مقدمة
عرف المغرب الأوسط (الدولة الزيانية) امتدادا جغرافيا كبيرا مما جعل تسيير الدولة يقتضي تقسيم المهام بين أفراد الأسرة ورجالات الدولة الموثوقين، ومن أبرز هذه الوظائف التي كان لرجالات الدولة تقلدها والعمل على تنظيم شؤون البلاد؛ وظائف سامية تميزها عن باقي المهام التي يصدر بشأنها قرار ملكي يضفي عليها صفة السامية ولأجل الأهمية التي تكتسبها هذه الوظيفة داخل البلاط وخارج البلاد،
ومما سبقت الإشارة إليه؛ ما المقصود بالوظائف السامية في الدولة الزيانية؟ وما أهميتها في هيكل الدولة؟ وما الدور المنوط بها؟.
وباعتبار طبيعة موضوع الدراسة اقتضى استخدام المنهج التاريخي الوصفي التحليلي.
1. الإطار التاريخي لقيام الدولة الزيانية
تنتسب الدولة الزيانية إلى بني عبد الواد، وهم فرع من فروع الطبقة الثانية من قبيلة« زناتة »، وهي أحد أكبر وأشهر القبائل البربرية ببلاد المغرب( بوعزيز يحي، 2009: 35) وتنقسم إلى عدة بطون ذكر عبد الرحمن بن خلدون ستة منها، وهي:« بنو ياتكين» و« بنو أولو »، و« بنو رهط» و« صوحة » و« بنو تومرت» و« بنو القاسم »(ابن خلدون عبد الرحمن، 1981: ج7: 86). وكانت مواطنهم بين جبال« سعيدة» شرقاً ووادي ملوية « غرباً، وقد أخلص بنو عبد الواد في طاعتهم عند قيام الدولة الموحدية، فاقطعوهم بلاد » بني يلومي « و » بني ومانو « وأحواز » غليزان « فتمكنوا من تثبيت أقدامهم في تلك الجهات فقويت عصبيتهم وسيطروا على عدد كبير من القبائل المجاورة لهم.
وحين بدأ نجم الدولة الموحدية في الأفول ، أخذ الثائر المايورقي يحيى بن غانية يطرق أبواب حواضر بلاد المغرب الكبرى ، وهذا بعد أن تمكن من بسط سيطرته على مدينتي طرابلس وقابس، ليظهر بعدها جابر بن يوسف بن محمد كزعيم لبني عبد الواد(ابن خلدون عبد الرحمن، 1981: ج7: 88)، الذي تصدى بجموعه لهذا الثائر وانتصر عليه وبدَّد شمله، ودخل تلمسان سنة 627ه/ 1229م، فكرَّمه الخليفة الموحدي المأمون وكتب له البيعة على تلمسان وسائر قبائل زناتة، حتى أصبحت كأنها إقطاع دائم لهم، وهذا المنعرج الحاسم في سير الأحداث كان بمثابة خطوة أولى عملاقة مهدت الطريق المعبد لتأسيس الدولة.
وبعد وفاته آل الحكم لابنه الحسن سنة ( 629ه/ 1231م )، ثم أخيه عثمان ثم ابن عمه زيدان بن زيانسنة( 631ه/ 1233م) وبموته انقطع نفوذ الموحدينتماماً من تلمسان، فخلفـــه مـــن بعــد ذلك أخوه يغمراسن بن زيان( ابن الأحمر إسماعيل بن يوسف الخزرجي الأنصاري، 2001: 13 وكان ذلك فــي( 24 ذي القعدة 633ه/ 1235م )( ابن الأحمر إسماعيل بن يوسف، 2001: 204).
2. الأوضاع السياسية
يعتبر يغمراسن المؤسس الحقيقي للدولة الزيانية، حيث أخضع إلى سلطته كل الذين خرجوا عن طوع أخيه، وألغى سيطرة الموحدين الفعلية، ولم يبق لهم إلا الدعاء للخليفة السعيد على المنابر أيام الجُمَع والأعياد(يحيى بوعزيز يحي، 2009: 37) وفي الوقت نفسه نجد بني حفص قد ظهروا في تونس، وبني مرين بالمغرب الأقصى وكلهم يرى جدارته بإرث الدولة الموحدية دون غيره، وقد مثبت دولة بني زيان ببقائها واستمرارها معجزة تاريخية نظرا لما واجهته من أخطار وعلى مستويات عدة، فكان موقعها الجغرافي والسياسي حساسا بوقوعها بين دولتين كبيرتين تدعي كلّ واحدة منهما الشرعية لنفسها والأحقية بالخلافة، وخاصة الدولة الحفصية أكشد الطامعين في السيادة، وبهذا فإنّ المرينيين والحفصين جميعًا ينكرون إمارة بني زيان ويدعون الحق في ضمها إلى بلادهم( ابن الأحمر إسماعيل، 2001: 17).
ومهما يكن من أمر فقد عمرت دولة بني عبد الواد زهاء ثلاثة قرون، تولى السلطة فيها خمس وعشرون ملكاً، وصلت في أيام قوتها إلى احتلال مدينة فاس عاصمة المرينيين، ولم تسلم من الخطر الحفصي في الشرق والخطر المريني من الغرب وعموماً فقد شهدت الدولة الزيانية مرحلتين متباينتين:
-
عصر القوة أو ما يعرف بالعصر الذهبي، الممتد من تأسيس الدولة إلى نهاية حكم السلطان أبي حمو موسى الثاني
-
عصر الانحطاط والسقوط، الممتد من فترة نهاية القرن الثامن للهجرة حتى سقوط الدولة الزيانية.
عمل يغمراسن بن زيانالذي حكم فترة طويلة امتدت من(633ه- 1235م/ 681ه- 1282م )، على توسيع حدود الدولة وتوطيد قواعد الحكم، وضم القبائل إلى السلطة الزيانية، فتمكن من التوسع غرباً، حتى صار الحد الفاصل بينه وبين » بني مرين « وادي ملوية »، كما امتد نفوذه إلى مدينة « وجدة »و« تاوريرت »، كما توسع في المناطق الداخلية فأخضع« مازونة »، و« تنس »، و« الونشريس »، و« المدية مواطن » مغراوة« ، و »توجين« ، وسهل » متيجة« حتى أطراف مدينة » بجاية « ، وجنوباً وصل إلى تخوم الصحراء(الكعاك عثمان، 2003: 221). كما عمل على تشجيع الحركة الثقافية حيث قرب العلماء والأدباء، وقد شهدت » تلمسان« في عصره ازدهاراً اقتصادياً منقطع النظير، وحارب عناصر الفساد والفوضى وأرغم خصومه على الطاعة والخضوع له.
ولم تختلف سياسة من جاء بعد » يغمراسن" في جانب التوسع، فقد دخلت الدولة الزيانية في صراع مرير مع قبائل المغرب الأوسط وبني مرين حتى تحقق للدولة في عهد أبي تاشفين 718هـ/1318م) الاتساع المأمول، واستولوا على تونس ، إلّا أنه كان امتداداً مؤقتاً ما لبث أن انكمش، كما اتسعت في عهد أبي مالك عبد الواحد (814هـ/1411م) واستطاع أن يوسع مجال الدولة، واستولى على نفوذ بني حفـــص بالمغــــرب الأوســـط واستولى بالمغرب الأقصى على عدة مناطق، منها فاس عاصمة بني مرين(الغنيمي عبد الفتاح، 1994: مج 5: 110).
وبمرور الوقت أثر الصراع الداخلي على أفراد الأسرة الزيانية، فصارت في صراع متواصل، بين أبي زيان وأبي حمومما أدى بتدخل القبائل العربية التي ناصرت أبا زيان، مما دفع بأبي حمو الى تخريب مضاربهم، الأمر الذي جعل القبائل تخلع طاعتها لأبي زيان. (الغنيمي عبد الفتاح، 1994: مج5: 132).
3. الوظائف السامية في الدولة الزيانية
1.3. ألقاب حكام الدولة
إنّ المتتبّع لنظام حكم الزيانيين الذي حافظوا على شيء من البداوة رغم تحضرهم يجد أنّهم قد أخذوا بنصيب وافر من حضارة الأندلسيين في عماراتهم وملابسهم وعاداتهم وتأدبهم وفي سلوكهم السياسي لإدارة دواليب حكم الدولة الزيانية كما نهلوا أيضا من آداب الموحدين والحفصيين في مجال السياسة(بونار رابح، 2019: 306)، وقد كان نظام الحكم أيام الدولة الزيانية ملكيا وراثيا، وتلقب حكامها بألقاب المُلك والخلافة واتخذوا شارات الملك والسلطان وكل مجامع السلطة والأبهة في الملك، والظاهر أنّ لقب السلطان كان مقدما على باقي الألقاب السامية عندهم، ولا غرابة في هذا لأن حكام المغرب والأندلس كانوا يحبذون لقب السلطان على غيره من الألقاب، مع وجود ألقاب أخرى شاعت عند الناس فهم تارة ملوك وتارة خلفاء ... وجميع هذه الألقاب تُنم عن سمو وعليّة مكانتهم، وقد صوّر يحيى ابن خلدون هذه الحالة في قصيدة كتبها لأبي حمو موسى في المولد النبوي سنة (767ه) والتي يقول فيها :
أَخَلِيْفةَ الرّحمنِ والملك الذي تعنو لعزِّ علاه أملاك البشر.
للّه مجلسُكَ الذي يحكي علا بك مالكي أفق السماء لمنْ نظر .
ولاشك أنّ تعدد ألقاب الملوك الزيانيين يظهر جليًّا في كتاب أبي حمو موسى الموسوم (بواسطة السلوك في سياسة الملوك) والذي قال في مقدمته بعد البسملة « قال الملك المعظم الشأن الماجد المفخم السلطان، مُحيي رسوم دولة بني زيان ومجد الملك ويليه حضرة تلمسان أبو حمو موسى... »( أبو حمو موسى، 2012: 45 )، وهذا عرض لأشهر ألقاب حكام الدولة:
-
لقب السلطان : وهو من أشهر الألقاب التي عرفها الحكام الزيانيون، ولعلَّ من أشهر سلاطين الدولة الزيانية نجد أبا حمو موسى الزياني (ت 791ه)، فقد قال عنه المقري:( كان هذا السلطان أبو حمو موسى– رحمه الله – يقرض الشعر ويحب أهله) (المقري أحمد، 1939م: ج1، 249 ).
-
لقب أمير المسلمين : إنّ لقب أمير المسلمين لقب شاع عند حكام المغرب قاطبة وهو ثاني لقب اشتهر به الحكام الزيانيون بدءا من يغمراسن بن زيان إلى آخر حكامهم ، فلم يشع عندهم لقب أمير المؤمنين الذي كان خاصا بخلفاء بني العباس في المشرق، قال صاحب صبح الأعشى:« دانَ يوسف بن تاشفين بطاعته للخلافة العباسية ببغدادَ، وتبعه من جاء بعده من ملوك الغرب من البربر، فتلقب به بنو مرين: ملوك فاس، وبنو عبد الواد: ملوك تلمسان » (القلقشندي أحمد، 2015م: ج5: 486)، ومن الشواهد التي تدل على تلقب حكام الدولة الزيانية بلقب أمير المسلمين اللوح التذكاري الذي وجد على جدار الزاوية اليعقوبية التي أنشأها أبو حمو موسى الثاني على ضريح والده ، وكذلك القطع النقدية التي عثر عليها والتي تتعلق بأبي موسى حمو الأول ، وابنه أبي تاشفين الأول ، والسلطان أبي عبد الله محمد الخامس ، والسلطان أبي العباس العاقل والتي تدل في نفس الوقت على تلفب حكام بني عبد الواد بألقاب أخرى كــعبد الله والمتوكل على الله، والمتوكل على رب العالمين، والمعتصم بالله. (تواتي حسين، 2017: 71).
-
لقب الخليفة: لم يتلقب بهذا اللقب من حكام الدولة الزيانية إلا أبو حمو موسى الثاني، فقد ذكر عنه أنّه لمّا دخل تلمسان يوم الأربعاء لثمان خلون من ربيع الأول سنة 760ه (7شباط 1359م)، دخل قصره وجلس على عرش أجداده وبويع بيعة الخلافة (الطمار محمد، 2007: 150) ، وقد أنشد أبو حمو وكان شاعرا كذلك قصيدة طويلة تشبه الملحمة يصور فيها شجاعته وصولاته البطولية منها :
أنَا الملكُ الزَّابي ولستُ بــزابيّ ولـكنّني مُفـْــني الطُّغَاة الطمَاطمِ
دخلْتُ تلمسانَ التي كُنت أرتجي كمَا ذكرُوا في الجفر أهلَ الملاحِمِ
فخلَّصت من غُصَابها دَارَ مُلكنا وطهـرتُها من كـُـلِّ باغٍ و جَارمِ
فقمنا بأمر ِالله في نصر ِدينـِهِ وفي كفّ ما قد أحدثوا من مظالــم
فللَّه منا الحمدُ والشـكر دائما وصلّى على المختار من آل هَاشـــمِ
( الطمار محمد، 2007: 155)
-
لقب الأمير: وقد أطلق على أبناء السلطان وإخوته، كما أطلق على السلطان عبد الوادي، وتجدر الإشارة إلى اختلاف المؤرخين في لقب الأمير عند الزيانيين، فمثلا ابن خلدون أطلق على يغمراسن بن زيان لقب الأمير تارة، ولقب السلطان تارة أخرى، بينما ابن الأحمر (ت807هـ) أطلق لقب الأمير على جميع حكام بني عبد الواد دون استثناء، بل نجده أحيانا يحاول التقليل من شأنهم فيرى أنّهم كانوا يلقبون بلقب الشيخ فقط، وهذا الحكم هو من قبيل الحط من قيمتهم في إطار حملة الهجاء التي شنّها ضدّهم( الطمار محمد، 2007: 69).
-
لقب دادا: وهو أقل الألقاب شهرة إلّا أنّه يدل على التعظيم والتقدير في أعراف الزيانيين، أطلقه عبد الرحمن بن خلدون على السلطان يغمراسن بن زيان وولي عهده أبا سعيد عثمان حين تحدث عن وصية الأول لولده بأن يتجنب ملاقاة بني مرين، وأن يوسع مملكته شرقا على حساب الأراضي الحفصية، حيث قال: أوصى دادا يغمراسن دادا عثمان...، وقال له: يا بُنيّ: إنّ بني مرين بعد استفحال ملكهم واستيلائهم على الأعمال الغربية وعلى حضرة الخلافة بمراكش لا قبل لنا بهم(تواتي حسين، 2017: 70).
ومهما يكن من أمر فإن العرش الزياني تداول على حكمه خمسة وثلاثون سلطانا منهم من عمر طويلا في حكمه ومنهم من لم يدم حكمه أكثر من بضعة أيام، ومن أشهر سلاطين الدولة الزيانية هم: (الجيلالي عبد الرحمن ، 1965: ج2: 151)
السلطان أبو يحيى يغمراسن بن زيان تولى الحكم سنة (633ه).
السلطان أبو سعيد عثمان بن يغمراسن تولى الحكم سنة (671ه).
السلطان أبو زيان محمد وتولى الحكم سنة (703ه).
السلطان أبو حمو موسى الأول بن عثمان تولى الحكم سنة (707ه
السلطان أبو تاشفين عبد الرحمن الأول بن موسى تولى الحكم سنة (718ه) .
السلطان أبو حمو موسى الثاني بن يوسف تولى الحكم سنة (760ه).
السلطان أبو مالك عبد الواحد تولى الحكم سنة ( 831ه).
السلطان أبو حمو موسى الثالث تولى الحكم سنة (909ه)
2.3. نظام الإدارة
اتخذ بنو زيان الوزراء والحجاب شأنهم في ذلك شأن الدول المعاصرة لهم وأشهر الوظائف السامية التي عرف به الزيانيون في مجال الإدارة هي :
-
الوزارة : كان نظام الوزارة لشخصين:
-
صاحب السيف: ويرجع إليه أمر الجيش في تجنيده وتسير به وسائر نظمه .
-
صاحب القلم: وهو رئيس الإدارة المدنية ووكيل شرطة المملكة .
ولكنّ بني زيان لبداوتهم كما أسلفنا مزجوا بين هاتين الوظيفتين في آخر عهدهم، وأسندوها لموظف واحد أطلقوا عليه لقب المزاول(الكعاك عثمان، 2003: 321 )، وقد كان الوزير في الدولة العبد الوادية –مالم يقدم عليه ولي العهد- بمثابة نائب للسلطان في شؤون الحكم والحرب، مكلف بتسيير إدارة الدولة، ومراقبة السلطان عند خروجه للحرب، وذلك منذ تأسيس الدولة إلى نهاية عهد أبي سعيد عثمان الثاني، أمّا في عهد أبي حمو موسى الثاني فأوكلت للوزير مهمة قيادة الجيش (تواتي حسين، 2017: 87)، إضافة إلى مهمات يومية أخرى حددت للسلطان أبي حمو في قوله:( وأول ما يدخل عليك كاتبك ووزيرك، إذ بها صلاحك وتدبيرك ، وذلك أهم ما تبتدئ به من أمرك، لتلقي إلى الكاتب ما أردت من سرّك ويعرض عليك الكتب الواردة من أقطارك وأمصارك، وذلك بمحضر وزيرك المخصوص برأيك وتدبيرك، ليجمع معك على الرأي والتدبير، والجليل من أخبارك والحقير، فإن الوزير إذا ما كان على ما وصفناه؛ بالصفة التي ذكرناها، فلا ينبغي أن تخفي عنه شيء من أمرك، بل تشاركه في حلوك ومرّك، وقلَّة وكثرك ) (أبو حمو موسى، 2012: 228).
وقد أفرد أبو حمو موسى في كتابه واسطة السلوك في سياسة الملوك فصلا سماه (فراسة الملك مع وزيره) ذكر فيه شروطا لتعيين الوزراء منها(أبو حمو موسى، 2012: 227):
-
أن يكون من كبار القوم وخيارهم .
-
أن يكون محبا لسلطانه، ناصحا مشاورا له .
-
أن يكون صاحب عقل راجح ورأي سديد .
-
أن يكون ذكيّا فطنا داهية سريع الفهم ، وصاحب فراسة .
-
أن يكون أمينا حافظا للسر.
-
أن يكون شجاعا باسلا مغوار في المأزق.
-
أن يكون خطيبا فصيح اللسان .
-
أن يكون إنسانا قانعا بعيدا عن الطمع والرشوة .
ومن أشهر وزراء أبو حمو موسى الثاني نذكر : أبو عمران موسى بن علي بن برغوث، أبو محمد عبد الله بن مسلم الزردالي، أبو موسى عمران بن موسى بن فارس، وادفل (واتفل) بن عبو بن حماد( ابن خلدون يحي ، 1980: ج2: 161 وما بعدها).
-
الحجابة : وهي أسمى الرتب في نظام حكم الزيانيين، بل هي أعلى رتبةً من الوزارة، والحاجب هو متولي السلطان الخاص ومدير تشريفانه، ورئيس جنده عند الحرب ، وهو مقدم على سائر الخاصة لملازمته السلطان ومشاركته في الـرأي والمشـورة، ويبدو أنّ الحاجب كان قريبا من السلطان ويتصل به مباشرة ويأذن في الدخول عليه بعد أخذ الإذن ويسمّى المزواد باللهجة الزيانية وأشهر من تولى الحجابة على عهد السلطان يغمراسن هو الفقيه عبدون بن محمد الحباك( شاوش الحاج محمد بن رمضان، 2011: ج1: 77 ).
-
-القضاء: يمثِّلُ القضاء جزءا مهمّا في الشريعة الإسلامية لأنّه عصبُ العدالة بين الناس، وقد ثبتت مشروعيته بالكتاب والسنّة وإجماع المسلمين، ووردت في الذكر الحكيم آيات بيِّنات توجبه على الأنبياء عامة ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فالحكم بين النّاس إحدى غايات الرسالة السماوية ، قال تعالى في محكم تنزيله : ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنََٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ ، [المائدة/8].
ومن أجلِ هذا كلِّه فقد أولى حكامُ الدولة الزيانية اهتماما كبيرا لسلك القضاء بين النّاس لإقامة دولتهم على دين الحق، وقد عظَّم هؤلاء السلاطين الشريعة الإسلامية وامتثلوا لأحكامها، واحترموا القضاة ولم يتدخلوا في أحكامهم ، وأعطوا الحرية التّامة لهم في إصدار أحكامهم .
وتجدر الإشارة أنّ اختيار القضاة يَتمُّ في الغالب على أسس ثقافية فقهية حيث يكون القاضي صاحبَ مكانة ويدٍ طولى في العلوم الشرعية ، وعادة ما يكون من أبناء البلد والإقليم ليكون أكثر معرفة وخبرة بأحوال الناس وعاداتهم ، كما كان لقضاة الدولة بالإضافة لمهامهم الرسمية أعمالٌ أخرى كالصلاة والخطابة في المساجد والإشراف على الأماكن الدينية وعلى أحوال الغائبين والمفقودين ، وولاية الحج وأخذ البيعة للخليفة ومصاحبة الجيش في الحروب(بلعربي خالد، 2011: 184)، وما يميز القضاء في العصر الزياني هو توزيع الاختصاصات كغيره من بلدان المغرب الإسلامي فنجد:
- قاضي الجماعة: وهو من أعلى الرتب السامية في جهاز القضاء، يقابل قاضي القضاة بالمشرق العربي، ونظرا لقيمة هذه الرتبة القضائية فإنّه كان يعين من قبل السلطان بعدما يتفرّس فيه مبدأ الفطنة والفراسة والذكاء والكفاءة والتقدير والمؤهل العلمي... ، ومهمة قاضي الجماعة تتمثل في النظر في الدعاوي والمخاصمات والفصل في المنازعات التي تحدث بين الرعية سواء أكان ذلك في العاصمة تلمسان أم في شتى نواحي ومناطق الدولة الزيانية المترامية الأطراف(بلعربي خالد، 2011: 186)، ولعلّ من أشهر قضاة الجماعة في تلمسان نجد : أبا سعيد بن محمد العقباني التلمساني المتوفى سنة (811ه) بمدينة تلمسان(الحفناوي محمد، 1906: 155).
-
قاضي الحضرة : وقاضيه يتولى شؤون الأمير خاصة، وهو بمثابة الموثق الملكي ويتم تعيينه من قبل السلطانِ نفسِه بمشورة قاضي الجماعة، ويعد قاضي الحضرة نائبا لقاضي الجماعة، ويلقب من قضاة حارة تلمسان .
-
قاضي العملات: ينوب عن قاضي الجماعة بالمدن والعمالات التابعة لدولة العبد الوادية، ويعتبر من الموظفين الرئيسيين في كل عمالة إلى جانب القائد، واختصاصه لا يتجاوز حدود عمالته (مقاطعته)، وممن تولى منصب قاضي العمالات في عهد يغمراسن عبد العزيز بن عمر بن مخلوف المكنى بأبي فارس المتوفى سنة ( 686ه) ، وهو محدث من فقهاء المالكية من أهل تلمسان ولي القضاء في عدة عمالات(بلعربي خالد، 2011: 187 ).
-
قاضي الأنكحة : وهو القاضي المختص بالأنكحة وعقود الزواج وما يتفرّع عنها وكان يشرف على عقد الخطوبة وفق ما ينص عليه الشرع الإسلامي( بلعربي خالد، 2011، س :4 ، ع 12 : 108 ).
-
قاضي الجند: وهو منصب مرافق للجيش يسير مع الجند ويلازمهم( بونار رابح، 2019: 300)، فهو يرافق الجيش في حله وترحاله ويشارك معه في الحروب ، ومهمته هي حل وفصل النزاعات والمشاحنات والخصومات التي قد تحدث بين الجند بالإضافة إلى إمامة الجند في الصلاة .
-
مساعدو القضاة : ومهما يكن من أمر فإنّ القضاء في العصر الزياني لعب دورَه الفعال في تنظيم شؤون الرعية فغدت تلمسان تعج بمدارس القضاء والاجتهاد القضائي ، ومن أبرز رجال القضاء في هذه الفترة نذكر : القاضي محمد بن أحمد بن قاسم العقباني التلمساني (ت 811ه) (نويهض عادل، 1982: 237)، القاضي أبو عثمان سعيد بن محمد العقباني (ت 811ه)، القاضي عبد الواحد بن أحمد العقباني قاضي الجماعة وهو ابن قاضي الجماعة محمد العقباني (ت 896ه) (نويهض عادل، 1982: 237).
-
الفقهاء : لم يستغنِ الحكامُ الزيانيون عن توجيهات الفقهاءِ والعلماء إبّان فترة حكمهم، فعملوا على تقريبهم ومشاورتهم في أمور شتّى، بل جعلوهم في مقدِّمة مجالس قصورهم وهذا تقديرا لمناقبهم ومكانتهم السامية، وإدراكا منهم أن عضد الدولة لابدَّ أن يقوم بجهود العلماء والفقهاء، وهذا ينم أيضا عن احترام الحكام لشخصية هذه الطبقة، وقد امتدّ هذا الاهتمام إلى غاية الأخذ بفراستهم في تعيين أولياء العهد والولاة، وبهذا تظهر مشاركة الفقيه العالم للسلطان الحاكم أكيدة، وجدّ مكينة ورصينة ترتب عليها نتائجُ أثّرت على مجال السياسة والعلم والمجتمع معا، وهذا باعتبار أنّ الفقهاء طبقة اجتماعية لها مرتبتها المتقدمة وأثرها الواضح في بناء الدولة، وكان على الهيئة الحاكمة ألّا تغفل عن دور هؤلاء، سواء في تسيير المجتمع، أو تحقيق المشاريع للحاكم فالصلة إذن وثيقة بين السلاطين وجمهرة الفقهاء في هذه الفترة، فأبو حمو الأول كان محبا للعلم وأهله وكان في عهده أبناء الإمام أبي زيد وأبي موسى فقام بحقهما وأكرم مقامهما واحتفل بهما، وأسس لهما المدرسة التي تسمت باسمهما، وكان يكثر مجالستهما والاقتداء بهما، وأكمل مسيرته في الاعتناء بعلماء تلمسان بعده الأمير عبد الرحمن بن تاشفين، والذي كان مولعا بتحبير الدور وتشييد القصور، وقام ببناء المدرسة الجليلة –العديمة النظير- بإزاء الجامع الأعظم، وكان في عهده أبو موسى عمران المشذالي الذي ولاه التدريس في هذه المدرسة الجديدة(التنسي محمد بن عبد الله، 1985: 139، 140)، تقديرا واحتراما لمكانة وقدر هذا العالم .
ولكن من الواجب التنبيه إلى أنّ هؤلاء الفقهاء لم يكونوا أداة طيعة في يد الحاكم، بمعنى أنهم لم يكونوا فقهاء أو علماء بلاط فقط، بل تميزوا بنوع من الحرية في إبداء الرأي أو معارضة السلطان، فهناك طبقة من العلماء والفقهاء لم تطمئن، و بقيت متوجسة من مشاركة الأمراء منطلقة من الأحكام والنصوص التي طالما حذرت من ولوج هذا المسلك وإتيانه، وقد تعزز هذا التيار بسلوكات بعض الأمراء الذين أبانوا عن طيش كبير، وعن سوء تسيير للشأن العام للرعية، ومن نماذج ذلك ما تعلق بأمور الجباية المالية من طرف الحكام، وما يطبعها غالبا من جور، وانعكس ذلك في السؤال عن طبيعة المال المجلوب أحرام أم حلال؟ وتحرج بذلك العلماء من تلك الأعطيات والهدايا والهبات التي كانت تلحقهم من قبل الأمراء، وبهذا انقسم العلماء نحو هذه المسألة إلى : قابلين لهذا المال ورافضين له على الإطلاق ومتحفظين بشأنه(بوعقادة عبد القادر، 2019: 109).
إنّ تأثير الفقهاء كان كبيرا حتّى بلغ مستوى تقليد الناس الإمامة العظمى، حيث أخبرنا ابن صعد عن لقاء يغمراسن بالإمام الزاهد أبي مطهر واضح بن عاصم بن سليمان المكناسي الذي كان من مفاخر الأولياء في البلاد الشلفية، وكان عظيم القدر لدى أرباب الصوفية ، وهو الذي أشار على يغمراسن بتولية أحد أبنائه وهو (عثمان)، فأخذ يغمراسن بنصيحته، وسُرَّ بهذا التوجيه، هو وأولاده وأكابر دولته باعتبار بقاء الخلافة فيهم، ومن بين الأدوار السياسية للعلماء وعلاقتهم بالسلطان القيام على تشجيع الأمراء في نجدة بعضهم البعض خصوصا أمام العدو، وقد أظهرت رسائل لسان الدين قيمة هذه العلاقة، ونجدة بني زيان لإخوانهم بالأندلس على عهد أبي حمو موسى الثاني ضد خطر النصرانية(بوعقادة عبد القادر، 2019: 111 )، ومن أشهر فقهاء الدولة الزيانية نجد :
-
أبو عبد الله بحمد بن أحمد بن مرزوق الخطيب المتوفى سنة ( 781ه): وقد كان إماما فقيها متمكنا، خطب على عدة منابر بمساجد تلمسان والمنصورة والعباد، وتناوب بعدها الخطابة بجامع القصر بالحمراء بغرناطة مع قاضي الجماعة أبي القاسم الشريف(الفيلالي عبد العزيز، 2002: ج2: 333)، ذكر عنه أنه لا يوجد في عهده بالمغرب من يسند أحاديث الصحاح سماعا غيره(النّاجي لمين، 2016: 47).
-
أبو عبد الله محمد بن منصور المتوفى سنة (735ه) الذي تولى قضاء تلمسان والخطبة بجامعها، وكان كاتب رسائل بني يغمراسن الزيانيين.
-
-أبو إسحاق إبراهيم بن يخلف بن عبد السلام التلمساني المطماطي التنسي، الذي انتهت إليه رئاسة التدريس والفتوى في أقطار المغرب كلها، وقد طلب منه السلطان وفقهاء تلمسان القيام بها، فأجابهم ودرّس بها وانتفع به خلق لا يحصون، وكان من أولياء الله الجامعين بين علمي الظاهر والباطن(التنبكتي أحمد بابا، 1989: 38).
-
وعموما فإن هؤلاء الفقهاء وغيرهم تنوعت مهامهم بين الوظائف الرسمية والأنشطة الحرة ومنها :
-
وظيفة التدريس: وهي من أشهر الأعمال التي مارسها الفقهاء الزيانيون بالإضافة إلى الإمامة والإفتاء والخطابة.
-
وظيفة الكتابة: وهي من أجل وأرفع الوظائف نظرا لقرب صاحبها من السلطان .
-
وظيفة التوثيق والشورى: وهي من أشرف الوظائف التي شغلها علماء الزيانيين الذين كانوا يستشيرون العلماء والفقهاء في مجال السياسة والقضايا الاجتماعية .
-
وظيفة السفارة : حيث تولى بعض علماء وفقهاء الدولة الزيانية منصب السفير الذي قد يرسله السلطان الزياني لمختلف الممالك القريبة والبعيدة في شأن من شؤون السياسة .
-
الطب : فبعض علماء المغرب كان فقهيها وطبيبا في آنٍ واحد .
وهناك أنشطة أخرى مارسها الفقهاء كالاشتغال بالفلاحة والحياكة والتجارة والنسيج وقد كانت هذه المهن تخص بعضا من الفقهاء الذين امتنعوا عن الهدايا والعطايا الآتية من الأسر السلطانية إيمانا منهم أن هذه الأموال الملكية قد تتسبب لهم أحيانا في تنازلات عن بعض المبادئ والقيم الراسخة في اعتقاداتهم، ويبدو أن أسرة ابن مرزوق الخطيب قد ضمت عددا من العلماء الفقهاء الذين اشتغلوا بتجارة الصوف وحياكتها، وهو ما ذكره ابن مرزوق في كتابه المناقب المرزوقية( ابن مرزوق التلمساني محمد، 2008: 148 ).
الخاتمة
إن الفقه السياسي والإداري للدولة الزيانية تميز بخصائص حضارية في الغرب الإسلامي مما جعلها جديرة بالدراسة والبحث من قبل المؤرخين والباحثين لفهم حقيقة تسيير شؤون الدولة وتنظيماتها المختلفة وكذا معرفة رجالات الدولة وإسهاماتهم المختلفة في توطيد العلاقة بين أفراد المجتمع من خلال ضبط قواعد وأسس وترتيبات لبناء مجتمع متكامل، ولمعرفة أحوال هذه الدولة التي حكمت المغرب الأوسط ردحا من الزمن اتسمت بطابع حضاري يزاحم بقية الدول في ذلك العصر. ولعل كثيرا من الباحثين اتخذوا المغرب الأوسط مادة خام لمواضيع البحث والتنقيب والإثراء.