اللّسانيات المعرفية

عرض مفهومي للقضايا المفتاحية

Cognitive linguistics, Conceptual presentation of key issues

كمال بخوش

للإحالة المرجعية إلى هذا المقال

بحث إلكتروني

كمال بخوش, « اللّسانيات المعرفية », Aleph [على الإنترنت], 8 (3) | 2021, نشر في الإنترنت 05 novembre 2021, تاريخ الاطلاع 29 mars 2024. URL : https://aleph.edinum.org/4856

تمثل اللسانيات المعرفية توجها بحثيا يحاول النظر إلى اللغة في المستوى الذهني، وهو التوجّه الذي يسعى إلى فهم وتفسير انْبِناء المعنى وتبلوره في الذهن وفقا لسياقات توا صلية خاصة ومقامات تخاطبية محدَّدة، بالإضافة إلى بحث مسألة الدور الذي تؤديه اللغة في بناء العلاقة بين الإنسان والوجود من جهة، وكذا دورها في بناء الوجود ذاته من منطلق أن التصورات التي يمتلكها الفرد عن ذاته وعن العالم الذي يحيط به، هي تصورات لغوية في الأساس، وأن الفرد لا يمكن له أن ينفذ إلى العالم إلا من خلال نافذة اللغة، وهي القضايا التي نحاول مقاربتها في هذا البحث من خلال بعض المفردات المفتاحية في اللسانيات المعرفية مثل : اللسانيات المعرفية، الإدراك، الجسدنة أو التجربة الجسدية، الاستعارة ...إلخ.

langue au niveau mental. Une orientation qui essaie de comprendre et d’expliquer comment se construit le sens et prend forme dans l’esprit, selon des contextes communicatifs et des situations discursives déterminés. Elle tente en outre d’aborder, d’une part, la question du rôle accompli par la langue dans la construction de la relation entre l’être humain et l’existence et, d’autre part, la construction de l’existence elle-même. Et ce, en partant du principe que les représentations acquises par l’individu sur lui et sur l’univers qui l’entoure sont initialement des représentations linguistiques , et que l’individu ne peut percevoir le monde qu’à travers la langue. Nous tenterons dans cette recherche d’approcher toutes ces questions à travers quelques mots clés en linguistique cognitive comme : la linguistique cognitive, la perception, la conception ou l’expérience conceptuelle, la métaphore, etc.

Cognitive linguistics is the kind of research which studies language in the mental level. It aims to understand and explain the way meaning is built in the mind within specific contexts and communicative situations. It also seeks for the language role in the construction of both the relation between Man and Life and the construction of Life itself, since Man’s vision about himself and the world is itself linguistic and language is the only way to get access to the world. These issues will be our topic of interest in this article using some key terms in the cognitive linguistics ; such as, cognition, physical experience, metaphor and so on.

مقدمة 

تمثِّل اللغة أحد أهم الموضوعات في البحث الفكري والفلسفي الحديث والمعاصر، والتي لا زالت تثير اليوم الكثير من التساؤلات حول طبيعتها والقوانين الناظمة لها، وكذا حول علاقتها الوجودية بالإنسان وما يمكن أن تقوم به من أدوار اجتماعية مختلفة، وهي القضايا التي تمخض عنها توجهات بحثية مختلفة بناء على اختلاف منطلقاتها الابستمولوجية والأدوات الإجرائية التي تتخذها في مقاربتها للَّغة، ورغم أن البحث اللساني البنوي وكذا التوليدي والتحويلي يمثلان أشهر التوجهات البحثية التي عرفت ذيوعا كبيرا بناء على ما توصلت إليه من نتائج لها من المعقولية القدر الكبير، إلا أنّ البحث في اللغة عرف منحى آخر مع بداية الالتفات أكثر إلى قضايا الاستعمال وتركيز البحث حول علاقة اللغة بمستعمليها، فأصبح الاهتمام منصبا أكثر على علاقة اللغة بالإنسان من جهة وعلاقتها بالوجود من جهة أخرى، هي قضايا صارت تقارب انطلاقا من ملمح معرفي إدراكي، والذي أصبح يعرف في أدبيات الدرس اللساني بــــ : اللسانات المعرفية. فما هي اللسانيات المعرفية ؟ وما هي المفاهيم المفتاحية لها ؟ هذا ما سنقاربه في هذه الورقة البحثية.

1. اللسانيات المعرفية : حدودها

لقد عرفت السنوات الأخيرة – ومع تطور البحث في العلوم المعرفية - توجيه البحث في مسائل اللغة إلى القضايا المتعلقة بالذهن، في مقابل البحوث ذات التوجه البنوي وكذا التوليدي من تصور أنَّ اللغة تمثل مدخلا دقيقا لفهم القدرة الإدراكية العامة عند البشر، وهو التوجه الذي الذي أصبح يعرف في أدبيات الدرس اللساني عموما والتداولي خصوصا باللسانيات المعرفية التي تتميّز« بالتركيز على الوظيفة السيميائيّة للّغة، فهي تسلّم تسليما تاما بتجذّر اللغة في التفاعل الاجتماعي، ولكنّها تلحّ على أنَّ جميع الوظائف فيها حتى وظيفتها التفاعلية خاضعة خضوعا حاسما للمفهمة، و تتميّز مقارنة بالمقاربات الشكلية بمقاومة النزعة إلى فرض الحدود بين اللغة وسائر الظواهر النفسية(..)، فبدل أن تكون اللغة وحدة متميّزة مكتفية بذاتها( منظومة أوملكة ذهنية منعزلة)، تعتبر وجها من صميم العرفنة لا يتجزأ عنها » ( لانقاكر، 2018 : 23- 24)

لقد اتكأ هذا التوجه على مجموعة من المنطلقات التأسيسية، والتي مثّلت معالم بنيت عليها مختلف النقاشات ذات الصلة، إذ أنَّ الروية المعرفية لا ترى في اللغة قوالب محددة يميّزها الجمود-وهو توجه اللسانيات الشكلية- بقدر ما ترى فيها نشاطا ذهنيا متساوقا مع حركية العقل البشري في تعاطيه مع مختلف نظم المعرفة ومن هذه المنطلقات نجد :( ستوكويل، 2017 : 108-109)

  1. أنّ اللغة ليست جزءا منفصلا عن التجربة الإنسانية، بل هي جزء أصيل منها.

  2. أنّ اللغة متجسدة، بمعنى أن جزءا كبيرا منها يعتمد على حقيقة أننا كلنا في الأصل نتشارك في الشكل البشري ذاته والحالة الانسانية ذاتها والتجربة الانسانية ذاتها.

  3. أنّ اللغة مبنية على أساس الملكات الإدراكية الحسية،مثل : السمع والبصر والتذوق واللمس والشم والإحساس بالحيّز المادي والحركة المادية (أوالجسدية)، كما أن اللغة تكّيّف تلك الملكات الحسية .

  4. تشمل اللغة العرفنة( cognition) والحسية( perception) والذاكرة ( memory ) والاستباق ( anticipation) والنمذجة التخيلية ( modelling speculative ) والعلاقات الاجتماعية، وبالتالي ينبغي أن يشمل أي وصف منهجي للغة على هذه الجوانب كافة.

  5. يجب أن يتضمن وصف اللغة تفسيرا للمرونة الإبداعية والابتكار الخيالي الكامنين في قلب الممارسة اللغوية.

وبناء على ما سبق فإنَّ هذه الرؤية للّغة تحاول أن تتجاوز الرؤية الموضوعية إلى الرؤية التجريبية، فالرؤية الموضوعية ترى« أن خصائص الجسم لا علاقة لها البتَّة بالتصورات أو بطبيعة العقل، فالعقل الانساني من وجهة النظر الموضوعية هو مجرد شكل محدّد من أشكال العقل المتعالي، وتقتصر الوظائف الموْكولة إلى العقل في النقاط التالية : 1- توفير قناة عبور بالنسبة إلى التصورات المجردة. 2- توفير أرضية بيولوجية لمحاكاة قوالب العقل المتعالي. 3- وضع حدود معينة للتصورات الممكنة » ( لايكوف، 2012 : 327)، وفي مقابل هذا نجد الرؤية التجريبية ترى أنّ العقل يتحقق من خلال الجسد، فليس العقل الإنساني ترهينا للعقل المتعالي، بل إنّه يتولد عن طبيعة الجسم وكل ما يساهم في تجربته الفردية والجماعية وهو ما معناه :«  1- الإقرار بوجود العالم الواقعي. 2- الاعتراف بأنّ الواقع يمارس ضغوطات معيّنة على التصورات.3- تصوّر للحقيقة يتجاوز مجرد الانسجام الداخلي .4- الإقرار بوجود معرفة قارّة حول العالم » ( لايكوف، 2012 : 327 )، ومن ثم فإنَّ فكرة جسدنه العقل هي فكرة مركزية في اللسانيات المعرفية التي ليست عقلانية بالمفهوم الدقيق للعقلانية، بقدر ما تؤكد على أهميَّة التجربة البشرية ومحورية جسد الإنسان في بناء المعنى ( لايكوف، 2012 : 327 )

إنَّ مقاربة النشاط اللغوي من المنظور المعرفي تصبح في أساسها مقاربة للذهن البشري المحكوم بالآليات العرفانية العامة الموجَّهة لسائر الأنشطة الإنسانية الأخرى الذهنية والسلوكية وهو ما يعني أنَّ فصل اللغة عن أنماط المعرفة الأخرى فيه الكثير من الشذوذ، إذ اللغة ليست كيانا مكتفيا بذاته بقدر ما هي حاصل تفاعل عوامل داخلية ترجع إلى خواص الكائن البشري الذاتية، وخارجية ناتجة عن تجربة العالم في أبعادها الفيزيائية والبيولوجية، والسلوكية النفسية والاجتماعية الثقافية ( فوكوناي، 2012 : 388-389 ).

وعليه فإنّ العناية في البحث اللغوي يجب أن تركز على القدرات الذهنية للفرد فإذا «  كانت موهبتنا الجينية تحدث بفعل الاستعدادات الخاصة باللغة، يكون من الأرجح أن تكمن هذه الاستعدادات في تكيّف ظواهر عرفانية أساسية بدل أن تكون منعزلة ومتفردة »(لانقاكر،2018 :24) وهذا بحسب وصف رونالد لانقاكر.

2. اللغة من المنظور المعرفي 

إنَّ اللغة من المنظور المعرفي توصف بأنَّها مجموعة من الأبنية الذهنية التي تصلنا بالعالم الذي نعيش فيه بأبعاده المادية والمعنوية، فهي جسر التواصل بين ذات الفرد والكون من منظور أن الفرد لا يمكن له أن يتصوَّر العالم إلا وفق الصورة التي تصوّرها له اللغة، وأنَّ الحقائق التي يمتلكها الفرد هي حقائق من طبيعة لغوية أساسا، فالّلغة ترتبط بتصورات أكثر من ارتباطها بحقائق مادية في العالم المشهود.

ومن هذه الزاوية فإنَّ تحليل اللغة يؤدي إلى الوصول إلى نتائج مهمة حول المعنى اللغوي، خاصة العوامل غير اللغوية المساهمة في تشكيله، كالخلفية المعرفية وإدراك السياق المادي والاجتماعي واللغوي، وهو ما يعني أن اللغة تفرض انْبِنَاءً مخصوصا يعكس طريقة واحدة فقط من طرق لا تحصى في تصور الوضعية المعنية، فالأبنية الذهنية هي التي تمكننا في نهاية المطاف من التعامل مع العالم الذي تعيش فيه ونتحدث عنه ( لانقاكر، 2018 : 18-19).

إنَّ طبيعة اللغة طبيعة حركية من حيث هي شيء يفعله الناس بدلا من أن تكون شيئا يملكونه، وهو ما يتجلى في حركية الكلام الذي يستمد مظاهره من طيف كبير من الموارد ويتطلب مجموعة متطورة من القدرات العامة والمخصوصة، لأنَّ معرفة لغة ما معناه التحكم في مجموعة شاسعة من المهارات التي تستعمل في مختلف المقامات الاجتماعية والثقافية.

و بناء على المنظور السابق فإنَّنا إذا التفتنا إلى مسألة التواصل اللغوي بين البشر نجدها محكومة بآليات استدلالية وحسابات تأليفية، لأنَّ معارفهم«  تختلف عن معارف الآخرين، وما نراه نحن واضحا ومفهوما يراه الآخر غامضا ومعقدا، وما هو صحيح بالنسبة إلينا هو خاطئ بالنسبة إلى الآخر، لذلك فإن عملية إعادة التخطيط ليست مجرد أخذ الشيء ورده كما هو، بل هي عملية إعادة خلق للخطاب بملئه بأشياء أخرى وصور أخرى غير الصوّر التي قدمها المتكلم في البداية، وذلك بشحنه بصور استدلالية ومعارف لغوية وإدراكات حسية ونفسية يفاعلها المخاطب ليصل بها إلى قصدية المتكلم » ( هبيّل، 2017 : 56).

3. مسألة المعنى من منظور اللسانيات المعرفية

إن الرؤية المعرفية للّغة ترى في المعنى مسألة مرتبطة بالإدراك من خلال التجربة الجسدية وكذا التفاعل الاجتماعي وهو ما يجعل المعرفة المكتسبة منسجمة مع المحيط الاجتماعي والثقافي الذي نحيا فيه، لذلك فإنَّ التصورات التي نقيمها وإن كانت ذهنية، إلا أنها مرتبطة بالعوالم الخارجية، فكل تصوّر هو تصور لوجه ما من وجوه العالم، ولبسط هذه المسألة فإنّه من الملائم تقديم رؤية رونالد لانقاكر.

هل المعاني مركوزة في الرأس؟. سؤال يطرحه رونالد لانقاكر في كتابه مدخل في النحو العرفني،«  الجواب من منظور لساني عرفاني أن المعاني مركوزة في أذهان المتكلمين الذين ينتجون العبارات و يفهمونها ، و يصعب أن نجد مكانا آخر يمكن أن تكون فيه تلك المعاني، [في مقابل الرؤية الأفلاطونية التي ترى في اللغة] وحدة تجريدية منقطعة عن الجسد لا يمكن تحديد موضعها، فتعتبر المعاني اللغوية مثل الأشياء والقوانين في الرياضيات متعالية موجودة بشكل مستقل عن الأذهان وعن الإرادة البشرية » ( لانقاكر، 2018 : 57-58 )، كما أن معنى عبارة ما من منظور عرفاني يستلزم أرضية مفهومية متعددة الوجوه شاسعة تسنده وتشكّله وتجعله منسجما، ومن وجوه هذه الأرضية : ( لانقاكر، 2018 : 79)

  1. التصورات المستحضرة أو المنشأة خلال الخطاب السابق .

  2. المشاركة في حدث الكلام نفسه جزءا من التفاعل الاجتماعي بين المتحاورين .

  3. إدراك المقام المادي والاجتماعي والثقافي إفادته، إضافة إلى الظواهر التخييلية(الاستعارة مثلا)

  4. كل مجال من مجالات المعرفة تثبت إفادته.

فبناء الفرد لتصوّر معين يتأسّس على نسج شبكة معقدة من العلاقات والجسور بين مختلف المعطيات اللغوية وغير اللغوية، والاتكاء على التجارب السابقة التي تشكل نماذج ومُثُلا يستند إليها في بلورة تصوراته المختلفة، وهي عملية تتميَّز بالطابع الحركي حيث أن قيمة العنصر اللغوي تخضع لتفاوض متواصل، و هذا ما يسمى بعملية المفهمة ( بلورة المعنى) والتي تستند إلى : (لانقاكر، 2018 :61)

  1. التصورات الجديدة و التصورات القائمة.

  2. المفاهيم الحسية والحركية والتجربة العاطفية كذلك عوضا عن المفاهيم الذهنية فقط.

  3. إدراك السياق المادي واللغوي والاجتماعي والثقافي .

  4. التصورات التي تتبلور وتتجلى من خلال زمن المعالجة الذهنية

إن اختلاف الأرضية التي تتأسس عليها التصورات بين الناس، يؤدي حتما إلى اختلاف الرؤى الممكنة للشيء الواحد، وهو ما يعني رؤية الناس للحياة بناء على زاوية النظر وخلفية الفرد الثقافية والاجتماعية، بل حتى بنائه النفسي، ولبسط المسألة أكثر يقدم رونالد لانقاكر مثالا نورده كما هو بلفظه (لانقاكر، 2018 : 80)

مثال : كوب يحتوي ماء، يحتل نصف حجمه .

من المفترض أننا قادرون في المستوى المفهومي على استحضار هذا المفهوم بطريقة محايدة تماما، ولكن ما إن نشفره لغويا فإننّا نفرض عليه بالضرورة انبناء معينا وخاصا، فالوضعية المتصورة للكوب تكون وفق الاحتمالات التالية :

  1. الكوب الذي فيه ماء the glass with water in it .

  2. الماء الذي في الكوب the water in the glass .

  3. الكوب نصف مليء the glass is half-full .

  4. الكوب نصف فارغ the glass is halef-empty .

إنَّ بناء التصورات مسألة مركبة، كما أنها لا تتميّز بالبعد الخطي، لأنّ المعالجة تجري على أساس التزامن في أبعاد مختلفة وفي مستويات متعدّدة من التنضيد، فلا يوجد تسلسل طبيعي واحد في الاهتداء إلى العناصر المتدخلة في بناء التصور، ولا وجود لتسلسل وحيد يكون التشبث به تشبثا تاما في الواقع العملي، هذا بالإضافة إلى المدة الزمنية التي يستغرقها بناء تصور معين، وهي المدة التي يسغرقها الدماغ في الربط بين مختلف المعطيات.

4. النشاط العرفاني و التجربة الجسدية 

إنّ تعدد الدراسات الباحثة في علاقة اللغة بالواقع، واهتمام الفلاسفة الذين حاولوا فهم العلاقة بين اللغة والكون، تولَّد عنه – من المنظور المعرفي – الرأي القائل بأنّ البنى التصورية متولّدة عن تجربتنا الجسدية، وهذا ناتج عن التفاعل بين الإنسان والوجود، وهو الرأي الذي نجده يؤثث رؤية رونالد لانقاكر في بحثه علاقة اللغة بالتجربة، يقول : « ... من حيث نحن مخلوقات ذات أجساد نتفاعل مع ما يحيط بنا من خلال عمليات مادية تشمل النشاط الحسي والحركي، يعرف ذلك في اللسانيات العرفانية بالجسدنة، ولكن من الجلي أن حياتنا الذهنية تتجاوز حدود تجربتنا الجسدية الفورية، فالعمليات العرفنيَّة المتنوعة تنشئ أبنية ذهنية على مستويات متتابعة من التنضيد، تزداد صلتها بتلك التجربة تباعدا على التدرج، فهذه الأبنية لا تسمح لنا بالتعامل مع العالم الواقعي تعاملا أنجع فقط، بل تضبط ما يكوّنه وتوسّعه إلى حدّ كبير كذلك  »(لانقاكر، 2018 : 856- 857 )، فالتجربة الجسدية أساس البناء المعرفي، وبالتالي فإنّ مدركات الإنسان مقيّدة بطبيعة تجاربه الحياتية المختلفة.

لكن السؤال المطروح : كيف تسهم التجربة الجسدية الآنية في تشكيل البنية التصورية ؟ في هذه المسالة يرى رونالد لانقاكر أن نشاطنا العرفاني منفصلا – بدرجات مختلفة - عن التجربة الجسدية الفورية، وأنَّ الذاكرة هي التي تلعب الدور الرئيس بإحياء تجربة سابقة ثم توظيفها توظيفا آنيا في المعالجة الذهنية لمسألة ما، كما أنّ التعالي عن التجربة الجسدية الآنية يحدث من خلال ترسيخ ما يكون مشتركا بين التجارب المتعددة، فدون القدرة على التجريد تكون كل تجربة فريدة لا تربطها صلة بأي تجربة أخرى، ولا يمكن أن تنبثق رؤية منضّدة ومنسجمة للعالم (لانقاكر، 2018 : 857) ولذلك فتصوّراتنا للعالم الخارجي مُسيّجة إلى حد كبير بالإطار البيئي الذي نعيش فيه، إذْ اللغة لا تعكس العالم بشكل مباشر، بل من خلال ما هو مرسَّخ في تجربتنا الحياتية التي تقيَّد طبيعة هذا الواقع بالنسبة لنا.

فتجاربنا النفسية هي أساس التمثيلات الذهنية التي نصوّر بها العالم ونتصوره، فالتجارب الحسية (Expériences sensorielles) وما نتذكره منها، والمشاعر(Ressentis ) التي نحكم بها على الأشياء المحيطة بنا، تتحول إلى صورة محزّنة في الذهن وقابلة لإعادة الاستعمال عند الضرورة (هبيّل، 2017 :313)، فالتجارب الجسدية والاجتماعية تبدو محورية في طريقة بناء المقولات من أجل إنتاج المعنى.

5. الاستعارة من منظور معرفي 

تمثل الاستعارة أهم التجليات المعرفية للغة، وهي كثيرة التواتر في مختلف الخطابات وفي مختلف المواقف الثقافية اليومية، حيث تساهم في توسيع المعنى وإثرائه استجابة لمتطلبات مواقف تواصلية معينة، لذا «  فإنّ الاستعارة في جوهرها ليست فقط مسألة ألفاظ و لكنها مسألة بناء مفهومي أيضا » (أوليفيرا، 2017 : 125) ويذهب باتريك شارودو و دومنيك منغنو في معجم تحليل الخطاب إلى القول :«  للاستعارة مردود استكشافي قوي باعتبارها تكمن باعتماد القياس من تفسير ميدان جديد أو قليل التحديد بميدان معروف » (شارودو ومنغنو، 2008 : 366)، لأنَّ الفعل التخييلي لا يمكن أن ينطلق من العدم، وأن الأبنية الاستعارية تتأسّس على أبنية مألوفة.

يرى جورج لايكوف أن للاستعارة مجموعة من الأسس والمنطلقات منها : (أوليفيرا، 2017 : 129)

  • أنها مرتبطة بتجاربنا وبجملة الملكات والاستعدادات المكتسبة لدى الفرد.

  • تنتج الاستعارات لأن أدمغتنا مركبة بطريقة معينة، فبعض المناطق من الدماغ أقرب إلى تجاربنا الحساسة، وبعض المناطق الأخرى تستخدم هذه المناطق كمدخلات ( imput ).

  • إن المحتوى الخاص للاستعارات مرتبطة ببنية العلاقات داخل تجربتنا اليومية، إنَّها ليست اعتباطية، لكونها مرتبطة بالتجربة اليومية الأكبر انتشارا في الغالب.

  • تحافظ الاستعارة على التفكر والاستتناج، إنها لا تتعلق باللغة فحسب، وإنّما بالتفكر والتدبر كذلك

إن الاستعارة تمثل نمطا تواصليا خاصا يعكس القدرة الذهنية على خلق تصورات جديدة، أوعلى الأقل غير مألوفة في السياقات التواصلية المعتادة، وهو ما يعطيها دورا مهما في بناء العالم وتشكيله بمدِّه بمعان جديدة تثري حقل التصورات الممكنة له، وهذا وفق توليفات بين صور معتادة تمثل مادة أساسية لبناء المعاني الجديدة،أي توظيف ما هو مألوف لتوليد ما هو غير مألوف، أوما يسمى بمجال المصدر ومجال الهدف، فـــــــ«  عملية إنشاء المراسلات بين المجال المصدر (المفاهيم المألوفة) والمجال الهدف ( المفاهيم غير المعروفة(...)، إذن فالاستعارة تسمح بربط الخبرات المعروفة في مجال معين من المعرفة بخبرات جديدة قيد التحقيق » (أوليفيرا، 2017 : 125) ولنأخذ المثال التالي كما ورد عند رونالد لانقاكر :

طارت الفكرة من رأسي تماما (the thought just flew right out of my head )

إن الفضاء الهدف في هذا المثال هو ذلك الذي يجري بناؤه استعاريا، بينما الفضاء المصدر هو الفكرة (ذات التجريد المحدود في العادة) التي تتخذ أساسا للإسقاط الاستعاري ففي المثال يتحدد الفضاء المصدر بأنه تصوُّر لعصفور يطير من قفص، بما يستتبع ذلك من أن العصفور غائب فلا يمكن أن يُرى، والفضاء المزيج هو نتيجة لإسقاط الفضاء المصدر على الفضاء الهدف، هو تصور هجين متخيّل في طبيعته«  (لانقاكر، 2018 :93- 94)، إلا أنَّه يعكس تمثُّلا ذهنيا دقيقا لحالة إدراكية ونفسية لدى الشخص المعني وهو ما يعني إمكانية تجاوز اللغة للعوالم القائمة وانفتاحها على العوالم الممكنة حتى وإن كانت هذه العوالم بعيدة التحقق في الواقع الفعلي.

وخلاصة الأمر نقول إنّ الاستعارة متعلقة بانفتاح اللغة على الواقع الممكن مما يجعلها قادرة على الجمع بين أشياء لا تتطابق في الواقع، ولكنها تجد في إحالتها ومعناها في عوالم أخرى ممكنة (هبيّل، 2017 : 109)، لذا كان الأسلوب الاستعاري من أقدر الأساليب التعبيرية وأقواها على توليد المعاني وتفريعها، وهو ما يعني تشكيل تصورات جديدة من خلال إعادة توزيع العلاقات بين أشياء العالم و مكوناته سواء في طبيعتها المادية أم طبيعتها المعنوية .

خاتمة 

بعد هذا العرض الموجز لأهم القضايا المفتاحية للّسانيات المعرفية نخلص إلى النتائج العامة والخاصة التالية :

  1. لا يمكن فصل اللغة في الدراسة عن الجوانب الذاتية والنفسية وكذا انعكاس التجربة النفسية في ذات الفرد الممارس للغة.

  2. إن للتجربة الجسدية والاجتماعية دورا مهما ورئيسيا في بناء التصورات الذهنية، فالبنى المستخدمة لإضفاء الانسجام على أنظمتنا التصورية تتولد عن تجربتنا الجسدية.

  3. إنّ المعنى الذهني يتميّز بالحركية، ويتبلور من خلال التجارب الجسدية ومن خلال التفاعلات الاجتماعية.

  4. إنَّ البحث في النشاط المعرفي اللغوي ومحاولة فهمه وتفسيره، وهو من صميم البحث في آليات عمل العقل في تعامله مع مختلف أنماط المعرفة.

  5. إنّ اللغة تشير إلى تصورات أكثر من إشارتها إلى حقائق، وأن المعاني ترتبط بالدرجة الأولى بالتصورات قبل ارتباطها بالألفاظ

إزابيل أوليفيرا. (جويلية, 2017)  »الاستعارة الاصطلاحية من وجهة نظرعرفانية«  . فصول (المجلد ( 25/ 4) العدد 100).

باتريك شارودو، و دومنيك منغنو. (2008). معجم تحليل الخطاب. (عبد القادر المهيري، وحمّادي صمود، المترجمون) تونس : المركز الوطني للترجمة.

بيتر ستوكويل. (جويلية, 2017). »الأسلوبية العرفانية«  . فصول (المجلد ( 25/ 4) العدد 100)، الصفحات 106- 122.

جورج لايكوف. (2012).  »نساء ونار وأشياء خطيرة ، ما تكشفه المقولات حول الذهن«  . تأليف عز الدين المجدوب، وآخرون، إطلالات على النظريات اللسانية و الدلالية في النصف الثاني من القرن العشرين (عفاف موقو، المترجمون، المجلد 1، الصفحات 315- 346). تونس : بيت الحكمة.

جيل فوكوناي. (2012). » الفضاءات الذهنية". تأليف عز الدين المجذوب، وأخرون، إطلالات على النظريات اللسانية والدلالية في النصف الثاني من القرن العشرين (منصور الميغري،المترجمون، الإصدار1.الصفحات 387- 416). تونس : بيت الحكمة.

رونالد لانقاكر. (2018). مدخل في النحو العرفنيّ (الإصدار 01).(الأزهر الزنّاد، المترجمون) تونس : المركز الوطني للترجمة.

يسر هبيّل. (2017). الإحالة بين اللغة و الخطاب. تونس : الدار التونسية للكتاب.

كمال بخوش

جامعة المدية

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article