مقدّمة
في خضمّ التّوجّه القائم في تعليم اللّغات على أساس أهداف استعمالها من قبل المتعلّمين، بات من الضّروريّ انتقاء المادة اللّغويّة الّتي يستدعيها كلّ هدف تواصليّ إلى جانب المضامين النّحويّة الّتي تخدم حاجات المتعلّم، وعرض هذه المضامين بشكلّ يناسب مستواه.
وقد خصّصنا هذا المقال للنّحو، مع علمنا أنّه يصعب فصل المجالات اللّغويّة بعضها عن بعض، عندما يتعلّق الأمر بتعليم اللّغة وتعلّمها؛ فكيف نفصل النّحو الّذي يحدّد قواعد تأليف الكلّام عن جانب دراسة الوحدات الإفرادية المشكلّة له، هذا من جهة، والوظائف الّتي تؤدّيها، من جهة أخرى. وعليه، لا يمكن أن يقتصر اكتساب الملكة اللّغويّة على جانب السّلامة النّحويّة، دون مراعاة الجانب المهاريّ للتّصرّف في بنى اللّغة حسب حال الخطاب؛ فالبلاغة كقدرة على الاتّصال الفعّال والمناسب لما تقتضيه أحوال الخطاب جانب ضروري أيضا.
ولدراسة هذا الموضوع، انطلقنا من التساؤلات الآتية : ما الّذي يحتاجه المتعلّم المبتدئ في اللّغة العربيّة؟ وما هي الظّواهر اللّغويّة الّتي ينبغي تعليمها له؟ وماهي أنجع الطّرائق في تقديمها؟ وكيف نجعل تعلّم هذه الظّواهر إجرائيّا وذا دلالة؟ لنخلص - في الأخير-، إلى تقديم مقترح يخصّ البنى النّحويّة، والتّراكيب الأساسيّة الّتي ينبغي اعتمادها في طرائق تعليم العربيّة لغير النّاطقين بها؛ لأنّ الاستعمال اللّغويّ لا يستغني عنها، سواء في المخاطبات الشّفاهية أو الكتابة.
1. ماهية النّحو
لعلّ خير تعريف للنّحو ما أورده ابن جنيّ (ت. 391 هـ) في كتابه الخصائص، إذ يقول : « النّحو هو انتحاء سَمت كلّام العرب في تصرّفه من إعراب وغيره؛ كالتّثنيّة والجمع والتّحقير والتّكسير والإضافة والنّسب والتّركيب وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل العربيّة بأهلها في الفصاحة، فينطق بها وإن لم يكن منهم، وإن شذّ بعضهم عنها ردّ به إليها » (ابن جني، الخصائص : ج1، 34). ونعني بالفصاحة في هذا السياق المهارة اللّغويّة العربيّة على حدّ تعبير الأستاذ عبد الرحمن الحاج صالح.
فالنّحو، على هذا المفهوم، هو « محاكاة العرب في طريقة كلّامهم تجنّبا للّحن، وتمكينا للمستعرب في أن يكون كالعربيّ في فصاحته وسلامة لغته عند الكلام » (عتيق 1990 : 135). ومن ذلك، فقد سُمّي علم النّحو بهذا الاسم لأنّ المتكلّم ينحو بهِ منهاج كلّام العرب إفرادًا وتركيبًا؛ فهو بمثابة « الوسيلة الّتي تمكّن من تحديد صحّة العبارات وتمييز ما ينتهي منها إلى اللّغة العربيّة عمّا سواه » ((Hadj Salah 1979 : ج2-12) نقلا عن : (المنصف، ج 1 : 180)).
وقد حصر الرّماني (ت. 384 هـ) تعريف النّحو في « تبيين صواب الكلّام من خطئه عن طريق القياس، وبالرجوع إلى مذاهب المتكلّمين اللّغويّة » (ينظر (Hadj Salah 1979 : ج2-10) نقلا عن : الحدود في النحو للرّماني، ص 38). وصرّح المازني (ت. 247 هـ) بقوله « ما قيس على كلّام العرب فهو من كلّام العرب » ((Hadj Salah 1979 : ج2-12) نقلا عن : (المنصف : ج 1-180)). كما يؤكّد الجازني (ت.421 هـ) على أنّ « النّحو هو مادة تدريسية علميّة تسمح بمعرفة أحوال كلّام العرب؛ من حيث صحّة تنظيمه والتّمييز بذلك بين الكلام الصواب والكلام الخاطئ » ((Hadj Salah 1979 : ج2-10) نقلا عن (الاقتراح للسيوطي، ص 6)).
إنّ هذه التعاريف، حسب رأي الأستاذ عبد الرحمن الحاج صالح، « تلفت النّظر إلى الميزة الأداتيّة للنّحو : فهو عبارة عن جهاز أو آلة تسمح باختبار نحويّة الكلام، والتّمييز بذلك بين ما ينتمي منه إلى العربيّة ممّا لا ينتمي إليها. وهذه العمليات الاختباريّة غير ممكنة دون معرفة أحوال الكلام، وهي هنا الأوصاف البنويّة للكلام الّتي تظهر على شكّل عدد متناه من الحدود أو قواعد التّركيب والتّحويل » (المرجع نفسه والصفحة نفسها).
وأمّا من الوجهة التّعليميّة، فيمكن أن نقول بأنّ القواعد هي « نتيجة نشاط استكشافي يسمح للمتعلّم بأن يكوّن لنفسه تمثّلا نفسيّا (Représentation métalinguistique) منتظما للّغة الّتي يَدرسها »، وهو « توجيه المعلّم لهذا النّشاط تبعا لتمثّله الميتا لغوي المنتظم الّذي يملكه عن اللّغة الّتي يُدرّسها » (Cuq 1996 : 41).
2. أصناف القواعد النّحويّة
صنّف ديرفن (1990) القواعد إلى صنفين رئيسيين هما : الوصفيّة والتّربوية، ومثّل تفريعاتهما بالشّكلّ الشّجريّ الآتيّ :
تعرّف القواعد الوصفيّة على أنّها المحتوى النّحويّ النّظريّ، المصاغ بشكلّ علميّ صوريّ تجريديّ. وتشمل القواعد المرجعيّة من جهة، والمؤلّفات العلميّة (التّقنية في غالب الأحيان)، من جهة أخرى؛ وتصف هذه الأخيرة، المعرفة المنتحاة لمستعمل اللّغة أو تقترح مثالا تجريديا، من جهة أخرى.
وأمّا القواعد التّربويّة (Grammaires pédagogiques)، فهي المحتوى النّحويّ التّربويّ المعدّ خصّيصا للتّعليم وفق مقاييس محدّدة؛ كنجاعة الإعداد، وفعاليته، وحاجات المتعلّمين. وهي تأخذ شكل توجيهات تربويّة، وبرامج نحويّة متضمّنة في مؤلّف مرجعيّ، أو كتاب تعليميّ (ينظر : Germain & Séguin 1998 : 54-55).
إنّ التّمييز بين النّحو الوصفيّ والتربويّ يوازي التّمييز الموجود بين النّحو التّعليميّ والنّحو العلميّ؛ فعلم النّحو، كما يقول الراجحي (1995)، يقدّم وصفاً لأبنية اللّغة، وهي معزولة عن سياق الاستعمال، ثمّ يصنّفها وفق معايير التّعميم والتّجريد. أما النّحو التّعليميّ، فهو يأخذ من الوصف الّذي توصّل إليه علم النّحو، فيطوّعه لأغراض التّعليم، ويخضعه لمعايير أخرى، تستعين بعلوم أخرى؛ « كعلم اللّغة النّفسيّ في السّلوك اللّغويّ عند الفرد، وبعلم اللّغة الاجتماعيّ في الاتّصال اللّغويّ، وبعلوم التّربيّة في نظريات التّعلّم وإجراءات التّعليم ». (المرجع نفسه : 102).
ولمزيد من التّفصيل عن الفروق الأساسية بين النّحو العلميّ والتّعليميّ، نقدم الجدول الآتي الّذي نلخّص فيه ما جاء به برمن (Berman 1979) في هذا الموضوع :
الجدول رقم 1 : الفرق بين النّحو العلميّ والنّحو التّعليميّ وفق برمن (1979)
النّحو العلميّ |
النّحو التّعليميّ |
يهدف أوّلاً وقبل كلّ شيء إلى الوصف، ومن ثمّ شرح المعرفة. |
يهدف إلى نشر المعرفة آخذا بعين الاعتبار المتعلّم. |
يهدف إلى التّجريد والعموم، ويترك -في غالب الأحيان- جانباً كلّ ما له علاقة بالاستعمال الفعليّ للّغة. |
يأخذ دوما بعين الاعتبار المواقف الملموسة والاستعمالات الحقيقية للّغة. |
يهدف إلى التّمام، ويتناول أكبر عدد ممكن من المعطيات الحقيقيّة. |
يكون اختياريا وفق الجمهور المستهدف، وغير معتمد على نماذج نظرية تقدّم وصفا مستوفيا للّغة. |
يستند ترتيب المضامين فيه إلى مقاييس البساطة، والعموم، والانسجام الدّاخليّ. |
يستند التّرتيب فيه إلى مقاييس النّفعيّة، والتّواتر، والتّجانس، ودرجة التّقارب بين اللّغة المصدر واللّغة الهدف. |
يعتمد على الشّروح والوصف. |
يمكن أن يعتمد على الشّرح أيضاً، ويكون معياريّاً بالضّرورة. |
3. طبيعة المعرفة النّحويّة
إنّ التّحدّث عن طبيعة المعرفة النّحويّة مرتبط بماهيّة القواعد ذاتها؛ فهي « جوهر اللّغة ولبّها وأساسها إذ ليست إلا عبارة عن نظامها البنويّ » (الحاج صالح 1973 : 70). فتكون بذلك طبيعة هاته المعرفة مرتبطة بالغاية من تناولها؛ إمّا ضمنيّة يستظهرها المتكلّم الفصيح بعفويّة في كلامه، أو قدرة يطوّرها الدّارس المتخصّص في اللّغة، لتصبح لديه معرفة نظريّة تمكّنه من فهم النّظام اللّغويّ، ووصفه، وتحليله باستعمال لغة متخصّصة.
إنّ إعمال الفكر بهذا الشكلّ، لا يقوم به مستعملّوا اللّغة السّليقيون؛ فنتحدّث عندئذ عن قواعد منتحاة (Grammaires intériorisées)، يتمّ اكتسابها بشكلّ عفويّ تلقائيّ كمعرفة خاصّة؛ تتكوّن عند مستعمل اللّغة على نحو انتقاليّ ذاتيّ أو فرديّ، وبكيفية بنائيّة معرفيّة تتأتّى من جرّاء الممارسة المستديمة للّغة خلال النّشاط التّبليغي (ينظر :1984 : 82 Besse & Porquier ).
ونخلص بهذا، إلى مفهوم شامل للنّحو يجمع بين المعرفة اللّغويّة النّظريّة، وكيفية ممارسة اللّغة بتمثّل مختلف أساليب الكلام وأنماطه؛ فتكون المعرفة النّحويّة على شكلّين اثنين : « شكل المثال والنّمط السّلوكيّ، وشكل القانون المحرّر (مع ما يصحبه من تعليق، وشرح، وشواذ) » (الحاج صالح 1973 : 70). إنّ معرفة النّمط السّلوكيّ هي معرفة عفويّة أو مهاريّة، ومعرفة القانون المحرّر هي معرفة نظرية. ويمكن التّمثيل لهذا بالجدول الآتي :
الجدول رقم 2 : المعرفة النّحويّة والوصف النّحويّ (Germain & Seguin 1998 : 32)
اللّسانيّ والنّحويّ |
مستعمل اللّغة الأولى |
الوصف أو التّمثيل النّحويّ الصّريح |
النّحو = المعرفة المنتحاة |
إنّ اكساب المتعلّم المعرفة النّحويّة عملية قوامها الفهم والإدراك إلى جانب الممارسة؛ فهي تستدعي بذلك معرفة نظرية تأمّليّة وواعيّة (explicite) للأحكام والقوانين اللّغويّة، بغية تعزيز وإثراء ما يتمّ استنباطه بطريقة استقرائيّة للنّماذج اللّغويّة الّتي تُعرض عليه. وقد أثبتت الدّراسات التّربويّة الحديثة أنّ ذلك لا يتأتّى بحفظ القوانين وتذكرها فقط، بل بعمليات ذهنيّة متنوّعة يمكن تصنيفها وفق عدة مستويات أوردها السيد (1987 : 132-133) كالآتي :
«- مستوى التّذكّر والاسترجاع : ويتمّثّل في قدرة الطّالب على استرجاع ما حفظه من قواعد؛
-مستوى الفهم : وفيه يكون الدّارس قادرا على التّعبير بلغته الخاصّة عمّا تعلّمه، فذلك هو دليل الفهم؛
-مستوى التّطبيق : وفيه يكون الدّارس قادرا على تطبيق ما تعلّمه من قواعد في مواقف المناشط اللّغويّة في حياته بشكلّ سليم؛
-مستوى التّحليل والتّركيب : وفيه يكون الدّارس قادرا على تحليل المواقف الّتي تعرض له في داخل المدرسة وخارجها ليرى إلى أيّ حدّ تراعى فيها القواعد والمبادئ الّتي تعلّمها، والقدرة على توظيفها في مواقف الحياة؛
-مستوى الحكم : وهو أرفع المستويات، وفيه يستطيع الدّارس أن يصدر أحكاماً على المواقف الّتي تعرض له في ضوء ما تعلّمه نقدا وتوجيها واقتراحا ».
وعليه، فإنّ طبيعة المعرفة النّحويّة تقتضي تخصيص وقفات تعليميّة لتعليم القواعد بطريقة صريحة، وعدم الاكتفاء بالتّعليم الضّمني لها؛ فمن « المخاطرة التّأكيد على أنّ التّواصل الفعّال أو وضع المتعلّم في مواقف تستدعي منه التّفاعل المكثّف في قسم اللّغة كافٍ لضمان اكتساب قواعد اللّغة الأجنبيّة بالضّرورة، كنوع من الهبة »1. ويكون بهذا تعليم النّحو جامعا بين :
-
التّعليم الصّريح المبنيّ على عمليات الإدراك، ويمكن أن يتمّ ذلك بطريقة استقرائية؛ « من خلال التّوضيحات المناسبة الّتي تتوافق مع مستوى النّضج والمعرفة والتّطور لدى المتعلّم »2. فالنّحو الصّريح يتعلّق بالتّعلّم، والتّعلّم عملية واعية تحتاج إلى تخطيط مسبق. (ينظر : صاري 2009 : 31).
-
والتّعليم الضّمنيّ الّذي يكون بالاستعمال الفعليّ للّغة، بدل تقديم المواضيع النّحويّة الصّريحة بمعزل عن التّوظيف الوظيفيّ لها.
4. معايير تحديد المضامين النّحويّة في تعليم العربيّة لغير النّاطقين بها
عرف مجال تعليم العربيّة إنجاز عدّة طرائق موجّهة للرّاشدين غير النّاطقين بها؛ ومع قلّة عددها مقارنة باللّغات الأخرى، فالملاحظ أنّ هناك اهتماما متزايدا بهذا المجال، ووعيا بضرورة الاعتناء بالمتعلّم غير النّاطق بالعربيّة، بصفة مختلفة عمّا يتّم به بالنّسبة إلى المتعلّم النّاطق بها؛ سواء من حيث انتقاء المضامين التّعليميّة أو طريقة ترتيبها، وعرضها على المتعلّم. ولكن غياب إطار مرجعيّ عام، للمضامين النّحوية مرتّبة وفق مختلف الوظائف اللّغوية، انجر عنه اختلافات من طريقة إلى أخرى في انتقاء المضامين، وترتيبها، وفق مختلف المستويات (من المبتدئ إلى المتقدم).
ومّما لا شكّ فيه أنّ التّعلّم اللّغويّ يستغرق وقتا طويلا، ويتطلّب جهداً كبيراً. وعليه، يستحيل أن نقدّم للمتعلّم كلّ عناصر اللّغة، وإن كانت ذات أهمية؛ وينجرّ عن ذلك ضرورة الاختيار الممعن لما يجب تقديمه للمتعلّم، لأن « اختيار محتوى المقرّر يمثّل عصب تعليم اللّغة » (الراجحي 1995 : 72). ويقتضي هذا العمل « إجراءات عمليّة أخرى تمكّن من نفخ الرّوح في هذا المحتوى؛ كي يكون مقرّرا صالحاً للتّعليم، وذلك «بتنظيمه» و «تدريجه» ، وتحديد إجراءات التّعليم، والوسائل التّعلّميّة، وطريقة التّعليم وغير ذلك » (المرجع نفسه والصفحة نفسها). فما هو الأساس الّذي يتمّ به اختيار محتوى التّعليم، وكيف يتمّ تنظيمه؟
1.4. اختيار المضامين النّحويّة وانتقاؤها
يقوم كلّ برنامج في تعليم لغة من اللّغات على أساس انتقاء ممعن للعناصر الّتي تتكون منها المادة المعنيّة، كخطوة أولى. وفيما يخصّ تدريس النّحو، فإنّ « العمليّة الانتقائيّة ضروريّة لإقرار كميّة ونوعيّة النّطاق النّحويّ الضّروريّ لتحسين الكفاءة اللّغويّة والتّواصلية للمتعلّمين، بالإضافة إلى مهارتهم التّحليليّة »3 (Mohamed 2021 : 9).
وعند محاولتنا دراسة هذا الجانب، من خلال مجموعة من الطّرائق الهادفة إلى تعليم العربيّة لغير النّاطقين بها، لاحظنا أنّ بعضها لا يتضمّن فهارس تفصيليّة للمواد النّحويّة الّتي تناولتها؛ مثل « سلسلة اللّسان الأمّ لتعليم اللّغة العربيّة لغير النّاطقين بها »، الّتي اكتفى واضعوها بإعطاء « إشارات عامّة إلى ما يُتوقّع للطّالب أن يحقّقه في كلّ مستوى من المستويات » (الحسن 2017 : 4). ضف إلى ذلك، عدم شرح المعايير المعتمدة في انتقاء المادّة النّحويّة في مقدّمة بعض الطّرائق. ويمكن أن نذكر هنا ما قاله الباحث محمد موفّق الحسن (المرجع نفسه : 5)، فيما يخصّ تخفيف بعض المباحث وحذف بعضها دون تقديم علّة ذلك، فنجده يوافق على بعض الخيارات، مثل حذف مبحث « إعراب الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب »، ويعارض خيارات أخرى مثل الاستغناء عن « مبحث كاد وأخواتها »، وعدم ذكر الأداة « كلّما » في مبحث « أدوات الشّرط غير الجازمة : إذا، لو، لولا، لما ».
أما فيما يخصّ الطّرائق الّتي أشارت إلى هذه المعايير - ومن بينها طريقة « العربيّة بين يديك »، الّتي اطّلعنا إليها-، نجد واضعيها يتحدّثون، في معظم الأحيان، عن استنادهم إلى مرجعيّات علميّة ومعرفيّة في المجال، واتخاذهم مبدأ تحديد الأهداف التّعلّميّة وفق مختلف الكفاءات والمهارات اللّغويّة المستهدفة : كالاستماع والكلّام، والقراءة والكتابة، من جهة، وجانب الاستعمال الوظيفيّ للّغة، من جهة أخرى. كما تعتمد بعضها معيار الشّيوع في الاستعمال والتّواتر في المدوّنات اللّغويّة الّتي رجعت إليها.
وجاء اتخاذ هذه الأسس ركيزة لإعداد الطّرائق التّعلّميّة، تبعا للمنهج العلميّ الّذي انتهت إليه الدّراسات في مجال تعليم اللّغات للنّاطقين بغيرها؛ ولكن لا بدّ من الإشارة إلى مسألة مهمّة قد تكون مفتاحا لفهم الصّعوبات الّتي يجدها المختّصون في تعليم العربيّة، عامّة، ولغير النّاطقين بها خاصّة، وهي نقص الأطر المرجعيّة، والأدوات التّعليميّة الضّرورية لتطبيق هذه الأسس. وهذا ما يجعل واضعي الطّرائق يعودون في أغلب الأحيان إلى كتب النّحو التّقليدية، علماً أنّها تختلف في أهدافها عن برامج تعليم اللّغة، كما سبق وأن ذكرنا. فكتب النّحو « مصدر أوّليّ » يجب تكييف مضامينه لتُقدّم ضمن :
« إطار تربويّ من التّعريفات، والمقارنات، والتّدريبات، وصياغة بعض القواعد الّتي تعين المتعلّم على تحصيل معلومات عن اللّغة واستخدامها بطلاقة (...) إن وضع مثل هذه القواعد يتم في ضوء عملية اختيار مثالية، ذلك أنّ اللّغويّ التّطبيقيّ يجب أن يختار ويلتقط من صياغاتها النّحو في ضوء خبرته؛ باعتباره رجل تربيّة وتعليم ما يناسب أهداف تعلّم اللّغة. وعليه أيضا أن يرى أيّ الطرق المناسبة تربوياً، الّتي يمكن في ضوئها تنظيم ما يختار وينتقي بشكل يقع من نفس المتعلّم وعقله موقع القبول والتّفاعل؛ أي أنّ القواعد الّتي ينبغي أن نعلّمها هي عبارة عن مواد استخلصت من علم النّحو لتستخدم كأسس لتدريس اللّغة » (النّاقة 1985 : 11-12).
إنّ الافتقار إلى مثل هذه المراجع، جعلنا لا نزال نلحظ احتواء بعض الطّرائق على مباحث نحويّة من قبيل « أنواع الكلمة »، و« تعريف الاسم »، و« تعريف الحرف »، على غرار ما ورد في طريقتيّ « اللّسان الأمّ » و« العربيّة بين يديك »، الموجّهتين لمتعلّمين يمتلكون تجربة لغويّة سابقة لهذه المباحث في لغات أخرى. فهذا التّرتيب القائم على أساس أصناف الكلّم وأقسامها هو ما ينتهجه أصحاب المؤلّفات النّحويّة أو أهل الصّناعة في بدايات مؤلّفاتهم، كبيان لأقسام الكلّام عموما، الّذي سيكون موضوع تحليلهم، لا جوهر التّحليل أو منطلقه.
2.4. تنظيم المضامين النّحويّة
يقوم كلّ برنامج تعليميّ للّغة على أساس تنظيم العناصر الّتي تمّ انتقاؤها، وتوزيعها على وحدات تعليميّة منسجمة، تتكوّن من مجموعة من الأنشطة البيداغوجيّة، المقدّمة وفق اختيار منهجي معيّن؛ وتعرض فيها المعطيات الجديدة بهدف شرحها وتكرارها واستثمّارها، ثمّ تثبيتها، فنقلها إلى سياق آخر من التّعبير الشّخصيّ والتّلقائيّ (ينظر : Galisson & Coste 1976).
إنّ الغاية من التّرتيب، والتدرّج للمضامين التّعلّميّة هو « أن نجعل المتعلّم لا يحسّ بأيّة غرابة عندما ينتقل من درس إلى آخر، بل أن يشعر بوجود تسلسل متماسك بين الدّروس المتتالية. ولا يتمّ ذلك إلاّ إذا كان الدّرس الواحد يرتبط بما قبله، لما فيه من التّدعيم والتّثبيت للمكتسبات السّابقة وبالّذي يليه لما فيه من التّمهيد له… » (الحاج صالح 1973 : 63). فالمنظّرون لتعليم اللّغات ينادون بضرورة الابتعاد عن التّرتيب الخطّيّ للعناصر اللّغويّة، وأن « يتمّ التّرتيب على شكلّ لولبي، كلّ مادّة جديدة ترد في مرات عدة » (ينظر : Vriendt : 39)، وينهون أيضا عن التّنظيم المكثّف الّذي يحشد العناصر اللّغويّة، ويبتعد عن التّرتيب المنطقيّ (الاحتواء والالتزام) بين أجزائها. ومن خصائص ذلك، الانتقال في المضامين النّحويّة بشكلّ لولبيّ يتيح التّمهيد لمضامين معيّنة، مع إمكانية العودة إليها بشيء من التّعقيد كما في الشّكلّ التّالي :
كما يتطلّب تنظيم المحتوى، خاصّة إذا تعلّق الأمر بالتّعلّم اللّغويّ، مراعاة مبدأ حصول التّعلّم بصفة تدريجيّة وليس دفعة واحدة، وهذا يكتسي إيجابيات؛ من حيث إنّ المتعلّم يرى الفائدة ممّا يتعلّمه ما دام مرتبطا بالاستعمال الفعليّ للّغة. ضف إلى ذلك، الفرص الّتي تعطى للمتعلّم للتّمعّن في المبحث النّحويّ الواحد، كلّما عاد إليه بتفصيل وتوسيع أكبر من الدّروس السّابقة؛ فالضّمائر مثلا، يمكن أن يقدّم منها ضمائر المفرد المنفصلة، ثمّ ضمائر الجمع المنفصلة، فضمائر المفرد في حالة النصب، وضمائر الجمع في حالة النصب ... ممّا يتيح فرصة طبيعية لمراجعة المادة في « سياقات » مختلفة، وهذا مهمّ جدا في الاستعمال اللّغويّ، وهو ما يجعل تعليم اللّغة أسرع حين يجد المتعلّم نفسه قادرا على استعمال ما يتعلّمه، وفي ذلك تقوية لدافعيته لتعلّم اللّغة (ينظر الرّاجحي 1995 : 74) (بتصرّف)).
وهذه جملة من الملاحظات الأخرى، فيما يخص تنظيم المضامين النّحويّة، يمكن اعتبارها بمثابة اقتراحات عمليّة، يستحسن الأخذ بها :
-
مراعاة الجانب الوظيفيّ في اختيار المباحث النّحويّة وترتيبها. ولتوضيح هذه النقطة، اخترنا المثال الّذي جاء به الباحث الحسن (2017) عند اطلاعه على طريقة « اللّسان الأمّ » (الكتاب المبتدئ-الجزأين الأوّل والثاني)؛ حيث بيّن اعتماد واضعيها على كتب النّحو التّقليدية الموجّهة للنّاطقين بالعربيّة، فجاء ترتيب بعض المباحث فيها كالآتي : « أقسام الكلّمة »؛ « تعريف الاسم »؛ « تقسيم الفعل إلى ماض ومضارع وأمر »؛ « تعريف الحرف »؛ « الجملة بنوعيها : اسمية وفعليّة...إلخ »؛ وتتخلّلها بعض المواد المختارة اختيارا وظيفيّاً، مثل : « قد » و« المضاف إليه ».
-
تناول بعضّ المباحث في بداية التعلّم، وتفادي تأخيرها إلى المستويات المتقدّمة لأهميّتها. ونذكر على سبيل المثال مبحث « الصّفة » - الّتي يرى الباحث الحسن (2017) أنّه على أهميتها- تناولتها طريقة « اللّسان الأمّ » في الكتاب المتقدّم، أمّا في « العربيّة بين يديك » فوردت في الجزء الأوّل من الكتاب الثّانيّ. كما أكّد على ضرورة التّركيز على المطابقة بين الصّفة والموصوف في الجّنس والعدد.
-
إرجاء تناول بعض المباحث إلى المستويات المتقدّمة. ومثالنا في ذلك : مبحث « الفعل اللاّزم والمتعدّي » الوارد في الدّرس الخامس من الجّزء الثّانيّ من الكتاب المبتدئ لسلسلة اللّسان الأمّ، وفي الجزء الأوّل من الكتاب الثّانيّ لطريقة « العربيّة بين يديك ». (ينظر : الحسن 2017)؛
-
تقديم بعض المباحث كمباحث وظيفيّة وليس صرفيّة. مثل « أسلوب التّفضيل »، الّذي هو من التّراكيب الوظيفيّة الأساسيّة الّتي يستحسن تناولها في المستويات الأولى. وكذا مبحث « مطابقة الفعل لفاعله - من حيث التّأنيث والتّذكير »، الّذي تمّ تأخيره في طريقة « العربية بين يديك »، ليقدّم عليه مبحث « نون التّوكيد »، رغم كونه قليل الشّيوع والتّواتر في الخطاب. (ينظر : الحسن 2017)؛
-
مراعاة مبدأ الشّيوع في إدراج بعض المباحث غير الضّرورية في المستويات الأولى. كباب « ظن وأخواتها »، على أن يستلّ منه تركيب « ظننت أنّ + مبتدأ + خبر »، ليعرض في المستويات الأولى بوصفه تركيبا وظيفيّا. وكذلك الحال بالنّسبة إلى « عمل اسم الفاعل »، و« عمل اسم المفعول » المعروضين في طريقة « العربية بين يديك » ضمن الكتاب الثّالث. (ينظر : الحسن 2017).
-
تقديم بعض المباحث ضمن مباحث أخرى ليكون لتدريسها معنىً؛ فالأخصّائيون في تعليم اللّغات يلحّون على أنّ تعرض المعلومات الجّديدة مع الخبرات السّابقة عن طريق ربط الصّلة بينها، حتّى يتسنى للمتعلّمين استيعابها. فـ « الخلط في التّبويب من أسباب ضعف الطّلاّب؛ لما فيه من الخلط بين المسائل المتباينة حينا، أو تمزيق المسائل المتّحدة في عدّة مواطن حينا آخر » (إبراهيم 1975 : 116). وقد يتسبب التباعد بين الموضوعات وترتيبها في اضطراب الفهم لدى المتعلّم.
-
اغتنام فرصة تدريس بعض المباحث لإدراج مسائل وظيفيّة مهمّة بالنّسبة إلى المتعلّم في المراحل الأولى من تعلّمه؛ فلا يعقل أن يؤخّر تناول بعض المسائل في التّعليم للأجانب مثل : « قلب زمن الفعل المضارع إلى الماضي مع لم، وإلى المستقبل مع لن »، إلى المستويات المتقدمة بعلّة صعوبتها. فالتدريج الوظيفي يشتمل على « شواهد الاستعمال اللّغويّ الواقعي، وفي الوقت نفسه لا يغض الطرف عن الأسس النّحويّة والموقفية، حيث تتدرج القواعد الوظيفية على حلقات المقرّر، بسيطة أوّل الأمر، ثمّ تتوسّط، وتتركّب في الحلقات التّالية في شبكة من علاقات الوظائف اللّغويّة؛ فيساعد ذلك على وضع اللّغة في إطار طبيعي غير مصطنع » (الرّاجحي 1995 :76 77-).
-
إعطاء أهمية للعناصر اللغوية الّتي لها« انتشار واسع في كلّ المستويات اللّغوية، مثل : حروف العطف، وحروف الجر، والجر بالإضافة والأفعال الماضية والمضارعة، ومثل هذه العناصر أنفع في تعليم اللّغة، لأن المتعلم يستطيع توظيفها للتعبير عن موضوعات شتى» . (ينظر : صاري 2009 : 39).
5. تحديد المضامين النّحويّة بالاستناد إلى الأطر المرجعيّة للغات
لاحظنا في السنّوات الأخيرة تزايدا في الاهتمام بوضع مخطّطات لتحديد المستويات المرجعيّة في تعليم اللّغات وتقييمها، وهذا باعتماد مقاييس تخصّ الأهداف والمضامين التعلّميّة. ويُعدّ الإطار المرجعي الأوربي المشترك للّغات أحد هذه الأطر، الّتي حاول بعض الباحثين تكييفه بالنّسبة إلى اللّغة العربيّة؛ وهو عبارة عن وثيقة أعدّها قسم السّياسة اللّغويّة في إدارة التربيّة بمجلس أوروبا، بهدف وصف مقرّرات اللّغة الأجنبيّة، ومناهجها، واختباراتها في دول المجلس. ويعتبر هذا الإطار دليلا يرجع إليه العاملون في حقل تعليم اللّغات الأجنبيّة في عمليات بناء المناهج، والمواد التعليمية، والتقييم اللغويّ؛ حيث يصف ماهية المعارف، والمهارات الّتي تمكّن المتعلمين من توظيف اللغة في مختلف المواقف التواصلية. كما يحدّد مستويات الكفاءة المستهدفة، في كل مرحلة من مراحل العمليّة التعليميّة (ينظر : الإطار المرجعي الأوروبي العام للّغات، ترجمة : عبد الجواد وآخرون 2008 : 14 (بتصرّف)).
ويتضمّن هذا الإطار إرشادات لاختيار المضامين اللّغويّة الواجب تعليمها، وفق مستويات المتعلّمين، وربطها بمختلف المقامات الّتي تستوجب درجة دنيا من التحكّم اللّغويّ؛ فيجتهد المختصّون في تحديد المضامين الّتي تتوافق مع كلّ موقف من المواقف التّواصليّة المختارة. ولتوضيح هذا، نقدّم الأمثلة الآتية :
الجدول رقم 3 : أمثلة عن الظّواهر اللّغويّة الّتي يمكن تناولها وفق مختلف المواقف التّواصليّّة
المواقف التواصلية |
الظّواهر اللّغوية الّتي يمكن الوقوف عندها |
|
الموقف الأوّل |
تقديم النّفس للآخرين |
الضّمائر : ضمير المتكلّم والمخاطب. |
الموقف الثّاني |
السّؤال عن أمر ما |
بعض أدوات الاستفهام : كيف؟ ما هي؟ .... |
الموقف الثّالث |
طلب معلومات (عن مكان ما،... ). |
بعض أدوات الاستفهام (أين؟). |
الموقف الرّابع |
إعطاء تعليمات. |
فعل الأمر، والفعل المضارع المقرون بلام الأمر. |
الموقف الخامس |
التّعبير عن المشاعر والرّأي الشّخصيّ في موضوع ما |
الفعل المضارع وبعض القرائن المرتبطة به. |
إنّ الاعتماد على توضيح المضامين بهذا الشكل، وبما يوافق كل مستوى لغويّ، يسهل دون شكّ عمل واضعيّ الطرائق ومصمميّ المناهج؛ لكن يبدو أنّ الإطار المرجعي الأوروبي، لم يعرض المضامين النحويّة بالدقّة نفسها الّتي قدّم بها الموضوعات، والمفردات مثلا؛ فهو لا يوفّر منهجا عاما لتدرّج المضامين بالنسبة إلى المباحث النحويّة يناسب كلّ اللّغات، لاستحالة ذلك بالطبع (ينظر : Mohamed 2021 : 9).
وبالرغم من هذه الصعوبات إلآّ أنّنا نجد باحثين ومختصّين حاولوا تطبيق ما جاء في الأطر المرجعيّة من إرشادات وتوجيهات عامّة، وتكييف ما جاءت به بالتّفصيل؛ بما يتطابق مع خصوصيّات اللّغة العربيّة. ومن بين هذه الاجتهادات يمكن أن نذكر :
-
منهج اللغة العربية للناطقين بغيرها حسب الإطار المرجعي الأوروبي المشترك للغات على المستويين A1-A2. (جوتشين 2015)؛
-
تطوير منهج للغة العربية حسب السمات البارزة لواصفات مستويات الإطار المرجعي الأوروبي المشترك للغات (Mohamed 2021)
-
«طريقة أهداف » التي أنجزت استنادا للإطار الأوروبي المرجعي للغات (A1-A2).(Tahhan & Guglielmi 2015)؛
-
«طريقة Elementary Arabic» التي أنجزت بالاستناد إلى إرشادات المجلس الأمريكي لتعليم اللغات الأجنبية (ACTFL). (Mohamed & Issa 2021).
وتبقى هذه الاجتهادات جزئيّة تخصّ بعض المستويات وليس كلّها. كما أنّ بعضها ما زال يعتمد في وضع المضامين النّحويّة على النّظرة التّقليديّة لها. وأمثلتنا على ذلك ما جاء في برنامج اللّغة العربيّة المشترك بين بلدان المغرب العربيّ الثّلاثة الجزائر، والمغرب، وتونس (ELCO)؛ المعدّ بالتّعاون مع وزارة التّربيّة الوطنيّة الفرنسيّة (Ministère de l’éducation Nationale Française 2010 : 17) (المرجع نفسه). واعتمادا على الإطار الأوروبيّ المرجعيّ المشترك للّغات. فقد لاحظنا :
-
تناول «ظاهرة الأفعال الخمسة » بمعزل عن درس «الفعل المضارع» ؛
-
تناول «ظاهرة التّطابق بين الفعل والفاعل» دون تحديد مستوى التّناول؛ والمهمّ هنا الإشارة إلى أنّ الفعل متّصل دوما بفاعله فهو جزء منه؛
-
إدراج «المفعول به » ضمن «المخصّصات» ، مع أنّه جزء من البنية التّركيبيّة.
6. تقديم مقترح للمضامين النّحويّة لتعليم العربيّة لغير النّاطقين بها
بناء على ما سبق، وضعنا فهرسا خاصّاً بالظّواهر اللّغويّة (دون ما يتعلّق بالجوانب الصّوتيّة، والإفراديّة)، مستندين في ذلك إلى ما جاءت به النّظريّة الخليليّة الحديثة؛ الّتي تعتمد على إحياء النّظرية النّحويّة الأصيلة للنّحاة القدامى، وعلى رأسهم الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت. 175 هـ)، وتلميذه سيبويه (ت. 180 هـ)، ومن جاء بعدهما من النّحاة العباقرة، أمثال ابن جني، والرّضي الاستراباذي (ت. 686 هـ)، وغيرهم ممن شافهوا فصحاء العرب، ابتداء من القرن الثّانيّ الهجري حتى نهاية الرّابع منه. وتعتبر تأويلا علميّا لما قاله هؤلاء. ويعود الفضل في بعث أسسها، ونشر أفكارها إلى الأستاذ عبد الرّحمن الحاج صالح -رحمه الله-، الّذي قدّم قراءة نوعيّة، وجديدة لمفاهيمها، ومبادئها في تحليل اللّغة.
وبإمعان النّظر في جوهر المفاهيم الأساسيّة للنّظرية الخليليّة الحديثة، يتبيّن أنّها توفّر إطارا نظرياً إبستمولوجياً يمكن الاعتماد عليه وتبنيه، لبناء تصوّر نحو تعليميّ للّغة العربيّة.
1.6. المفاهيم الأساسية للنّظرية الخليلية الحديثة
رجعنا في بحثنا هذا إلى أسس ومبادئ التحليل اللّغوي في النظريّة الخليليّة، الّتي نعرض أهمها فيما يلي :
-
مفهوما الانفصال والابتداء : اتّبع النّحاة العرب الأوّلون طريقة علميّة موضوعيّة في تحليل الكلام، مستغلّين هذين المفهومين؛ وهما صفتان يتحدّد بهما الكلام الأدنى. فـ «الوحدة الدالة كالاسم والفعل هي وحدة قد تكون على شكل مفردة مثل « كتاب » أو شكل هذه المفردة مع شيء يدخل عليه مما يحدّد معناه أو يخصّصه مثل : « الكتاب »، و« بالكتاب »، و« كتاب زيد »، و« كتاب مفيد »، إلى غير ذلك» (الحاج صالح 2012أ : 73).
-
مفهوما الأصل والفرع : الأصل عند العرب هو «ما يبنى عليه ولم يبن على غيره » ، وهو أيضا ما يستقلّ بنفسه أي يمكن أن يوجد في الكلام وحده ولا يحتاج إلى علامة ليتمايز عن فروعه (فله العلامة العدميّة)، فهو العنصر الثّابت المستمر الّذي لا زيادة فيه أو النّواة ولهذا يرمز له بالصفر. و «كلّ كيان لغويّ إمّا أصل يبنى عليه أو فرع يبنى على أصل أو أصول (على مثال سابق)» (الحاج صالح 2012ب : ج1-321).
-
مفهوم المثال (الحدّ) : هو «حدّ تتحدّد به العناصر اللّغويّة ولكنّه حد إجرائيّ processive definition لأنه ترسم فيه جميع العمليات الّتي بها يتولّد العنصر اللّغويّ في واقع الخطاب أو بعبارة نحاتنا : تبنى عليه المفردة أو الكلام» (الحاج صالح 2012ج : ج1-319). وينطبق على كل مستويات اللّغة «في أدناها كمستوى الكلمة (وهي المكوّن للّفظة) ومستوى الترّاكيب الّذي هو فوق اللّفظة » (المرجع نفسه : 251)، ثمّ «إن جميع مستويات اللّغة (الصّوتي والصّرفي والتّركيبيّ) يتكوّن من حدود أو مثل مولّدة كل واحد منها يكون زمرة» (الحاج صالح 2012د : ج2-87).
-
مفهوما الموضّع والعلامة العدميّة (Ø) : على حد تعبير الأستاذ عبد الرحمن الحاج صالح، «فإنّ مفهوم الموضّع مهمّ جدا لأنه اعتباريّ إذ ليس مجرّد موقع للوحدة اللّغويّة في مدرج الكلام» (المرجع نفسه : 86). ويمكن أن يكون هذا الموضّع فارغا «لأن الموضّع شيء، وما يحتوي عليه هو شيء آخر، ثمّ إنّ خلوّ الموضّع من العنصر له ما يشبهه، و« هو الخلوّ من العلامة » أو « تركها » وهو ما نسميه بالعلامة العدمية (Expression zero) وهي الّتي تختفي في موضع لمقابلتها لعلامة ظاهرة في موضع آخر»(الحاج صالح 2012هـ : ج1-222).
-
مفهوم اللّفظة ومفهوم العامل : لم يخلط النّحاة العرب الأوّلون، عند تحليلهم للّغة بين البنية الصّوريّة النّحوية للّفظ، وبين آليات الإفادة، والمفاهيم الرّاجعة إلى المعاني وحدها. ورأوا ضرورة الانطلاق في تحليل اللّغة من اللّفظ وحده، دون اللّجوء إلى المعنى المقصود، وأن يقدّموا دراسة اللّفظ على دراسة المعنى؛ لأن المعنى يفهم من اللّفظ. والمستوى اللّغوي الّذي انطلق منه النّحاة العرب الأوّلون ليس هو مستوى الوحدة الصّوتيّة، ولا مستوى الكلمة، ولا مستوى الجملة، بل هو مستوى اللّفظة (La lexie )، وهو « المستوى الّذي تتّحد فيه الوحدة اللّفظيّة والوحدة الإعلامية (أو الإفاديّة)» (الحاج صالح 2012ب : ج1-324). ويعرّف الأستاذ عبد الرحمن الحاج صالح الوحدات
ولعلّ أهمّ ما يميّز هذه النّظرية أيضا، تحديدها للمستويات اللّغويّة ومحوريّة مستوى اللّفظة فيها، مثلما يبيّن ذلك الجدول الآتي :
الجدول رقم 4 : مستويات التّحليل في النّظرية الخليليّة الحديثة
المستوى 5 |
أبنية الكلام |
المستوى 4 |
اللّفظة : الأسماء والأفعال مع العلامات الّتي تدخل على كلّ واحد منهما. |
المستوى 3 |
الكلم : وهي على ثلاثة أنواع : اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل. |
المستوى 2 |
الدّوال (العناصر الدّالة) وهي : أربعة أنواع : مواد أصليّة - صيغ - حروف معان - ترك العلامة. |
المستوى 1: |
الحروف : اقتصرت العربيَّة على ثمّانية وعشرين حرفا جامدا وستة أصوات (حركات وحروف مد). |
المستوى 0: |
الصّفات المميّزة : المخارج : من الحلق إلى الشّفة. الصّفات : الجهر - الهمس - الغنّة وغيرها من الصّفات. |
2.6. البرنامج المقترح
بعد أن وضّحنا هذه المفاهيم، نعرض على القارئ الفهرس الخاصّ بالظّواهر اللّغويّة الّذي نقترح اعتماده؛ وقد بنيناه على مستويين من مستويات اللّغة العربيَّة، وهما : مستوى اللّفظة؛ بنوعيها اسمية وفعلية، ومستوى أبنية الكلام، اللّذين يحويان مضامين أساسيّة، وهامة لأي منهج لتعليم اللّغة العربيَّة وتعلّمها.
ويكون هذا الفهرس في شكل برنامج متكامل للظّواهر اللّغويّة يتمّ الرّجوع إلى مضامينه لإعداد الوحدات التّعليميّة. وقد تمّ توزيع هذا البرنامج على محاور بالشّكل الآتي :
-
المحور النّحويّ الأوّل : الاسم أو اللّفظة الاسمية :انطلقنا في توزيع الدروس من اللّفظة الاسميّة باعتبارها أصغر قطعة دالّة لا يمكن الوقوف على جزء منها مع بقاء الكلام مفيدا؛ وهي الاسم المظهر ويطلق عليها «ما ينفصل ويبتدأ»، ثمّ انتقلنا إلى القطع الّتي بمنزلتها؛ أي الّتي تتفرع عنها، وهي مكافئة لها من حيث الانفصال والابتداء. فالاسم هو الأصل، وهو أكثر تمكّنا من الفعل، ويقبل عددا كبيرا من الزّيادات على اليمين واليسار. والنّكرة هي الأصل الّذي ينطلق منه النّحاة العرب في تحليل اللّفظة الاسمية. ثمّ ننتقل إلى بعض فروعها الّتي هي بمنزلتها.
-
المحور النّحوي الثّانيّ : الفعل أو اللّفظة الفعليّة : الفعل في نظرية الأستاذ عبد الرّحمن الحاج صالح هو أحد أنواع الكلم الثّلاثة، يدلّ من حيث المعنى على الحدث، وهو من حيث اللّفظ عبارة عن لفظة تدخل عليها زوائد مثل (لن، لم، سـ إلخ)، والضّمائر المتّصلة مثل (ت، نا) (ينظر لمزيد من التفاصيل : مكي 2002).
-
أدرجنا في هذا الفهرس اللّفظة الفعليّة في صيغها الثّلاث : صيغة الحدث المنقطع (الفعل الماضيّ)، وصيغة الحدث غير المنقطع (الفعل المضارع)، وأخيرا صيغة الحدث الّذي لم يقع بعد (افعل).
-
المحور النّحوي الثّالث : التّركيب الاسميّ : تشكّل الكلمات عند تركيبها نظاما جزئيّا؛ هو النّظام الترّكيبيّ مكوّن من الترّاكيب الّتي تندرج في المستوى الخامس. وأبنيّة الكلام هي القوالب الّتي تفرغ فيها الكلمات لتكوّن وحدات أكبر تسمى التّراكيب. نتناول هنا البناء الّذي يقع بين لفظتين اسميتين.
-
المحور النّحوي الرّابع : التّركيب الفعليّ : الهدف من هذا المحور النّحويّ هو تعليم البنية التّركيبيّة المكوّنة من الفعل، والفاعل، والمفعول به، باعتبارها أصغر بنية تركيبيّة في اللّغة العربيَّة. وهي الأصل الّذي يتفرع عنه أبنية الكلام الأخرى.
نقدم في الجدول الآتي قواعد اللّغة العربيّة في صورة نحو تعليميّ، هدفه تزويد المتعلّم بالآليات الّتي تمكّنه من استيعاب الوسائل المختلفة الّتي تملكها اللّغة العربية، ويسخّرها المتكلّم للتعبير عن مراده ومقاصده.
الجدول رقم 5 : الفهرس المقترح للظواهر اللّغويّة
المحور النّحويّ |
توزيع القواعد المتعلّقة به على الدروس |
المحور الأوّل : الاسم أو اللّفظة الاسميّة |
النّكرة والمعرفة (التّعريف بألـ والإضافة) |
المفرد والمثنى |
|
المفرد والجمع |
|
الّتذكير والتّأنيث |
|
بعض حروف الجّر (من، إلى...)+ الاسم |
|
الاسم + النّعت |
|
بعض أسماء الإشارة (هذا، هذه، هؤلاء) |
|
المحور النّحويّ الثّانيّ : الفعل أو اللّفظة الفعليّة (صيغة الماضي وصيغة المضارع وصيغة الأمر) |
صيغة الفعل الماضي أو الدّلالة على الحدث المنقطع (فعل+ ضمير) |
قد + (فعل x ضمير) |
|
صيغة الفعل المضارع أو الدلالة على الحدث غير المنقطع (فعلx ضمير) |
|
السّين وسوف + (فعل x ضمير) |
|
صيغة الفعل الأمر (فعل ضمير) |
|
المحور النّحويّ الثالث: التركيب الاسميّ |
التّركيب الاسميّ البسيط (ع م1، م2) |
البنية التّركيبيّة الأصل : |
|
دخول العوامل اللفظية « كان وأخواتها » على البنية التّركيبيّة : |
|
دخول العوامل اللفظية « إنّ وأخواتها » على البنية التّركيبيّة : |
|
المحور النّحويّ الرابع: التركيب الفعلي |
التّركيب الفعليّ البسيط (ع م1، م2) |
الفاعل |
|
المفعول به |
|
الفعل اللاّزم والفعل المتعدّي |
|
الفعل المبنيّ للمجهول ونائب الفاعل |
خاتمة
تناولنا في هذا المقال بعض المفاهيم النّظرية المتعلّقة بموضوع القواعد؛ من خلال استعراض أهمّ التّعاريف المتعلّقة بماهيتها، وبالمعرفة النّحوية بشكليها الضّمنيّ والصّريح. كما حدّدنا أصناف القواعد، والعلاقة الّتي تربط كلّ صنف منها بالآخر. وفضلا عن هذا، تحدّثنا عن الدّور الفعّال الّذي تلعبه القواعد في إكساب المتعلّم الملكتين اللّغوية النّحوية والتبليغيّة. ومن ثمّ، قدّمنا لمحة موجزة عن معايير تحديد المضامين النّحويّة وكيفية تناولها في مجموعة من الطّرائق المعدّة خصيصاً لتعليم العربية لغير الناطقين، وبعض المناهج والمقرّرات الخاصّة بهذا التّعليم. لنخلص في الأخير، إلى اقتراح فهرس لبعض الظّواهر اللّغويّة الأساسيّة، الّتي نرى ضرورة تقديمها للمتعلّم غير النّاطق بالعربيّة، مستندين في هذا إلى إحدى النّظريات اللّغويّة العربيّة الأصيلة؛ وهي النّظرية الخليلية الحديثة للأستاذ الرّاحل عبد الرّحمن الحاج صالح.