المقدمة
قليلةٌ هي الكتابات الإبداعية التي تخرج عن واقعها وتتجاوز قضاياه، انطلاقاً من المسلّمة الراسخة التي تفيد بأنّ « المبدع ابن بيئته ». وبناءً على ذلك، تدفقت معظم الإبداعات المسرحية العربية في اتجاه التعبير عمّا يعيشه الإنسان العربي من همومٍ ومآسٍ، خاصة حين يكون ذلك مرتبطًا بمظاهر القمع، والغطرسة، والعنف، والاحتلال، سواء أكان هذا الاحتلال داخليًا أم خارجيًا.
فمن المطالبة بالحرية والسلام، إلى التوترات التي تعيشها الذات العربية، وُلدت أشكال متنوعة من المعاناة، وتكاثرت الأعمال المسرحية التي جسدتها. وفي هذا السياق، تندرج مسرحية « وشم الغياب » للكاتب والناقد المسرحي المصري إبراهيم الحسيني، التي نراها توثّق بجدارة لمثل هذه القضايا، وتقدم بشكل لافت تيمة الاغتراب، وهي التيمة التي ترددت أصداؤها في أكثر من عمل سابق له، بصورٍ وتلوينات مختلفة.
من هنا، يتمحور عملنا في هذه الدراسة النقدية حول تتبّع هذه التيمة (الاغتراب) داخل العمل المسرحي، وتحليل تمظهراتها، ومساءلة السياقات التي نشأت فيها، وذلك عبر طرح الإشكاليات التالية :
-
ما هو مفهوم الاغتراب؟ وما هي أسبابه ودوافعه؟
-
ما هي محمولات مسرحية « وشم الغياب »؟ وما هي تجليات الاغتراب داخلها؟
-
بما أننا نغوص في عالم التيمة، هل تبرز من خلالها تيمات جزئية موازية تدعم الفكرة المركزية وتوسع من آفاقها؟
وقبل الشروع في التحليل النصي، نرى من الضروري الوقوف عند بعض المصطلحات المحورية التي تشكّل العمود الفقري لهذه القراءة النقدية، وأوّلها مصطلحا : « التيمة » و**« الاغتراب »**.
1. الإطار المفاهيمي والنظري
1.1. التيمة
عرف مفهوم التيمة تباينًا واسعًا في الدلالات، إذ تداخلت فيه مسارات معرفية متعددة التخصصات. وبما أن الغرض هنا ليس استعراض كل هذه الدلالات، نركز فقط على ما يخدم الإطار المفاهيمي للدراسة.
بحسب معجم الأسلوبيات :
« في النقد الأدبي، تعد التيمة أو المحور (Thème) « غاية » العمل الأدبي، وفكرته الأساسية التي نستنبطها... »(وايلز، 2014، ص 673)
ومن زاوية المسرح، يعرّفها المعجم المسرحي كما يلي :
« كلمة Théme مأخوذة من اليونانية Théma التي تعني ما يُعرض وما يمكن أن يكون موضوع بحث. في اللغة العربية يمكن أن تترجم التيمة بكلمة « الموضوع »، لكن هذه الترجمة غير دقيقة، ولذلك تستعمل الكلمة بلفظها الأجنبي في الخطاب النقدي. والتيمة مفهوم يتعلق بالآداب والفنون بشكل عام، وقد عرف المصطلح تطورًا في المعنى، وصار يدل على الفكرة الجوهرية المجردة، التي تتجسد بشكل ما في العمل الفني أو الأدبي... »(قصاب، 1997، ص 153)
يتّضح من خلال ذلك أن التيمة تُحيل إلى مجموعة مترادفة من المفاهيم كالموضوع، الفكرة، المحور، النواة الدلالية، وغيرها. وقد اصطلح عليها الكثير من الدارسين باسم « الموضوع » أو « الموضوعاتية » (Thématique) نسبة إلى أصلها الفرنسي. يؤكد الناقد المغربي جميل حمداوي هذا الطرح بقوله :
« يشتق مصطلح « الموضوعاتي » (thématique) في الحقل المعجمي الفرنسي من كلمة (thème)، وهي « التيمة ». وترد هذه الكلمة بعدة معان مترادفة كالموضوع، الغرض، المحور، الفكرة الأساسية، العنوان، الحافز، البؤرة، المركز، النواة الدلالية... إلخ.
ويقابل كلمة (thème) عند اللسانيين الوظيفيين الجدد مصطلح « التعليق » (Rhéme)؛ لأن التعليق عبارة عن موضوعات جديدة أو أخبار تسند إلى المسند إليه، أو تضاف إلى الفكرة المحورية. وقد استعمل المصطلح « الموضوعاتي » أو « التيمي » بشكل انطباعي من قبل جان بول ويبر (Jean Paul Weber)، حين أطلقه على الصورة المتكررة والمهيمنة في عمل أدبي لدى كاتب معيّن »(حمداوي، المقاربة الموضوعاتية في النقد الأدبي)
وعليه، لا ينحصر حضور التيمة في عملٍ واحد فقط، بل قد تشمل مجموعة من الأعمال التي تتقاطع في فكر أو رؤية معيّنة، ويُعاد رصدها وفق تواترها وتكرارها.
ويُضيف الناقد يوسف وغليسي توضيحًا دلاليًا للمصطلح في قوله :
« تعني الكلمة في قاموس « لاروس الصغير » المادة (Matière) حينا، والموضوع (Sujet) حينا آخر، كما تعني اصطلاحًا « الموضوع الأثير » (sujet privilégié) لدى فنان أو كاتب أو في عصر ما.
وتُستعمل أيضًا في الاصطلاح الموسيقي بمعنى القطعة الميلودرامية أو الإيقاعية التي يُبنى عليها العمل الموسيقي »(وغليسي، 2002، ص 169)
بناءً على ما سبق، يمكن القول إن التيمة تمثل فكرة محورية يُكرّسها المبدع في عمله، باعتبارها معادلاً موضوعيًا لمجموعة من المشاعر والانشغالات الذاتية والوجودية.
وعند الانتقال من المفردة إلى المنهج، يبرز ما يُعرف بـ النقد التيماتي، وهو المنهج الذي يتخصص في دراسة واستخراج وتحليل التيمات داخل النصوص الإبداعية. يوضح حمداوي معالم هذا المنهج قائلاً :
« يهدف النقد الموضوعاتي إلى استقراء التيمات الأساسية الواعية واللاواعية للنصوص الإبداعية المتميزة، وتحديد محاورها الدلالية المتكررة والمتواترة، واستخلاص بنياتها العنوانية المدارية تفكيكًا وتشريحًا وتحليلًا، عبر عمليات التجميع المعجمي والإحصاء الدلالي لكل القيم والسمات المعنوية المهيمنة التي تتحكم في البنى المضمونية للنصوص »
(حمداوي، المرجع نفسه)
أما فيما يخص نشأة هذا المنهج، فتُجمع العديد من الدراسات على ظهوره في فرنسا خلال ستينيات القرن العشرين، مستندًا إلى خلفيات فلسفية أبرزها الفلسفة الظواهرية، وأفكار الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (Gaston Bachelard). ومن أبرز رواده نذكر :
-
جان بول ويبر (Jean Paul Weber)
-
جان بيار ريشار (Jean-Pierre Richard)
-
جورج بوليه (Georges Poulet)
-
جان روسيه (Jean Rousset)
-
جان ستاروبنسكي (Jean Starobinski)
(وغليسي، 2007، ص 147-148)
أما على مستوى الأدوات الإجرائية، فالنقد التيماتي يتّسم بتعدّد المناهج والتقنيات، إذ يستعير أدوات من البنيوية، والسيميائية، والتحليل الإحصائي، فضلاً عن التصنيف والمقاربة النوعية.
وقد لقي هذا التوجّه النقدي رواجًا واسعًا في الأوساط الثقافية العربية والغربية على حد سواء، مما أفرز إنتاجًا نظريًا وتطبيقيًا متنوعًا وخصبًا في مجال الدراسات الأدبية والنقدية.
2.1. الاغتراب
يحمل مصطلح الاغتراب (Alienation) دلالات متعددة ومتباينة، تختلف باختلاف السياقات الثقافية والفكرية. في الثقافة الغربية، يحيل هذا المفهوم إلى معانٍ تتراوح بين القانوني، والنفسي، والاجتماعي.
بحسب ما ورد في أحد المعاجم :
« يدل على معانٍ كثيرة ومختلفة، أبرزها :
تحويل ملكية شيء إلى آخر (Transmission à autrui d’un bien ou d’un droit)
فقدان أو ضياع حق طبيعي (Abandon ou perte d’un droit naturel)
اختلال ذهني (Trouble mental)
ابتعاد (Éloignement) »(أمغضشو، 2015، ص 9-10)
في اللغة الإنجليزية، يُستعمل المصطلح alien للدلالة على “الغريب” أو “الآخر”، سواء بصفته وافدًا أجنبيًّا إلى الوطن أو ككيانٍ من عالمٍ آخر. وفي بعض السياقات، يُستخدم أيضًا للإشارة إلى الاضطراب العقلي (mental illness) (أمغضشو، 2015، ص. 10).أما في التراث العربي، فيقدّم لسان العرب معانٍ دقيقة وثرية لمفهوم الغربة والاغتراب، منها :
« الغَربُ : الذهاب والتنحي عن الناس. وقد غَرَبَ عنا يغربُ غَرْباً، وغَرَّبَ، وأغرَبَ، وغَرَّبَه، وأغرَبَه، أي نحّاه. (...) والتغريب هو النفي عن البلد، والتغرب : البعد (...)، والاغتراب : افتعال من الغربة »(ابن منظور، لسان العرب، ج 36، ص 3225-3226)
يتّضح من هذه التعريفات أن البُعد الجغرافي أو النفسي يشكّل جوهر مفهوم الاغتراب. ومع ذلك، تُظهر المقارنة بين المفهومين العربي والغربي فروقاً دقيقة : فالغربة في السياق العربي تُفهم عادةً على أنها حالة مفروضة نتيجة لظروف قاهرة، في حين أن الاغتراب قد ينطوي على خيار طوعي، كما يظهر في بعض الأحاديث النبوية التي تفضل التباعد في الزواج أو التغريب كعقوبة اجتماعية.
وفي هذا السياق، يقول شديفات :
« الغربة هي البعد والتنحي عن الناس لأسباب قاهرة، بينما الاغتراب هو افتعال الغربة، والخروج على القيم والأعراف والتقاليد. كذلك فهو عجز عن التأثير في المجتمع، ويقع الاغتراب بإرادة الإنسان واختياره طوعاً لا كرهاً. ولكن هناك أسباب متعددة للاغتراب، فرضتها ظروف قسرية أدت إلى الغربة عن المجتمع »(شديفات، 2006، ص 10)
ويضيف في موضع آخر :
« الاغتراب هو اختيار ... دون إكراه، إما لعدم الانسجام أو لتميز الذات إبداعياً، وهو بذلك اغتراب طوعي »(شديفات، ص 12)
لكن، وبغض النظر عن الأسباب، فإن آثار الاغتراب—سواء كان مفروضًا أو طوعيًا—غالبًا ما تكون قاسية على الإنسان، خاصةً من الناحية النفسية. فعدد كبير من الأفراد يحيون داخل أوطانهم وهم يعانون اغترابًا نفسيًا لا يقل مرارة عن الاغتراب المكاني.
وقد تناوَل عدد من المفكرين والفلاسفة هذا المفهوم من زوايا متباينة :
-
بالنسبة إلى هيجل (Hegel)، فالاغتراب هو :
« حالة العجز التي يعانيها الإنسان عندما يفقد السيطرة على مخلوقاته ومنتجاته وممتلكاته، فتُوظَّف لصالح غيره بدل أن تكون أدوات لتحقيق ذاته ومصالحه. بهذا، يفقد الإنسان القدرة على تقرير مصيره »(بركات، 2006، ص 37-38)
-
أما لودفيغ فيورباخ (Feuerbach)، فقد ركّز على الاغتراب الديني، حيث رأى أن الإنسان يسقط جوهره الإنساني في صورة إله خارجي، ما يؤدي إلى نوع من الفصام الروحي【بركات، ص 38】.
-
من جهته، تحدّث كارل ماركس (Karl Marx) عن اغتراب العمال في النظام الرأسمالي قائلاً :
« العامل يهبط إلى مستوى السلعة، ويصبح أكثر السلع تعاسة. تزداد تعاسته بازدياد قوة الإنتاج، في حين تتدنى قيمة الإنسان »(بركات، ص 39)
وقد حدّد ماركس أربعة أوجه للاغتراب :
-
اغتراب العامل عن منتَجه.
-
اغترابه عن عمله.
-
اغترابه عن الطبيعة.
-
اغترابه عن ذاته.
-
أما عند ماكس فيبر (Max Weber)، فالاغتراب لم يعد ظاهرة جزئية بل أصبح يشمل جميع شرائح المجتمع :
« الجندي لا يتحكم في وسائل العنف، والباحث لا يملك أدوات بحثه، والمواطن لا يملك وسائل التأثير على السلطة التي انتخبها. الجميع واقعون تحت سلطة لا يسيطرون عليها »(بركات، ص 42)
-
وبالنسبة إلى إميل دوركايم (Émile Durkheim)، فالاغتراب ينبع من اختلال المعايير، أو ما يُعرف بـ الأنومي (Anomie) :
« تآكل القيم، شيوع الفردانية، غياب العدالة، وظهور الفروقات الاجتماعية الواسعة كلّها عوامل أدّت إلى عزلة الفرد وتفسخ المجتمع »
(بركات، ص 43-44)
-
أما الفكر الوجودي، فقد رأى في الاغتراب تجسيدًا لحالة الإنسان الحديث القلِق، اللا منتمي، الباحث عن معنى في عالم يفتقر للمعنى(بركات، ص 46)
-
وأخيرًا، من المنظور النفسي، فسّر فرويد (Freud) الاغتراب بوصفه حالة ناتجة عن الكبت والتناقض بين الرغبات الغريزية ومتطلبات المجتمع :
« الإنسان كائن قلق، مكبوت، مدفوع بدوافع لا يدركها، ومطارد بالشعور بالذنب، مما يؤدي إلى حالة من الاغتراب النفسي العميق »(بركات، ص 49)
من خلال هذا العرض، نلاحظ أن الاغتراب ليس مصطلحًا جامدًا بل هو مفهوم متشعب، يشمل أبعادًا سياسية، اقتصادية، اجتماعية، دينية، وثقافية. وغالبًا ما يكون ناتجًا عن الظلم، القهر، السلطة الفاسدة، انعدام الحرية، والحرمان من التأثير والكرامة.
وتكمن خطورة هذا الشعور في آثاره النفسية والوجودية؛ فحين يتمرد الفرد المغترب على وضعه قد يقود ذلك إلى التغيير والثورة، لكن حين يستسلم له قد يؤدي إلى الانهيار والصمت والموت الرمزي.
2. الاغتراب في مسرحية « وشم الغياب » : المظاهر والمجسدات
1.2. البنية العامة للمسرحية : تقديم، حبكة، وبنية فنية
1.1.2. تقديم المسرحية وملخص الحبكة
تندمج في مسرحية « وشم الغياب » للكاتب إبراهيم الحسيني، المنتمية إلى فنّ المونودراما، عناصر العرض والتسلسل الدرامي في إطار واحد موحّد : تؤدي الممثلة عزّة حمدي دور « فاطمة »، الأمّ التي تخوض رحلة البحث عن ابنها المختفي يوسف في ظلّ نظام قمعيّ يشتّت العائلة ويكمم صوتها. تعتمد المسرحية على قدرة الممثلة على تجسيد أزمنة وشخصيات مختلفة عبر الحوار مع الغائب، والرموز البصرية (الجداريات والرسوم الغرافيتية التي ترسمها فاطمة على الجدران للتعبير عن وجعها)، والإضاءة والمؤثرات السمعية التي صاغها محمد نصر لتضخيم الشعور بالوحدة والاضطهاد.
في هذا السياق، يتحوّل الصمت المؤلم لابنها الآخر يحيى إلى رمز لانسداد الآمال، بينما تتصاعد وتيرة المشاهد الحركية التي صممها محمد صالح لتجسيد لحظات الملاحقة والتعذيب ورمي فاطمة في القمامة، فتتداخل على خشبة المسرح لحظات الأمل واليأس في لوحة واحدة.
تطرح المسرحية تساؤلات جوهرية حول الحقّ في الذاكرة والوجود : كيف يمكن للإنسان أن يناضل من أجل معرفة مصير غائب وهو محاصر بصمت الآخرين؟ وما دور الفنّ (الجداريات والغرافيتي) كأداة مقاومة وتأريخ شخصي؟ يبرز هنا التوازن الدقيق بين الصياغة الحركية والإخراج السينوغرافي لإبراهيم فهمي وبين الكلمة الوحيدة التي تخترق صمت القمع، ما يجعل « وشم الغياب » أكثر من عرض أحادي للممثل، بل تجربة حسّية تدمج الجسد والكلمة والصورة في تلاقي يؤكد على أن الغياب ذاته يمكن أن يكون شاهداً مفعماً بالحياة والرفض.
2.1.2الخصائص الشكلية والفنية
في « وشم الغياب » تتحوّل قيود المونودراما إلى منطلق لإبداع فني عامر بالتفاصيل الدقيقة. تُبنى اللقطات الدرامية على مقاطع قصيرة متتابعة، يقطعها فجواتٌ صوتية وصورية ترسخ حالة الترقب لدى المتلقي. الإضاءة الدرامية لا تقتصر على الظهور أو الاختفاء؛ بل تنسج حالات نفسية متبدّلة انسجاماً مع نبرة فاطمة : أشعةٌ باردة تعكس الخوف والعزلة، ثم وهجٌ أحمر يشير إلى لحظة الاحتكاك مع السلطة والعنف.
على الصعيد السمعي، تكتسب الأنين المكتوم وصرير الأبواب وهدير دوريات الأمن دلالةً مضاعفة؛ فهي تُحيط بنسيج المونودراما من الخارج، فتُضفي بُعداً سمعياً يعزز وهم الحضور الجماعي والقمع المركب، من دون أن يخالجه شعور بالابتعاد عن جوهر العرض. لقطات الكاميرا المباشرة وعرضها على الشاشة يكرسان فكرة الرقابة الدائمة : تتحول الشاشة إلى شاهدٍ ثانٍ يطلّ كلما أرادت فاطمة الكشف عن حقها أو الإعلان عن ألمها.
تتجلّى الرمزية في قلب العمل : الجداريات التي ترسمها فاطمة ليست ديكوراً جامداً، بل ذاكرةً حية تحفر جذور الجرح والانتماء؛ والوردة الذابلة التي تنمو على خشبة المسرح، رغم هشاشتها، تُمثّل بصيص أمل وسط الخراب؛ وكاميرات المراقبة المعلقة تذكّرنا بصرامة القمع ورغبته في تحجيم السرد الإنساني.
بفضل هذا التمازج بين نصٍ أحادي وأداءٍ حركيٍّ متجدد، ورسوماتٍ حيّة، وأضواءٍ متغيّرة، وأصواتٍ غائرة، تتحوّل « وشم الغياب » إلى تجربة حسّية متكاملة. يختزل العرض جوهر المشاعر الإنسانية، فيحول الألم والعزلة والاغتراب إلى طاقة جمالية تلامس وجد المشاهد بعمق.
2.2 تحليل تيمة الاغتراب
تأتي مسرحية « وشم الغياب » في سياق درامي متمايز يستند إلى فنّ المونودراما، حيث يتحوّل جسد الممثلة إلى محور تجمع فيه الطاقات التعبيرية كافة. ومن خلال الاستعانة بعناصر بصرية وصوتية ورمزية، يطرح العرض قراءة نقدية للشكل التقليدي للمسرح الجماعي، ليبرز كيف يمكن لصوتٍ واحدٍ وجسدٍ وحيدٍ أن يستحضر مساحات بشرية واجتماعية شاسعة. يهدف هذا التحليل إلى تفكيك آليات اشتغال الأداء المرتكز على شخصية فاطمة ومحاور الاغتراب المتعدّدة لدى بقية الشخصيات، مع إبراز البنية الفنية التي تسمح بتحويل القيد إلى قوة إبداعية تسهم في كشف القهر والذروة المقاومة على الخشبة.
1. فاطمة : تجسيد الاغتراب الشامل ودراما المقاومة :
تتجلى في شخصية فاطمة ذروة التوتر بين الوجود والغياب، حيث يصبح الجسد المسكون بالألم مسرحًا للصراع بين رغبة الحياة وقسوة القمع. يغدو فقدان ابنها يوسف أكثر من اختفاء جسدي؛ إنه انقطاع عن الذات والذاكرة الجماعية، تتقاطع فيه عناصر الاغتراب الشخصي (الافتقاد والفقد) مع الاغتراب الاجتماعي (قمع المطالب وتكميم الصوت). فاطمة، بصراخها المتكرر “أين يوسف؟”، لا تستنهض وعي النظام وحسب، بل تعلن عن حقها في الوجود السردي والمساحي على الخشبة. الرسم بأسنانها، بعد سلبها أدوات التعبير التقليدية، يشي بفعل مقاوم يستوحي من نظرية البربرية (Haraway) حيث يُفرض على الجسد أن يكون حاملًا للخطاب حين تعجز اللغة المنطوقة.
“اتركوا يدي فهي وسيلتي في التعبير… لا تكسروها…” (الحسيني، 2013)
هذا النداء ليس تحريرًا صوتيًا فحسب، بل استنطاقٌ لعلاقة السلطة بالجسد واللغة، وهو ما يؤسسه الجمال في الفعل المقاوم، إذ يحول الألم إلى مصدر قوة درامية وجمالية في آنٍ واحد.
2. يوسف : الغائب الحاضر ومفارقة المقاومة
تمثل شخصية يوسف إشكالية الاغتراب الإيجابي، حيث يتحول الغياب إلى سمة حضور مستمر عبر الخطابات الثورية والرموز المنقوشة على الجدران. استخدام الحجارة والمنشورات أساليب مقاومة متأتية من تقاليد الفعل الجمعي، لكنها هنا تُستند إلى فضاء الذكرى الصوتية والمكانية في غيابه. إن “الثائر الحاضر رغم الغياب” لا يكتفي بالمقاومة الفعلية ضد القمع، بل يستمر باعتباره فكرة تحررية وبمثابة صرخة تُزلزل أركان السلطة ومؤسساتها.
“كان الثائر الحاضر رغم الغياب، كان صرخة تهد أركان الحراس والقادة…” (الحسيني، 2013)
هذا الوصف يشير إلى تداخل البعد الأسطوري بالبعد الاجتماعي في بناء الشخصية، حيث يغدو الصمت المبنيولوجي قادراً على هزّ معاقل القهر أكثر من أي حضور جسدي.
3. يحيى : وجه الخوف والصمت المقيّد
تقدم شخصية يحيى نموذجًا للاغتراب السلبي المستحكم، الذي يختزل القسوة السياسية في البنى النفسية. إن الكوفية التي تكتنف وجهه رمز للدونية والعار، وفي تمني التحول إلى جماد تتجسد الرغبة في الهروب من ثقل الذاكرة والعنف. يحيى، العائد من الاعتقال “مكسورًا”، يمثل الجانب المظلٍّ لكل فعل مقاوم؛ إذ إن الصمت هنا ليس خيارًا بل سجْنٌ لا يقدر على النزوع إلى الفعل.
“الخجل يعتصرني ويحولني إلى فراغ…” (الحسيني، 2013)
هذا التصريح يلخص حالة “الاغتراب الداخلي” التي تعرّفها الدراسات النفسية السياسية كنزوع نحو العدم عندما ينهار الأفق الأيديولوجي والشخصي في آنٍ واحد.
4. ثنائية المُستقبِل والأمل : ياسمين ويارا
تنبع أهمية ثنائية ياسمين ويارا من كونهما يعكسان الوجهين المتكاملين لتجربة الاغتراب : الأولى تستقبل الصدمة بصمت متهدّم، والثانية تنثر بذور الأمل والحلم وسط الخراب. من هذا المنطلق، يسهم كلّ من هاتين الشخصيتين في رسم خارطة نفسية واجتماعية لأبطال المونودراما، فتكون ياسمين مرآة انعكاس الخوف، بينما تتجسد يارا كنافذة تطلّ على المستقبل الحرّ.
-
ياسمين : تتجسد كمتلقٍّ سلبي للصدمات، معاناة رهاب المجتمع الذي يُقيّد قدرة المرأة على المطالبة بالحقوق. هي الحضور الخافت الذي يكشف عن ديناميكية المشاركة الغائبة في فضاء المونودراما.
-
يارا : تحتل مكانة الأمل والرغبة في التحرر؛ فارتباطها بيوسف يؤسس لحالة “الحلم الحي” في قلب الدمار. تُمثّل يارا الإمكانية المستقبلية للفكاك من حلقة القمع، وهي بذلك توازن بين ثنائية الغياب والحضور كقوة جاذبة للقصة.
تؤكد « وشم الغياب » من خلال أداء أحادي التمثيل وقدرة الوسائط التعبيرية المتعددة على الخشبة، أن قوة المسرح لا تكمن في التعدد العددي للأجساد فحسب، بل في المزيج المتناغم بين الكلمة والصورة والجسد والصوت. يقدّم النص دراما شاملة تعكس أبعاد الاغتراب المتفاوتة؛ من الصرخة الحارقة لفاطمة إلى صمت يحيى المحاصر، مرورًا بحضور يوسف الأسطوري وأمل يارا الحيّ. بهذا، يُصبح العرض سيمفونية إنسانية تلامس وجدان المتلقي وتعيد طرح سؤال الوجود والمقاومة في زمن يغلب عليه الصمت والقمع.
3.2. الاغتراب والبنية السياسية والاجتماعية
لا يمكن إدراك دلالات الاغتراب في « وشم الغياب » بمعزل عن الإطار السياسي والاجتماعي الذي يشكّله الفضاء القمعي والنظام السلطوي. فالسلطة هنا ليست خلفية جامدة للأحداث، بل فاعل مركزي ينسج شعور الشخصيات بالانفصال والعجز وفقدان المعنى. ويتجلّى هذا الدور الفاعل في تجسيد السلطة كآلية شاملة تتحكم في أدق تفاصيل الحياة اليومية : الكاميرات معلّقة في السقف شاهدةً ومقوّمةً لما يجب رؤيته وما يجب كتمه، والحراس كمتلقّين أوامر التحكّم والصمت، والقلاع والقصور كرموز للمكانة الممنوعة وللفصل القسري بين الحاكم والمحكوم.
في هذا السياق، يتجاوز الاغتراب كونه حالة داخلية نفسية ليصبح تجربة وجودية مُقنَّنة ومفروضة باسم النظام العام. فاطمة تُعذَّب ليس لذنب ارتكبته، بل لأنها طالبت بحق إنساني بسيط : معرفة مصير ابنها. المشهد الذي تُرمى فيه فاطمة مكبلة بالأغلال، مغطاة بالدماء، وتُجر إليها كرات حديدية يذكّرنا بحلقات العبودية وطقوس الإذلال السياسي. هذا التضاد بين مطالبة إنسانية فطرية من جهة، وآلة قمعية مستبدة من جهة أخرى، يعمّق الشعور بالاغتراب؛ إذ لا ينفصل الألم النفسي عن شظف العيش السياسي والاجتماعي، بل يتكاملان في إحكام القبضة على الوعي والجسد على حدّ سواء.
“هل ما زال لديّ ما تخافون منه؟ (…) تضحك فاطمة (…) تمسك الفرشاة بأسنانها…”
هذا الموقف المقاوم، الذي تجمع فيه فاطمة بين السخرية والصمود والفعل الجسدي المُعنَّى، يبيّن كيف يستثمر النصُّ المسرحي الجسدَ أداةً نقديةً وتحريضيةً توازي فيها جمالية الفعل المقاوم جمالية الألم القصوى.
4.2. التيمات الفرعية المنبثقة من الاغتراب
تقوم « وشم الغياب » على ثيمة الاغتراب المحورية، لكن هذا المفهوم يشعّ عبر نص المسرحية إلى مجموعة من التيمات الفرعية التي تُثري البنية الدلالية للنص وتفتح آفاقًا وُجُوديةً واجتماعيةً متعددة للتلقي والتأويل. هذه التيمات الفرعية ليست معزولة عن السياق؛ فهي تنبثق من صلب الصراع بين الفرد والنظام وتتماهى معه، ما يضاعف عمق التحليل ويزيد من ثراء الأبعاد الفكرية.
-
المرأة مقابل السلطة : تتجلى في فاطمة صورة المرأة الثائرة المضطهدة، التي تواجه منظومة سلطوية بُنيت على إسكات صوتها وطردها من المجال العام. إن الصراع هنا يتجاوز المطلب الفردي ليصبح نضالًا ضد تصنيف المرأة كمخلوق ثانوي في نسق السياسات القمعية.
-
المثقف والسلطة : يُجسد كلٌّ من يوسف ويحيى وفاطمة وعيًا يُشكّل تهديدًا للنظام، سواء عبر الفعل الثوري المباشر أو الصمت المتمرد أو الرسم بالغرافيتي. هذا الوعي المثقف، حين يتصادم مع الآلة السلطوية، يتحوّل إلى موقع مواجهة وصورة حيّة للاغتراب السياسي.
-
الذاكرة والحنين : تتماهى الجداريات ورسوم الجدران مع الحنين إلى زمن مضى، حين كانت الحرية ممكنة. تصبح الذاكرة الفردية والمشتركة ملاذًا نفسيًا يهرب إليه الفاعلون المسرحيون كلما واجهوا عنف الواقع وقسوته.
-
الحرية : هي الحلم الدائم الذي لا يتوقف، وقوة دافعة يقاوم من أجلها الأبطال. الحرية في العمل ليست مجرد حالة يُستعاد بها الحقّ، بل أفقٌ وجودي يناهض منطق القمع الذي يقيد الرؤى والأجساد.
-
العنف والقمع : تتخذ السلطة من العنف أداةً لطمس الكرامة والوعي، وتشكل وسائل العقاب الصامت والخطابي (السجن، التعذيب الجسدي، الإهانة) امتدادًا للهيمنة الرمزية التي تمارسها عبر المنع والإجبار.
من خلال هذا التشابك بين التيمة المحورية والتيمات الفرعية، يقدم « وشم الغياب » تجربة مسرحية ذات تراص درامي متكامل، حيث تُسائل الذات العربية المعاصرة في عز لحظة اغتراب حاد. يلتقي القهر الاجتماعي والسياسي مع المعاناة النفسية الفردية ليتشكل نصٌّ ذا بنية مركبة قادرة على تسليط الضوء على أزمتي الاغتراب : تلك التي تُمارس بمؤسسات القمع من جهة، وتلك التي تُولد داخل الذات من جهة أخرى.
الخاتمة
تؤكّد « وشم الغياب » من خلال ثرائها الدرامي وتوظيفها المتقن لعناصر المونودراما والرمزية البصرية والسمعية، قدرتها على أن تكون مرآةً عاكسةً لصورة أيّ مجتمع يغرق في بؤس القمع وسلطة الإذلال. إن تركيزنا على ثيمة الاغتراب لم يكن اعتباطيًا، بل جاء انسجامًا مع جوهر الصراع الذي يطبع بنية النص، إذ يكشف عن التّقاطعات الحادة بين معاناة الفرد الداخلية وبين الضغوط السياسية والاجتماعية الخارجية. ومع ذلك، يظلّ نصّ المسرحية حاضنًا لبؤر موضوعية أخرى – من قضايا الذاكرة إلى تطلّعات الحرية ورهانات المقاومة – ما يجعلها أرضًا خصبة لنماذج نقدية متعددة ومتنوعة.
أمّا عنصرُ الوشم ذاته، فهو رمزٌ لآثار الألم التي تظلّ منثورةً في ذاكرة الشعوب، إلى جانب كونه علامةً مستدامةً على الجسد والنفس؛ فتجربتا « يوسف » و« فاطمة » تنسجان سرديةً سرمديةً عن المظلومية والمقاومة. ستتجدّد هذه النسخ الإنسانية مع كلّ آفة قمعية ومع كلّ سلطة تتجاوز حدودها، فتهتك أواصر العدالة وتدوس حقوق المستضعفين، كما شهدناه في موجات العنف السياسي عبر الدول العربية، بما فيها مصر. وهكذا، تصبح « وشم الغياب » أكثر من عرض مسرحي؛ إنها استدعاء دائم للذاكرة الجماعية، ودعوة صريحة إلى استنطاق صرخات المقهورين، ولن يتلاشَ أثر الوشم ما دام الظلم يسودُ على رقاب الأبرار.