريس بافيس، وهو يتحدث عن ترجمة النص المسرحي، وهو شكل من أشكال الترجمات السمعية البصرية في نظرنا بالرغم من الاختلافات من حيث الزمان والمكان أو ما يطلق عليه بالجوارية La proxémie على سبيل المثال، يقول أن هذا النوع من الترجمات « لا تكون حيثما تريدها أن تكون : لا تكون في الكلمات وإنما في الإيماءات، ولا في الحرف وإنما في روح ثقافة تفوق الوصف لكنها موجودة على الدوام » (مذكور فيFrigau Manning & Karsky، 2017 : 8)، وهو أمر ينطبق على الترجمة السمعية البصرية الفيلمية كذلك والتي لا تنحصر في الكلمة أو الحرف وإنما تدخل في أبعاد سياقية ثقافية واجتماعية وفي شبكة سيميائية متعددة شديدة التعقيد تضم الصورة والصوت والحركية الجسدية.
يرى إيـﭪ غامبيي Yves Gambier أن الترجمة السمعية البصرية :
« ليست عرضة للإكراهات وليست شرا ضروريا يتجاوز ذلك الذي نعرفه من أنواع الترجمة الأخرى؛ إنها ترجمة انتقائية تقوم بالتكييف والتعويض وإعادة الصياغة وليست خسارة فحسب ! إنها ترجمة أو ترجمة تكييفية إذا لم يتم خلط هذه بالترجمة كلمة بكلمة، كما هي الحال في أغلب الأحيان في الأوساط السمعية – البصرية، بل إذا تم تحديدها باعتبارها مجموعة من الاستراتيجيات (توضيح، تكثيف، إسهاب، إلخ.) والنشاطات التي تتضمّن تعديلات وتشكيلا، ... إلخ. إنها ترجمة إذا نًظر إليها باعتبارها كلاّ، تأخذ بعين الاعتبار أنواع وأساليب الأفلام والبرامج والمتلقين بالنظر إلى تنوّعاتهم الاجتماعية – الثقافية وعادات القراءة وكذلك أنماط التواصل السمعي – البصري المتنوعة (البصرية واللغوية والسمعية) » (Gambier، 2004 : 6)
وبهذا، لا يمكن أن ننظر إلى العملية الترجمية بعيدا عن السياق السوسيوثقافي ولا عن بُعد التلقي، وهو ما تؤكد عليه أني بريسا Annie Brisset وهي تحلل الملامح الإيديولوجية للترجمة المسرحية في الكيبيك مشيرة إلى أن
« الوظيفة التحويلية مرتبطة بكل ما يُنظّم المجتمع المتلقي، أي الإطار المؤسساتي وبالتحديد الجهاز الإيديولوجي الذي يندرج فيه هذا الخطاب [...] (ِوأن) الفرد المترجم يظهر باعتباره فردا جماعيا، أي لسان حال مجتمع ما أسّس لنفسه نظام تمثيلات » (مذكور في Frigau Manning & Karsky ، 2017 : 12)
وهنا تطرح التساؤلات التالية : كيف يُؤثر البعد الاجتماعي – الثقافي في اختيار المترجم للعناوين التحتية؟ ما هو الدور الذي يؤديه الجمهور المستهدف أو المشاهِد المستهدف في ذلك الاختيار؟ ما هو الدور السياقي في هذا النوع من الترجمة؟ وما هي العقبات أو الإكراهات التي يواجهها واضع العنونة التحتية؟ هل يمكن الالتفاف على هذه العقبات والإكراهات؟ كيف يمكن ترجمة أو تكييف الإحالات الثقافية والدينية، والتعابير الساخرة، والطابوهات، واللهجات الاجتماعية، والنبرة والسجل اللغوي... إلخ؟
إن الجانب التقني يؤدي دورا هاما في العنونة التحتية ذلك أن زمن ظهور العنونة التحتية على الشاشة وتزامن الكلام مع ظهور العنوان التحتي واختفائه وعدم تداخل عدة عناوين تحتية في اللقطات، وكذلك حجم العنوان – التحتي الذي لا يمكن أن يتجاوز سطرين، إن كل هذا يُجبِر المعنون التحتي على اعتماد تقنيات مختلفة بصدد التكثيف/التضمين والتوضيح الذي يتعلق بالملاءمة La pertinence والمتمثلة في « مقدار المعلومات المقدّمة، أو المُغفلة أو المستكملة، وهذا من أجل تفادي تضخيم الجهد الإدراكي في حالة الاستماع أو القراءة » (Gambier، 2004 : 10).
لكن بالإضافة إلى المسألة التقنية توجد مسألة الغرابة التي يُنظر إليها من الجانب الثقافي. ويطرح السؤال حول حدود استقبال أنماط السرد المقترحة، والقيم والتصرفات المعروضة. ومن جهة أخرى، تندرج الترجمة ضمن علاقات اجتماعية فلا تتم ترجمة المسرح والأدب والإشهار،... إلخ. بالطريقة نفسها، هناك إذن اشتغال اجتماعي-ثقافي للترجمة لا يمكن تفاديه.
من جهة أخرى، تعدّ مفاهيم التفاعلات والسياق الظرفي وغير اللغوي مفاهيم أساسية لتحليل العنونة – التحتية للفيلم. وهكذا، فإن الترجمة السمعية البصرية يمكن، كما ترى إيف ڤايسييير Eve Veyssière :
« يمكن أن تتعلق، ضمن منظور تداولي – تلفّظي وتفاعلي، بمفهوم الوضعية التي يندرج في إطارها تلفّظ أو حوار أو خطاب، ... إلخ، مكتوبا كان أو شفهيا من أجل تقديم فرضيات حول أهمية السياق الظرفي أو غير اللغوي، وحول دوافعه وآثاره (الظروف التي تم فيها فعل التلفّظ وهوية المتخاطبِين ومقاصد المتكلّمين ...) » (Vayssière، 2012 : 2).
يتوقف العنوان – التحتي إذن على سياقين : سياق فيلمي – داخلي (أي السياق الأصغر) وسياق – فيلمي – خارجي (أي السياق الأكبر). ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار طبيعة العنونة – التحتية فهي ترجمة سمعية – بصرية، ولا نأخذ بعين الاعتبار الملفوظات فحسب، وإنما كل ما يؤدي معنى في الفيلم، نظرا إلى أن هذا الأخير يتكون من عدّة وحدات (حوار، شريط – صوتي، صور، ديكور ...)، ترتبط وتتداخل لتشكّل المعنى الإجمالي للفيلم.
إن العنوان – التحتي هو وحدة جديدة في الفيلم. وهو، من جهة أخرى، ترجمة ضمن سياق، ولهذا، فإنه يفقد إمكانية فهمه من دون الحامل الفيلمي، ويفقد بالتالي إمكانية فهمه في غياب السياق الفيلمي – الداخلي. فالعنونة التحتية ليست شبيهة بالترجمة الأدبية على سبيل المثال، إذ أنها لا ترتكز على الحوار والملفوظات اللسانية فحسب، وإنما ترتكز على جميع الدوال اللسانية والسمعية والبصرية، وبذلك فالمعنون يهتم بكل ما يحمل معنى في الفيلم، وهو ما تطلق عليه فايسيير Vayssière باللغة السينمائية إذ تُشبّه الأفلام والسياق الفيلميّ « بالدمى الروسيّة كل دمية يمكنها أن تشكل وحدة معنى مستقلة لكنها تتداخل بين بعضها البعض لتقدم لنا معنى أعلى هو معنى الفيلم في كليّته » (Vayssière، 2012 : 3) كما سبق أن ذكرنا. ويمكن تعريف الفيلم على أنه « تركيب مقاطع تحمل هي نفسها مشاهد مكونة من صور وأصوات ووحدات مَعنى لسانية » (Vayssière، 2012 : 3). وتطلق فايسيير على المشاهد تسمية « وحدات ظواهرية شاملة » إذ يمكن فهم العناصر « من خلال تمفصلها بين بعضها البعض، هذا التمفصل هو الذي يدركه المشاهد والذي يسمح له بالولوج إلى المعنى » (Vayssière، 2012 : 3).
من جهة أخرى، فإن السياق الفيلمي – الخارجي أو محيط الفيلم المتمثل في النوع والتاريخ وثقافة المشاهد – المستهدف والخلفية الثقافية والاجتماعية، ...إلخ، يؤثر بالضرورة في العنونة – التحتية. نحن إذن في محضر علاقة دينامية بين العنونة – التحتية والسياقات الفيلمية – الداخلية والخارجية.
2. السياق الأصغر والدوال الحوارية
يتمثل هذا السياق كما ذكرنا آنفا في السياق الفيلمي الداخلي ويتشكّل من دوال مصحوبة بالحوارات الفيلمية تكون إمّا لسانية متجسدة في النص المكتوب وهو في هذه الحالة العنونة التحتية أو صوتية-سمعية أو بصرية مرافقة للحوار. تندرج ضمن السياق الأصغر أيضا جميع التقنيات الفيلمية التي يلجأ إليها المخرج. ويتكون السياق الأصغر من: الدوال الحوارية اللسانية، والدوال الحوارية الصوتية-السمعية، والدوال الحوارية البصرية، والتقنيات الفيلمية، والدوال السمعية-البصرية
وسنركز هنا في هذا المقال على الدوال الحوارية اللسانية والبصرية والصوتية فقط دون التطرق إلى المكونات الأخرى للسياق الأصغر.
-
الدوال الحوارية اللسانية: تتمثل هذه الدوال في الخيارات اللسانية الحوارية مثل : التكرار، السجل المألوف جدا، إلخ. وهي، في الكثير من الأحيان، تنتمي إلى خاصيات الشفاهية قد تفيد هدفا تعبيريا محضا، وقد تكون كذلك علامة سوسيولسانية تشير إلى وضعية الفرد الاجتماعية وانتمائه الطبقي وتتجلى في السجل اللغوي على سبيل المثال.
-
الدوال الحوارية البصرية: تتمثل في « اللغة الجسدية » من إيماءات وحركيات الشخصيات الفيلمية مثل قسمات الوجه المعبّرة عن مختلف الانفعالات : الحزن، الفرح، الخوف، الحزن، إلخ...وحركات الجسد ككل.
-
الدوال الحوارية السمعية أو الصوتية: وتتمثل في مجمل الدوال الحوارية المتعلقة بطريقة الكلام (بما يحمل من مميزات اجتماعية وثقافية) والأصوات التي ترافق الحوار على غرار النغمية والتوقف عن الكلام ووتيرته واللّكنة، إلخ. وتساهم هذه الدوال في تقديم معلومات حول محتوى التبادل اللساني يكون مفهوما لدى المشاهد والمشاعر والأحاسيس والخلفيات التي ترافق هذا التبادل وتؤدي هذه الدوال، في معظم الأحيان، وظيفة تعبيرية وهو ما يشجع المعنون على اختيار تقنية التقليص مثلا.
خلاصة
نخلص هنا إلى أن الترجمة السمعية البصرية المتمثلة في العنونة التحتية لا يمكنها أن تتجاهل الحامل الفيلمي أي السياق الأصغر وبذلك لا يمكنها أن تضع جانبا الدوال الحوارية البصرية الصوتية ولا الدوال الفيلمية التي ترد فيها الترجمة وتساهم هذه الدول في اختيار استراتيجية التقليص والتكثيف والتكييف ولكن تساهم في الوقت نفسه في اختيار استراتيجية الترجمة الحرفية في بعض الأحيان. وجميع هذه الدوال (اللسانية، السمعية، البصرية) تحمل في طياتها الخلفية السوسيوثقافية للفيلم الأصل وتؤثر هذه الخلفية في الخيارات والاستراتيجيات الترجمية التي قد تحافظ تارة عليها وتُغيبها تارة أخرى حسب مساهمة الدوال الحوارية الصوتية البصرية والدوال الفيلمية في توضيحها أو العكس تكيّفها ليفهمها المستقبل الأجنبي أو توضّحها من خلال الإضافات.