مقدمة
تسافر الكلمات وتهاجر مثلما يسافر الأشخاص ويهاجرون فتنتقل من لغة إلى أخرى كلما توفرت الظروف التي تساعد على ذلك ومن أهمها التقاء الجماعات واختلاطهم عبر الأزمنة والأمكنة لأي سبب من الأسباب، فتسافر مع أفراد الجماعة التي اختلطت بها وتهاجر إلى جماعات جديدة لتدخل إلى لغتها وتتخذها موطنا جديدا لها، لكن الكلمات خلال رحلتها هذه وفي حياة الهجرة التي تعيشها في اللغة الجديدة يصيبها التغيّر والتحوّل، وتبدأ معالم هذا التحوّل تظهر منذ اللحظة الأولى لخروج الكلمة من لغتها وجماعتها الأصلية وتصيب وجهها المدلولي ووجهها الدالي على حد السواء، فما يصيب الوجه الدالي مجرد تكييف صوتي لنطق الكلمة حسبما تسمح به أصوات اللغة الجديدة وهو شديد الارتباط بنظام اللغة، أما ما يصيب الوجه المدلولي فإنه انعكاس مباشر لاستعمال اللغة من قبل الجماعات ولتطورها داخل هذه الأخيرة، وهذه العلاقة بين اللغة والجماعة تجعلنا نتساءل إن كانت الكلمات المقترضة تعيش وتتطور في اللغة والجماعة الجديدة مثلما يحدث مع نظيرتها في اللغة التي انتقلت منها أم أنها تتبع اللغة والجماعة الجديدة وتصنع لنفسها وضعا مستقلا عن كلمات لغتها الأصلية؟ ونفترض منذ البداية أن التحوّل في الدلالة يصيب الكلمات المقترضة لا محالة في ذلك بحكم اختلاف اللغة والجماعة التي تستخدم اللغة وأنه يشبه ما يصيب الكلمات الأصيلة في اللغة لكنه يسلك سبيلا خاصا في اكتساب الدلالات وفقدانها، ولنبرهن على ذلك نتناول في هذا المقال من خلال دراسة تحليلية نقدية الكلمات الفرنسية ذات الأصل العربي، أو بعبارة أخرى المقترضات العربية في الفرنسية، ونظهر أوجه التحول الدلالي التي أصابتها وتأثير الجماعات المستعملة للكلمات الأصيلة والمقترضة في ذلك.
1. الكلمات المقترضة والجماعة
إن المتتبع لحال الكلمات يجد أنها دائمة الحركة والنشاط وهي في ذلك تتبع الجماعة التي تستخدمها وتقلب أحوالها عبر الأزمنة والأمكنة، وهذا في حقيقة الأمر ما يجعل من اللغة ظاهرة اجتماعية، فهذا حلمي خليل يقول أنها نظام اجتماعي تخضع لما يخضع له المجتمع من مؤثرات تتطور بتطوره وتنمو بنموه (حلمي، 1985: 33)، وهذه المؤثرات تنطبع في مفردات اللغة أيما انطباع، بل إنها تصنعها وتنقلها من وضع إلى آخر، وهي كثيرة ومتعددة تعدد أوجه الاجتماع الانساني، وقد حددها الدكتور عبد الواحد وافي (1983: 11) في ستة مؤثرات تتمثل في عوامل اجتماعية خالصة وتأثر اللغات بعضها ببعض وعوامل أدبية وانتقال اللغة من السلف إلى الخلف وعوامل طبيعية كالظواهر الجغرافية وعوامل لغوية ترجع لطبيعة اللغة، أما حلمي خليل (1985: 20) فإنه كان أكثر تعميما واستخرج ثلاثة عوامل تساهم في تطور اللغة تتمثل في علاقة اللغة بالفكر وعلاقتها بالمجتمع وعلاقتها باللغات الأخرى، ونرى هنا جيدا في كلا المجموعتين وجود علاقة اللغة بغيرها من اللغات أو التأثير الذي تحدثه اللغات فيما بينها كعامل مهم في تطور اللغة ونموها، وأهم مظاهر هذه العلاقة هجرة الكلمات أو الاقتراض اللغوي، كما يسميه علماء اللغة، وهي الظاهرة التي يمكن بناء على هذا أن نصفها بأنها ظاهرة اجتماعية تعبّر عن حركة المجتمع عبر الزمان والمكان، لهذا نجد لويس ديروي الذي كان سباقا لتناول الظاهرة بكثير من التفصيل يجعل من الطابع الاجتماعي محورا أساسيا في تعريفها إذ يقول: « الاقتـراض اللغـوي صيغـة تعبيريـة اقترضتها جماعة لغوية من جماعة لغوية أخرى » (Deroy, 1956 : 18)، فالجماعة هي المجتمع، واللغة وسيلتها في التواصل، وفعل الاقتراض من عمل الجماعة وينعكس في وسيلة اتصالها لأجل تحقيق تواصلها، فهذه الكلمات التي تنتقل بين اللغات تحمل معها أوجه المجتمع الذي تنتمي إليه، خصوصا تلك التي ينفرد بها عن غيره من المجتمعات، لكن كثيرا من الكلمات قبل أن تنتقل إلى لغات ومجتمعات جديدة تكون قد قطعت أشواطا طويلة في مجتمعها والجماعة التي تتكلمها وتكون قد اكتسبت دلالات ووضعت أخرى بفعل تداولها واستعمالها في مجتمع دائم الحركة والتغير، وهو ما يحتّم تكيّف الكلمة مع أوضاعها الجديدة في المجتمع من خلال ضم دلالات جديدة والتخلي عن دلالات لم يعد المجتمع في حاجة إليها، والحقيقة أن الجماعة هي التي تصنع الدلالات وتضعها والكلمة تختزن ما أنتجته الجماعة، فكلمة cheikh (شيخ) قبل أن تدخل إلى اللغة الفرنسية كانت قد قطعت أشواطا من التطور الدلالي في اللغة العربية، فالكلمة في الأصل تعني « الذي استبانت فيه السِّن وظهر عليه الشيب » (ابن منظور، ب ت: 2374)، ثم أصبحت مع مرور الوقت تعني ذو المكانة من فضل أو علم أو رياسة حسبما نجده في القاموس الوسيط (2004: 56)، ويوضح صاحب معجم المصطلحات والألقاب التاريخية تطور دلالة الكلمة أكثر فيقول إنها كانت في المجتمعات البدوية تدل على صاحب المنصب الأعلى في القبيلة ثم أصبحت تدل على المنزلة الدينية ثم أصبحت في دول الخليج في الوقت المعاصر تدل على من ينتمي للأسرة الحاكمة (الخطيب، 1996: 279)، أما عن حال الكلمة بعد انتقالها إلى اللغة الفرنسية فإننا نجد جاكلين بيكوش (2008: 95) تقول إن الكلمة تعني في الفرنسية رئيس القبيلة، وفي مكنز اللغة الفرنسية (atilf.atilf.fr) نجد أن الكلمة دخلت الفرنسية عام 1309 وكانت تعني رئيس القبيلة عند العرب، ثم تطورت دلالتها عام 1631 لتدل على الداعية إلى الدين الإسلامي، وهنا نرى جيدا أن هذه الكلمة لم تنقل معها كل الدلالات التي كانت لها في لغتها الأصلية إذ لا وجود لدلالة الرجل المُسِن في الكلمة الفرنسية cheikh وما نجده يشمل الدلالات التي جاءت في مرحلة لاحقة للدلالة الأولى، وفي الحقيقة توجد تغيرات أخرى تطرأ على هذه الكلمات المقترضة بحكم انفصالها عن اللغة والجماعة التي ظهرت فيها لأول مرة وتفصيل ذلك فيما يلي أدناه.
2. التحولات الدلالية للكلمات المقترضة
يقول الدكتور علي عبد الواحد وافي:
« كثيرا ما ينال معنى الكلمة نفسه تغيير أو تحريف عند انتقاله من لغة إلى لغة أو من لهجة إلى أخرى وفق ما تقتضيه الظروف الاجتماعية المحيطة بهذا الانتقال، فقد يخصص معناها العام ويقتصر على بعض ما يدل عليه وقد يعمم مدلولها الخاص، وقد تستعمل في غير ما وضعت له لعلاقة ما بين هذين المعنيين وقد تنحط إلى درجة وضيعة في الاستعمال فتصبح من فحش الكلام وهجره وقد تسمو إلى منزلة راقية فتعتبر من نبيل القول ومصطفاه » (وافي، 1983: 29)
وهذه إشارة واضحة إلى أن الكلمات المقترضة لا تبقى على الوضع الذي كانت عليه في لغتها الأولى وأنها تخضع عند انتقالها وخلال حياتها في اللغة الجديدة إلى تحولات دلالية يمكن أن نقول أنها التحولات نفسها التي قد تخضع لها أي كلمة أصيلة لكن الظروف المصاحبة لهذا التحول ليست نفسها، فدلالة الكلمة مثلما يوضحه فندريس (ب ت: 256)، قد تكون عرضة للتضييق والاتساع والانتقال، فالتضييق هو ما عبّر عنه الدكتور علي عبد الواحد وافي أعلاه بالتخصيص والاتساع ما عبّر عنه بالتعميم والانتقال ما عبّر عنه باستعمال الكلمة في غير ما وضعت له، ويدخل فيه انحطاط الدلالة وسموها الذي ذكره، ففي كلا الحالتين يحدث انتقال الدلالة، وهذه الأوجه الثلاثة هي التي استقر عليها علماء اللغة إذ يقول حلمي خليل: « والمتأمل في طبيعة هذا التغيّر الدلالي للكلمات يراه كما حدده العلماء المحدثون يجري على قوانين معينة [...] وتتلخص القوانين التي استنبطوها للتغيّر الدلالي في ثلاثة قوانين هي: تخصيص الدلالة وتعميم الدلالة ونقل الدلالة » (حلمي، 1998: 116-118)، لكن الكلمات المقترضة ليست كالكلمات الأصيلة فهذه الأخيرة تستمد دلالتها من جماعتها التي تتكلمها وهي الدلالة التي تكونت وتطورت في حضن هذه الجماعة، أما الكلمات المقترضة فإنها تستمد دلالتها من انتمائها لجماعتها التي انتقلت منها، على الأقل عند وصولها إلى اللغة الجديدة، ومن استعمالها في الجماعة الجديدة، وهذا ما يجعلها تنتمي إلى واقعين مختلفين يساهمان في التحولات التي يمكن أن تطرأ على دلالتها وعلى فهم هذه الدلالات فيما بعد، فمن جهة الدلالة التي تأتي بها الكلمة المقترضة معها، والتي توجد خارج اللغة والجماعة المستعملة للكلمة هنا، ومن جهة أخرى الدلالات الجديدة التي يمكن أن تطوّرها في اللغة الجديدة والتي قد توجد في الجماعة الجديدة وحدها لكنها تستند في أصلها إلى النواة الأولى التي تكونت في الجماعة الأولى وقد تكون في كلا الجماعتين، وهذا الانتماء المزدوج أو التعاون في صنع الدلالة يشكل عنصرا مهما في أوجه التحول الدلالي السابقة وسيأتي بيان ذلك في تفصيل هذه الأنواع الثلاثة.
2. 1. تضييق دلالة الكلمات المقترضة
يعني تضييق الدلالة مثلما عرفه أحمد مختار تحويل الدلالة من المعني الكلي إلى المعنى الجزئي أو تضييق مجالها (أحمد مختار، 1998: 245)، ويرى الدكتور رمضان عبد التواب أن هناك تضييق في الدلالة عند الخروج من معنى عام إلى معنى خاص (رمضان، 1990: 194)، ونحن هنا سنتناول تضييق الدلالة من حيث المدلولات التي يمكن أن تفعّلها الكلمة عند استعمالها، فالوجه الدالي في الكلمة لديه القدرة على استحضار أكثر من مدلول في كثير من الأحيان، وهي المدلولات التي التصقت بالكلمة خلال حياتها في لغتها والجماعة التي تستخدمها، لهذا كلما فقدت الكلمة القدرة على تفعيل أحد مدلولاتها أو بعض منها، أو اقتصرت على مدلول واحد دون المدلولات الأخرى، نكون بصدد تضييق الدلالة، فلا نتحدث عن الانتقال من العام إلى الخاص فقط وإنما عن كل تقليص في الوجه المدلولي للكلمة كبيرا كان أم صغيرا، وعلى هذا فإن الكلمات المقترضة تخضع في أغلبها لهذا التضييق في الدلالة، فهذا ديروي يقول: « في الواقع كثيرا ما يتم اقتراض الكلمات بمعنى واحد فقط في حين أنها تملك في اللغة المقرِضة معنيين أو أكثر» (Derroy, 1956 : 265)، فكلمة marabout (مرابط) انتقلت من العربية إلى الفرنسية وتعني في هذه اللغة حسبما نجده في قاموس لوبوتي لاروس (2013: 660) رجل الدين المسلم الذي يحضا باحترام الناس وتبجيلهم له في حياته وبعد مماته، أي ما نسميه بالولي الصالح، كما يطلق أيضا على القبة التي يسكنها، لكن هذه الكلمة تعني في الأصل « مرابطة العدو وملازمة الثغر » (ابن منظور، ب ت: 1561)، فهي تأتي من كلمة الرِّباط التي تعني « الإقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها » (ابن منظور، ب ت: 1561)، ثم أصبح معناها الرجل الصالح المرابط على الطاعة مصداقا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: « ألا أدلكم على ما يمحو به الله الخطايا ويرفع الدرجات؟ قالوا بلا يا رسول الله، قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الربِّاط »، وعليه فإننا لا نجد في الكلمة الفرنسية marabout الدلالة على الرجل المرابط على الثغور والرجل المجاهد ولا حتى المحارب، وبهذا تكون هذه الكلمة قد ضيّقت من مدلولاتها عند انتقالها إلى الفرنسية بل إنها فقدت دلالتها المركزية التي تتفرع منها باقي الدلالات، وأيضا كلمة sultan (سلطان) حينما انتقلت إلى الفرنسية ضيّقت دلالتها وأصبحت تعني « الحاكم المسلم» (Picoche, 2008: 491) وفقدت دلالتها الأولى وهي « الحجة والبرهان » (ابن منظور، ب ت: 2065)، ومنه قوله تعالى: « الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان » (غافر 35)، أي بغير حجة، كما أن الكلمة في الفرنسية اختصت بالحكام المسلمين فقط بينما نجد أن العرب كانوا يطلقونها على الحاكم والوالي عند المسلمين وغير المسلمين، وكذلك كلمة calife (خليفة) التي نجدها في الفرنسية تعني من يتولى أمر المسلمين بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم (2013: 160)، فجاءت دلالتها مقتصرة على المسلمين دون غيرهم وعلى الحكم وتولي زمامه دون أي دلالة أخرى، لكننا حينما نرجع إلى معنى الكلمة في العربية نجدها تعني « من يقوم مقام الذاهب ويسدُّ مَسَدَّه » (ابن منظور، ب ت: 1238)، وبهذا تكون الكلمة قد ضيّقت من دلالاتها واختصت بدلالة واحدة عند انتقالها إلى الفرنسية، فالكلمة العربية تبقى ذات دلالة عامة وتفعّل العديد من المدلولات بحسب استعمالاتها في الكلام، فقد تدل على الخليفة في الحكم مهما كان نوعه وقد تدل على الخليفة في البيت وقد تدل على الخليفة في منصب العمل، إلى غير ذلك من المدلولات التي قد تنتج عن استعمال الكلمة في الكلام، وهذا ما لا يمكن أن نجده في الكلمة عندما انتقلت إلى الفرنسية.
والواقع أن البحث في الأسباب التي تجعل من الكلمات المقترضة عرضة لتضييق الدلالة، يظهر أن الجماعة حينما تقترض الكلمات من لغة أخرى كثيرا ما تكون لضرورة في التعبير عن أشياء لم تعرفها الجماعة بعد، وبالتالي من أجل سد الفراغ المفرداتي الموجود في لغتها، وهنا تتجه الجماعة إلى اقتراض الدلالة الناقصة في لغتها فقط، أما الدلالات الأخرى التي اكتسبتها الكلمة المقترضة في لغتها الأصلية فإنها تسقط عند انتقالها، لأن اللغة المقترضة يمكن أن تفعّل مثل هذه الدلالات بواسطة كلماتها الأصيلة، فالدلالة العامة لكلمة خليفة يمكن أن نجدها في الكلمة الفرنسية successeur والتي تتفرع منها العديد من الدلالات الأخرى مثل الكلمة العربية حسب استعمالها في الكلام، وهذا ما يجعل الجماعة المقترضة تهتم بدلالة واحدة ولا تنتبه أصلا لوجود دلالات أخرى في الكلمة، ويكون هذا في حال الاقتراض الضروري، أما الكلمات التي لا توجد حاجة وضرورة لاقتراضها ومع ذلك نجد الجماعة تقترضها، وهي التي يصطلح على تسميتها بالاقتراض الكمالي أو اقتراض الإعجاب ويكون بسبب افتتان جماعة بأخرى، فإن دلالتها تجد دلالة موازية في اللغة المقترِضة من خلال وجود كلمة أصيلة تؤدي الدلالة نفسها، لكن هذا لا يمنع من أن تفقد هذه الكلمة عند انتقالها مجموعة الدلالات الأخرى التي لا يهتم بها المقترض فكلمة mat (مات) التي نجدها في الفرنسية اليوم والتي انتقلت مع عبارة « مات الشاهéchec et mat »، وهي عبارة فارسية الأصل، وانتقلت إلى الفرنسية عن طريق العربية، لكن كلمة « مات » في العبارة عربية لا شك فيها، وقد تقلصت دلالتها وأصبحت تعني الخسارة في اللعب فقط، وأصبحت تستعمل مثلما أشارت إليه بيكوش (2008 : 320) اختصارا لعبارة « مات الشاه échec et mat»، واستدل صالح قرميش (2007: 537) على استعمال كلمة mat في الفرنسية لوحدها بهذه الدلالة بنص للكاتب الفرنسي روبير دوغولان اقتسبه من إحدى رواياته، وكلمة chouia (الشُّوايَةُ) أو (شوية بالدارجة) التي أخذتها الفرنسية من العربية في القرن التاسع عشر (Picoche, 2008 : 104)، والتي يعتقد الكثير أنها كلمة دارجة وليست فصيحة، لكن المتتبع في القواميس يكتشف أنها كلمة فصيحة فهذا ابن منظور (ب ت: 2367) يقول أن الشُّوايَةُ تعني الشيء الصغير من الكبير كالقطعة من الشاه، والشيء نفسه نجده في المعجم الوسيط (2004: 502) الذي يقول أن الشُّوايَةُ تعني القليل من الكثير، ويورد أيضا كلمة الشُّوَيَّةُ ويقول أنها تعني القليل من الكثير، وليست هذه الكلمة تصغير لكلمة شيء فابن منظور يقول: « وتصغير الشّيء شُيَءٌ وشِيَءٌ بكسر الشّين وضمّها. قال ولا تقل شُوَيءٌ » (ابن منظور، ب ت: 2370)، وقد تم اقتراضها من العربية على الرغم من وجود كلمات فرنسية مثل peu التي تؤدي الدلالة نفسها، لكن مع ذلك فقدت دلالات أخرى كانت تؤديها في العربية مثل دلالتها على القطعة من اللحم والبقية من المال أو القوم الهلكى (ابن منظور، ب ت: 2367-2368)، وهذا يؤكد مرة أخرى قول ديروي أعلاه بأن أغلب الكلمات المقترضة تضيّق من دلالتها عند وصولها إلى اللغة المقترضة، لكن هذا لا يعني أنه لا توجد أوجه أخرى للتحولات الدلالية التي تصيب الكلمات المقترضة، إذ يمكن أن تتوسع دلالتها ويمكن حتى أن تنتقل وتحيد عن المعنى الذي انتقلت به أول مرة وهذا ما سنظهره أدناه.
2. 2. توسيع دلالة الكلمات المقترضة
يعني توسيع الدلالة أو تعميمها مثلما أسماه بعضهم الانتقال من معنى عام إلى معنى خاص (رمضان، 1990: 194) ويراه الدكتور إبراهيم أنيس (1976: 154) أقل شيوعا من تخصيص الدلالة، ويضرب الكثير من اللغويين مثالا عن توسيع الدلالة بالطفل الذي يطلق لفظ (أبي) على كل رجل يشبه أباه ولفظ دجاجة على كل طائر، أما بالنسبة للكلمات المقترضة فإن ديروي (1956: 263-264) يرى توسيع الدلالة بمثابة تغيير في المعنى يكون مصحوبا بفقدان الدقة ويشترط مرور بعض الوقت على اقتراض الكلمة كي يحدث هذا التوسيع، لكن ما نقصده هنا بتوسيع الدلالة يحتمل وجهين وقد بينتهما الخوري (2004: 20) حينما رأت أن الأمر قد يتعلق بالانتقال من اسم مدرج (hyponyme) إلى اسم نوع (hyperonyme) وهذا هو الانتقال من الخاص إلى العام، أو من خلال إضافة سمات جديد للكلمة، وفي هذا النوع الأخير من توسيع الدلالة قد ترقى الكلمة إلى التعميم وتصبح الكلمة تدل على الجنس كله وقد لا ترقى لذلك وتكتسب فقط دلالات أخرى بالإضافة إلى الدلالة التي تملكها على نحو يتوسع فيه الوجه المدلولي الذي يفعّله الوجه الدّالي في الكلمة، وهذا ما جعلنا نختار مصطلح توسيع بدلا من تعميم لأنه أشمل ويعبّر عن الحالتين معا، وهذا هو المعنى الذي نستنتجه من تعريف الدكتور أحمد مختار للظاهرة ومن استعماله لمصطلح توسيع بدلا من تعميم إذ يقول: « يعني توسيع المعنى أن يصبح عدد ما تشير إليه الكلمة أكثر من السابق أو يصبح مجال استعمالها أوسع من قبل » (أحمد مختار، 1998: 243)، ومن أمثلة توسيع الدلالة التي يتم فيها الانتقال من الخاص إلى العام في الكمات العربية المقترضة في الفرنسية نجد اسم العلم Fatma (فاطمة)، فاسم العلم يعبّر عن أقصى درجات التخصيص التي يدلّ فيها اللفظ على شخص محدد بعينه، لكن اسم العلم السابق حينما انتقل إلى الفرنسية وعاش فيها تعممت دلالته فأصبح يدل على كل امرأة مسلمة إذ يكتفي قاموس لوبوتي لاروس (2013: 499) بهذه الدلالة فقط (امرأة مسلمة)، وفي الحقيقة يرجع اسم العلم الخاص هذا قبل أن يصبح عاما إلى فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أصبح الغرب يطلقها على كل امرأة مسلمة، والشيء نفسه بالنسبة لكلمة Ahmed (أحمد) التي تعممت دلالتها من خلال استعمالها أثناء احتلال فرنسا للجزائر وأصبحت تدل على كل عربي أهلي في الجزائر وهذا بغض النظر عن الإيحاءات السلبية التي ألصقت بالكلمة، إذ نجد المؤرخ أبو القاسم سعد الله يقول في دلالة اسمي أحمد وفاطمة ما يلي:
« ففي روايات الزُوج صُوردي الصادرة عن أصحاب الأقدام السوداء وفي الصحافة العامية لا يوجد في العادة للإنسان الأهلي اسم أو سحنة أو ملامح خاصة فهو فقط العربي الأهلي (الأندجين) يوجه إليه الخطاب بدون تمييز (كما تشهد على ذلك شهادات كثيرة) على أنه أحمد قليل الأدب [...] وكانت النساء العربيات تنادى باسم فاطمة بدون تمييز أيضا، على أنها قليلة الأدب » (سعد الله، 1996: 59-60).
وكلمة assassin التي أخذتها الفرنسية من الكلمة العربية (حشّاش) وسّعت معناها وأصبحت تدل على كل قاتل بينما كانت في الأصل تعبّر عن فرقة اسماعيلية اسمها الحشاشون اشتهرت باغتيالاتها، ويوضح برناند لويس (2006: 13-14) في كتابه الذي خصصه لفرقة الحشاشين التصاق صفة الاغتيال بهذه الفئة من خلال جزء من رسالة يتحدث فيه عن الحشاشين وجهها قس ألماني إلى ملك فرنسا فيليب السادس الذي كان يعتزم القيام بحملة صليبية عام 1332 لاسترداد الأماكن المقدسة التي فقدتها المسيحية ليخلص في الأخير إلى القول إن الحشاشين كانوا قتلة مأجورين ويحدد القرن الثالث عشر كتاريخ دخلت فيه هذه الكلمة إلى اللغة الفرنسية في صورة assassin بمعنى القاتل المحترف المأجور وإلى باقي اللغات الأوروبية، وترى بيكوش (2008: 25) أن الكلمة تعني شارب الحشيش وأطلقت على جماعة تابعة لرئيسها الذي يطلق عليه اسم شيخ الجبل والذي كان يعطيهم الحشيش يشربوه ثم يأمرهم بتنفيذ عمليات اغتيال تحت تأثير الحشيش لزعماء مسلمين ومسيحيين وانتقلت الكلمة مع الحملات الصليبية في بادئ الأمر كاسم علم يدل على هذه الفئة، لكن برناند لويس لا يوافق على أن هذه الفئة سميت بالحشاشين لكونها كانت تتلقى جرعة مسبقة من الحشيش قبل عمليات الاغتيال إذ يقول: « ومن بين التفسيرات المختلفة التي طرحت يبدوا أن الأكثر احتمالا أنه تعبير يدل على احتقار العقائد الغثة والسلوك المعيب لأعضاء تلك الفرقة، فهو تعبير ساخر عن سلوكهم أكثر من كونه وصفا حقيقيا لأفعالهم » (برناند، 2006: 28)، لكن وعلى الرغم من الاختلاف في تعليل استخدام كلمة الحشاشين للدلالة على هذه الفئة نستطيع القول إن هذه الكلمة كانت قبل انتقالها إلى الفرنسية كاسم علم يدل على فئة محددة من الناس أهم ميزاتها القتل وهذا يمثل أقصى درجات تخصيص الدلالة وتضييقها، لكن عند انتقالها إلى الفرنسية اتسعت دلالتها وأصبحت عامة تدل على كل شخص قاتل، واختفت دلالتها الأولى، فهذا قاموس لوبوتي لاروس (2013: 25) لا يورد أي إشارة إلى الدلالة الأولى التي تعتبر دلالة ضيّقة أي خاصة وكل ما يورده يتعلق بالقتل وما يتصل به، أي الدلالة العامة التي أصبحت الكلمة تدل عليها.
2. 3. انتقال دلالة الكلمات المقترضة
يرى فندريس (ب ت: 256) أن انتقال الدلالة يحدث حينما يتساوى المعنيان أو إذا كانا لا يختلفان من جهة العموم والخصوص مثل انتقال الكلمة من المحل إلى الحال أو من السبب إلى المسبب أو من العلاقة الدالة إلى الشيء المدلول عليه وأن هذا الانتقال في الدلالة يحدث عن طريق المجاز، ويصف إبراهيم أنيس (1976: 160-167) الظاهرة كلها بالمجاز ويرى أنه يحدث من خلال الانتقال من الدلالة المجردة إلى الدلالة المحسوسة كالكناية عن الكرم بكثرة الرماد ومن خلال الانتقال من الدلالة المحسوسة إلى الدلالة المجردة، ويمكن أن يحدث انتقال الدلالة أيضا بين المحسوسات بعضها مع بعض لصلة بين الدلالتين في الزمانية أو المكانية أو اشتراك في جزء كبير من الدلالة، ونقصد بانتقال الدلالة هنا تحوّل دلالة الكلمة المقترضة عما جاءت به أول مرة مع سقوط الدلالة الأولى واختفاءها، ومن أمثلة الكلمات العربية المقترضة في الفرنسية التي غيرت من دلالتها نجد كلمة caid التي أصبحت تعني زعيم عصابة بعدما كانت تعني القائد العسكري، فحينما نتتبع تاريخ الكلمة في الفرنسية نجد أن صالح قرميش (2007: 226) يبرهن على أنها دخلت إلى هذه اللغة بواسطة الإسبانية في القرن الثالث عشر في صورة alcaide لتدل على قائد القلعة، وكانت الكلمة تعني عند العرب القائد العسكري، ومع نهاية القرن السابع عشر اختفت « الـ » التعريف (al) من المقترض الفرنسي وأخذ شكله الحالي (caid) مع معاهدة الجزائر سنة 1694، لكن دلالة هذه الكلمة لم يكتب لها أن تستقر في وضع محدد في اللغة الفرنسية بل أصابتها تحولات وتغيرات حسب الظروف التي أحاطت بها في هذه اللغة، فعلى الرغم من وجود لغويين يؤكدون بأن الكلمة دخلت بمعنى القيادة مثل بيكوش التي تقول في تعريف الكلمة: « قايد: قائد، مشتق من قاد يحكم ويدير» (Picoche, 2008: 68)، وبلوش أوسكار الذي عرفها بقوله: « مقترض من العربية ويعني رئيس قبيلة» (Bloch, 2002 : 99)، إلا أن الظروف التي أحاطت بالكلمة جعلتها تغير من دلالتها في لغتها أولا فأصبحت تعني «الرجل الخائن لوطنه»، إذ يصف قرميش هذا التحول بقوله: « لقد أصبح يدل هذا اللقب خلال الاستعمار في الجزائر لاسيما خلال حرب التحرير على الدناءة للتعاون مع المحتل» (Guemriche, 2007 : 22)، فكلمة قايد أصبحت تعبّر حسب بوعلام بن حمودة عند احتلال فرنسا للجزائر عن « متصرف إداري في خدمة الفرنسيين في المستعمرات الفرنسية في المناطق الإسلامية» (Benhamouda, 1999 : 64)، ويتضح سبب هذا التحول في الدلالة جيدا عندما نقرأ ما كتب المستشرق الفرنسي إرنست مارسي عن الموظفين الذي وجدتهم فرنسا عند احتلالها الجزائر ومن بينهم القايد، وهذا من دون أن يقصد إثارة هذه الدلالة السلبية، إذ يقول: «هؤلاء الموظفين هم الذين كانوا في اتصال مع ضباطنا خلال الاحتلال ولم يتأخروا في أن يصبحوا مساعدين له» (Mercier, 1981: 10)، فوظيفة القايد كانت موجودة في الجزائر قبل احتلالها وكانت مهمته حسبما وضحه سعيد بن عبد الله (2011: 196) تتمثل في بدابة الوصاية التركية على الجزائر في جباية الضرائب، ثم كثرت مهامه مع مرور الزمن فأصبح يقوم إلى جانب الرقابة على القبيلة والفصل في نزاعاتها بالسهر على الأمن العام في الأسواق والأرياف، ويؤكد مرسييه هذا بقوله: «كان تحت إمرة البايات حكام يحكمون المدن وقِياد، رؤساء إداريين وعسكريين، يضعونهم على رؤوس القبائل ليديروها» (Mercier, 1983: 4)، وعليه فإن هذا التعاون مع المحتل هو الذي جعل الكلمة تطور دلالة جديدة تتماشى مع وضع الجماعة، ولم تبق الكلمة على حالها في الفرنسية بل انتقلت دلالتها وأصبحت تعني «زعيم عصابة» حسبما نجده في قاموس لو بوتي لاروس (2013: 158) في اللغة الفرنسية وبقيت الدلالة الأولى في كتب التاريخ، وكل هذا ناتج عن الظروف التي أحاطت بالكلمة في اللغة والجماعة التي تستعملها، وهذه الظروف هي ما يسميه نصر حامد أبو زيد بالسياق الثقافي المعرفي والسياق الثقافي الإديولوجي، فالسياق الثقافي المعرفي يمثل لديه مستوى الاتفاق العام، أي مستوى الحقائق اليقينية في ثقافة معينة في فترة تاريخية محددة، والسياق الثقافي الإديولوجي يتمثل في وعي الجماعات المرتبط بمصالحها في حال تعارضها بمصالح جماعات أخرى في المجتمع (أبو زيد، 2000: 98-99)، فالكلمة السابقة حينما كانت في مستوى الاتفاق العام كانت تعبّر عن الوظيفة فقط وبقيت دلالتها محصورة في القيادة، لكن حينما انتقلت إلى لغة أخرى أصبح السياق الثقافي الإيديولوجي يجذبها إليه بحكم أنها أصبحت تعبر عن مصالح جماعات مختلفة فتغيرت دلالتها بحسب ارتباط الجماعات بعضها ببعض، وأما الانتقال في حال الملموسات فلنا مثال في كلمة jupe التي اقترضتها الفرنسية من العربية (جبة) في القرن الثاني عشر (Picoche, 2008 : 285) وكانت تعني حسب المعجم الوسيط (2004: 104) في الأصل ثوبا سابغا، واسع الكمين، مشقوق الأمام يلبس فوق الثياب، أي أن الكلمة كانت تدل على ما نسميه اليوم بالفستان robe، فكلمة jupe التي أصبحنا نقابلها بالكلمة العربية تنورة تدل على ثوب ليس له كُمين في عصرنا هذا لأنها تستر أسفل الجسم فقط على عكس ما كانت عليه كلمة جُبَّة jupe التي كانت تدل على ثوب يستر الجسم كله، وكلمة camelot التي أخذتها الفرنسية عن العربية في القرن الثالث عشر وكانت تعني القماش الخشن، ويقترح بن حمودة (1999: 167) كلمتين عربيتين هما أصل هذه الكلمة الفرنسية وهما شَملة وخَملة، فالشَملة تعني حسب القاموس الوسيط (2004: 495) كساء من صوف أو شعر يتغطى به ويتلفف به، والخَملة تعني حسب القاموس نفسه (2004: 257) «القطيفة» وفي كلا الحالتين فإن الأمر يتعلق بقماش خشن، لكن دلالتها تغيرت مع الوقت في الفرنسية وصارت تعني في القرن التاسع عشر حسبما تؤكده بيكوش (2008: 70) البائع المتجول، وكانت تعني حينما انتقلت لشكل camelote في القرن الثامن عشر البضاعة ذات النوعية الرديئة.
خلاصة
نخلص في الأخير إلى القول إن الكلمات المقترضة مثل الكلمات الأصيلة في اللغة تتطور لدى الجماعة التي تنتقل إليها، لكن التحولات التي تصيبها تحدث تحت تأثير الجماعة الجديدة ومحيطها لهذا كثيرا ما تبقى هذه التحولات لصيقة بالكلمة المقترضة ولا تصل إلى اللغة التي انتقلت منها الكلمة، فقد تضيق دلالة الكلمة المقترضة ويكون هذا في المراحل الأولى من هجرة الكلمة لأن الجماعة التي تقترض تهتم أولا بالدلالات التي لا توجد في لغتها والتي لا تستطيع كلماتها تفعيلها في الكلام وهذا ما يحدث في الاقتراض الضروري، وحتى في الاقتراض الكمالي أو البذخي من خلال الاهتمام بدلالة دون غيرها في إطار الكلمة الواحدة، لكن الكلمات المقترضة بعدما تعيش في اللغة الجديدة لفترة من الزمن تشرع في تطوير دلالات جديدة من خلال انعكاس مظاهر الجماعة التي أصبحت تتكلمها في هذه الأخيرة، فتكتسب دلالات جديدة تضاف إلى الدلالات التي جاءت بها ويصبح وجهها المدلولي أوسع مما كان عليه، كما يمكن أن تنتقل دلالة الكلمات المقترضة فتصبح تدلّ على غير ما جاءت به في الأصل ويحدث هذا الانتقال عن طريق المجاز في معظم الأحيان، ولكي يحدث النوع الثاني والثالث من التحولات الدلالية يجب أن تكون الكلمة المقترضة قد جرى استعمالها في اللغة المقترضِة ومضى على انتقالها إليها بعض الوقت لأنها في البداية تأتي للتعبير عن حقائق ومظاهر لصيقة بالجماعة التي انتقلت منها الكلمة، ثم بعد ذلك تطوّر دلالات من صنع الجماعة الجديدة انطلاقا من النواة الأولى التي اقترضتها وهي بذلك تعكس تطورا للكلمة في ظل ما تُحمِّلها الجماعة الجديدة من رؤية للعالم وللآخر الذي يعيش معها في هذا العالم.