مقدمة
الرواية ذلك الجنس المتبدل في أشكاله الذي عودنا على ارتداء كل مرة زى جميل لما يحويه من مواضيع وحكايا، فهو يسرد لنا واقع المجتمعات بثقافتها وتراثها ولغتها وكل ما يتعلق بكينونتها، وهذا ما جعله يتربع على عرش الأجناس الأدبية رغم فتوته وحداثة سنه مقارنة ببقية الفنون والأجناس.
فالرواية عالجت في نطاق امتدادها وسيرورتها تموقعات مختلفة، أفضت إلى خلقها ونضجها فنيا وأسلوبيا من جميع الأصعدة، ضمن حيثية العمل الفني الإبداعي المتسم بالآليات والتقنيات السردية، فصارت أحد أهم الأدوات التي تسهم في صناعة الوعي الفردي أو الجمعي، وذلك نظير الشحنة الكبيرة التي تحملها في ذاتها من : ايديولوجيات وفلسفات وأفكار، وهنا يأتي دور الأديب وقدرته الفنية على تحميل نصه كل ما يريد بشكل شعوري أو لا شعوري، وليكوّن لنا هذا الصرح بكل ما يحمله من أنساق مبثوثة في داخله سواء كانت ثقافية أو فكرية أو اجتماعية على اعتبار أن الرواية شكل ثقافي مستتر تحت عباءة نصوص حافلة بمخزونات التاريخ والعادات والثقافات والفلكلور والأسطورة والحكمة، لأن منظومة الأنساق الثقافية المكونة لذهنية أية أمة من الأمم تظل كامنة في نصوصها الأدبية الرسمية والشعبية، فاخترنا الأمة الجزائرية التي عانت من ويلات الاستعمار والذي حاول جاهدا بكل ما أوتي من قوة وبكل السبل المتاحة والمستحيلة أن يسلب هذا الشعب وهذه الأمة هويتها وأن يسلخها من تاريخها ويقطع جذورها لتكون في الأخير أمة فرنسية على مقاسه وكما يطلب هو، فكان من بين الأسلحة التي اختارها الرواية التي تعلي من شأن الجنس الفرنسي وتمجده وتنال من الآخر الجزائري وتمحقه عبر القضاء على هويته، فكيف كرّس الاستعمار الأدب لخدمة قضيته ؟ هل استطاع بث سمومه للسيطرة على ذهن المتلقي دون شعور ؟ كيف صوّر الأديب الفرنسي المرأة الجزائرية والمواطن الجزائري؟
للإجابة على هذه التساؤلات وما ينبثق عنها من فروع اخترت واحدة من أشهر الأعمال الروائية التي كانت شديدة الخطر، رواية الغريب لألبير كامو والتي تتناول قضية أو جانب حاول الأديب تصوريه يتمثل في فرنسة الجزائر، وأن الجزائر ما هي إلا أرض فرنسية.
1. الهوية
تثیر مسألة الهویة حیرة وقلقا لدى الباحثین والدارسین في شتى المجالات الأدبیة الفلسفیة، والنفسیة، والاجتماعیة، والتاريخية، والمعرفیة، وحتى السیاسیة من ناحیة ضبط المصطلح والمفهوم، كما طرحت قضیتها عدة إشكالات وتساؤلات حول أصلها وماهیتها، إلا أنها ظلت مصطلحا یطلب دوما التجدید والتنوع في المعنى وعند البحث عن المفهوم الاصطلاحي للهویة نصطدم بكونها تجمع متناقضات عدة بین ما هو محسوس وما هو مجرد، إنها واحد يعبر عن الأنا، متعدد یمثل الجماعة تمتلك قدرة فائقة في التوفیق بین المتماثلات والمختلفات، وهي أساس الذات في كونها ما یصمد من الإنسان عبر الزمن إذ تلازمه مكونة شخصیته ومحددة معالمه بشكل ثابت، أي ما یمنح إبداعه طابعا خاصا، فلا یكون مسخا للآخرین ( حمود 2013 : 15) أي إحساس الأنا بنفسها وبالتفرد بخصائص ممیزة عن غیرها من بني البشر التي لا تنتهي إلا بنهایتها.
كما یمكن للمرء أن ینظر للهویة على أنها مجموع سماته الممیزة والدائمة التي تمیزه بوصفه مخلوقا لا تخطئه العین، والهویة هي ما یمكن للإنسان أن یصف به الآخرین... إلا أن الهویة هي أیضا ما أصف فیه نفسي عندما أتأمل ذاتي بصورة مكثفة وأشكل صورة ذاتي. (جميل 2010 : 93)
ولأن مفهوم الهویة یشیر إلى جملة الصفات الجسدیة الظاهرة في الإنسان والتي تميزه بين أقرانه، تجعلنا نعلم الشخص استنادا على ممیزاته الثابتة والخاصة به وحده دون سواه، بها یعرف ماهیته وأصله ولیكون هو نفسه، وتعتبر الهوية من أكثر المفاهيم تغلغلا في عمق الحياة الثقافية والاجتماعية والعقائدية، وعلى الرغم من البساطة الظاهرة فيها إلا أنها تتضمن درجة عالية من الصعوبة والتعقيد والخصوصية.
فكان لزاما لإثبات هوية ما أو لكشف محاولات طمسها في أي عمل روائي التعرف على النسق الثقافي ومفهومه.
2. النسق الثقافي
له تعاريف عديدة ومختلفة من بينها : أن النسق الثقافي عبر وظيفته وليس عبر وجوده المجرد، والوظيفة النسقية لا تحدث إلا في وضع محدد ومقيد، وهذا يكون حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر ويكون المضمر ناقضا وناسخا للظاهر ويكون في نص واحد. (الغذامي، 2005 : 80) فالنسق الثقافي يحدد من خلال الوظيفة التي يؤديها في نطاق محدد، ولا تحدث هذه الوظيفة إلا عندما يتعارض نسقان اثنان في نص واحد، يكون أحدهما ظاهرا وعلنيا والآخر خفي مسكوت عنه، ويكون هذا الأخير مناقضا تماما للظاهر مثل :الرجل الأبيض الظاهر يكون مناقضا تماما في صفاته وأفعاله للرجل الأسود المسكوت عنه وعليه فالنسق المسكوت عنه لا يتحدد في النص إلا من خلال النسق الظاهر.
و من مواصفات الوظيفة النسقية التي ينبغي أن تكون في النص :
-
نسقان يحدثان معا وفي آن واحد.
-
يكون المضمر منها نقيضا ومضادا للعلني.
-
لابد أن يكون النص جميلا ويستهلك بوصفه جميلا، بوصف الجمالية وهي أخطر حيل الثقافة لتمرير أنساقها وإدامتها.
-
ولا بد أن يكون النص جماهيرَيا ويحظى بمقروئية عريضة وذلك لرؤية ما للأنساق من فعل عمومي ضارب في الذهن الاجتماعي. (الغذامي 2005 : 78)
-
وعليه إذا توفرت هذه الشروط في نص معين فعلى الباحث أن يقرأ النص قراءة خاصة، أي من وجهة نظر النقد الثقافي فيصبح النص لا يدرس على أنه نص أدبي وجمالي فحسب بل يدرس كذلك على أنه ظاهرة ثقافية.فتصبح بذلك الدلالة النسقية هي الأصل النظري في الكشف والتأويل عن الأنساق الثقافية المضمرة، دون إلغاء الدلالات الأخرى الصريح منها والخفي، فالدلالة النسقية لا تلغي القيم الفنية والجمالية التي بدورها تلعب أدوارا خطيرة، فهي أقنعة يتخذها الكاتب ليمرر من خلالها أنساق ثقافية مضمرة بغرض تكريس فكرة ما. (الغذامي 2005 : 79).
وهذه الأنساق الثقافية لا تظهر هكذا عرضا بل هي أنساق تاريخية أزلية وراسخة لها الغلبة دائما وعلاماتها هي اندفاع الجمهور إلى استهلاك المنتوج الثقافي المنطوي على هذا النوع من الأنساق، وكلما رأينا منتوجا ثقافيا أو نصا يحظى بقبول جماهيري عريض وسريع، فنحن في لحظة من لحظات الفعل النسقي المضمر لا بد من الكشف والتحرك نحو البحث عنه. (الغذامي 2005 : 80) واستغلال الأنساق الثقافية كوسيلة للتحكم في جمهور معين هو استغلال قديم وأزلي.وتمرر هذه الأنساق عبر المنتوج الثقافي فتحظى بقبول واسع لدى الجماهير وتستهلك بطريقة سريعة دون أن يعي الجمهور بغاية تلك الأنساق. فالنسق الثقافي نسق سياسي بالدرجة الأولى، بمعنى أن النص الذي أنتج في الماضي يجب أن يفسره الباحث داخل السياق الثقافي السياسي لمؤلفه. (بعلي 2007 : 48)
لذلك على الباحث في النقد الثقافي الكشف عنها وإظهارها، كما للأنساق الثقافية وظيفة إيديولوجية فلإيديولوجيات يمكن أن تشتغل لصالح أنساق ثقافية معينة، ضد أخرى لأن الأنساق الثقافية نظام متواصل ومتوارث تنتقل من جيل إلى آخر عن طريق المحاكاة أو التكرار أو الممارسة بشكل لا شعوري. (عبد الدايم 2011 : 15) فالكاتب يحمل قبل تأليفه لرواية أو كتاب خلفيات إيديولوجية معينة في ذهنه تبناها لاشعوريا وتوارثها عبر الأجيال عن طريق الممارسة والتكرار، لذلك فهو يحاول تمرير أنساق ثقافية مضمرة في كتاباته، تعلي من أناه الظاهر وتنقص من الآخر المضمر-خادمة لهذه الإيديولوجيا التي يتبناها هذا الكاتب.
1.2. الأنا والآخر في الغريب
لقد سعت فرنسا إلى تكريس فكرة الإمبريالية والاستعمار بشتى الطرق أولا : اغتصبت الأرض واحتلت مبانيها ثم سيطر المستوطنون الفرنسيون على غابات شجر البلوط الفليني ومستودعات المواد المعدنية ثم طردوا الجزائريين من أماكنهم وأحلوا محلهم الأوربيين... وهكذا فبينما أعادت فرنسا إنتاج نفسها في الجزائر، أقصىي الجزائريون إلى مرتبة دنيا من الهامشية والفقر. (إدوارد 2004 : 332) فسعت فرنسا للسيطرة على ممتلكات البلاد من أراض وموارد طبيعية وبشرية، وخربت كل ما وجدته في طريقها وجوعت الشعب لإجباره على الركوع والخضوع لها، فهي كانت ترى في ذلك توْسِعة لإمبراطوريتها الإمبريالية.
وفي خضم هذا الصراع وُلد على أرض الجزائر الكاتب الفرنسي المشهور ألبير كامو الذي أدى دورا مهما على نحو خاص في الرجات الاستعمارية المشئومة التي صاحبت المخاض العسير لنهاية الاستعمار الفرنسي في القرن العشرين، إنها صورة إمبريالية متأخرة جدا لم يتخلف عن الإمبراطورية فحسب وإنما بقي كمؤلف عالمي يغرس جذوره في استعمار تم نسيانه الآن. (إدوارد 2009 : 239) فعند سطوع نجم ألبير كامو حسب إدوارد سعيد، كان الاستعمار في نهايته إلا أنه استطاع أن يمرر لا شعوريا هذا الاستعمار في كتاباته ليوصلها إلى العالم، ولهذا لا يمكن فهم الإنتاج الروائي لألبير كامو دون ربطه بالتجربة التاريخية التي حدثت في الجزائر بين الفرنسيين والجزائريين حيث يبرز فكر كامو من خلال علاقته بتاريخ الجماعة التي ينتمي إليها وهي جماعة المعمرين، وبين الجزائريين الذين ظلوا مغيبين في النصوص وتم الحديث عنهم بدل أن يتحدثوا هم عن أنفسهم ويفصحوا عن رغباتهم. (حيولة 2014 : 382).
لقد سعى ألبير كامو لتحقيق هدف سامِ بالنسبة إليه وهو توسيع الإمبراطورية الفرنسية وذلك بطمس الهوية الجزائرية. فلذلك استعمل كامو الرواية الواقعية من أجل أداء حركة إمبريالية يائسة لأنها لم تؤد إلى ما كان يهدف إليه ويتمناه وجماعة المعمرين التي ينتسب إليها وهي الحفاظ على الجزائر. (حيولة، 2014 : 374). فالقارئ لروايات كامو يجدها أكثر واقعية تكرس الاستعمار بطريقة لاشعورية، فكامو ينتمي إلى أولئك المعمرين الذين كانوا يرون بأن الجزائر مدينة فرنسية لا بد من الحفاظ عليها وبالتالي الحفاظ على الأملاك والأراضي التي هي في الأصل من حق الجزائريين.
فكامو لجأ إلى الرواية الواقعية ليشعر القارئ بأن هذه الأحداث قد وقعت فعلا في مدينة فرنسية لأشخاص فرنسيين وهذه الأحداث وإن كانت واقعية فهي غريبة عن المجتمع الجزائري فلا عقيدتهم ولا عاداتهم تسمح لهم بمثل هذه التصرفات، فالمواطن الجزائري كان يسعى لاسترجاع حقه فحسب.ولكن كامو لا يرى جدوى من خروج فرنسا من الجزائر لأن وجودها مبرر من جهة وذلك بهدف تحضير أهلها وتطويرهم من جهة ثانية فإن أولئك السكان المحليين لا يستطيعون حكم أنفسهم، وإذا كانوا كذلك فلابد من إبقاء السيطرة عليهم وعدم الخروج لأن الخروج يعني ترك الفراغ لمحتلين آخرين (حيولة، 2004 : 374) لقد أعطى كامو مبررا لبقاء فرنسا في الجزائر، فهو يؤيد تكريس اللاشعور الكولونيالي.
2.2. شخصيات الغريب
لقد كانت نظرة كامو للفرنسيين تختلف عن نظرته للجزائريين بحكم أنه ولد بالجزائر وعاش طفولته التعيسة معهم – الجزائريين- ويظهر ذلك من خلال روايته :
فالشخصيات الفرنسية تحتل مكانة رئيسية لها أسماء وأوصاف، أما الشخصيات الجزائرية فهي شخصيات تحتل مكانة ثانوية ليست لها أسماء ولها أوصاف لا تليق بها، والاسم الوحيد الذي يطلق عليها هو اسم العربي الغريب وكامو بتأكيده وتعزيزه بهذه الطريقة الأولية الفرنسية لا يشك ولا يخرج على الحملة من أجل السيادة التي شنت ضد مسلمي الجزائر. (إدوارد 2004 : 240) ونستطيع القول بأن كامو يجسد الاستعمار وذلك بطريقة لا شعورية
وهذه التفاصيل لا يمكن لقارئ عادي كشف خباياها حسب إدوارد سعيد لأن نصوص كامو شديدة الكثافة فإن الانتباه إلى التفاصيل والصبر والإلحاح أمور أساسية منهجية، فالقراء يربطون من أول وهلة روايته حول فرنسا ليس بسبب اللغة والأشكال التي تبدوا أنها ورثتها عن الروايات السابقة، وإنما أيضا لأن إطارها الجزائري يظهر عرضا : حيح أن ميرسو يقتل عربيا ولكن هذا العربي لا يسمى ويظهر من دون تاريخ وبالطبع من دون أب ولا أم أكيد أنهم أيضا عرب أولئك الذين يموتون بالطاعون في وهران ولكنهم لا يسمون كذلك. (إدوارد 2009 : 240)
قد يلتمس الباحث لخبايا النصوص وما وراءها من الأنساق المضمرة لدى كامو فيتسنى له رفع الستار على ما يقوله وعلى ما يقصده ويجسده في نفس الوقت، فيكتشف أن الفرنسيين لهم المساحة الكافية في الرواية بينما الجزائريين مقصيين حتى من أسماءهم وأصلهم فما بالك صفاتهم لقد كانت مجموعة من العرب يترقبونه ومن بينها شقيق عشيقته السابقة... إن هؤلاء العرب يضمرون الشر لريمون. (كامو : 53-54) وفي نفس اللحظة لاحظت أن هناك على الشاطئ –بعيدا عنا- اثنين من العرب يرتديان ثيابا زرقاء ويأتيان في اتجاهنا (كامو : 67) كان كامو كل مرة يسرد وقائع فيها شخصيات عربية فإنه لا يعطيها أسماء العربي، الثاني كان قد نهض ووقف خلف صديقه المسلح فلم نجرؤ على الحركة فيما راح يتقهقران ببطء وهما ينظران إلينا ويجبراننا على الالتزام بالسكون بفعل السكين (كامو : 68) فكامو يصف شخصية العربيان بأنها شخصيات عدائية بدائية تترصد الشخصيات المركزية –ريمون وميرسو -و لا يكون ظهور الشخصيات العربية إلا بظهور الشخصيات المركزية. ومن هنا أراد كامو تمرير نسق خفي وهو أن العربي الصامت في الحقيقة هو شخصية مخربة لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تفعله فبالرغم من أن شخصية ريمون هي المتسبب الأول في العراك والشجار مع العربي إلا أن كامو ينتصر لشخصية ريمون عن طريق تأييد ميرسو، ويتوقف سعيد مطولا عند تحليل شخصية ميرسو في الغريب حيث أنه يرى أنه يتميز بصفات خاصة وملامح عامة من خلال ما يصدر عنه من أقوال وما يتميز به من عواطف داخلية، وهو يرى في البداية أنه مثله مثل غيره من المعمرين فإنه ينتمي بعمق لجماعته ولا يمكن إلا أن يكون منضما إليهم في شعور جماعي لأنه في الأصل جزء من المعمرين وهو يتفاعل معهم ويتأثر بما يتأثرون به (حيولة 2014 : 381) فلا يمكن فصل شخصية ميرسو عن بقية المعمرين فهو جزء لا يتجزأ منهم فهو يتأثر بتصرفاتهم ويتفاعل معها، ويظهر ذلك جليا عند وقوف ميرسو إلى جانب صديقه ريمون ضد المرأة الجزائرية في حين أنه لم يشهد الواقعة إلا من خلال رواية ريمون عنها عندما قال : أريد أن أكون شاهدا، لم يكن ذلك الأمر يضايقني، ولكن لم أكن أعرف ما الذي يجب أن أقوله. ولكن طبقا لرواية ريمون عنها. فإنه يكفي أن أقول : إن الفتاة قد خدعته، فوافقت أن أكون شاهده. (كامو : 51)
ويظهر تفاعل ميرسو مع صديقه ريمون : عندما طلب ريمون أن يتمشى لوحده بعدما أصابه العربي في ذراعه إلا أن ميرسو لم يتركه ثم قال إنه سينزل إلى الشاطئ فسألته إلى أين سيذهب؟ فقال ماسو سترافقه... لكنني رغم ذلك رحت أتبعه. (كامو : 29) ومن خلال كل هذا يبدو لنا أنه لا يمكن فصل كامو عن بقية المعمرين فهو جزء لا يتجزأ منهم لذلك كان ينتصر لهم على حساب الجزائريين في كتاباته.
فحتى الحيوانات التي كان يمتلكها المعمرون كان لها نصيب من الوصف، في حين نجده يذكر قتل ميرسو العربي ثم أطلقت النار أربع مرات على جسد هامد كانت الرصاصات تختفي بداخله إلى الأبد. لقد كانت أربع طرقات قصيرة، أضربها على باب النحس. (كامو : 74).
فميرسو لا يشعر بأدنى قدر من الندم فهو يرى في قتله تخليص الأنا والتي لها الحق المطلق في التسلط والهيمنة وانتزاع الآخر للحفاظ على هذه الفكرة، فرصانة أسلوبه والمعضلات الأخلاقية المقلقة التي يفصح عنها والمصائر الشخصية المؤلمة لشخصياته التي يعالجها بكثير من الرقة والسخرية والمراقبة، كل هذا إنما يتغذى من تاريخ السيطرة الفرنسية في الجزائر ويعيد إحيائها بدقة عالية مرهفة وغياب لافت للنظر للندم والرأفة. (إدوارد 2009 : 285) فكامو يختار نهايات مؤلمة لشخصياته فهو يقتل العربي دونما ندم ورأفة بحاله. كما أنه يصف الشخصيات الأخرى بأسلوب السخرية والتهكم وهناك وجدنا العربيين كانا متكئين في هدوء ويبدوان هادئين، بل أيضا سعيدين في ملابسهما الزرقاء الملوثة، ولم يغير مجيئنا المفاجئ من الأمر شيئا، فذلك الذي ضرب ريمون كان ينظر إليه دون أن يقول شيئا، فيما كان الآخر ينفخ في قصبة صغيرة ويرددون توقف النغمات الثلاثة الوحيدة التي كان يحصل عليها من آلته الموسيقية (كامو : 69) فيشير كامو هنا إلى وضعية الجزائريين المزرية التي تعجبهم، فهو إنسان منقاد وخاضع للإهانة ويفضل الانسحاب بدلا من مجابهة المشكلة التي تعترضه حسب كامو والتي يكون هو المتسبب فيها. عندما صرنا على قيد خطوات منهما توقفنا، فخففنا ماسو وأنا من سرعتنا، فيما اتجه ريمون مباشرة نحو خصمه ولم أسمع بالضبط ما قاله، لكن الآخر بدا وكأنه يريد أن يضربه برأسه فضربه ريمون، ثم نادي ماسو فتوجه هذا الأخير ناحية العربي الذي كان من نصيبه وضربه ضربتين بكل ثقله فسقط العربي في المياه ووجهه إلى الأسفل وبقي هكذا لبضعة ثواني تتكسر فقاعات المياه حول رأسه. (كامو : 455) وهنا يبدو لنا نسقا ثقافيا يدل على تبعية العربي وخضوعه للفرنسي.
و من بين الشخصيات التي تناولها كامو في رواياته شخصية المرأة الجزائرية التي لم يعطها هي بدورها اسما إلا اسم العربية فكيف كانت نظرته لها ؟ ففي الحوار الذي دار بين ميرسو وصديقه ريمون نجده يقول تعرفت على سيدة وحتى أكون دقيقا إنها كانت عشيقتي (كامو : 43) وقدم ريمون أوصافا لهذه المرأة بأنها مخادعة. لاحظت أن في الأمر خديعة... بأنه في حقيبتها اليدوية ورق من أوراق اليانصيب وأنها لم تستطع أن توضح من أين حصلت على النقود لشرائها...لقد صار واضحا أن في الأمر خديعة ما جعلني أهجرها لكنني قبل ذلك ضربتها ثم قلت حقيقتها قلت لها :إنها عاهرة. (كامو : 44) فهنا يحاول كامو إظهار أخلاق المرأة الجزائرية التي تقبل الإهانة والضرب مقابل القليل من المال كنت أصفعها فقط، فكانت تبكي قليلا ثم أغلق النوافذ وأرفه عنها وينتهي الأمر كما جرت العادة. (كامو : 45) فهنا يحط من قدر المرأة الجزائرية عن طريق طمس أخلاقها والإلقاء بها في كفة الفسق والمجون، كان ريمون يريد معاقبة تلك المرأة وإذلالها لأن هذا سيشفي غليله منها فهي بالنسبة إليه امرأة يمكن خداعها ببعض الكلمات المؤثرة كان يريد أن يكتب لها رسالة مخادعة ومؤثرة ليجعلها تندم على فعلتها وعندما تعود إليه باكيه سيضاجعها، ثم يبصق في وجهها ويطردها شر طردة (كامو : 45).
كما يصفها بأنها كانت كسولة لا تعمل وتتذمر إذا لم يعطها ما يكفيها من المال. وحضرة السيدة لم تكن تعمل، لكنها كانت تقول لي أن ما أعطيها غير كاف. (كامو : 43) ففي نظره هي المرأة الطماعة الجشعة تحب التباهي على حساب غيرها. في حين نجد نظرته للمرأة الفرنسية مغايرة تماما لم وصف به المرأة الجزائرية فحينما يصف شخصية ماري – التي تُمثل المرأة الفرنسية العاملة إنها موظفة سابقة كانت تكتب بالآلة الكاتبة في مكتبي (كامو : 43).
و رغم العلاقة التي تربط ماري بميرسو خارج إطار الزواج إلا أنه يعلي من شأنها ويصفها بإسهاب.ورحنا نسبح معا. لم تتوقف على الضحك وهي على الرصيف. (كامو : 33) فمعظم وقته كان معها. سألتها ما إذا كانت تريد الذهاب إلى السينما في المساء (كامو : 33) وهنا يؤكد كامو على أن المرأة الفرنسية هي مرأة عاملة متحضرة تعتمد على نفسها دون اللجوء إلى غيرها. إلا أنه في موضع آخر يقدم لنا نموذجا لامرأة فرنسية تهجر زوجها بعد احتكاكها بالعرب وتتلخص هذه القصة في أن تهجر جانين، بطلة القصة، سرير زوجها خلال ليلة مؤرقة في فندق صغير في الريف الجزائري، كان زوجها في السابق طالب حقوق واعدا، لكنه أصبح بائعا متجولا، وصل الزوجان بعد رحلة بالحافلة طويلة ومتعبة إلى مقصدهما، حين يقوم الزوج بجولة على زبائنه العرب المختلفين. و كانت جانين خلال الرحلة قد تأثرت بالسلبية الصامتة التي يتصف بها الأصلانيون الجزائريون وباستحالة فهمهم لقد بدا حضورهم مثل حقيقة من حقائق الطبيعة لا تكاد جلية ولا تكاد تسترعي انتباهها في حالتها العاطفية المضطربة. وحين تترك جانين الفندق وزوجها النائم، تلتقي بالحارس الليلي، الذي يتحدث إليها باللغة العربية، وهي لغة بدا أنها لا تفهمها (كامو : 40) فعند احتكاك جانين بالأصلانين الجزائريين - الذين هم في نظر كامو يتصفون بالتخلف والجهل – تأثرت بهم وتولدت لديها الرغبة في الخيانة وكانت خيانتها لزوجها مع رجل عربي فالعربي تتحكم فيه غريزته الحيوانية والخيانة هي السبيل الوحيد لإرضاء رغبته الجنسية الشهوانية في نظر كامو.
بعد أن ارتكب ميرسو جريمة القتل، ألقي القبض عليه ووضع في زنزانة، كان معظم المساجين فيها من العرب فيوم أن قبضوا علي كانوا قد وضعوني في غرفة بها الكثير من الموقوفين أغلبهم من العرب وقد ضحكوا عندما رأوني بينهم، ثم سألوني عما فعلته فقلت : إنني قتلت واحدا من العرب فصمتوا لفترة (كامو : 84)
أراد كامو بوضعه لميرسو في زنزانة معظم الموقفين فيها هم من العرب، أن يظهر للقارئ بأن الجزائري هو مصدر المشاكل وارتكاب الجرائم، بينما الفرنسي هو شخصية متحضرة قلما ترتكب الجرائم والمشاكل. حتى وإن قامت بها يكون المتسبب فيها الأول والأخير هو عربي الأصل. إن الحالة التي كان يعيشها العرب داخل الزنزانة الواحدة تظهر جانب البؤس والشقاء والتقهقر في حين كان السجين الفرنسي –ميرسو- يحضى بالاهتمام وذلك بعزله عن بقية السجناء العرب عندما حل المساء شرحوا لي كيف أسوي الحصير الذي سأنام عليه، فعندما نطوي أحد أطرافه نستطيع أن نصنع ما يشبه الوسادة. و طوال الليل كان البق يسير فوق وجهي.بعد عدة أيام تم عزلي في زنزانة منفردة وصرت أنام على سرير منخفض من الخشب...ومن النافذة الصغيرة كنت أستطيع أن ألمح البحر (كامو : 84-85) كما يظهر التهميش والتغييب للذات الجزائرية من خلال محاكمة ميرسو الوهمية... على أن أوبريان يمضي أبعد من غالبية النقاد حين يلاحظ أن الاختيار ليس بريئا :فكثير من عناصر هذه القصص والروايات مثل محاكمة ميرسو في الغريب، يشكل تبريرا خفيا ولا شعوريا للسيطرة الفرنسية أو محاولة أيديولوجية لتجميلها. (إدوارد 2009 : 281)
إن اختيار كامو حسب أو بريان ليس بريئا فمحاكمة ميرسو والأجواء التي جرت فيها، تحمل في طياتها نسقا مضمرا وهو محاولة فرض السيطرة الفرنسية وذلك بإنشاء محكمة مزيفة تبدأ من اعتقال ميرسو وبدء التحقيق معه مباشرة، بعد إلقاء القبض علي استجوبت عدة مرات لكنها كانت استجوابات خاصة بتحقيق الشخصية لم تدم وقتا طويلا. ففي المرة الأولى في قسم الشرطة بدا وكأن قضيتي لا تهم أحدا... نظر إلي قاضي التحقيق في فضول. لكنه في البداية سألنني فقط عن اسمي ومهنتي وتاريخ ومكان ازديادي، ثم أراد أن يعرف إذا كنت قد اخترت محاميا، فقلت له : لم أفعل، ثم سألته عما إذا كان من الضروري أن أختار واحدا فسألني هو بدوره فقلت :لأنني أرى أن قضيتي سهلة وبسيطة فابتسم قائلا :هذا رأي. (كامو : 75) يرى ميرسو والقاضي بدوره أن قضية قتل العربي ليست بالقضية المهمة ويظهر ذلك عندما قال ميرسو : فقد بدالي الأمر كله تمثيلية... عند الخروج هممت بمصافحته لكنني تذكرت في نفس اللحظة أنني كنت قد قتلت رجلا (كامو : 76)
إن شعور ميرسو بالراحة وأن هذه التحقيقات هي مجرد تمثيل وهذا الشعور نابع عن عدم اهتمام القاضي بجريمة ميرسو نهض القاضي قائلا : إنه يريد أن يساعدني وإن أمري يعنيه، وإنه بعون الله سيفعل ما بوسعه من أجلي ولكنه يريد قبل ذلك أن يلقي علي مزيدا من الأسئلة. ثم سألني دون أية مقدمة إن كنت قد أحببت أمي فقلت : نعم مثل كل الناس (كامو : 79).
لقد اتجه مسار المحاكمة ليتغير موضوعها من قضية قتل العربي إلى ميرسو الذي لم يبك أمه عند دفنها جلس المحامي فوق السرير وشرح لي أنه قد جمعوا بعض المعلومات عن حياتي الخاصة، وأنهم يعرفون أن أمي قد ماتت حديثا في دار العجزة، وعليه فقد بحثوا أيضا في مرينغو، أين قيل لهم إنني كنت قليل التأثر يوم دفنوا أمي ثم أضاف لا بد أن تعرف أنني أشعر بالحرج عندما أخوض في شيء كهذا ولكن ذلك مهم جدا، ولسوف يكون ركنا هاما من أركان الاتهام (كامو : 76-77).يفهم من الكلام الذي وجهه المحامي إلى ميرسو أن مجرى القضية قد تغير فالمعلومات التي جمعت عنه كانت تدور حول وفاة والدة ميرسو والشهود الذين ستستدعيهم المحكمة من الذين حضروا في جنازة أمه أو من عرفها... إنهم على أية حال، سوف يستمعون إلى مدير عمال دار العجزة كشهود. و إن ذلك يسبب لي الكثير من المتاعب فأبديت له ملاحظة مفادها أن ذلك الأمر ليس له علاقة بقضيتي هذه. (كامو : 77-78) لقد استغرب ميرسو من استدعاء هؤلاء الشهود فليس لهم علاقة بقضيته وهنا يظهر عدم اهتمام القضاء الفرنسي بمقتل العربي فالمحامي لم يسأله قط عن قضية قتله للعربي بل حدثه مباشرة عن موت أمه فقط.
و بعد التحقيقات التي قامت بها الشرطة أتت لمحاكمة ميرسو والتي سادتها أجواء خاصة ليست كبقية المحاكمات الأخرى، فمن خلال ظروف المحاكمة وما تخللها من استهتار وعدم اهتمام بالجزائري المقتول من قبل ميرسو في محاكمة مضحكة يظهر أن البينة السردية للرواية تجعل الاستعمار مبررا. (حيولة، 2014 : 378) إن عدم اهتمام المحكمة ككل بقضية مقتل العربي تعطى مبررا أن للفرنسيين الحق في قتل العرب وحقا أكبر من ذلك وهو الإبقاء على استعمار الجزائر لقد أصبحت قضية ميرسو التي يحاكم عليها رسميا هي عدم تأثره بوفاة والدته، فكل الظروف التي سادت المحاكمة تؤكد ذلك.
كان كل الجالسين على أريكة الحافلة قد استداروا ناحية الرئيس... ثم قال :إنه سيبدأ في طرق بعض المواضيع التي قد تكون ظاهريا بعيدة عن قضيتي، ولكنها في حقيقة الأمر ذات صلة قوية بها فهمت أنه سوف يتحدث من جديد عن أمي، وأحسست في نفس الوقت بالكثير من الملل من جراء ذلك سألني، لماذا وضعت أمي في دار العجزة؟ فأجبت لأنني لم أكن أملك ما يكفي من المال للحفاظ عليها معي ولعلاجها. (كامو : 101) بعد الأسئلة التي طرحها الرئيس على ميرسو والتي كانت تبدو له بعيدة عن قضية قتل العربي تأكد أنها هي القضية التي سيحاكم عليها. بعد سؤال الرئيس، سأل النائب العام ميرسو عن قتله للعربي قال إنه يريد بعد إذن الرئيس أن يعرف ما إذا كنت قد عدت إلى المنبع وحيدا وما إذا كنت أنوي قتل العربي :لا قلت فقال : إذن، لماذا كان مسلحا ؟ ولماذا عاد إلى ذلك المكان بالتحديد؟ فقلت :كان بمحض الصدفة.فقال : سأكتفي الآن بهذا القدر (كامو : 101-102).
و ما يثبت بأن محاكمة ميرسو محاكمة هزلية وتمثيلية هو افتقادها لطرف مهم وأساسي وهو محامي المجني عليه –العربي المقتول –وهذا يدل على التهميش والإقصاء للآخر-العربي- فكامو بالرغم من أنه من دعاة العدالة والإنسانية إلا أن هذه الأفكار لم يجسدها في محاكمة ميرسو. وكان استدعاء الشهود غير المعنيين بقضية قتل العربي تأكيدا على أن القضية لن تكون كما ينبغي أن تكون.
فكان الشاهد الأول مدير دار العجزة والذي تكلم عن أحوال والدة ميرسو أثناء تواجدها في دار العجزة وهدوء ميرسو في يوم الدفن... سمعتهم يطلبون حضور مدير دار العجزة. سألوه عما إذا كانت أمي قد تعودت أن تشكو مني فقال نعم... فسأله الرئيس أن يوضح بدقة ما إذا كانت أمي تعاتبني على وضعها في الملجأ، فقال :نعم، وردا على سؤال آخر، قال إنه فوجئ بالهدوء والذي كنت عليه في يوم دفنها. (كامو : 102-103) لقد عبر المدير عما أدهشة أثناء الدفن هو أن أحد عمال الدفن قال له أنه لا يعرف سن أمه (كامو : 103) من الشهود أيضا نجد ماري صديقة ميرسو دخلت ماري... و أراد الرئيس أن يعرف نوع علاقتها بي، فقالت : إنها كانت صديقتي وعن سؤال آخر، أجابت : الحقيقة أنها كانت تريد أن تتزوجني. سألها بخشونة النائب العام وهو يتصفح أحد الملفات عن التاريخ فأشار النائب دون اهتمام إلى أن ذلك هو اليوم التالي لوفاة أمي، ثم أضاف في شيء من التهكم أنه لا يريد أن يطيل الحديث في موقف حساس ودقيق (كامو : 107).أراد النائب العام من سؤاله لماري أن يعرف إن كانت شخصيته سوية. وراح يقول ببطء ويشير ناحيتي يا حضرت المحلفين، في اليوم التالي لوفاة أمه يذهب هذا الرجل للاستحمام مع إحدى الفتيات ويبدأ معها علاقة غير شرعية، ثم يذهب للضحك أمام أحد الأفلام الكوميدية ليس لدي شيء آخر أقوله لكم. (كامو : 108).
وبعد أن أجابته ماري بما كان يريده، تأكد النائب العام بأن شخصية ميرسو غير سوية، فالشخصية السوية لا تقوم بما قام به ميرسو. وكان الشاهد الأخير في هذه القضية هو ريمون وهو الوحيد الذي له علاقة مباشرة بالقضية الأولى مقتل العربي- وكانت شهادته حول علاقته وكيف أنه قام بمساعدته ثم جاء دور ريمون وكان الشاهد الأخير... ثم طلب منه توضيح حقيقته بالمجني عليه... فسأله الرئيس عما إذا كانت هناك أسباب جعلت المجني عليه يكرهني فقال ريمون أن وجودي على الشاطئي كان بمحض الصدفة... وعندما صرح النائب العام للمحلفين أنه قد علم من مصادر عديدة مشهورة أن الشاهد يمارس مهنة وسيط نساء وأنني صديق له ومتواطئ معه وأننا أمام مأساة خسيسة... و مما يزيد من خساستها وانحطاطها أننا أمام مجرم وحشي الضمير... (كامو : 109-110) كانت كل شهادة يدلي بها يستخدمها النائب العام ليؤكد على أن ميرسو شخصيته لا ضمير لها وقال هاهو نفس الرجل الذي ارتكب كل أنواع الفسق المنحطة في اليوم التالي لوفاة أمه، يرتكب جريمة قتل الأسباب واهية لينهي بها قضية أخلاق منحطة (كامو : 110 ). لقد كانت ردة المحامي عنيفة عن الأسئلة التي كان يطرحها النائب العام على الشهود وأراد أن يرجع المحاكمة إلى مسارها الأول، ثم جلس، لكن المحامي الذي كان قد نفد صبره، راح يصيح وهو يرفع يديه حتى ظهرت أكمام قميصه وهو يقول ما هذا ؟ هل هو متهم بدفن أمه أم بقتل أحد الرجال ؟و لكن النائب العام وقف ثانية... وقال إن طيبة قلب الدفاع المحترم هي التي منعته من الإحساس بأن هناك علاقة مهمة وقوية ومؤثرة بين هاتين الحادثتين ثم صاح بقوة : نعم أنا أتهم هذا الرجل بأنه دفن أمه بقلب مجرم لقد بدا ذلك التصريح أنه ترك أثرا عميقا لدى الحاضرين (كامو : 110) وهذا وإن دل على شيء إنما يدل على محاكمة ميرسو الظلامية، وفي نهاية المحاكمة صدر الحكم عليه بالإعدام وكان سببه عدم بكائه أمه عند وفاتها وليس قضية العربي المقتول لأن الرئيس قال لي :عبارة غريبة مفادها أن رأسي سيقطع في أحد الميادين العامة باسم الشعب الفرنسي (كامو : 122) لقد استغرب ميرسو من الحكم الذي صدر في حقه، فهو ادخل السجن في قضية فوجد نفسه يحاكم في قضية أخرى، وهذا الحكم يدل حقيقة على أن محاكمة ميرسو هي محاكمة وهمية وظلامية.
3. العبثية في رواية الغريب
يظهر فكر كامو العبثي في رواية الغريب من خلال تجربة بطل الرواي- ميرسو- وهو شخصية أوربية تدور الأحداث حولها حيث من الواضح أن موقف ميرسو الذهني في أول الأمر عاجز عن معالجة أبسط حياة ممكنة، وجوهر العبث في قضيته هو أنه نتيجة لعدم اكتراثه انضم إلى العنف والموت لا إلى الحب والحياة. (كامو : 133) فمن خلال تصرفات ميرسو ومواقفه يتبين أن لامبالاته وعدم اهتمامه بالأشياء تجعل منه شخصية عنيفة مجردة من العواطف الإنسانية ويبرز ذلك في عدم اكتراثه بموت أمه اليوم ماتت أمي، لست أدري ! لقد توصلت بتلغراف من دار الشيخوخة كتب فيه :الأم توفيت، الدفن غدا.هذا لا معنى له ربما كان ذلك بالأمس. (كامو : 15) إن ردة فعل ميرسو عند تلقيه لخبر نعي والدته- والتي لا يعرف متى توفيت- خالية من العواطف والمشاعر التي يبديها الإنسان عند وفاة شخص قريب منه وفاة والدتي هو لا حدث بالنسبة له، وبعد الدفن ستصبح وفاتها أمرا مقضيا، وملفا تم طيه، وستعود الأمور إلى نصابها. (كامو : 19) يرى ميرسو بأن وفاة والدته ما هو إلا ملف سيتم طيه بعد دفنها وستعود الحياة إلى حالتها الأولى فلم الحزن عليها في نظره. تلعثم قليلا قبل أن يقول : لقد غطيناها لكن يجب أن أقلع مسامير التابوت لكي تراها، ما كاد يقترب من التابوت، حتى أوقفته فقال لي : ألا تريد؟ أجبت: لا توقف عما كان يريد فعله، فارتبكت لأنني شعرت بأنه لم يكن من اللائق أن أجيبه بهذا القول، نظر إلي الرجل لحظة ثم سألني دون أن يشعرني بأنه يعاتبني :لماذا؟... أجبته لست أدري (كامو : 16) إن عدم اكتراث ميرسو برؤية جثة والدته وإجابته للبواب بأنه لا يدري يجعلنا نتساءل لماذا جعل كامو بطل روايته لا يعرف أسباب لا مبالاته؟
والأمر الذي زاد البواب حيرة تصرف ميرسو أمام تابوت والدته أحسست برغبة في التدخين، ونظرا لكوني لا أدري ما إذا كان من اللائق أن أدخن أمام أمي، ترددت، لماذا فكرت في الأمر استنتجت أن الأمر ليس مهما إطلاقا. (كامو : 19) لم يدر ميرسو إذا كان التصرف الذي سيقوم به أمرا لائقا أمام تابوت أمه، ولكن تفكيره العبثي اللامبالي جعله يستنتج أن هذا مجرد تصرف عادي، وليس ثمة إلا عالم واحد وحياة واحدة، حياته كما عرفها- السباحة وشواطئ البحر والأمسيات- وهي حياة رائعة مشحونة في غنى عن الفداء والنوم والدموع، ولم البكاء في جنازة أمه؟ ولم الرثاء في موتها انه لا يختلف عن غيره من سوية البشر كلهم محكوم عليهم بالموت. (جيزمن بري : 132) يرى ميرسو بأن الحياة واحدة فهي رائعة لذلك لا يجب أن يقضيها الإنسان في الحزن والبكاء على الأموات ففي نهاية المطاف البشر على حد سواء محكوم عليهم بالموت وهذا ما يستنتج في تصرفاته بعد وفاة أمه وجدت صعوبة في النهوض لأني كنت متعبا من نهار الأمس، وأثناء حلق ذقني، تساءلت عما سأقوم به، فقررت الذهاب للاستحمام...ووجدت في الماء ماري كردونا... كنت أشتهيها في ذلك الوقت...ورحنا نسبح معا لم نتوقف عن الضحك وهي على الرصيف...سألتها ما إذا كانت تريد الذهاب إلى السينما في المساء. (كامو : 32-33) لقد عاد ميرسو إلى ممارسة أعماله في اليوم الثاني من وفاة أمه كأن شيئا لم يحدث وكأنه لم يفقد والدته بالأمس، فهل يمكن لأي شخص آخر أن تعود حياته لم كانت عليه بعد أن يفقد شخصا عزيزا عليه-مباشرة بعد وفاة هذا الشخص- فما بالك بوالدته فهنا تجسيد لفكر كامو العبثي.
بالإضافة إلى ذلك يتجسد الفكر العبثي في حياة ميرسو فمثلا الصداقة والزواج هي أمور لا أهمية لها في حياته لذلك كان يجيب بالموافقة لا لشيء سوى للموافقة قال لي :إنك ترى أنني لم أكن البادئ هو الذي أثارني فقلت له : إن ذلك صحيح آنذاك : رح لي أنه يريد مني نصيحة بخصوص هذه المسألة، وأنه بعد ذلك سيصير صديقا لي. لم أقل شيئا، فسألني مرة أخرى ما إذا كنت أريد أن أكون صديقا له فقلت إن الأمر سيان بالنسبة لي (كامو : 54) لم يكن تقبله لصداقة ريمون نابع عن قناعته بضرورة وجود أصدقاء في حياة الإنسان.
أما بالنسبة للزواج فالأمر مماثل أيضا في المساء جاءت ماري إلى المكتب لتصطحبني، وسألتني إن كنت أريد أن أتزوجها، فقلت إن ذلك سيان عندي، وإننا نستطيع أن نتزوج إذا كانت تريد ذلك ولكن أرادت أن تعرف إن كنت أحبها، فأجبتها بما كنت قد قلته من قبل، بأن ذلك لا يعني شيئا، لكنني أعتقد أنني لا أحبها، وسألتني : ولماذا تتزوجني إذن؟ فقلت لأن ذلك ليس له أية أهمية، وإنها إن كانت ترغب في الزواج، فأنا مستعد...فأكتفي بالقول نعم (كامو : 55)
لقد كان ميرسو لا يؤمن بوجود الله لذلك كان يرفض زيارة القس ولكنه رفع رأسه فجأة، ونظر لوجهي قائلا : لماذا رفضت زيارتي إليك؟ فقلت : لأنني لا أومن بوجود الله، فأراد أن يعرف ما إذا كنت متأكدا من ذلك السؤال، فذلك في رأي أمر لا أهمية له... قد نعتقد في بعض الأحيان أننا متأكدون، ولكننا في واقع الأمر نكون غير ذلك، فلم أقل شيئا، ثم نظر إلي وسألني : ماذا تقول؟ فقلت إن ذلك ممكن، وعلى كل حال فإنني ربما لم أكن واثقا مما يهمني حقيقة.(كامو : 131) لقد كان القس يحاول إقناع ميرسو بحقيقة وجود إله إلا أن ميرسو كان واثقا كل الثقة بأن الحقيقة التي يؤمن بها هي التي تهمه وأن الحقيقة التي يحاول القس إقناعه بها غير مهمة. إنه لم يكن واثقا حتى من كونه على قيد الحياة، لأنه كان يحي كالميت، أما أنا فكنت أبدو خال الوفاض، ولكنني كنت واثقا من نفسي، واثقا من كل شيء كنت أكثر منه ثقة، كنت واثقا من حياتي ومن الموت الذي أنتظره، نعم، لم يكن لدي غير ذلك، ولكنني على الأقل كنت قابضا على تلك الحقيقة بنفس المقدار الذي تقبض به علي. (كامو : 136) إن حياة القس في نظر ميرسو تشبه حياة الموت فهو غير متأكد من أنه حي بالرغم من أنه يحمل حقيقة وجود الله، أما هو -ميرسو- يقبض على حقيقة يثق بها-الموت والحياة- وإن بدا أنه لا يؤمن بأية حقيقة فمأزق ميرسو أكثر جذرية من مأزق الآخرين لأنه، حتى ولو فرضنا أن هذه المحكمة المزيفة تستمر في الوجود، فإن ميرسو نفسه يفهم أن كل شيء قد انتهى، إنه الانفراج أخيرا في التحدي (إدوارد 2009 : 288) لقد توصل ميرسو إلى قناعة بأن كل شيء قد انتهي وأن الحقيقة التي كان يؤمن بها ستظهر أخيرا في التحدي إنني كنت على حق، ولازلت على حق.لقد عشت بطريقة ما، وكان من الممكن أن أعيش بطريقة أخرى. لقد فعلت هذا، وكان من الممكن أن أفعل ذلك، ثم ماذا؟ إن ذلك يشبه ما كنت قد انتظرته طوال الزمان، لتبرير ما اقترفت. ولكن لاشيء، لاشيء على الإطلاق يستحق تلك الأهمية... ما الذي يهمني في موت الآخرين؟ ما الذي يهمني في حب الأم؟ ما الذي يهمني في ربه؟ ما الذي يهمني في الحياة التي نختارها، طالما أن هناك قدرا واحدا هو الذي اختارني لقد تقبل ميرسو نفسه كما هو.
فجريمته وكشفه كلا هما واحد، لقد هدم، فهو يهدم وهذا الهدم لا تفسير له ولا عذر ولا تعويض فالساعات المبرحة التي قضاها في تعذيب نفسه قد انتهت وما عاد يخطط إلى ما لانهاية طريقة لهربه لسوف يذهب إلى موته سعيدا متحديا جلي الذهن (كامو : 132) ففي النهاية خلص ميرسو نفسه من الأفكار التي كانت تعذبه وهي كيف سيتخلص من الحكم الذي أصدر في حقه، وسيذهب إلى موته سعيدا خالي الذهن أحسست أنني مستعدا أن أبدأ الحياة من جديد، وكأن تلك الغضبة الكبرى قد خلصتني من الشر وأفرغتني من الأمل... أحسست للمرة الأولى بعذوبة اللامبالاة، وأحسست أنني كنت سعيدا في يوم من الأيام ولا زلت حتى الآن، وحتى ينتهي كل شيء وحتى أشعر بأنني في وحدة أقل، لم يبق لي سوى أن أتمنى أن يكون عدد المتفرجين كثيرا يوم تنفيذ الحكم علي بالإعدام، وأن يستقبلوني بصرخات الكراهية (كامو : 138)
إن مايهمنا من دراسة الفكر العبثي في رواية الغريب هو اتخاذ كامو لبطل روايته ميرسو على أنه الإنسان الضائع لم يعد لسلوكي معنى ولا لأفكاره مضمون، فهو الذي سيخلص المجتمع الفرنسي من العنصر العربي المثير للمشاكل دون أن يحاسب. ومنه فميرسو الذي قتل عربيا وأحضِر للمحاكمة من أجل ذلك تحولت محاكمته من جريمة قتل العربي إلى محاكمة لعدم حزنه على والدته وهذا الأمر شديد الأهمية حيث يعتبر نسقا فكريا يوضح أن ميرسو الشاب الأوربي قد اقترف جرما كبيرا ليس لأنه قتل العربي بل لأنه لم يبد حزنا حين وفاة والدته، وهنا يريد كامو أن يوضح بأن العربي حينما قتله ميرسو لا يعني هذا شيئا بالنسبة للأنا-الفرنسي- وإنما فعل ذلك لكي يخلص نفسه من تبعية الآخر-العربي- فالخطأ الوحيد الذي ارتكبه في نظره ومن خلال المحاكمة الوهمية هو أنه لم يبك والدته وفقط.
خاتمة
الرواية أحد أكثر الأجناس استيعابا لمشاكل المجتمع واهتماماته فمن خلالها يحاول الكاتب أن يرسم ويصنع العوالم التي يشاء وفق ما يشاء، لذلك نجد رواية الغريب لألبير كامو التي تحمل في طياتها نظرة الكاتب للجزائريين باعتبارهم الآخر كذات مهمشة في مقابل نظرته للفرنسيين باعتبارهم الأنا كذات متفوقة ومتحضرة وقد توصلت إلى جملة من النتائج التي يمكن حصر أهمها :
تأثر ألبير كامو بحياة البؤس والشقاء التي يعيشها مع الجزائريين واضحة وذلك لكونه نشأ في الجزائر.
ألبير يعد من الكتاب الذين ساهموا في تكريس الاستعمار في كتاباتهم الروائية، فلم يكن اختيار كامو للمدن الجزائرية كأماكن وقعت فيها أحداث الرواية بريئا بل كان يحمل لاشعورا كولونياليا، فهو يريد بذلك أن يجعل منها مدنا فرنسية بحتة، فهو يرى بأن الجزائر عمها الرخاء بعدما أصبحت جزءا من الامبراطورية الفرنسية
اعتمد كامو على مبدأ العنصرية وذلك من خلال التمييز والتباين بين الشخصيات الجزائرية والفرنسية على الرغم من أنهم يعيشون في مجتمع واحد فنظرة كامو للعربي الجزائري نظرة ظالمة يشوبها الغموض وفيها الكثير من الإجحاف والتعسف فالعربي يظهر بدون تاريخ ولا اسم، في حين كانت نظرته للفرنسي مختلفة تماما فالفرنسي هو شخص متحضر واع.
على الرغم من أن كامو كان من الداعين إلى التشبث بمبادئ العدالة إلا أنه لم يكن موضوعيا في تناوله للآخر الجزائري فقد انحاز إلى طرف على حساب آخر.
حمّل كامو الفيلسوف العبثي شخصيات روايته العبثية ليعطي مبررا مضمرا للأفعال التي تقوم بها هذه الشخصية فهب لها الحق في ارتكاب الجريمة في حق العربي دون أن تحاسب على ذلك.
تبقى كتابات ألبير كامو تحمل في طياتها لا شعورا كولونياليا وأنه كان يعتقد بمشروعية بقاء الجزائر فرنسية إلا أن أعماله تستحق الوقوف عندها والتمتع بقراءتها ودراستها.