مدْخل
تُعَدُّ الجملَةُ الوحْدَةُ الأساسيّةُ القابلَةُ لِلتّحْليلِ اللُّغوِيِّ، وبِالنّظرِ إلى ما ورَدَ فيْ التُّراثِ اللُّغوِيِّ عنْدَ العربِ، نُدرِك أنّ الجملَةَ لمْ يَنْظرْ إليْها النُّحاةُ بِاِهْتِمامٍ، ولمْ يولوها الرِّعايَةَ المطْلوبَةَ فيْ القُرونِ المُتقدِّمةِ، فلا هُمْ وضَعوا لها تعاريفَ تُحدِّدُ مَفهومَها بِدِقّةٍ، ولا هُمْ رسَموا حُدودَها، ولا هُمْ كشَفوا عنْ أنْماطِها... وإنّما كانَ جُلُّ اِنْشِغالِهِمْ بِهذا الموْضوعِ مُنْصَبًّا على بيانِ مُكوِّناتِها لا غيْرُ. واِسْتمرَّ الوضْعُ على هذِه الحالِ إلى غايَةِ ظُهورِ اِبْنِ هشامٍ الأنْصارِيِّ فيْ العُصورِ المتأَخِّرَةِ أيْنَ قلَبَ الموازينَ رأْسًا على عقِبٍ، وأحْدَثَ نقْلَةً نوْعيَّةً فيها الشّيْءُ الكثيرُ مِنَ الاِهْتِمامِ بِالجُملَةِ، فأَقْبَلَ يَكشِفُ عنْ نِظامِ بِنْيَتِها، ويَحْصِرُ بِدِقَّةٍ قواعِدَها، ويُحلِّلُ بِوُضوحٍ مُكوِّناتِها الأساسيَّةَ.
ولأنّ الجملَةَ ترْكيبٌ مُعقَّدٌ مُتعَدِّدُ المُسْتوياتِ، فلا شكَّ أنّ طريقَةَ تناوُلِها تخْتلِفُ بِاِخْتلافِ المدارِسِ والمذاهِبِ النّحْويّةِ، كما أنَّ آراءَ النُّحاةِ القُدامى والمُحْدَثينَ تبايَنَتْ حوْلَ مسْأَلَةِ التّفْريقِ بيْنَ الجُملَةِ والكلامِ: هلَ هُما مُصْطلَحانِ مُترادِفانِ أمْ مُفْترِقانِ؟ وكيْفَ أنَّ المُحْدَثينَ تَجاوزُوا التّقْسيمَ التَّقْليدِيَّ القديمَ لِلْجمْلَةِ بِاِعْتِبارِها لا تَخْرُجُ عنْ ضَرْبَيْنِ، هما: الاِسْميّةُ والفعْليّةُ، إلى تقْسيماتٍ أُخْرى مثْل: الجملَةِ الشّرْطيّةِ، والجملةِ الظّرْفيّةِ... وغيْرِها مِنَ التّفْريعاتِ الّتيْ اِنْطلَقَ فيها أصْحابُها مِنْ مبْدأ أنَّ التّقْسيمَ الجديدَ هذا لِلْجُملَةِ العربيّةِ، هوَ السّبيلُ الأمْثَلُ لِمعْرِفَةِ مُسْتوياتِها عنْدَ إجْراءِ عمليّةِ التّحْليلِ، وإدْراكِ دلالَتِها بِعُمقٍ.
تَنْقسِمُ الجُملَةُ العربيّةُ عنْدَ النُّحاةِ قِسْميْنِ مُتمايِزيْنِ، هما: الجُملَةُ الاِسْميّةُ، والجُملَةُ الفِعليَّةُ، وكانتْ هناكَ مُحاولاتٌ فيْ بابِ الاِجْتِهادِ أضافتِ الجُملَةَ الظّرْفيَّةَ، والجُملَةَ الشّرْطيَّةَ. وشاعَتْ فيْ كتُبِ النّحْوِ مُصْطلحاتٌ كثيرَةٌ تُعبِّرُ عنْ مَفْهومِ الجُملَةِ قَديمًا مثْلُ: (الكـلام)، و(المؤلّف)، إلاّ أنَّ ما ميَّزَ هذِهِ المُصْطلَحاتِ، هو اِخْتِلاطُها وتداخلُها؛ ولكِنْ معَ ذلِك، ظلَّ مُصْطلَحُ الجُملَةِ الأكْثَرَ اِسْتِعمالاً لدى النُّحاةِ على الإطْلاقِ حتّى وإنْ كانَ صاحِبُ (الكِتابِ) قَدِ اِهْتَمَّ بِالجُملَةِ اِهْتِمامًا كبيرًا لكِنْ دونَ تَسْميَّتِها مِنْ حيْثُ مدْلولُها، وتَعْيينُ أنْماطِها، وبيانُ علاقَةِ أجْزائها. فالنّحْويُّونَ القُدامى، قسَّموا الجمْلَةَ مِنْ زاوِيَةِ الشَّكْلِ فَحسْبُ، فما اِبْتدأَ مِنْها بِاِسْمٍ، أطْلقُوا عليْها مُصْطلَحَ: الجُملَةِ الاِسْميّةِ، وما اِبْتدأَ مِنْها بِفعْلٍ، سَمَّوْها: جُملَةً فِعليَّةً، وما دونَهُما مِنَ الجُمَلِ يُدْرَجُ تحْتَ هذيْنِ النّوْعيْنِ لا غيْرَ، مثْل إدْراجِهِمْ الجُملَةَ الشّرْطيَّةَ تحْتَ مِظلَّةِ الجُملَةِ الفِعليَّةِ، والجُملَةِ الظَّرْفيّةِ تحْتَ مِظلَّةِ: الجُملَةِ الاِسْميّةِ، وهذا بِإجْماعِ عدَدٍ كبيرٍ مِنَ الجُمْهورِ قَديمًا وحتّى حديثَّاِ.
وإنْ كانتِ الجُملَةُ فيْ النّحْوِ العربِيِّ قَديمًا وحديثًا حَظِيَتْ بِاِهْتِمامِ الدّارسينَ لها، فلأنَّها مِحْوَرُ اللُّغةِ العربيّةِ وركيزَتُها الأساسيّةُ بِاِعْتبارِها اللَّبِنَةَ الّتيْ بِها يَسْتقيمُ الكلامُ؛ إلاّ أنَّ خِلافًا واسِعًا وقَعَ حوْلَ مَدْلولِ هذا المُصْطلَحِ، فَكَثُرَتِ التّعاريفُ لِتبايُنِ المذاهِبِ النّحْويّةِ، وزوايا تناوُلِ الجُملَةِ عنْدَ مُحاولَةِ تَحْديدِ مَفْهومِها. ولكنْ، بِالرّغْمِ مِنَ الضّبابيّةِ الّتيْ لَفَّتْ موْضوعَ الجُملَةِ فيْ النّحْوِ العرَبِيِّ فيْ العُصورِ المُتقَدِّمَةِ، إلاّ أنّها تَظَلُّ المُصْطلَحَ الأساسَ الّذيْ تقومُ عليْهِ الدِّراسَةُ النّحْويّةُ؛ لأنّها الوحْدَةُ الّتيْ يَتأَلَّفُ منْها كُلُّ كلامٍ، فضْلاً عنْ كوْنِها المُرَكَّبَ الّذيْ يَحْتَضِنُ الفِكرَةَ التّامَّةَ الّتيْ يُعبِّرُ عنْها المتكلِّمُ؛ إذنْ، فهيَ الوسيلَةُ النّاقِلَةُ لِلأَفْكارِ إلى الغَيْرِ ! أَ وَ ليْسَ الكلامُ سِوى مَجْموعَةٍ مِنَ الجُمَلِ المُفيدَةِ؟
1. حدُّ الجُملَةِ العربيّةِعنْدَ النُّحاةِ القُدامى والمُحْدَثينَ
1.1. حدُّ الجُملَةِ لُغةً
الجُملَةُ بِالضّمِّ « جماعةُ الشّيْءِ كأنّها أُخِذَتْ مِنْ جملَةِ الحبْلِ؛ لأنّها قوى كثيرَةٌ جُمِعتْ فَأُجْمِلَتْ جُملَةً، ومنْهُ أخَذَ النّحْوِيُّونَ الجُملَةَ لِمُرَكَّبٍ مِنْ كلِمتيْنِ أُسْنِدتْ إحْداهُما إلى أُخْرى »1، جاءَ فيْ مُحْكَمِ التّنْزيلِ: « وقالَ الّذينَ كفَروا لوْلا نُزِّلَ عليْهِ القُرْآنُ جُملَةً واحِدَةً، كذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِه فُؤادَكَ، ورَتَّلْناهُ تَرْتيلاً »2، أيْ: مُجْتَمِعًا. وعليْهِ، فالجُملَةُ تدُلُّ على معْنى التّجَمُّعِ فيْ مُقابِلِ التّفَرُّقِ، ولِهذا قيلَ: أخَذَ الشّيْءَ جُملَةً وباعَهُ جُملَةً، أيْ بِمعْنى: باعَ الشّيْءَ مُتَجَمِّعًا لا مُتفَرِّقًا. يقولُ صاحِبُ (لِسانِ العرَبِ): « والجُملَةُ واحِدة الجُمَل، والجُملَةُ جماعَةُ الشّيْءِ، وأجْمَلَ الشّيْءَ جمَعَهُ عنْ تَفْرِقَةٍ، وأجْملَ لهُ الحِسابَ كذلِك، والجُملَةُ جماعَةُ كُلِّ شيْءٍ بِكمالِهِ مِنَ الحِسابِ وغيْرِهِ، وحِسابُ الجُمَّلِ بِتشْديدِ اللاّمِ، الحرْفُ المُقَطَّعَةُ على أبْجَد، وقالَ بعضُهُمْ هو حِسابُ الجُملِ بِالتّخْفيفِ »3. وفيْ (مُخْتارِ الصِّحاحِ) لِلـرَّازيْ (المُتوَفَّى سنة 760 هـ) جـاءَ قولُـهُ: « الجُملَةُ واحِدَة الجُمَل، وأجْمَلَ الحِسابَ: رَدَّهُ إلى الجُملَةِ »4. أمّا اِبْنُ فارِسٍ (المُتوَفَّى سنةَ 395 هـ)، فيقولُ عنِ الجُملَةِ: « الجيمُ والميمُ واللاّمُ، أصْلانِ: أحدُهُما تَجَمُّع وعِظَمُ الخلْقِ، والآخَرُ حُسْنٌ. فالأوَّلُ قوْلُك: أجْملْتُ الشّيْءَ، وهذِه جُملَةُ الشّيْءِ، وأجْملْتُهُ: حَصَّلْتُهُ، وقالَ اللهُ تعالى: ( وقالَ الّذينَ كَفَروا لوْلا نُزِّلَ عليْهِ القُرْآنُ جُملَةً واحِدَةً )[الفُرْقان: 32]، ويجوزُ أنْ يكونَ الجمل مِنْ هذا لِعِظَمِ خلْقِه »5. يَتَّضِحُ مِنْ قولِ اِبْنِ فارِسٍ، أنّ الفِعْلَ (جَمُلَ)، يأْتيْ بِمعْنى تَجْميعِ شيْءٍ مَعَ شيْءٍ، ويأْتيْ بِمعْنى تَحْصيلِ حِسابٍ أوْ إجْمالِهِ، وقدْ يأْتيْ بِمعْنى الحُسْن والجَمال. وجاءَ على لِسانِ صاحِبِ (مُعْجَم اللُّغَةِ العربيَّةِ المُعاصِرَةِ) قولُهُ:
« والجُملَةُ مُفْرَدَةٌ، جمْع جُمْلاتٍ وجُمَلٍ: جماعَةُ كُلِّ شيْءٍ سِعْر/ تاجِر جُملَة، كانَ مِنْ جُملَةِ أصْحابِها جملَة الأُجرَة المُسْتَحَقَّةِ. ونزَلَ عليْهِ القُرْآنُ جُملَةً واحِدةً: مُتجَمِّعًا دفْعَةً واحِدَةً لا مُنَجَّمًا مُتفَرِّقًا. أخَذَ الشّيْءَ جُملَةً: مُتجَمِّعًا لا مُتفَرِّقًا. بائعُ جمْلَة: مَنْ يبيعُ البضائعَ مُتجمِّعَةً لا مُتفَرِّقَةً، عكسُه بائعٌ بِالقِطاعِيّ. بِالجُملَةِ / على الجُملَةِ: إجْمالاً، بِصورَةٍ موجَزَةٍ. جُملَة الأمْرِ/ جُملَةُ القَوْلِ: بِخُلاصَةٍ وإيجازٍ شديدٍ. جُملَةُ الصّالِحينَ: جماعَةُ الأوْلِياءِ. جُملَةً وتفْصيلاً: بِصورَةٍ شاملَةٍ ومُفصَّلَةٍ. مِنْ جُملَتِها: مِنْ مجْموعِها، مِنْ بيْنِها »6
2.1. حَدُّ الجُملَةِ اِصْطِلاحًا
الجُملَةُ حسَبَ اِصْطِلاحِ عُلماءِ النّحْوِ، هيَ: كلُّ مُركَّبٍ إسْنادِيٍّ مِنَ الكلامِ سواءٌ أفادَ السّامِعَ شيْئًا أمْ لمْ يُفِدْهُ، مثْلُ: أفَلَ نَجْمٌ، فهذِه جُملَةٌ مُفيدَةٌ مُركَّبَةٌ ترْكيبًا إسْنادِيًّا بيْنَ الفِعلِ (أفَـلَ)، والفاعِلِ ( نَجْمٌ ). واِعْلَمْ أيُّها القارىءُ، أنَّ اللَّفْظَ المُفيدَ يُسمّى كلامًا و جُملَةً، و نَعْنيْ بِالمُفيدِ: ما يَحْسُنُ السُّكوتُ عليْهِ، ويَفْهمُهُ السّامِعُ ولا يَحْتاجُ إلى مزيدٍ. والجُملَةُ فيْ عُرْفِ النُّحاةِ، أعَمُّ مِنَ الكلامِ، فكلُّ كلامٍ جُملَةٌ، والعَكسُ غيْرُ صحيحٍ.
2. مَفْهومُ الجُملَةِ لدى نُحاةِ العرَبِ القُدامى
وإنَّ أوَّلَ مَنِ اِسْتخْدَمَ مُصْطلَحَ (الجُملَةِ) مِنْ عُلماءِ العربيّةِ، أبو عبّاسٍ المُبَرِّدُ (المُتوَفَّى سنةَ 285 هـ) 7القائلُ فيْ مَعْرِضِ حديثِه عنِ الفاعِلِ: « هذا بابُ الفاعِلِ، وهو رفْعٌ، وذلِك قوْلُكَ: قامَ عبْدُ اللهِ، وجلَسَ زَيْدٌ، وإنّما كانَ الفاعِلُ رَفْعًا؛ لأنّهُ هوَ والفِعْلُ جُملَةٌ يَحْسُنُ عليْها السُّكوتُ، وتَجِبُ بِها الفائدةُ لِلْمُخاطَبِ. فالفاعِلُ والفِعْلُ بِمنْزِلَةِ الاِبْتداءِ والخبَرِ، إذا قُلْتَ: قامَ زيْدٌ، فهوَ بِمنْزلَةِ قوْلِكَ: القائمُ زيْدٌ »8، فمِنْ كلامِه، تبيَّنَ لنا أنَّ مُصْطلَحَ الجُملَةِ عنْدَهُ بِمعْنى: الفِعْل والفاعِل، والمُبْتَدَأ والخبَر، وأنّهُ جعَلَ الفِعْلَ والفاعِلَ نَظيريْنِ لِلْمُبْتَدَأ والخبَرِ. يقولُ الدّكتورُ عليّ أبو المكارِمِ (المُتوَفَّى سنةَ 2015م): « وإنَّ لفْظَ الجُملَةِ لمْ يُسْتخْدَمْ فيْ النّحْوِ إلاّ فيْ عصْرٍ مُتأَخِّرٍ نِسْبِيًّا، إذْ كانَ أوّل مَنِ اِسْتعْملَهُ مُصْطَلَحًا مُحَدَّدَ الدّلالَةِ مُحمّد بْن يزيد المُبَرِّد فيْ كتابِهِ المُقْتَضب »9. ويقولُ الدّكتورُ أحْمَد محمّد عبْدُ الرّاضيْ:
« ولمْ يَكُنْ قبْلَ المُبَرِّدِ اِسْتعْمالٌ لِمُصْطلَحِ الجُملَةِ، بلْ أطْلقَ سيبَويْهِ على رُكْنيْ الإسْنادِ: المُسْنَدَ والمُسْنَدَ إليْهِ، غيْرَ أنَّ المُبَرِّدَ لمْ يُشِرْ إلى ما أشارَ إليْهِ سيبَويْهِ مِنَ العلاقَةِ أوِ الرّابِطةِ بيْنَ رُكْنَيْ الجملَةِ -وهيَ علاقَةُ الإسْنادِ- وظلَّ مَفهومُ الجُملَةِ يَترَدَّدُ فيْ كتُبِ النّحْوِ -مَقْصودًا بِهِ الفعْلَ و الفاعِلَ، والمُبْتدأَ والخبَرَ- إلى أنْ جاءَ اِبْنُ جِنِّيٍّ ت 392 هـ، فحَدَّدَ مَفْهومَ الجُملَةِ عنْ طريقِ المُقابلَةِ والمُقارَنَةِ بيْنهُما وبيْنَ عدَدٍ مِنَ المُصْطلحاتِ الأُخْرى، وعلى رأْسِها مُصْطلحا الكلامِ والقَوْلِ »10.
و لمْ يَتحَدَّدْ مَفْهومُ الجُملَةِ، ولمْ يَكْتمِلْ نُضْجُهُ إلاَّ بِمجيءِ اِبْنِ هشامٍ الأنْصارِيِّ (المُتوَفَّى سنةَ 761 هـ) وتأْليفِه لِلْكِتابيْنِ: (نُظُمُ الإعْرابِ عنْ قواعِدِ الإعْرابِ)، و(مُغْنيْ اللَّبيبِ)، أيْنَ نجِدُه قدْ تعَمَّقَ فيْ فَهْمِها، وبيانِ أقْسامِها، ومُكوِّناتِها، ومَوْقِعِها، مُفرِّقًا بيْنَها وبيْنَ مُصْطلَحِ الكلامِ مُخالِفًا بِذلِكَ سَمْتَ مَنْ تقَدَّمَهُ مِنَ النُّحاةِ فيْ التَسْويَّةِ بيْنَها وبيْنَ الكلامِ مِثْلما فعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ (المُتوَفَّى سنةَ 538 هـ)، واِبْنُ يعيش (المُتَوَفَّى سنةَ 643 هـ).
هذا، وقدْ قسّمَ اِبْنُ هِشامٍ الجُملَةَ ثلاثَةَ أقْسامٍ مُتمايِزَةٍ، هيَ: الجُملَةُ الفِعليَّةُ، والجُملَةُ الاِسْميَّةُ، والجُملَةُ الظّرْفيَّةُ المبْدوءَةُ بِالظّرْفِ أوِ الجارِّ والمَجْرورِ، وإنْ كانَ المَخْزومِيُّ يرى « الجمْلَةُ الظّرْفيَّةُ مُنْبَثِقَةٌ عنِ الاِسْميَّةِ »11. وجعَلَ الجُملَةَ مِنْ زاويَةٍ أُخْرى نوْعيْنِ، هُما: الجُملَةُ الصُّغْرى، والجُملَةُ الكُبْرى، كما ميَّزَ بيْنَ نوْعيْنِ آخرَيْنِ لها، هُما: الجُملَةُ ذاتُ محلٍّ، وجُملَةٌ غيْرُ ذاتِ محلٍّ12. فالجُملَةُ عنْدَ اِبْنِ هشامٍ هيَ لَبِنةُ الكلامِ وعُنْصُرُهُ الأساسُ؛ فبالجُملَةِ نتَكلَّمُ، وبِالجُملَةِ نُفَكِّرُ، بلْ هناكَ مَنْ عَدَّها مِنْ قواعِدِ الحديثِ. ومِنَ الثّابِتِ أنّ مفْهومَ الجُملَةِ لدى بعْضِ قُدامى النّحْوِيِّينَ كانَ مُرادِفا لِمفْهومِ الكلامِ، ولمْ يَكنْ ثَمَّةَ فصْلٌ بيْنَ المُصْطلَحيْنِ، وقدْ نَصَّ غيْرُ واحِدٍ منْهُمْ على أنّ الكلامَ هوَ الجُملَةُ، قالَ الزَّمخْشَرِيُّ: « والكلامُ، هوَ المُركَّبُ مِنْ كلِمتيْنِ، أُسْنِدَتْ إحْـداهُما إلى الأُخْـرى، وهذا لا يَتأَتَّى إلاّ فيْ اِسْميْنِ أوْ فيْ فعْلٍ واِسْمٍ، و يُسمَّى الجُملَةَ »13. وذهَبَ اِبْنُ يعيش فيْ شرْحِهِ مَذْهبَ الزَّمخْشَرِيِّ فيْ التّسْويّةِ بيْنَ المُصْطلَحيْنِ: الجُملَةِ والكلامِ، قائلاً: « ومِمّا يُسْأَلُ عنْهُ هُنا، الفرْقُ بيْنَ: الكلامِ، والقَولِ، والكَلِمِ. والجوابُ: أنّ الكلامَ عِبارَةٌ عنِ الجُمَلِ المُفيدَةِ، وهوَ جِنسٌ لها، فكلُّ واحِدَةٍ مِنَ الجُمَلِ الفِعليَّةِ والاِسْميّةِ نوْعٌ لهُ، يَصْدُقُ إطْلاقُهُ عليْها، كما أنَّ الكلمةَ جِنْسٌ لِلْمُفْرداتِ »14. أمّا اِبْنُ مالِكٍ، فلَمْ يَكُن مُسْتعْمِلاً فيْ الألْفيَّةِ إلاَّ مُصْطلَحَ الكلامِ مُرادِفًا لِلْجملَةِ، قالَ: « كلامُنا لفْظٌ مُفيدٌ كاِسْتَقِمْ * اِسْمٌ وفِعْلٌ ثُمَّ حرْفُ الكَلِمْ »، والأمْرُ نفْسُهُ يُقالُ عنْ شُرَّاحِ الألْفيَّةِ15. ولعلَّ أبا زكرِيّا الفرّاءَ كانَ سبّاقًا إلى اِسْتعْمالِ مُصْطلَحِ الجُملَةِ فيْ كتابِهِ (معانيْ القُرْآنِ)، فهوَ القائلُ: « وكذلِك قوْلُهُ (سواءٌ عليْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أمْ أنْتُمْ صامِتونَ)[الأعْراف: 193] فيهِ شيْءٌ يرْفَعُ (سواءٌ عليْكُمْ) لا يَظْهرُ معَ الاِسْتفْهامِ. ولو قُلْتَ: سواءٌ عليْكُمْ صَمْتُكُمْ ودُعاؤُكُمْ، تَبيَّنَ الرَّفْعُ الّذيْ فيْ الجُملَةِ ». 16
إنَّ المُتصَفِّحَ لِلْكتابِ، لا يَعْثُرُ فيهِ على اِسْتعْمالِ صاحِبِه لِمُصْطلَحِ الجُملَةِ، فحديثُهُ لا يَعْدو أنْ يكونَ حديثًا عنِ الكلامِ فيْ بابٍ أطْلقَ عليْهِ اِسْمَ (بابِ الاِسْتقامَةِ مِنَ الكلامِ والإحالَةِ)، فهو القائلُ: « فمِنْهُ مُسْتقيمٌ حسَنٌ، ومُحالٌ، ومُسْتقيمٌ كَذِبٌ، ومُسْتقيمٌ قبيحٌ، وما هو مُحالٌ كذِبٌ »17، فالجُملَةُ عنْدَ سبيوَيْهِ (المُتوَفَّى سنةَ 180 هـ)، عبارَةٌ عنِ الكلامِ الّذيْ يَحْسُنُ أنْ يَسْكُتَ المُتكلِّمُ عنْدَ اِنْتهائه لاِسْتقْلالِهِ مِنْ حيْث اللَّفْظُ والمعْنى، وهو ما ذهَبَ إليْهِ فيْ مسْأَلَةِ التّسويّةِ بيْنَ الجُملَةِ والكلامِ: اِبْنُ السّرّاجِ (المُتوَفَّى سنةَ 316 هـ)، وعبْدُ القاهرِ الجُرْجانِيّ (المُتوَفَّى سنةَ 471 هـ)، والزَّمخْشَرِيُّ (المُتوَفَّى سنةَ 538 هـ) « وقدِ اِعْتبَرَ اِبْنُ السّرّاجِ [ت 316 هـ] الجُملَةَ والكلامَ مُترادِفيْنِ بالرّغْمِ مِنْ تأْكيدِهِ أنّ الجُملَةَ هيَ النّواةُ التّرْكيبيّةُ سواء أ كانتِ اِسْميَّةً أمْ فِعليَّةً، شأْنه شأْن المُبرِّدِ [ت 285 هـ] فيْ المُقْتَضبِ، فقَدْ أعَدَّهُما مُترادِفيْنِ »18. وإذا ما عُدْنا إلى ما قبْلَ هؤلاءِ الجهابِذَةِ مِنَ النُّحاةِ العرَبِ، أيْ: إلى عُلماءِ العربيَّةِ أمْثال الخليلِ (المُتوَفَّى سنةَ 175 هـ) وتِلْميذِه، فإنّنا لا نَعْثُرُ البتَّةَ على مُصْطلَحِ الجُملَةِ، وهو ما اِسْتغْرَبَهُ د/عبْدُ الرّحْمن الحاج صالِح بقوْلِه: « فهذا أمْرٌ غريبٌ آخَرُ، فلا يوجَدُ أيُّ أثَرٍ لِلْكلمةِ فيْ كتابِ سيبَوَيْهِ، وكذلِك عبارَةُ جُملَةٍ مُفيدَةٍ لا أثَرَ لها فيْ الكتابِ »19. ولكنْ، لا غرابَةَ إذا أكَّدْنا اِسْتعْمالَ الخليلِ فيْ كتابِهِ (الجُمَلُ فيْ النّحْوِ) لِمُصْطلَحِ الجمْلَةِ فيْ مَعْرِضِ حديثِهِ عنْ مجْموعةِ الألِفاتِ أوِ اللاّماتِ أوِ الهاءاتِ أوِ الواواتِ بِهذِهِ الصِّيغَةِ: (جُمَلُ الألِفاتِ)، و(جُملُ اللاّماتِ)، و(جُملُ الهاءاتِ)، و(جُمَلُ الواواتِ). إلاّ أنّ الخليلَ اِبْنَ أحْمَدَ، لا يَقْصِدُ لفْظَ (الجُمَلِ) بِالمفْهومِ الاِصْطِلاحِيِّ، وإنّما قصَدَ إجْمالَ القواعِدِ النّحْويّةِ فيْ شتَّى أبْوابِ النّحْوِ فيْ شكِّْلِ مُلَخَّصٍ لِتلْكَ القواعِدِ مِنْ بابِ التّوْضيحِ وإزالَةِ الغُموضِ « هذا كِتابٌ فيهِ جُملَةُ الإعْرابِ »20. أمّا عنْ سيبَوَيْهِ، فهوَ يَكتفيْ بِاسْتخْدامِ مُصْطلَحِ (الكلامِ) فيْ مُقابِلِ الجُملَةِ الّتيْ تحدَّثَ عنْ مَفْهومِها، ومُكوِّناتِها، وطريقَةِ بِنائها، فضْلاً عـنِ اِشْتراطِ مِعْيارِ (الفائدَةِ)، و(الإسْنادِ). وإنْ كانَ القارىءُ أوِ الباحِثُ وَضعَ يدَهُ على كلمةِ (الجُملَةِ) فيْ ثنايا (الكـتابِ)، فهو اِسْتعْمالٌ لِغيْرِ المَفْهومِ الاِصْطِلاحِيِّ، فيقولُ مثَلاً فيْ بابِ ما يَحْتَمِلُ الشِّعْرُ: « وما يَجوزُ فيْ الشِّعْرِ أكْثَرُ مِنْ أنْ أَذْكُرَهُ لكَ هَهُنا؛ لأنّ هذا مَوْضِعُ جُمَلٍ »21، وقالَ أيْضًا: « وجُملَةُ هذا البابِ، أنّ الزّمانَ إذا كانَ ماضيًا أُضيفَ إلى الفِعْلِ... »22، و« فهذِهِ جُملَةُ هذا كُلِّهِ »23. فسيبَويْهِ نراهُ يَكْتفيْ بِذِكرِ العناصِرِ المُؤَلِّفَةِ لِلْجملَةِ فيْ بابٍ خاصٍّ لِهذا الشّأْنِ (هذا بابُ المُسْنَدِ والمُسْنَدِ إليْهِ)، وهُما: المُسْنَدُ (Prédicat)، والمُسْنَدُ إليْهِ (Sujet) لِكونِهِما طَرَفيْ الإسْنادِ، يقول: « وهُما ما لا يُغْنيْ واحِدٌ منْهُما عنِ الآخَرِ، ولا يَجِدُ المُتكلِّمُ منْهُ بُدًّا، فمِنْ ذلِكَ الاِسْمُ المُبْتدأُ والمبْنِيُّ عليْهِ24 ». 25
إنّ الحديثَ عنِ الجُملَةِ فيْ الاِصْطِلاحِ، لا يُنْسينا النّظَرَ فيْ مَفْهومِها عنْدَ البلاغِيِّينَ، وعلى رأْسِ هؤلاء: الجُرْجانِيُّ الّذيْ قالَ: « الكلامُ، هو القوْلُ الدّالُ على معْنًى يَحْسُنُ السُّكوتُ عليْهِ، وعناصِرُ تكْوينِهِ: الاِسْمُ، والفِعْلُ، والحرْفُ. وليْسَ بِلازِمٍ أنْ تجْتمِعَ هذِه العناصِرُ الثّلاثَةُ، فقدْ يكونُ الكلامُ مُكوَّنًا مِنِ اِسْميْنِ... أوْ مِنْ فعْلٍ واِسْمٍ... وقدْ تجْتمِعُ العناصِرُ الثّلاثَةُ فيْ كلامٍ... »26، وهذِه العناصِرُ الثّلاثَةُ جميعُها مُتَّصِلٌ بَعْضُها بِبَعْضٍ « لا نَظْمَ فيْ الكلِمِ ولا ترْتيبَ حتّى يُعلَّقَ بَعْضُها بِبَعْضٍ، ويُبْنى بَعْضُها على بَعْضٍ... ولِكلِّ جُملَةٍ رُكْنانِ أساسِيّانِ، هُما: المُسْنَدُ إليْهِ، وهـو المَحْكومُ عليْهِ أوِ المُتَحَدَّثُ عنْهُ. والمُسْنَدُ، وهوَ المَحْكومُ بِهِ أوِ المُخْبَرُ عـنْه ».27
ومِنَ الّذينَ سَبقوا اِبْنَ هِشامٍ فيْ عدَمِ التّسْويّةِ بيْنَ مُصْطلَحَيْ: الجملَةِ والكلامِ، نذْكُرُ العلاّمةَ رَضِيّ الدِّين الاِسْتراباديْ (المُتوَفَّى سنةَ 686 هـ)، فالكلامُ عنْدهُ هوَ القوْلُ المُفيدُ بِالقصْدِ، والجُملَةُ عبارَةٌ عنِ الفِعلِ والفاعِلِ، والمُبْتَدأ والخبَرِ وما كانَ بِمنْزِلَةِ أحدِهِما28. ومِمّا سبَقَ، يتبيَّنُ لنا الاِخْتلافُ الواسِعُ بيْنَ الكلامِ والجُملَةِ، فالكلامُ فيْ أصْلِ اللُّغةِ، عبارَةٌ عنِ الأصْواتِ المَفْهومَةِ والمُفيدَةِ، أيْ: اللِّسان البَشَرِيّ، وهذا بِتأْييدِ كُلٍّ مِنِ: اِبْنِ الحاجِبِ، واِبْنِ هِشامٍ، واِبْنِ مالِكٍ، والسُّيوطِيّ، والفاكِهيّ. فيْ حينٍ أنّ الكلامَ فيْ اِصْطلاحِ النُّحاةِ، هو: اللَّفْظُ المُركَّبُ المُفيدُ بِالوَضْعِ فائدَةً يَحْسُنُ السُّكوتُ عليْها... وأقْسامُهُ ثلاثَةٌ: اِسْمٌ، وَفِعْلٌ، وحرْفُ مَعْنى، ونجِدُ الكثيرَ مِنَ النُّحاةِ مَنْ يَتبنّى هذا المفْهومَ مِنْ أمْثالِ: اِبْنِ آجروم، والجازوليْ، والسّهيليّ، واِبْنِ هشامٍ.
ومِنْ أعْلامِ النّحْوِ الّذينَ لمْ يُحدِّدوا مَفْهومَ الجُملَةِ وملامِحَها، يَحْيى بْنُ زِيادٍ الفرّاءُ (المُتوَفَّى سنةَ 207 هـ)، فقدِ اِسْتخْدَمَ الجُملَةَ لِغيْرِ معْناها الاِصْطلاحِيِّ فيْ كتابِه (مَعانيْ القُرْآنِ)، ومِنْ ذلِك قوْلُه: « وقدْ وَقَعَ الفعْلُ فيْ أوَّلِ الكلامِ، وهوَ ما نُطْلِقُ عليْهِ الآنَ الجُملَةَ الفِعلِيَّةَ »29، ويُضيفُ فيْ موْضِعٍ آخرَ: « وتَقولُ: قدْ تبيَّنَ ليْ أ قامَ زيْدٌ أمْ عُمَرُ؟ فتكونُ الجُملَةُ مرْفوعةً فيْ المعْنى كأَنّكَ قُلْتَ: تبيَّنَ ليْ ذلِك »30. فالجُملَةُ هَهُنا فيْ كتابِهِ، غيْرُ مُحدَّدَةٍ بِتعْريفٍ واضِحٍ. أمّا أبو العبّاسِ المُبَرِّدُ (المُتوَفَّى سنةَ 285 هـ)، كانَ مِنَ الّذينَ أتى مُصْطلَحُ الجُملَةِ على يَدِهِ فيْ كتابِهِ (المُقْتَضبِ) يَحْمِلُ الدّلالَةَ على الفِعلِ وفاعِلِهِ، وعلى المُبْتَدَأ والخبَرِ، فقدْ قالَ: « الأفْعالُ معَ فاعليها جُمَلٌ »31، وقالَ أيْضا: « ومِثْلُ هذا مِنَ الجُمَلِ قوْلُك: مرَرْتُ بِرَجُلٍ أبوهُ مُنْطلِقٌ، ولوْ وَضَعْتَ موْضِعَ رَجُلٍ مَعْرِفَةً فكانتِ الجُملَةُ فيْ موْضِعِ حالٍ، فعلى هذا تَجْريْ الجُملُ »32، فالجُملَةُ عنْدَ المُبرِّدِ، تَدلُّ دلالَةً واضِحةً على التّرْكيبِ الإسْناديِّ سواء كانَ المُسْنَدُ فيهِ فِعْلاً أمِ اِسْمًا33.
وإنَّ المُتصَفِّحَ لِكتابِ (الجُمَلِ)، يَجِدُ قولَ صاحِبِهِ: « أمّا الجُملُ فَتنْقسِمُ قِسْميْنِ: اِسْميّةٌ وفِعْليّةٌ. فالاِسْميَّةُ، هيَ جُملَةُ المُبْتدَأ والخبَرِ أوْ ما أصْلُهُ المُبْتدَأُ والخبَرُ. والفِعليَّةُ، هيَ الجُملَةُ الّتيْ صَدرُها فِعلٌ »34. فالزَّجّاجيُّ (المُتوَفَّى سنةَ 337 هـ)، لمْ يَتعَرَّضْ لِلْجُملَةِ بِالتّعْريفِ الدّقيقِ. وقدْ تمَكَّنَتِ التّسْويَّةُ بيْنَ مُصْطلَحَيْ: الجُملَةِ والكلامِ، وعدَمِ الاِهْتِمامِ بِوضْعِ تعْريفٍ مُحدَّدٍ لِلْجُملَةِ لدى شُيوخِ النّحْوِ إلى غايَةِ مُنْتَصَفِ القَرنِ السّادِسِ الهِجْرِيِّ أيْنَ ظهَرَ كتابُ (مُغْنيْ اللَّبيبِ عنْ كتُبِ الأعاريبِ) لِصاحبِهِ اِبْنِ هِشامٍ الأنْصارْيِّ (المُتوَفَّى سنـةَ 761 هـ)، وفيهِ مِنَ الحديثِ عنِ الجُملَةِ وأبْعادِها، وحُدُودِها ما يَرْقى إلى منْزلَةِ التّعْريفِ الواضِحِ والمُسْتفيضِ لِلْمُصْطلَحِ، فهوَ أوَّلُ مَنْ تناوَلَ موْضوعَ الجُملَةِ تناوُلاً علْميًّا ومنْهَجِيًّا، يقولُ: « والجُملَةُ، عبارَةٌ عنِ الفِعلِ وفاعلِهِ، مثْلُ: قامَ زَيْدٌ، والمُبْتدَأ والخبَرِ، مثْلُ: زيْدٌ قائمٌ، وما كانَ بِمنْزلَةِ أحَدِهِما، نحْو: ضُرِبَ اللِّصُّ، وأ قائمٌ الزَّيْدانِ، وكانَ زيْدٌ قائمٌ، وظَننْتُهُ قائمًا »35.
والخُلاصَةُ الّتيْ ننْتهيْ إليها فيْ ظلِّ ما تقدَّمَ عنْ مَفْهومِ الجُملَةِ عنْدَ قُدامى النُّحاةِ العرَبِ، هوَ توزُّعُ أعْلامِ النّحْوِ على مَجْموعتيْنِ بارِزتيْنِ اِنْطلاقًا مِنْ طريقَةِ عرْضِهِمْ لِمسْأَلَةِ الجُملَةِ حينَ ربَطها البعْضُ منْهُمْ بِمُصْطلَحِ الكلامِ على أساسِ التّرادُفِ، وحينَ تناولَها البعْضُ الآخَرُ بِمعْزِلٍ عنِ الكلامِ على أساسِ اِفْتِراقِ اللَّفْظيْنِ. وهاتانِ المجْموعتانِ، هُما:
-
المجْموعةُ الأُولى: يتبنَّى أعْضاءُ هذِهِ المجْموعةِ فِكرَةً مُفادُها أنَّ الجُملَةَ والكلامَ يُسْتخْدَمانِ بِمعْنًى واحِدٍ على سبيلِ التّرادُفِ، ومِمّنْ نحا هذا النّحْوَ أبو عليٍّ الفارِسِيُّ (المُتوَفَّى سنةَ 377 هـ)، فيْ كتابِهِ (المسائلُ العسْكرِيّات) لمّا تَعرَّضَ لأِجْزاءِ الكلامِ الثّلاثَةِ الّتيْ أدْرجها تحْتَ بابٍ خاصٍّ، قائلاً: « هذا ما اِئْتلفَ مِنْ هذِه الألْفاظِ الثّلاثَةِ: الاِسْمُ والفعْلُ والحرْفُ فكانَ كلامًا، وهو الّذيْ يُسمِّيهِ أهْلُ العربيّةِ: الجُمَلَ »36، وهو الاِتِّجاهُ عيْنُهُ الّذيْ لَمسْناهُ فيْ كلامِ اِبْنِ جِنِّيٍّ (المُتوَفَّى سنةَ 392 هـ) حينَ عرَّفَ الكلامَ فيْ (الخَصائصِ) بِقولِهِ: « أمّا الكلامُ، فكلُّ لفْظٍ مُسْتَقِلٍّ بِنفسِهِ مُفيدٍ لِمعْناهُ، وهـو الّذيْ يُسمِّيهِ النّحْوِيُّونَ: الجُمَلَ، نَحْو: زيْدٌ أخـوكَ، وقامَ مُحمَّدٌ »37، فالجُملَةُ والكلامُ بِمعْنًى واحِدٍ فيْ الاِسْتعْمالِ لدى اِبْنِ جِنِّيٍّ، وانْظُرْ قولَهُ كذلِك مِنْ بابِ تأْكيدِ ما ذَهبْنا إليْهِ: « وأمّا الجُملَةُ، فهيَ كلُّ كلامٍ مُفيدٍ مُسْتقِلٍّ بِنفْسِه »38. ولأنَّ علِيًّا اِبْنَ عيسى الرُّمّانِيَّ (المُتوَفَّى سنةَ 384 هـ) نَحا نحْوَ المناطِقَةِ فيْ تحْدِيدِه لِمُصْطلَحِ الجُملَةِ، فجاءَ مَفْهومُها مُطابِقًا تَمامًا لِمفْهومِ الكلامِ، قالَ: « الجُملَةُ، هيَ المَبْنيَّةُ مِنْ موْضوعٍ، ومَحْمـولٍ لِلْفائدةِ»39، ويَقْصِدُ بِالموْضوعِ: (المُبْتَدَأَ)، والمَحْمولِ لِلْفائدةِ: (الخَبَرَ)، فضْلاً عنْ كوْنِهِ يَشْترِطُ إضافَةً إلى علاقَةِ الإسْنادِ: شرْطَ الإفادَةِ. والجُملَةُ والكلامُ على حدٍّ سواء فيْ الاِصْطلاحِ لدى الزَّمَخْشَرِيِّ (المُتوَفَّى سنةَ 538 هـ)، فهوَ القائلُ: « الكلامُ هوَ المُركَّبُ مِنْ كلِمتيْنِ أُسْنِدَتْ إحْداهُما إلى الأُخْرى، وذلِك لا يَتأَتَّى إلاّ فيْ اِسْميْنِ كقولِكَ: زيْدٌ أخوكَ وبِشْرٌ صاحبُكَ أوْ فيْ فِعلٍ واِسْمٍ، نحْو: ضَرب زيْدٌ، واِنْطلَقَ بَكْرٌ، ويُسمَّى الجُملَةَ »40.
-
المجْموعَةُ الثّانيَةُ: ومِنَ الّذينَ خالَفوا اِتِّجاهَ المجْموعَةِ الأُولى، رَضِيّ الدِّينِ الاِسْتَراباديْ (المُتوَفَّى سنةَ 686 هـ) الّذيْ رأى أنَّ الجُملَةَ والكلامَ أمْرانِ مُفْتَرِقانِ، ولا يأْتيانِ لِمعْنًى واحِدٍ « والفرْقُ بيْنَ الجُملَةِ والكلامِ: أنّ الجُملَةَ ما تَضَمَّنَ الإسْنادَ الأَصْلِيَّ، سواءً كانتْ مَقصودَةً لِذاتِها41 أوْ لا42، كالجُملَةِ الّتيْ هيَ خبَرُ المُبْتَدَأ أوْ سائرُ ما ذُكِرَ مِنَ الجُملِ. والكلامُ، ما تَضَمَّنَ الإسْنادَ الأَصْلِيَّ وكانَ مَقْصودًا لِذاتِهِ. فكلُّ كلامٍ جُملَةٌ، ولا يَنعَكِسُ »43.
وقبْلَ الاِسْتَراباديْ، أدْلى اِبْنُ مالكٍ الأَنْدَلُسِيُّ (المُتوَفَّى سنةَ 672 هـ) بِدَلْوِه فيْ المسْأَلَةِ بِعدَمِ تبَنِّيْ التّسْويَّةِ بيْنَ الجُملَةِ والكلامِ، وذلِكَ فيْ مَعْرِضِ حديثِه عنِ الكلامِ قائلاً: « الكلامُ، ما تَضَمَّنَ مِنَ الكلِمِ إسْنادًا مُفيدًا مَقْصودًا لِذاتِهِ44 »45. وها هوَ اِبْنُ هِشامٍ يُؤكِّدُ اِفْتِراقَ مُصْطلَحَيْ: الجُملَةِ والكلامِ فيْ المعْنى، قائلاً:
« وبِهذا يَظهَرُ لكَ أنَهُما ليْسا بِمُترادِفيْنِ كما يَتَوَهَّمُهُ كثيرٌ مِنَ النّاسِ، وهوَ ظاهِرُ قوْلِ صاحِبِ المُفَصَّلِ، فإنّهُ بعْدَ أنْ فرَغَ مِنْ حَدِّ الكلامِ، قالَ: ويُسمَّى جُملَةً. والصّوابُ أنّها أعَمُّ منْهُ إذْ شرْطُهُ الإفادَةُ بِخِلافِها؛ ولِهذا تَسْمَعُهُمْ يَقولونَ: جُملَةَ الشّرْطِ، جُملَةَ الجوابِ، جُملَةَ الصِّلَةِ، وكلُّ ذلِكَ ليْسَ مُفيدًا، فليْسَ بِكلامٍ »46.
ونُنْهيْ الحديثَ عنْ مسْأَلَةِ عدَمِ التّسْويّةِ بيْنَ الجُملَةِ والكلامِ لدى المجْموعَةِ هذِه، بِالتّطَرُّقِ إلى ما قالَهُ علِيٌّ بْنُ مُحمَّدٍ الشّريفُ الجُرْجانِيُّ (المُتوَفَّى سنةَ 816 هـ) عنِ الجُملَةِ: « إنّ الجُملَةَ، عِبارَةٌ عنْ مُرَكَّبٍ مِنْ كلِمتيْنِ أُسْنِدَتْ إحْداهُما إلى الأُخْرى سواء أفادَ كقَولِكَ: زيْدٌ قائمٌ أمْ لمْ يُفِدْ كقَولِكَ: إنْ يُكْرِمْنيْ، فإنّ جملَةَ الشّرْطِ لا تُفيدُ إلاّ بعْدَ مجيءِ جوابِهِ، فتكونُ الجُملَةُ أعَمَّ مِنَ الكلامِ مُطْلَقًا »47. ويَضُمُّ السُّيوطِيُّ (المُتوَفَّى سنةَ 911 هـ) صوْتَه إلى ما ذهبَ إليْهِ الشّريفُ الجُرْجانِيُّ قائلاً: « الجُملَةُ قيلَ: تُـرادِفُ الكلامَ، والأصَحُّ أنّها أعَـمُّ لِعـدَمِ شرْطِ الإفادَةِ »48. هكذا، يَتبيَّنُ لنا مِمّا أوْردْناهُ مِنْ أقْوالٍ لأِعْلامِ النّحْوِ فيْ اللُّغةِ العربيّةِ، أنّ الجُملَةَ شيءٌ، والكلامَ شيءٌ آخَرُ، فلا ترادُفَ بيْنهُما مُطْلَقًا.
3. مَفْهومُ الجُملَةِ لدى نُحاةِ العرَبِ المُحْدَثينَ
الحقيقَةُ، أنّ أمرَ النُّحاةِ المُحْدَثينَ فيْ شأْنِ مُصْطلَحِ الجملَةِ، طبَعَهُ الغُموضُ وفيْ أحايينَ كثيرَةٍ اِفْتِقارُ نَظْرتِهِمْ إلى المقاييسِ الّتيْ بِوساطَتِها يَتِمُّ تحْديدُ المفْهومِ الدَّقيقِ لِلْجملَةِ، وأنْماطِها؛ ليْسَ هذا فحسْبُ، بلْ تباين فَهْمُهُمْ لِهذا المُصْطلَحِ؛ فلا نَنْفيْ أنّهُمْ ورِثُوا الإشْكالَ القائمَ بِشأْنِ المسْأَلَةِ مَحَلَّ الدِّراسَةِ عنِ النُّحاةِ العرَبِ القُدامى، وهذا جَلِيٌّ فيْ كتُبِهِمْ ودراساتِهِمْ بِالرّغْمِ مِنِ اِخْتلافِ مواقِفِهِمْ. ويعودُ ذلِكَ لأِمْريْنِ، وَهما: مِنَ النّحاةِ المُحْدَثينَ مَنْ تمسَّكوا بِقوَّةٍ بِالتُّراثِ اللُّغوِيِّ العرَبِيِّ، ومنْهُمْ بِاِسْمِ عامِلِ التّأَثُّرِ الشّديدِ مَنْ تبنَّى النّظرِيّاتِ اللُّغوِيَّةَ الغَرْبيَّةَ الحديثَةَ، وذلِك بِحُكمِ أنَّ ما جاءتْ بِه اللِّسانيّاتُ الحديثَةُ عنْدَ الغرْبِ، قدْ أثَّرَ إلى حدٍّ بعيدٍ فيْ الأُسُسِ والقواعِدِ اللُّغوِيّةِ الّتيْ ضبَطها النُّحاةُ القُدامى؛ وبِالتّاليْ، نجَمَ عنْ هذا التّطوُّرِ فيْ الدِّراساتِ اللُّغوِيّةِ الحديثَةِ أنْ تعَدَّدتْ مفاهيمُ الجملَةِ بِالنّظرِ إلى الزّاويَةِ الّتيْ ينْطلِقُ منْها الباحِثُ فيْ تحْديدِ مفْهومِ المُصْطلَحِ. ومِنْ هذا المنْطلَقِ، ظهرَتْ بحسَبِ الباحِثِ علِيٍّ أبيْ المكارِمِ، ثلاثَةُ اِتِّجاهاتٍ مُتبايِنةٍ فيْ تحْديدِ معْنى الجملَةِ، وبيانِ حُدودِها49، وهيَ:
-
اِتِّجاهٌ يرى أنّ الجملَةَ تدُلُّ على التّركيبِ المُفيدِ مِنْ غيْرِ الاِهْتِمامِ بقضيَّةِ الإسْنادِ.
-
اِتِّجاهٌ يُؤكِّدُ دلالَةَ الجُملَةِ على التّرْكيبِ الإسْنادِيِّ مِنْ غيْرِ الاِهْتِمامِ بشَرْطِ الفائدةِ.
-
اِتِّجاهٌ يُزاوِجُ بيْنَ الاِتِّجاهيْنِ السّابقيْنِ، وهوَ مفْهومٌ مُطابِقٌ لِما ورَدَ على لِسانِ نُحاةِ العرَبِ القُدامى فيْ شأْنِ الجُملَةِ حينَ اِشْترَطوا شَرْطَيْ: الإسْنادِ، والإفادَةِ لِيَكتمِلَ بِناءُ الجملَةِ، ويَتحَدَّدَ معْناها ودلالَتُها.
يُعرِّفُ إبْراهيم أنيس الجملَةَ بقوْلِه: « إنّ الجملَةَ فيْ أقْصَرِ صُورِها هيَ أقَلُّ قَدْرٍ مِنَ الكلامِ يُفيدُ السّامِعَ معْنًى مُسْتقِلاًّ بِنفْسِهِ سواء تَرَكَّبَ هذا القَدْرُ مِنْ كلمةٍ واحدَةٍ أوْ أكْثَرَ؛ فإذا سألَ القاضيْ أحدَ المُتَّهمين قائلاً: مَنْ كانَ معَكَ وقْتَ اِرْتِكابِ الجريمةِ؟ فأجابَ: زَيْدٌ، فقدْ نَطَقَ هذا المُتَّهَمُ بِكلامٍ مُفيدٍ فيْ أَقْصَرِ صورَةٍ »50؛ معْنى ذلِك، أنَّ أَقْصَرَ صورَةٍ لِلْجملَةِ يُمْكِنُ أنْ تُحدِّدَ المعْنى المرْغوبَ فيْ إيصالِهِ إلى المُتلَقِّيْ، و إفْهامِ المُخاطَبِ و ليْسَ يُشْترَطُ طرَفا الإسْنادِ. والجملَةُ عنْدَ إبْراهيم أنيس قدْ تُساويْ الكلامَ أوْ تكونُ أدْنى درَجةً منْهُ بِشرْطِ أنْ تتَحقَّقَ الفائدةُ مِنَ الجملَةِ سواء كانَ هذا التّرْكيبُ مُكَوَّنًا مِنْ كلمةٍ أوْ أكْثرَ مِنْ كلمةٍ. إذنْ، هو يُركِّزُ بِالخُصوصِ على مسْأَلَةِ إفادَةِ المعْنى، وكوْنِ الجُملَةِ كِيانًا مُسْتقِلاًّ. معْنى ذلِكَ، يُمكِنُ أنْ يكونَ اللَّفْظُ المُفْرَدُ جملَةً ما دامَ أفادَ معْنًى يَحْسُنُ السُّكوتُ عليْهِ. فإبْراهيم أنِيس، يُؤكِّدُ مِنْ حديثِهِ عدَمَ اِهْتِمامِهِ المُبالَغِ فيهِ بِمسْأَلَةِ التّرْكيبِ الإسْنادِيِّ، يَكْفيْ عنْدَهُ أنْ تُفيدَ الجُملَةُ مهْما كانَ شكْلُها وبِناؤها، و يرى د/مَحْمود أحْمَد نحلة فيْ كتابِهِ (نِظامُ الجملَةِ فيْ شِعْرِ المُعلَّقاتِ)، أنّ د/إبْراهيم أنيس يُلْغيْ بِهذا التّعريفِ فِكرَةَ الإسْنادِ.
ومِنَ الّذينَ ساروا على هذا النّهْجِ: مُحمّد حماسة عبْدُ اللَّطيف الّذيْ يُحدِّدُ مفْهومَ الجُملَةِ بِقولِهِ: « كلُّ كلامٍ تَمَّ بِه معْنًى يَحْسُنُ السُّكوتُ عليْهِ، هو جملَةٌ ولوْ كانَ مِنْ كلمةٍ واحِدَةٍ »51 وفيْ قوْلِه هذا، إشارَةٌ إلى عدَمِ الاِهْتِمامِ بِفكرَةِ الإسْنادِ فيْ الجملَةِ ما دامَتْ تُفيدُ حتّى وإنْ أتَتْ على كلمةٍ واحدَةٍ، مثْل: (زَيْد) الّتيْ اِكْتفى بها المُتَّهَمُ جوابًا عنْ سُؤالِ القاضيْ فيما أورَدَهُ قبْلَهُ الباحِثُ إبْراهيم أنيس وهوَ يُحدِّدُ مَفْهومَ الجُملَةِ.
أمّا مفْهومُ الجملَةِ عنْدَ الشّيخِ مُصْطفى الغلايينيْ، فالجملَةُ والكلام شيئانِ مُفْترِقان « الكلامُ: هوَ الجُملَةُ المُفيدَةُ معْنًى تامًّا مُكْتفِيًا بِنفْسِهِ، مثْلُ: رأْسُ الحِكمَةِ مخافةُ اللهِ، فازَ المُتَّقونَ، مَنْ صَدَقَ نجا »52، ذكَرَ الكلامَ على أساسِ اِخْتلافِ مفْهومِهِ عنْ مُصْطلَحِ الجُملَةِ؛ ثُمَّ يسْتطْرِدُ قائلاً: « فإنْ لمْ تُفِدِ الجُملَةُ معْنًى تامًّا مُكْتفِيًّا بِنفْسِهِ، مثْلُ: إنْ تجْتهِدْ فيْ عملِكَ، فهذِه الجملَةُ ناقِصَةُ الإفادَةِ؛ لأنّ جوابَ الشّرْطِ فيها غيْرُ مَذْكورٍ، وغيْرُ معْلومٍ، فلا تُسمّى كلامًا، فإذا ذكرْتَ الجوابَ فقُلْتَ: إنْ تجْتهِدْ فيْ عملِكَ تنْجَحْ، صارَ كلامًا »53، أيْ يُريدُ القوْلَ: صارَ الكلامُ جُملَةً، بِدليلِ إدْراجِ حديثِهِ هذا تحْتَ عنْوانٍ مُفادُهُ: « المُركَّبُ الإسْنادِيُّ أوِ الجُملَةُ والكلامُ »54. ففيْ ظلِّ كلامِهِ، نُدْرِكُ أنّ الغلايينيْ يُميِّزُ الجُملَةَ مِنَ الكلامِ، فالكلامُ عنْدَهُ ما أفادَ، والجملَةُ ما كانَ يَرْبِطُ رُكْنيْها العلاقَةُ الإسْنادِيَّةُ مِنْ غيْرِ اِشْتراطِ مِعْيارِ الفائدةِ « ولا يُشْترَطُ فيما نُسمِّيهِ جملَةً أوْ مُرَكَّبًا إسْنادِيًّا أنْ يُفيدَ معْنًى تامًّا مُكْتفِيًّا بِنفْسِه كما يُشْترَطُ فيما نُسَمِّيهِ كلامًا »55.
ومِنَ الّذينَ تَبَنَّوْا هذا المذْهبَ: محمّد إبْراهيم عبادة، فيْ كتابِه (الجُملَةُ العربيّةُ)، أيْنَ اِسْتعْرَضَ تعاريفَ القُدامى والمُحْدَثينَ لِلْجملَةِ، وأكّدَ وُجودَ فريقيْنِ مِنَ النُّحاةِ: مِنْهُمْ مَنْ يقولُ بِترادُفِ الجُملَةِ والكلامِ، ومنْهُمْ مَنْ يقـولُ بِعـدَمِ التّسوِيَّةِ بيْنهُما. وقـدْ عرَّفَ الكلامَ بِقـولِهِ: « الكلامُ، هوَ وسيلَةُ التّعْبيرِ الإنْسانِيِّ عنِ الأفْكارِ وخوالِجِ النّفسِ عنْ طريقِ جهازِ النُّطْقِ لِتوْصيلِها مِنْ مُرْسِلٍ إلى مُتلَقٍّ فيْ مُجتمَعٍ ما وِفْقًا لِنواميسِ اللُّغةِ الّتيْ يتفاهَمُ بِها أبناءُ ذلِكَ المُجتمَعِ »56. والظّاهِرُ مِنْ حديثِه، أنّهُ جِدُّ مُتأَثِّرٍ بِما جادَتْ بِهِ اللِّسانيّاتُ الغربيّةُ الحديثَةُ حينَ وظَّفَ مُصْطلحاتِها (وسيلةُ التّعْبيرِ، وجهازُ النُّطْقِ، ومُرْسِلٌ، ومُتلَقٍّ، ونواميسُ اللُّغةِ)، كما أنّهُ يُشير إلى طريقَةِ نَظْمِ الكلامِ لمّا ذَكَرَ عمليَّةَ التّواصُلِ بيْنَ أفْرادِ المُجْتمَعِ الواحدِ ومُجْرَياتِها وِفْقًا لِلُّغةِ المُتواضَعِ عليْها.
ومِنَ الّذينَ اِسْتعْملوا المُصْطلحيْنِ على أساسِ اِفْتِراقِهِما، الباحثَةُ: عزيزة فوّال بابتيْ فيْ (المُعْجَمُ المُفصَّلُ فيْ النّحْوِ العرَبيِّ)، إذْ تقولُ: « الجملَةُ، هيَ كلامٌ مُفيدٌ مُسْتقِلٌّ. ذهبَ جماعةٌ مِنَ النُّحاةِ أنّ الجُملَةَ والكلامَ مُترادِفانِ، والحقيقَةُ تُثْبِتُ عدَمَ صحَّةِ ذلِك57؛ لأنّ الجملَةَ أعَمُّ مِنَ الكلامِ؛ لأنّ الكلامَ يُشْترَطُ فيهِ الإفـادَةُ، والجُملَةُ قدْ تكونُ مُفيدَةً وغيْرَ مُفيدَةٍ فيْ بعْضِ الأحْيـانِ ».58
هذا، وقدْ ذكَرَ تاريخُ الدِّراساتِ اللُّغوِيّةِ الحديثَةِ الفريقَ الثّانيْ مِنَ الباحثينَ اللُّغوِيِّينَ العرَبِ الّذينَ تبَنَّوْا فِكرَةَ التّرادُفِ بيْنَ الجُملَةِ والكلامِ. فهذا عبّاس حسَن يقولُ عنِ الكلامِ تحْتَ عنْوان (الكلام أوِ الجُملَةُ): « هوَ، ما ترَكَّبَ مِنْ كلِمتيْنِ أوْ أكْثرَ، ولهُ معْنًى مُفيدٌ مُسْتقِلٌّ، مثْلُ: أقْبَلَ ضيْفٌ، فازَ طالِبٌ نبيهٌ، لَنْ يُهْمِلَ عاقِلٌ واجِبًا »59. يتبَيَّنُ لنا بِوضوحٍ اِسْتِعمالُ الباحثِ لِلْمُصطلَحيْنِ بِمعْنًى واحِدٍ، ويُؤكِّدُ هذا الاِتِّجاهَ لمّا يقولُ:
« فلا بُدَّ فيْ الكلامِ مِنْ أَمريْنِ معًا، هُما: التّرْكيبُ، والإفادَةُ المُسْتقِلَّةُ. فلوْ قُلنا: أقْبَلَ فقَطْ أوْ فازَ فقَطْ، لمْ يَكُنْ هذا كلامًا؛ لأنّهُ غيْرُ مُركَّبٍ. ولو قُلْنا: أقْبَلَ صباحًا أوْ فازَ فيْ يوْمِ الخميسِ أوْ لَنْ يُهْمِلَ واجِبَهُ، لمْ يَكُنْ هذا كلامًا أيْضا؛ لأنّهُ -على رُغْمِ ترْكيبِهِ- غيْرُ مُفيدٍ فائدَةً يَكتفيْ بِها المُتكلِّمُ أوِ السّامِعُ »60. إذنْ، يَشْترِطُ عبّاس حسَن مِعْيارَ التّركيبِ لِصِحَّةِ الكلامِ أوِ الجُملَةِ، والإفادَةِ الّتيْ بِها يَحْسُنُ السُّكوتُ.
والشّأْن نفْسهُ لَمَسْناهُ عنْدَ الباحثِ مَهْديْ المَخْزومِيّ، فهوَ لا يُميِّزُ الجملَةَ مِنَ الكلامِ، فهُما اِسْمانِ لِمُسَمًّى واحِدٍ، يقولُ: « هيَ الصّورَةُ اللَّفْظيّةُ الصُّغْرى لِلْكلامِ المُفيدِ فيْ أيّةِ لُغةٍ مِنَ اللُّغاتِ، وهيَ المُركَّبُ الّذيْ يُبَيِّنُ المُتكلِّمُ بِه أنَّ صورَةً ذِهنيَّةً كانتْ قدْ تأَلَّفَتْ أجْزاؤها فيْ الذِّهنِ؛ ثمَّ هيَ الوسيلَةُ الّتيْ تنْقُلُ ما جالَ فيْ ذِهنِ السّامِعِ »61. لقدْ منَح المَخْزومِيُّ الجملَةَ مَفْهومَ الصُّورَةِ اللَّفْظِيَّةِ لِلْكلامِ المُفيدِ والمُرَكَّبِ أيْضًا، وهذا التّخْريجُ يُوحيْ بِمُصطلَحِ الكلامِ، فاُنْظُرْ أيُّها القارىءُ قولَهُ عنِ الجُملَةِ: « والجُملَةُ التّامّةُ الّتيْ تُعبِّرُ عنِ أبْسَطِ الصُّوَرِ الذِّهنيَّةِ التّامّةِ الّتيْ يَصِحُّ السُّكوتُ عليْها، تتأَلَّفُ مِنْ ثلاثَةِ عناصِرَ رئيسَةٍ، هيَ: المُسْنَدُ إليْهِ أوِ المُتحَدَّثُ عنْهُ أوِ المبنى عليْهِ، المُسْنَدُ الّذيْ يُبْنى على المُسْنَدِ إليْهِ »62، أ فليْسَ الكلامُ والجُملَةُ سِيّانِ عنْدَهُ؟ فهوَ إذنْ، يَشْترِطُ أنْ يكونَ الإسْنادُ أحَدَ ركائزِ الجُملَةِ، فالتّرْكيبُ الّذيْ لا إسْنادَ فيهِ، مثْل: النِّداءِ، يُطْلِقُ عليْهِ مُصْطلَحَ: (المُرَكَّب اللَّفْظِيّ). إلاّ أنّ فكرَةَ الإسْنادِ الّتيْ اِشْترَطَها فيْ الجُملَةِ أظْهرَتْ عجْزَهُ فيْ تطْبيقِها على الجُملَةِ الشّرْطيّةِ؛ لأنّ أُسْلوبَ الشّرْطِ فيْ حقيقَةِ أمْرِهِ، مُؤلَّفٌ مِنْ جُملتيْنِ تتَوسَّطُهما أداةُ الشّرْطِ، وكلُّ جملَةٍ مِنَ الجُملتيْنِ هيَ جُملَةٌ تَجسَّدَ فيها شرْطُ الإسْنادِ. إلاّ أنّ المخْزومِيَّ نراهُ يتراجَعُ فيما بعْدُ عنْ نظْرَتِهِ لأسْلوبِ الشّرْطِ؛ لأنّ المُتكلِّمَ إذا نَطَقَ بِجملَةٍ واحدَةٍ مِنْ جُملتيْ الشّرْطِ، فإنّهُ لا يَكتمِلُ المعْنى، فيقولُ ناسِخًا فِكرَتَهُ الأُولى:
« ليْسَتْ جملَةُ الشّرْطِ جُملتيْنِ إلاّ بِالنّظرِ العقْلِيِّ والتّحْليلِ المنْطِقِيِّ، أمّا النّظرُ اللُّغوِيُّ فَجُملتا الشّرْطِ جملَةٌ واحدَةٌ، وتعْبيرٌ لا يقْبَلُ الاِنْشِطارَ؛ لأنّ الجُزْأَيْنِ المعقوليْنِ فيها إنّما يُعبِّرانِ معًا عنْ فِكرَةٍ واحدَةٍ؛ لأنّك إذا اِقْتصَرْتَ على واحدَةٍ منْهُما أخلّت بِالإقْصاحِ عمّا يَجولُ فيْ ذِهنِك، وقصّرت عمّا يَجولُ فيهِ إلى ذِهنِ السّامِعِ »63.
ويرى الباحِثُ خليل أحْمَد عمايرة، أنّ مفْهومَ الجُملَةِ الّتيْ تُؤدِّيْ المعْنى، تَتلخَّصُ فيْ كوْنِها الحدَّ الأدْنى الّذيْ يَحْسُنُ السُّكوتُ عليْهِ، يقولُ: « ما كانَ مِنَ الألْفاظِ قائمًا بِرأْسِه مُفيدُ المعْنى يَحْسُنُ السّكوتُ عليْهِ... هيَ الحدُّ الأدْنى مِنَ الكلماتِ الّتيْ تَحْمِلُ معْنًى يَحْسُنُ السُّكوتُ عليْهِ ونُسمِّيهِ الجُملَةَ المُنتَجةَ أوِ التّوْليدِيَّةَ »64.
فيْ ضوءِ ما سبَقَ، يتَبيَّنُ لنا أنّ مفْهومَ الجًملَةِ لدى المُحْدَثينَ العربِ، لا يَخْلو أنْ يكونَ على ضَرْبيْنِ، هُما:
-
فريقٌ يرى، أنّ الجُملَةَ عبارَةٌ عنْ ترْكيبٍ نواتُهُ قائمةٌ على ركيزَتيْنِ لا غِنَى لإحْداهُما عنِ الأُخْرى، وهُما: المُسْنَدُ والمسْنَدُ إليْهِ، سواء أفادَ هذا التّرْكيبُ معْنًى أمْ لمْ يُفِدْ.
-
فريقٌ يرى، أنّ الجُملَةَ ترْكيبٌ مُؤلَّفٌ مِنْ عُنْصُريْنِ أساسَيْنِ، هُما: التّرْكيبُ والوظيفَةُ الدّلاليَّةُ، وهذا ما أشارَ إليْهِ عبْدُ القاهِرِ حينَ كشَفَ عنِ الوظيفَةِ الدّلاليَّةِ لِلْجُملَةِ وهوَ فيْ مَعْرِضِ التّفْريقِ بيْنَ نَظْمِ الحُروفِ، ونَظْمِ الكَلِمِ، يقول: « نَظْمُ الحُروفِ تَواليها فيْ النُّطْقِ وليْسَ نَظْمَها بِمُقْتَضًى عَنِ المعْنى... وأمّا نَظْمُ الكَلِمِ، فليْسَ الأمْر فيهِ كذلِكَ: تَقْتَفيْ فيْ نَظْمِها آثارَ المعانيْ وتُرتِّبُها على حسَبِ ترْتيبِ المعانيْ فيْ النّفْسِ... وليْسَ معْناهُ ضَمَّ الشّيْءِ إلى الشّيْءِ كيْفَ جاء واِتَّفَقَ »65، ونراهُ أيْضًا يَرْبِطُ بيْنَ الوظيفَةِ النّحْوِيَّةِ والعقْلِ والمنْطِقِ، فيقولُ: « ليْسَ الغرَضُ بِنظْمِ الكلِمِ أنْ تَوالَتْ ألْفاظُها فيْ النّطْقِ، بلْ تَناسَبَتْ دلالَتُها وتَلاقَتْ معانيها على الوجْهِ الّذيْ اِقْتضاهُ العقْلُ »66.
الخاتِمة
إنَّ الحديثَ عنِ الجُملةِ فيْ اللّغةِ العربيّةِ مِنْ حيْث تقْسيماتُها وأنْماطُها، حديثٌ لهُ اِمْتِداداتٌ لا حُدودَ لها، فلا يُمكِنُ فيْ فضاءِ هذا العَرْضِ الضّيِّقِ أنْ نقومَ بعمليّةِ مَسْحٍ شامِلٍ لكلِّ المُحاولاتِ الّتيْ تفرَّدَ بها النُحاةُ العربُ القُدامى والمُحْدَثونَ أوِ اللِّسانيُّونَ الغرْبِيُّونَ، فما ذكرْناهُ مِنْ مُحاولاتٍ إنْ هوَ إلاَّ غَيْضٌ مِنْ فَيْضٍ. المُهمُّ، أنّ عرْضنا هذا كشَفَ عنْ بعْضِ نِقاطِ الظِّلِّ فيْ عمليّةِ التّقْسيمِ وتعْيينِ الأنْماطِ؛ و إنّنا نُلخِّصُها على النّحْوِ الآتيْ:
-
أَظْهرَتْ بعْضُ المُحاولاتِ لِتقْسيمِ الجملَةِ وتحْديدِ أنْماطِها النّزْعةَ التّقليدِيَّةَ لدى أصْحابِها، فهُم ساروا على خُطا النُّحاةِ القُدامى، ولمْ يَحيدوا عنْها قَيْدَ أنْمُلَةٍ فيْ كوْنِ الجملَةِ العربيّةِ لا تخْرُجُ عنْ قِسْميْنِ بارِزيْنِ، هُما: الجملَةُ الاِسْميّةُ، والجملَةُ الفعْليّةُ.
-
إنَّ بَعْضًا مِنَ المُصْطلحاتِ المُوظَّفَةِ لدى العربِ المُحْدَثينَ بِشأْنِ تقْسيماتِ الجملَةِ العربيّةِ وأنْماطِها، قدْ تسَرَّبَتْ إليْهِمْ بِحكْمِ دِراسَتِهم فيْ الدِّيارِ الغرْبيّةِ أوْ بِحُكمِ اِطِّلاعِهِمْ على ما ورَدَ فيْ الدِّراساتِ اللُّغويّةِ لِلْغرْبِيِّينَ فيْ هذا المجالِ، ولا أدَلَّ على ذلِكَ مِمّا ذكرَهُ مِنْ مُصْطلحاتٍ كثيرَةٍ فيْ هذا البابِ الـ: د/مُحمّدٌ إبْراهيمُ عبادَة الّذيْ لمْ يُظْهِرِ الجديدَ بِشأْنِ هذِه التّقْسيماتِ، و إنّما اِقْتصَرَتْ مُحاولتُه على توْظيفِ تَسْمياتٍ جديدةٍ ليْسَ إلاّ.
-
ْتكزَتْ الكثيرُ مِنَ المُحاولاتِ لِتقْسيمِ الجملَةِ العربيّةِ على مِعْيارٍ تَصْنيفِيٍّ واحِدٍ أوْ أكْثرَ أوْ قدْ ترى أصْحابَها فيْ أحايينَ كثيرَةٍ لَجؤوا إلى المُزاوَجةِ بيْنَ مِعْيارَيْنِ أوْ أكْثرَ، وذلِك إمّا:
-
بِالنّظرِ إلى طرَفيْ الإسْنادِ: (المُسْنَدُ)، و(المُسْنَدُ إليْهِ)، أيْ: ما يوحيْ الاِنْطباعُ بِوجودِ نوْعيْنِ مِنَ الجملِ: التّرْكيبُ الإسْنادِيُّ الاِسْميُّ، والتّرْكيبُ الإسْنادِيُّ الفعلِيُّ.
-
أوْ بِالنّظرِ إلى طبيعةِ الإسْنادِ: الجملةُ الخبرِيّةُ، والجملَةُ الإنْشائيّةُ.
-
أوْ بِالنّظرِ إلى إمْكانِ إحْداثِ اِمْتِداداتٍ فيْ الجملَةِ، أيْ بِإدْخالِ كلماتٍ أوْ مُركَّباتٍ على البِنيَةِ الإسْنادِيّةِ (الجملَة النّواة) لِلْجملَةِ مِنْ غيْرِ أنْ تَتسَبَّبَ هذِه الزِّيادةُ فيْ تغْييرِ نوْعِ الجملَةِ بِحُكمِ أنّها زيادةٌ كَمِّيّةٌ.
-
أوْ بِالنّظرِ إلى موْقِعِ الجملَةِ مِنَ الإعْرابِ: الجملُ ذاتُ المحلِّ، والجمَلُ غيْرُ ذاتِ المحلِّ.
-
بعْدَ اِسْتعْراضِنا لأقْسامِ الجُملةِ فيْ اللُّغةِ العربيّةِ مِنْ حيْثُ:
-
التّرْكيبُ: جملَةٌ صُغْرى، وجُملَةٌ كُبْرى.
-
النّوْعُ: التّرْكيبُ الإسْنادِيُّ الفِعلِيُّ، والتّرْكيبُ الإسْنادِيُّ الاِسْمِيُّ.
-
الحُكْمُ: الجملَةُ ذاتُ المحلِّ، والجملَةُ غيْرُ ذاتِ المحلِّ.
وبِإجْماعِ الجُمهورِ أنّها الأقْسامُ الطّبيعيّةُ لِلْجملَةِ العربيّةِ منْذُ القديمِ، إلاّ أنّ هُناكَ تقْسيماتٍ أُخرَ توصَّلَ إليْها الباحثونَ مِنْ مُنْطلقاتٍ عديدَةٍ طَبَعتِ الدِّراساتِ اللُّغوِيّةَ الحديثَةَ. ولكنْ، بِالرّغْمِ مِنْ كثرَةِ التّقْسيماتِ الحديثَةِ لِلْجملَةِ العربيّةِ، إلاّ أنّها لا تُخالِفُ – فيْ جوْهرِها – الأقْسامَ الطّبيعيّةَ المعروفَةَ لدى القُدماءِ.
وإنّنا، ومِنْ بابِ وضْعِ تجْرِبتِنا فيْ ميْدانِ الدِّراساتِ اللُّغويّةِ على المِحَكِّ، رأَيْنا مِنَ الطّبيعِيِّ أنْ نُثيرَ حفيظَةَ بعْضِ الدّارسينَ والباحثينَ بِنوْعٍ آخَرَ مِنَ التّقْسيمِ لِلْجملَةِ العربيّةِ غيْر التّقْسيماتِ الّتيْ اِنْتهى إليْها اِجْتهادُ المُحدَثينَ، وهوَ تقْسيمٌ ثُلاثِيُّ اِهْتديْنا إليْهِ مِنْ مُنْطلَقِ: الجملَةُ مِنْ حيْثُ الوظيفَةُ والإعْرابُ. ويتجسّدُ هذا التّقْسيمُ فيْ الأنْواعِ الثّلاثَةِ لِلْجملَةِ العربيّةِ، وهيَ: الجُملَةُ الرّئيسَةُ، والجُملَةُ الخاضِعةُ، والجُملَةُ المُسْتقِلَّةُ.
-
الجملَةُ الرّئيسَةُ: وهيَ ما أخْضَعَتْ غيْرَها، وترْبِطُها بِها ربْطًا مَعْنوِيًّا إعْرابِيًّا.
-
الجملَةُ الخاضِعةُ أوِ (الفرْعيّةُ): وهيَ الجملَةُ الّتيْ تَرْتبِطُ بِالرّئيسَةِ اِرْتباطًا معْنوِيًّا، و يكونُ لها محلٌّ مِنَ الإعْرابِ بِالنِّسْبةِ لِلأُولى.
-
الجملَةُ المُسْتقِلَّةُ: هيَ الجملَةُ القائمةُ بِذاتِها لا تُخْضِعُ، ولا تَخْضَعُ.
-
ولِتوْضيحِ فكرَتِنا حوْلَ طبيعةِ هذا التّقْسيمِ، نسوقُ لِلْقارىءِ المثالَ الآتيْ: طلَعَتِ الشّمْسُ+فيْ موْكِبٍ مِنَ النّارِ+(لكنَّ الإنْسانَ لا يَتدَبَّرُ فيْ خلْقِ اللهِ).
-
يَتّضِحُ لنا مِنَ المثالِ الّذيْ عرَضْناهُ، أنّ الجملَةَ الأُولى (طلَعَتِ الشّمْسُ) تُخْضِعُ الثّانيَةَ لها (فيْ موْكِبٍ مِنَ النّارِ) فترْبِطُها بِها وتطْلُبُها حالاً. وعليْهِ، اِصْطلَحْنا على تسْميَةِ الأولى بـ: (الجملَةِ الرّئيسَةِ)، والثّانيَةِ بـ: (الجملَةِ الخاضِعةِ). والمُتأَمِّلُ فيْ جملَةِ (لكنَّ الإنْسانَ لا يَتدَبَّرُ فيْ خلْقِ اللهِ)، يُدْرِكُ أنّها لا تَخْضَعُ لِغيْرِها، ولا تُخْضِعُ غيْرَها مِنَ الجُملِ، فهيَ إذَنْ تَتمتَّعُ باِسْتقْلاليَّتِها، لِذلِكَ سَمَّيْناها بـ: (الجملَةِ المسْتقِلَّةِ). وبِالإمْكانِ أنْ نُطبِّقَ معاييرَ هذا التّقْسيمِ لِلْجملَةِ العربيّةِ على مثالٍ آخَرَ مِنْ بابِ تَثْبيتِ تَوجُّهِنا ومُنْطلَقِنا فيْ التّقْسيمِ: عُقولُ البشَرِ تَتَضَوَّرُ جوعًا+ومصادِرُ المعْرِفةِ والعلْمِ أوْفَرُ مِنْ حَبّاتِ الرّمْلِ+(لكِنَّهُمْ لا يَنْهلونَ).
-
الجملَةُ الرّئيسَةُ: (عُقولُ البشَرِ تَتَضَوَّرُ جوعًا).
-
الجملَةُ الخاضِعةُ: (ومصادِرُ المعْرِفةِ والعلْمِ أوْفَرُ مِنْ حَبّاتِ الرّمْلِ).
-
الجملَةُ المسْتقِلَّةُ: (لكِنَّـهُمْ لا يَنْهلونَ).
فالجملَةُ الأُولى (عُقولُ البشَرِ تَتَضَوَّرُ جوعًا) تُخْضِعُ الثّانيَةَ لها(ومصادِرُ المعْرِفـةِ والعلْمِ أوْفَرُ مِنْ حَبّاتِ الرّمْلِ) فتَرْبِطُها بِها وتطْلُبُها حالاً، إذْ تُعْرَبُ (الواوُ) واوَ الحاليَّة، و(مَصادِرُ) مُبْتدأ، و(أَوْفَرُ) خبَرَهُ، وجملَة المبْتدأ والخبَرِ معَ قُيودِها مِنْ: مُضافٍ إليْهِ (المعْرِفَةِ)، وأداةِ العطْفِ والمعْطوفِ (والعلْمِ)، والجارِّ و المَجْرورِ (مِنْ حَبّاتِ)، والمُضافِ إليْهِ (الرّمْلِ) فيْ محلِّ نصْبِ حالٍ مِنَ الجملَةِ الأُولى. ولهذهِ العلّةِ، تُسمَّى الجملَةُ الأُولى (جُملَةً رئيسَةً) لإخْضاعِها الثّانية وربْطِها بِها، وتُسمّى الجملَةُ الثّانيَةُ (جملَةً خاضِعَةً) لِخُضُوعِها لِلأُولى، واِرْتِباطِها بِها اِرْتباطًا مَعْنوِيًّا إعْرابِيًّا. أمّا النّاظِرُ إلى جملَةِ (لكِنّهُمْ لا يَنْهلونَ)، فإنّهُ حتْمًا يَجدُها لا تَخْضَعُ لِغيْرِها، ولا تُخْضِعُ غيْرَها مِنَ الجُملِ، فهيَ مُسْتقِلَّةٌ بِذاتِها، لِذلِكَ نُسمِّيها: (الجملَةَ المُسْتقِلَّةَ).
و بِغضِّ النّظرِ عنْ كلِّ زوايا المُنْطَلَقِ الّتيْ تبنّاها الباحثونَ فيْ دراساتِهِمْ اللُّغوِيّةِ بِشأْنِ تقْسيمِ الجملَةِ العربيّةِ، فإنّنا نميلُ إلى التّقْسيمِ الّذيْ فيهِ اِعْتدالٌ ويُسْرٌ مِنَ الجانِبِ التّعْليمِيِّ الصِّرْفِ، وهو تبنِّيْ فكْرَةِ (المُسْنَدِ) أساسًا فيْ تصْنيفِ الجملَةِ، فهو يُغْنينا عنْ كلِّ التّعْقيداتِ المُنبَثِقَةِ عنْ عمليّةِ التّقْسيمِ، ويُبْعدُنا عنِ الأساسِ الشّكْلِيِّ لِلْجملَةِ؛ ونكونُ بِذلِك اِخْتصَرْنا الطّريقَ أمامَ المُتعلِّمِ، ووَضعْناهُ على أوْضَحِ المسالِكِ حينَ نجعَلُهُ يُدْرِكُ أنَّ الجملَةَ العربيّةَ مِنْ حيْثُ طرَفا الإسْنادِ، قِسْمانِ: الجملَةُ الفعليَّةُ (حَضَرَ الطّالِبُ)، والجملَةُ الاِسْميّةُ (الطّالِبُ حَضَرَ)، وأنّ كُلاًّ مِنَ الجملتيْنِ هُما مُتّفِقتانِ مِنْ حيْثُ المعْنى العامُّ بِاِسْتثْناءِ فارِقٍ بسيطٍ أحْدَثَهُ التّقْديمُ والتّأْخيرُ لِتحْقيقِ المعْنى المقْصودِ وتمْكينِهِ مِنَ النّفْسِ؛ لأنّنا إذا أردْنا شيْئًا وقصَدْناهُ بِالمعْنى فيْ لُغتِنا قَدَّمْناهُ، بِحكْمِ أنّ اللُّغةَ العربيّةَ لُغةٌ مُعْرَبَةٌ تمْلِكُ مُرونَةً كبيرَةً فيْ ترْتيبِ الكلماتِ بِالنّظرِ إلى اللُّغاتِ الّتيْ تَعْتمِدُ على نَظْمِ الكلامِ مثْل الإنْجليزيّةِ لاِفْتِقارِها لِعلاماتِ الإعْرابِ.