اللسانيات : من المدونة إلى الحدس

قراءة في تحول الموضوع

Linguistique : du corpus à l'intuition. Lecture sur la transformation du sujet

Linguistic: from corpus to intuition. Reading on transformation of subject

عبد السلام شقروش

p. 515-523

Citer cet article

Référence papier

عبد السلام شقروش, « اللسانيات : من المدونة إلى الحدس », Aleph, 9 (1) | 2022, 515-523.

Référence électronique

عبد السلام شقروش, « اللسانيات : من المدونة إلى الحدس », Aleph [En ligne], 9 (1) | 2022, mis en ligne le 10 février 2020, consulté le 21 novembre 2024. URL : https://aleph.edinum.org/5957

أسعى في هذه الدراسة إلى الكشف عن تحول موضوع اللسانيات من المدونة مع المدارس البنوية إلى حدس المتكلم مع المدرسة التوليدية التحويلية، محاولا الوقوف على أهم العناصر المشكلة لأزمة المدونة في اللسانيات الحديثة. فكيف تمّ تجاوزها مع البراديجم التوليدي التحويلي؟
وقد خلصت الدراسة إلى أن تغيير الموضوع أدى إلى تغيير الأهداف من الدراسة، وكذا المنهج المتبع؛ مما أنتج وجهة بحثية جديدة تجاوزت باللسانيات المرحلة البنوية إلى ما بعد البنوية.

Dans cette étude, je cherche à révéler la transformation du sujet de la linguistique du corpus avec les écoles structurelles à l'intuition du locuteur avec l'école générative transformationnelle, en essayant d'identifier les composantes les plus importantes de la crise du corpus en linguistique moderne. Comment a-t-elle été croisée avec les paradigmes génératifs transformationnels ?
L'étude a conclu que le changement de sujet a entraîné un changement dans les objectifs de l'étude, ainsi que l'approche suivie, ce qui a produit un nouveau point de recherche qui a dépassé la linguistique de la phase structurelle au post-structuralisme.

I aim through this study, to reveal the transformation of the subject of linguistics from the corpus in the structural schools to the intuition of the speaker in transformation and generative school; trying to identify the most important points of the corpus’s crisis in modern linguistics.
So, we try to appear how was it solved and overcome inside transformation and generative paradigm.
The study concluded that: changing the subject led to a change in the objectives of the study as well as the approach, which produced a new research moving up the linguistics from structuralism to the post structuralism.

مقدمة

تسعى الدِّراسات العلمية لتفسير الظَّواهر محل الدِّراسة، وهذه الظَّواهر هي موضوع الدِّراسات، فلا يوجد علمٌ من غير موضوع، كما أن المعارف العلمية تزداد دقة بالتحديد الجيد لموضوعها، وكذا بدقة توليد إشكالياتها المنهجية، فكلما اكتنف الموضوع غموض كلما تداخلت وتشابكت المعارف المشتغلة عليه.

وقد شهدت الدراسات اللغوية تطورات كبيرة، وقطعت أشواطا من البحث والكشف عن قوانين اللغة منذ أقدم الحضارات غير أن التطورات الكبرى والانقلابات المنهجية بدأت مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، واستمرت هذه الأبحاث المكثفة إلى غاية القرن العشرين حيث شهد البحث اللساني حدثين هامين :

أولهما الإعلان عن ميلاد « اللسانيات الحديثة » مع مطلع القرن العشرين، وكان ذلك مع ظهور كتاب : « محاضرات في اللسانيات العامة » لـ : « فردينان دو سوسير »، الذي اعتبره العلماء والباحثون المؤسس الفعلي لهذا العلم، وذلك لسببين هما : التحديد الدقيق للموضوع، والصرامة المنهجية في الدراسة.

وثاني الحدثين هو ظهور النظرية التوليدية التحويلية في منتصف القرن العشرين والتي عدها بعض الباحثين بالثورة الكوبرنيكية في اللسانيات، وقد عدت كذلك لتغيير موضوع البحث في اللغة وكذا تغيير المنهج.

فما موضوع اللِّسانيَّات عامة؟ وكيف حددت التَّوليديَّة التَّحويليَّة هذا الموضوع؟

1. موضوع اللسانيات

يمكننا أن نحدد موضوع اللسانيات بالعودة إلى تعريفها :

فقد ورد تعريف اللِّسانيَّات في معجم (Dubois) بأنها الدِّراسة العلمية للغة (Dubois & et autre, 1999, p. 285) ؛ أي أن موضوع اللِّسانيَّات هو اللُّغة، كما حدد من قبل دوسوسير موضوع اللسانيات بقوله : « موضوع الألسنية الحقيقي والوحيد إنما هو اللغة في حد ذاتها ولذاتها » (دو سوسير، 1985، صفحة 347).

كما عرفت اللُّغة بكونها المقدرة الخاصة بالنوع البشري على التواصل عن طريق الإشارات الصوتية. وتتجلى هذه المقدرة بحسب فردينان دو سوسير في مستويين (دو سوسير، 1985، صفحة 26) :

  • اجتماعي : اصطلح عليه باللسان (langue) (Dubois & et autre, 1999, p. 266)، وهو نظام من الإشارات الصوتية الخاصة بمجتمع معين، والمستعمل كأداة للتواصل بين أفراده.

  • وفردي : اصطلح عليه بالكلام (parole) (Dubois & et autre, 1999, p. 346) : وهو التحقق الفعلي للسان.

وقد اختار دوسوسير الجانب الاجتماعي موضوعا للدراسة على اعتبار تميزه بالثبوت النسبي قياسا إلى سرعة تغير الجانب الفردي من اللغة؛ أي (الكلام). وقد ظل هذا التحديد لموضوع اللسانيات هو المهيمن على الدراسات اللسانية البنوية إلى غاية منتصف القرن العشرين حيث برزت مدرسة لسانية أمريكية قامت بتحديد جديد للموضوع؛ فقد قام تشومسكي بتقسيم جديد للغة كاشفا عن ثنائية (الكفاءة/الانجاز)مقابلا لثنائية دوسوسير (اللسان/الكلام)، غير أن ثنائية تشومسكي ركزت على الفرد ولم تتجاوزه إلى المجتمع، وتمثل هذا التقسيم في :

  1. الكفاءة : وهي نظام القواعد المخزنة في ذهن المتكلم والتي تكون مقدرته اللسانية (Dubois & et autre, 1999, p. 100).

  2. الإنجاز : ويمثل تمظهرات كفاءة المتكلم اللسانية في مختلف السياقات الكلامية (Dubois & et autre, 1999, p. 354).

إذن فاللغة تتجلى في مظهرين : مظهر مضمر، وآخر إنجازي، وقد حددت البنويَّة موضوع دراستها بالمظهر الإنجازي من اللُّغة ممثلا في المدونة (corpus)، بينما حددت التَّوليديَّة موضوع دراستها بالمظهر المضمر من اللُّغة ممثلا في حدس المتكلم، وقد عبر عن ذلك تشومسكي بقوله : « إن موضوع النَّظريَّة الأوَّل هو متكلم/ مستمع مثالي ينتمي إلى بيئة لغوية متجانسة تماما، ويعرف جيدا لغته، وحين يستعمل هذا الإنسان معرفته اللُّغويَّة في أداء كلامي فعلي، لا يكون مصابا بحالات غير ملائمة من الناحية اللُّغويَّة، كالحد من الذاكرة والشرود، أو السهو، أو انتقال الاهتمام والانتباه، والأغلاط العرضية أو المميزة » (Chomsky, 1965).

لقد اعتبرت التَّوليديَّة الجانب الداخلي (الضمني) من اللُّغة هو الظَّاهرة محل الدِّراسة، وأبعدت الجانب الإنجازي منها، ويكون البحث اللساني بذلك قد انتقل من « تركيز الاهتمام على السلوك ومنتجات السلوك إلى التركيز على نظام المعرفة الذي يكمن وراء استعمال اللُّغة وفهمها » (Noam, 1986, p. 151). إن هذا التغيير في موضوع البحث يمثل أهم تغيير في الدرس اللساني في القرن العشرين؛ فالظاهرة محل الدراسة لم تعد هي نفسها، فاللغة لم تعد هي الإنجاز الفعلي للأفراد بل صارت ملكة الإنجاز ؛ أي صار البحث في الملكة في حد ذاتها.

فما الدواعي الباعثة على تغيير موضوع البحث عند التوليديين؟

2. أسباب تغيير موضوع البحث

لقد اعتمد التَّوليديُّون الحدس متراجعين بذلك عن تقليد بحثي يفوق عمره الثلاثين قرنا()، وهو اعتماد المدونة.

فما الجوانب التي تجعل المدونة غير مرغوب فيها عند التوليديين؟ وكذا كيف استطاع التَّوليديُّون التعامل مع الجانب الضمني من اللُّغة، وهو جانب غير محسوس وبالتالي غير خاضع للتجريب؟

لقد اعتبرت التَّوليديَّة المدونة قاصرة، ولا يمكنها أن تمثل اللُّغة، وتمثل قصورها في جوانب ثلاثة :

1.2. عدم التمثيل

فإذا كانت اللُّغة بحسب تعريف تشومسكي « مجموعة (متناهية أو غير متناهية) من الجمل، وكل جملة منها طولها محدود، ومتكون من مجموعة متناهية من العناصر، وكل اللُّغات الطبيعية في شكلها المكتوب والمحكي تتوافق مع هذا التعريف » (Chomsky, 1965).

فأنى لأية مدونة أيا كان حجمها أن تكون معبرة تعبيرا صادقا عن اللغة؛ إذ يفترض في المدونة كي تحقق كفاية تعبيرية عن اللُّغة أن « تتكون من مجموعة جمل يفهمها كلّ متكلم اللُّغة التي يرغب الباحث في دراستها، ...وينبغي أن يكون للمدونة صفة تمثيلية كافية، وأن تكون نصوصها متماسكة؛ بحيث تتوافر للباحث إمكانية القيام بوساطتها بدراسته اللُّغويَّة » (زكريا، 1982، صفحة 97)، ومن خلال هذا التحديد يتبين لنا أنَّه لا يمكن لأية مدونة أن تلم بالتنوعات اللانهائية لجمل اللُّغة، لذلك ذهب تشومسكي إلى التخلي عن اعتماد المدونة موضوعا للبحث اللساني.

ومن ناحية أخرى يذهب تشومسكي إلى أن اللُّغة، وبحسب خاصيتها الإبداعية، في حالة تتجدد دائمة؛ أي قلما يحدث فيها تكرار، فما ينجز فعلا دائما يعبر عن الجديد، وليس تكرارا لتجارب سابقة، ومن ثمة فإن المدونة المسجلة تعبر عن حالة معينة ليست متكررة، ولن تتكرر.

2.2. الانحراف

يذهب تشومسكي إلى أن الإنجاز الفعلي للُّغة لا يساوي تماما الكفاية اللُّغويَّة؛ لأنه يتعرض إلى عوامل داخلية (بسيكولوجية)، وخارجية تنحرف به عن المطابقة التامة للكفاءة؛ كلفت الانتباه، أو السهو، أو الشرود، أو عدم التركيز، ... (Chomsky, 1965, p. 3).

إنَّ للنَّاطق باللُّغة كفاية لغويَّة تمثل مخزونا ذهنيًّا، وعندما يتكلَّم يحوِّل هذا المخزون من حالة السُّكون إلى حالة الحركة؛ أي من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وفي هذه الحال يحصل انحراف بنسب متفاوتة بين أفراد المجتمع الواحد تبعا للقدرات الفكرية والاستعدادات البسيكولوجية لكل فرد، وكذا اختلاف المقامات والظروف؛ أي المؤثرات الخارجية، فقد « يكون التلعثم بسبب الإعياء أو تكرار كلمة مرتين أثناء الكلام، أو التوقف في وسط الجملة ثمَّ إعادة ما سبق منها قبل تكملتها، أو انقطاع جملة بسبب مقاطعة المخاطب، أو خفض الصوت والهمس المفاجئ – وهي كلها ظواهر تطبع الاستعمال اللُّغوي الفعلي (الأداء) ... لاشك أنَّها ظواهر عارضة تمس الأداء اللُّغوي، وليس له علاقة بمعرفة الإنسان بلغته » (Noam, 1986, p. 151)، فإذا كانت المدونة هي المظهر الفعلي للغة، وإذا كان هذا الوجود الفعلي هو انحراف، ولو بصورة طفيفة عن الكفاءة، فلا بد من عدم الأخذ بالمدونة كأساس للتحليل اللغوي؛ لأنَّ نتائج الدِّراسة لن تكون معبرة تعبيرا صادقا عن اللُّغة، وذلك لاعتبار انحراف المنجز الفعلي عن الواقع الذهني للغة.

3.2. تداخل الأنظمة الذهنية

يذهب تشومسكي إلى أن الظَّاهرة اللُّغويَّة تعمل وفقا للمقاربة القالبية (الرحالي، 1992، صفحة 23) التي تتداخل فيها الأنظمة الذهنية المختلفة كالمبادئ العامة للتعلم وصياغة المفاهيم، ومبادئ المحادثة، وعلم النفس الإدراكي، ... وغيرها (Noam, 1983, p. 5)، وهذا التصور المعقد عن اللُّغة يجعل المدونة غير قادرة عن التعبير الصحيح عنها.

إن لجوء التَّوليديَّة إلى اعتماد الكفاءة موضوعا للدراسة اللُّغويَّة بدل المدونة قد جنبها جملة الانتقادات الموجهة للمدونة؛ أي القصور (عدم التمثيل)، والانحراف، وتداخل الأنظمة الفكرية؛ فالكفاءة من ناحية الكم تعبر عن اللُّغة بكاملها؛ لأنها تمثل مقدرة متكلم اللُّغة على إنشاء وفهم كلّ جمل لغته؛ ومن حيث الكيف فالكفاءة لا تخضع لمؤثرات داخلية، ولا خارجية؛ لأنها في حالة كمون، وما يتعرض للمؤثرات هو الإنجاز الفعلي.

بعدما رفض تشومسكي إمكان البحث عن قوانين اللغة من خلال المنجز اللغوي (المدونة) اختار الكفاية اللغوية موضوعا للسانيات، غير أن الاختيار توجهه صعوبات منهجية. فما هي هذه الصعوبات؟ وما هي الخيارات التي نهجتها التوليدية لتجاوزها؟

3. معضلات اعتماد الحدس موضوعا للدراسة

اعتمدت التوليدية موضوع بحثها المتكلم/المستمع حيث يذهب تشومسكي إلى أن :

« موضوع النَّظريَّة الأوَّل هو متكلم/ مستمع مثالي ينتمي إلى بيئة لغوية متجانسة تماما، ويعرف جيدا لغته، وحين يستعمل هذا الإنسان معرفته اللُّغويَّة في أداء كلامي فعلي، لا يكون مصابا بحالات غير ملائمة من الناحية اللُّغويَّة، كالحد من الذاكرة والشرود، أو السهو، أو انتقال الاهتمام والانتباه، والأغلاط العرضية أو المميزة » (Chomsky, 1965, p. 3).

إن اعتماد المتكلم/ المستمع الذي يعرف لغته جيدا، ويتكلم بعيدا عن المؤثرات التي تبتعد به عن القواعدية موضوعا للدراسة تعترضه إشكاليتان :

  • المثالية (غير الواقعية).

  • التجريد (غير الإمبريقية).

1.3. المثالية (غير الواقعية)

إن الصورة الأنموذجيَّة التي وصفت موضوع الدِّراسة اللغوية غير موجودة في الواقع، إنما هي من صنع الباحث، فما مدى مشروعية هذا العمل؟

إن لجوء البحث إلى تكييف تحكمي في موضوع بحثه يعد من الأمور المشروعة في البحوث العلمية؛ لأنَّ طبيعة الدِّراسة العلمية تقتضي الأمثلة (Edialisation) 1(بركة، 2007، صفحة 374) (قاموس أكسفورد الحديث لدراسة اللغة الإنجليزية (إنجليزي، إنجليزي -عربي)، 2009، صفحة 390)؛ أي أمثلة الظَّاهرة المدروسة، وهذا الأمر لم تبتدعه التَّوليديَّة التَّحويليَّة لتسهيل وتبسيط دراسة اللغة؛ على اعتبار ما تتميز به هذه الأخيرة من تعقيد وتشعب؛ إذ « الأمثلة » أسلوب علمي تعتمده كلّ الدِّراسات العلمية، وهو تقنية إجرائية تسهل الكَّشف عن قوانين الظَّاهرة محل الدِّراسة، يستعملها الفيزيائي مثلا عند دراسته لحركة الأجسام، وذلك بإهماله لبعض المؤثرات الخارجية، كالضغط الجوي واحتكاك الأجسام بالهواء (وذلك لتأثيراتها الجانبية، أو الهامشية)، حتَّى يخلص إلى تحديد القوى الفاعلة في الحركة، فعندما يعتبر الفيزيائي الجاذبية مثلا تقدر بـ 9.81 في كلّ نقطة على وجه الأرض فذلك انطلاقا من أمثلة الظَّاهرة؛ أي على اعتبار أن الأرض كروية الشكل، وبالتالي فأنصاف الأقطار فيها متساوية، وهذا خلاف للواقع فالأرض ليست كروية تماما؛ أي أن أنصاف الأقطار تختلف من مكان إلى آخر، وبالتالي تتغير الجاذبية من نقطة إلى أخرى، ولكن من أجل الوصول إلى قوانين عامة ارتأى الفيزيائيون أن « يؤمثلوا » (Idealization) الظَّاهرة فاعتبروا الأرض كروية، وهذه « الأَمْثَلَةُ » ليست تزويرا للحقائق « وإنما هي تقنية إجرائية تمكن الباحثين من تتبع مسارات الفرضيَّات من غير استطرادات هامشية تقطع هذه المسارات. وقد أدت الأمثلة دورا حاسما في تقدم العلوم إذ كما يقول راسل « كلما زاد ما نسقطه من حسابنا من التفاصيل غير المتصلة بالموضوع، زادت أفكارنا مقدرة » » (المعرفة العلمية، 2009، صفحة 48).

2.3. التجريد/ غير الإمبريقية

إن التعامل مع كفاءة المتكلِّم معناه التعامل مع أمر داخلي غير مرئي، وغير خاضع للملاحظة والتجريب، فكيف استطاعت التَّوليديَّة التَّحويليَّة تجاوز هذه المعضلة؟

لقد أدخلت التَّوليديَّة مفهوم الحدس، والذي يعني عندهم مقدرة المتكلم/المستمع المتمثل لقواعد لسان مجتمعة على الحكم على الملفوظات التي يسمعها بالصحة القواعدية أو القبول (Dubois & et autre, 1999, pp. 256-257)، واعتبرت الحدس المدخل إلى الكفاءة؛ أي أن تتمَّ دراسة اللُّغة من خلال مساءلة المتكلم/ المستمع؛ بمعنى أن تعرض عليه السَّلاسل الكلامية، والتي هي من صنع أو تصميم البحث، ويحاول المتكلم/المستمع الفصل فيما إذا كانت هذه السَّلاسل أصولية أم لا، وذلك استنادا إلى معرفته الضمنية بقواعد لغته؛ لأنَّ متكلم اللُّغة إذا كان سويا « غير معتوه، أو مصاب بخلل في جهازه العصبي، ولا مرض يتعلق باللُّغة، يمكنه أن يفهم كلّ جمل لغته، كما يمكنه أن ينتج كلّ هذه الجمل، وبالتالي يمكنه أن يحكم على سلسلة كلامية ما إذا كانت تمثل جملة أصولية، أم أنَّها منحرفة عن الأصولية » (دوراري، 1984، صفحة 142).

فعمل اللِّساني هو وضع الفرضيَّات ثمَّ محاولة اختبارها من خلال تصميم أمثلة ومساءلة المتكلم/المستمع، ويسقط تلك التي لا تصح عند الاختبار، ويعدل البعض الآخر، كما ينشئ فرضيَّات أخرى إلى أن يستقر الوضع على فرضيَّات تكون أكثر ملاءمة لتفسير الظاهرة اللغوية.

واللجوء إلى حدس المتكلم/المستمع لا يعني اعتماد آرائه المتعلقة باللغة؛ لأنَّ ذلك من عمل اللساني، وإنما يعني اللجوء إلى تقييمه للجمل التي تعرض عليه من الباحث، وذلك من خلال جهاز كفاءته القواعدية؛ إذ « لا بد في هذا الإطار من أن نميز بين الحدس اللُّغوي الخاص بمتكلم اللُّغة، وبين حدس الألسني الذي يقوم بتحليل اللُّغة، فمتكلم اللُّغة نلجأ إليه فقط، من حيث أنَّه يقدم لنا المعلومات حول ما يشعر بأنه قائم في لغته، ولا يمكن بالتالي اللجوء إليه ليقدم لنا الآراء حول طرائق تحليل المادة اللُّغويَّة، فالألسني يحلل المادَّة بالاستناد إلى تقنياته ونظريته العلمية، في حين أن متكلم اللُّغة يدلي أمامنا بالمعلومات حول الجمل التي نسائل حدسه حولها، فنتوصل من خلال مساءلة حدس المتكلِّم إلى كفايته اللُّغويَّة » (زكريا، 1982) (الفاسي الفهري، 1985).

وقد اعتبر تشومسكي الحدس؛ أي المقدرة على الحكم المستندة إلى الكفاية موضوعا للنظرية على اعتبار أن إمكانية الانحراف الواردة في « الإنجاز » (أي المدونة) كونه نشاطا عفويا، غير وارد بالنسبة للحدس المتسم باللاعفوية؛ أي الوعي التام، وبذلك يكون الحدس قد مثل حلا لأزمة المدونة في البحث اللساني المعاصر.

خاتمة

لقد غير تشومسكي وجهة البحث اللِّساني تماما عما كان عليه، فتبنيه للفلسفة العقلية أدى إلى تغيير موضوع البحث وكذا أهدافه،فلم تعد قوانين بناء الجمل (البنيات السطحية) هي الغاية من البحث اللساني كما كان في التقليد ما قبل التوليدي، بل صار الهدف هو الكشف عن القوانين الكامنة في الذهن، والمسؤولة عن إنتاج الجمل.

لقد تحول الهدف من القواعد الخاصة بالألسنة إلى القواعد الكلية الضابطة لإنتاج اللغة بما هي ظاهرة إنسانية.

إن هذا التغير أدى إلى أن « قوض الدعائم التي يقوم عليها علم اللُّغة الحديث، وأقام بناء آخر يختلف في أصوله لاختلاف نظرته إلى طبيعة اللغة » (الراجحي، 1979، صفحة 109)، فإذا كان سوسير قد أعلن عن ميلاد البنويَّة في البحث اللِّساني في محاضراته، فإن تشومسكي يعلن عن نهايتها، وبداية ما بعد البنويَّة في البحث اللساني.

- منذ أقدم الدراسات اللغوية التي وصلتنا وهي الدراسات الهندية.

1 الأَمْثَلَةُ: جعل الظَّاهرة مثالية أو إضفاء عليها صفات مثالية.

المعرفة العلمية. (2009). (محمد سبيلا، و عبد السلام بنعبد العالي، المترجمون) الدار البيضاء، المغرب : دار توبقال للنشر والتوزيع.

بسام بركة. (2007). قاموس لاوس المحيط (فرنسي -عربي). بيروت، لبنان : أكاديميا.

عبد الرزاق دوراري. (1984). مدخل إلى النحو التفريقي التحويلي من خلال كتاب تشومسكي « البنى التركيبية ». الجزائر.

عبد القادر الفاسي الفهري. (1985). اللسانيات واللغة العربية. الدار البيضاء، المغرب : دار توبقال للنشر والتوزيع.

عبده الراجحي. (1979). النو العربي والدرس الحديث (بحث في المنهج). القاهرة، مصر : دار المعرفة الجامعية.

فردينان دو سوسير. (1985). محاضرات فيالألسنية العامة. (صالح القرمادي، محمد عجيبة ، و محمد الشاوش، المترجمون) القاهرة، مصر : الدار العربية للكتاب.

قاموس أكسفورد الحديث لدراسة اللغة الإنجليزية (إنجليزي، إنجليزي -عربي). (2009). نيويورك : منشورات جامعة أكسفورد.

محمد الرحالي. (1992). بعض الخصائص الصورية للنمذجة اللسانية ضمن كتاب قضايا اللسانيات العربية. الدار البيضاء، المغرب : منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية.

ميشال زكريا. (1982). الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية (النظرية الألسنية). بيروت، لبنان : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.

Chomsky, N. (1965). Aspects of the theory of suntax. Massachusetts, USA: The MIT press.

Dubois, J., & et autre. (1999). Dictionnaire de linguistique et des science des langage. Paris : La Rousse Bordas.

Noam, C. (1983). Gramatical theory its limit and its possibilities. Chicago, USA : University of Chicago Press.

Noam, C. (1986). Knowledge of language its nature origin and use. Ruth Nada Anshen.

- منذ أقدم الدراسات اللغوية التي وصلتنا وهي الدراسات الهندية.

1 الأَمْثَلَةُ: جعل الظَّاهرة مثالية أو إضفاء عليها صفات مثالية.

عبد السلام شقروش

جامعة باجي مختار - عنابة

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article