مقدمة
يمثل النقد الثقافي إحدى أبرز التحولات التي شهدها الحقل النقدي في سياق ما بعد الحداثة، حيث جاء كردّ فعل على محدودية المناهج البنيوية واللسانية والجمالية في استكشاف المضمرات الإيديولوجية والأنساق الثقافية المتجذرة داخل النصوص. ولا ينظر النقد الثقافي إلى النص الأدبي بوصفه بنية جمالية مستقلة، بل باعتباره حاملاً لأنساق رمزية تعكس بنى اجتماعية وتاريخية ومعرفية عميقة.
تنطلق هذه الدراسة من سؤال محوري : هل يختزن الأدب ما يتجاوز الأدبية؟ ومن هنا، نقارب النقد الثقافي لا باعتباره تجميعًا مفاهيميًا، بل كتحول إبستيمولوجي أفرز مقاربة جديدة للنص تنطلق من كشف الأنماط الثقافية الخفية التي تمررها الخطابات الأدبية والجمالية.
تهدف هذه القراءة إلى الوقوف عند الخلفيات النظرية التي مهّدت لظهور النقد الثقافي، مع تسليط الضوء على المفاهيم الأساسية التي أعادت رسم العلاقة بين النص والثقافة، خصوصًا من خلال الانتقال من « نص الثقافة » إلى « ثقافة النص ». كما نتوقف عند أبرز الأدوات التحليلية التي بلورها هذا الاتجاه النقدي، مع استجلاء علاقاته المتشابكة مع العلوم الإنسانية والاجتماعية، بما في ذلك اللسانيات، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وخطاب ما بعد الكولونيالية.
1. الأسس النظرية للنقد الثقافي
1.1. نحو تأصيل مفهومي للنقد الثقافي
عرفت الحقول النقدية العربية، خاصة في العقدين الأخيرين، تداخلاً ملحوظًا بين مفاهيم عدة تُستعمل بشكل متقارب، مما أدى إلى خلط مفاهيمي بين « نقد الثقافة »، « النقد الثقافي »، و« الدراسات الثقافية ». ويستدعي هذا التداخل، كما أشار عبد الله الغذامي، وقفة تفكيكية لتمييز الحدود بين هذه المفاهيم الثلاثة، لكونها تختلف من حيث المرجعية والمنهج والهدف.
إذ يشير « نقد الثقافة » إلى تناول عام وشامل لقضايا المجتمع والفكر والسياسة، أي أنه يهتم بالبنية الثقافية بوصفها مادة تحليل خارج الإطار الأدبي الضيق. أما « الدراسات الثقافية » فهي حقل متعدد التخصصات نشأ في الغرب (خاصة في مركز برمنغهام)، يهتم بتحليل المنتجات الثقافية من منظور نقدي، ديمقراطي، وغير نخبوي. في المقابل، يُطرح « النقد الثقافي » بوصفه مشروعًا تأويليًا جديدًا يعيد مساءلة النصوص الأدبية عبر مقاربة نسقية تسعى إلى استكشاف المضمرات الأيديولوجية خلف الجمالية الظاهرة.
يذهب الغذامي إلى اعتبار « النقد الثقافي » ممارسة قائمة بذاتها، ترتكز على أدوات تحليلية مغايرة لمناهج النقد الأدبي الكلاسيكي. فالنقد الثقافي لا يبحث في سطح النص، بل يغوص في أنساقه الدفينة التي تتوارى خلف الاستعارات، التمثيلات، والصيغ الجمالية، والتي تؤدي – بحسب الغذامي – وظيفة تمريرية لخطابات القوة والمعرفة والهيمنة.
2.1. مقولة النسق : من الجمالية إلى اللامرئي
من المفاهيم المركزية في النقد الثقافي مفهوم « النسق »، الذي يشير إلى شبكة من القيم والمعاني المتوارثة واللاواعية، والتي تشكّل عمق النص وتتحكم في إنتاج دلالته، دون أن تظهر على السطح مباشرة. وتكمن أهمية « النسق المضمر » في كونه لا يُقرأ من خلال الجمل الصريحة، بل من خلال الانزياحات، المسكوت عنه، والتماثلات الثقافية التي يعيد النص إنتاجها بطريقة غير واعية.
وقد حدّد الغذامي، ضمن ما أسماه « أسئلة النقد الثقافي »، مجموعة من البدائل المنهجية التي توضح القطيعة مع النقد الأدبي الجمالي التقليدي :
-
سؤال النسق بدل سؤال النص : لا يُدرس النص في ذاته، بل في ضوء النسق الذي يحكمه.
-
سؤال المضمر بدل الدال : لا يُقرأ ما يدل عليه النص مباشرة، بل ما يخفيه ويقاوم ظهوره.
-
سؤال الاستهلاك الجماهيري بدل النخبوية : حضور النص جماهيريًا يعكس انسجامه مع أنماط ثقافية مضمرة في وعي المتلقي.
-
سؤال الأثر بدل التذوق : الأثر الثقافي للنص يتجاوز حدود الجماليات إلى تشكيل السلوك والخطاب.
يُعدّ النسق إذًا عدسة تأويلية تحوّل النص من موضوع جمالي إلى وثيقة ثقافية، تقترح قراءة مزدوجة : جمالية من جهة، وانتروبولوجية-ثقافية من جهة أخرى، ما يجعل النقد الثقافي ممارسة تفكيكية تتجاوز التذوق إلى كشف ما تحجبه الجمالية ذاتها.
2. المرجعيات النظرية للنقد الثقافي
بعد أن عرضنا الأسس المفهومية و« مقولة النسق »، ننتقل هنا إلى الخلفيات المعرفية التي أسست لهذا الاتجاه النقدي، عبر محطتين أساسيتين : اللسانيات البنيوية، والدراسات الثقافية.
1.2.اللسانيات بوصفها أرضية إبستيمولوجية
شهد القرن العشرون تحولات جذرية في مناهج تحليل النصوص الأدبية، وقد كان للاتجاه اللساني دور محوري في زحزحة مناهج النقد التقليدي، ممهداً الطريق لظهور النقد الثقافي باعتباره ممارسة نصوصية ذات بعد أنثروبولوجي وأيديولوجي.
وقد رأى عبد الله الغذامي أن النقد الثقافي يُعد امتدادًا لحقول اللسانيات، لا سيما في استثماره لمفهوم « النسق المضمر »، الذي يكشف عن بنى لاواعية تتسرّب في الخطاب الثقافي، الرسمي منه والهامشي، موجهة التلقي الجماهيري ومؤطرة الحس الجمالي والاجتماعي في آن.
استفاد النقد الثقافي من الرؤية اللسانية لعلاقة الجزء بالكل، التي تؤكد على الطابع الوظيفي للعلامة، وعلى كون المعنى لا يكمن في جوهر الشيء بل في موقعه داخل النظام. وهو ما عبّر عنه الغذامي حين ربط بين « الذات » و« الجماعة »، في سياق تفكيك القيمة الجوهرية واستبدالها بوظيفة نسقية.
لا يمكن تجاهل الدور المؤسس لأفكار دي سوسير، الذي بنى نظريته على اعتبار العلامة اللغوية ليست محض أداة تواصل بل منظومة فكرية تهيمن على الإدراك. وقد أسس بذلك لما سيسمى لاحقًا « تأليه النسق اللغوي »، حيث تحولت اللغة إلى سلطة معرفية تتجاوز الذات، وتغدو محدِّدة للتفكير وموجهة للتأويل.
إن إعادة النظر في النص من منطلق لساني بنيوي مكّن الغذامي من بناء تصور جديد حول « النص المختلف »، المنفتح على إمكانيات تأويلية تتجاوز الجمالي إلى النسقي، وهو ما يتجلى في قوله بأن اللسانيات تمنح الأدب نموذجًا توليديًا معرفيًا، يمكن عبره تفسير النصوص بوصفها علامات ثقافية متعددة الطبقات والدلالات.
2.2. الدراسات الثقافية : من الانفلات إلى التفكيك
لم يكن النقد الثقافي ابن اللسانيات فحسب، بل كان كذلك ثمرة مباشرة للتقاطع مع الدراسات الثقافية، التي بزغت مع مدرسة برمنغهام البريطانية، واستهدفت خلخلة التصورات النخبوية حول الثقافة.
تميزت هذه الدراسات بنزع الطابع الهرمي عن الثقافة، ومساءلة السرديات الكبرى، ورفض المرجعية الأحادية، وتوسيع مجال الاشتغال النقدي ليشمل المهمّش، والهجين، والهامشي، والمشبع بالأيديولوجيا. وهو ما منح النقد الثقافي جرأة في مقاربة النصوص ليس كنصوص أدبية فقط، بل كخطابات ثقافية تحمل في طياتها حمولة رمزية وموقفًا أيديولوجيًا.
وفي هذا الإطار، تبنّى النقد الثقافي مفاهيم ما بعد البنيوية مثل : موت المؤلف، لا مركزية المعنى، نقد العقل الأداتي، إلغاء الفصل بين الواقعي والإيديولوجي، وتفكيك أنساق الهيمنة. وانفتح بذلك على عوالم الفلسفة، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، والخطاب الإعلامي، وغيرها.
كما أُخذ على هذا التوجه – كما أشار الغذامي – تركيزه المفرط على العوامل الاقتصادية والمادية، وتبني مقولات مثل « رأس المال الثقافي » لبورديو، إلى درجة تمجيد الخطاب المعارض فقط لأنه معارض، واحتفاء مفرط بالهامشي في مواجهة « الراقي ».
ورغم هذه الانتقادات، فإن هذا التداخل بين المدارس (برمنغهام، فرانكفورت، فوكو، بارت، سعيد...) أفرز طيفًا من النظريات التي أسست فعليًا لتحولات نوعية في الحقل النقدي العربي، خصوصًا في إعادة الاعتبار للمسكوت عنه، وتفكيك الخطابات المركزية، وفتح النصوص على قراءة نسقية-ثقافية عابرة للتخصصات.
3. الآليات المنهجية في النقد الثقافي
يستند النقد الثقافي، في مقاربته للنصوص والخطابات، إلى مجموعة من الآليات الإجرائية التي تسعى إلى تفكيك الطبقات الثقافية الكامنة خلف البنية الجمالية. وهو بذلك لا يشتغل على ظاهر النص، بل يحفر في طبقاته الدلالية لاستكشاف النسق المضمر الذي يشكل بنيته اللاواعية.
وتتمثل أبرز خطوات المقاربة النقدية الثقافية في النقاط التالية :
-
التركيز على الأنساق الثقافية المضمرة، أي تلك التي تتخفى خلف البنية الجمالية، وتعمل على تمرير دلالات اجتماعية وسياسية دون التصريح بها.
-
طرح أسئلة جديدة تتجاوز النقد الجمالي، مثل :
-
سؤال النسق بدل النص،
-
سؤال المضمر بدل الدال،
-
سؤال الاستهلاك الجماهيري بدل النخبة المبدعة،
-
سؤال التأثير والتموقع ضمن ثنائيات مثل المركز/الهامش والمؤسسة/المهمّش.
-
اعتبار النص أو الخطاب وحدة دلالية ثقافية، تحمل رموزًا وإشارات تستدعي قراءة نسقية.
-
تفكيك الخطاب من خلال تحليل التمثيلات، المجازات، الصور، والمقروء الثقافي، بما يكشف عن الوظائف الأيديولوجية للنص.
-
الانفتاح على الحقول المعرفية الموازية : علم النفس، علم الاجتماع، الفلسفة، الأنثروبولوجيا... مما يعزز إمكانية قراءة النص خارج عزلته الجمالية.
1.3. الخطوات التحليلية الأساسية : من المناص إلى التأويل
حدد جميل حمداوي أربعة مراحل تحليلية دقيقة تشكل الهيكل المنهجي للنقد الثقافي، وهي :
-
مرحلة المناص الثقافي:يُعنى فيها الناقد بتحليل العتبات المحيطة بالنص : اسم المؤلف، العنوان، المقدمة، الإهداء، الهوامش، الصور، الغلاف، والوسائط الترويجية. الغاية من ذلك هي الكشف عن البنية الثقافية المضمرة في العناصر الباراطكستية.
-
مرحلة التشريح الداخلي:يتم خلالها تفكيك النص من الداخل على المستويات الجمالية، الأسلوبية، البنيوية، والسيميائية، لأن فهم البنية الفنية شرط ضروري لفهم ما تحمله من دلالات ثقافية.
-
مرحلة الرصد الثقافي:تسعى هذه المرحلة إلى استخلاص التمظهرات الثقافية المتجذرة في النص، من خلال تتبع الصور، الكنايات، المجازات، والألفاظ ذات الحمولة الرمزية.
-
مرحلة التأويل الثقافي:وهي لحظة استثمار الحقول المعرفية المتعددة (تاريخ، فلسفة، علم نفس...) في تقديم قراءة تفسيرية للأنساق، وفضح الإيديولوجيات، وكشف الأساطير الثقافية المستبطنة.
2.3. وحدة المنهج وتنوّع الرؤى في النقد الثقافي
رغم تعدد المداخل النظرية واختلاف المرجعيات الفكرية التي ينطلق منها النقاد الثقافيون، إلا أن النقد الثقافي يحتفظ بوحدة منهجية تتمثل في الانشغال الدائم بالبُنى النسقية المضمرة، وتفكيك الخطابات التي تتسلل عبر قنوات رمزية وجمالية نحو وعي المتلقي.
فالنقد الثقافي لا يُعرِّف نفسه من خلال مدرسة بعينها، بل يقوم على تقاطع منهجي متعدد يسمح له بأن يستوعب أدوات اللسانيات، والتفكيكية، والسيميائيات، والتحليل النفسي، والدراسات ما بعد الكولونيالية، وغيرها. وهذا التعدد لا يُضعف من صرامته المنهجية، بل يمنحه مرونة تُمكِّنه من مقاربة النصوص انطلاقًا من طبيعتها وسياقاتها، لا انطلاقًا من مسبقات نقدية جاهزة.
يتجلّى هذا التنوّع في الرؤى في المسارات التالية :
-
بعض النقاد يميلون إلى قراءة خطاب السلطة في النصوص، كامتداد للأنظمة الاجتماعية والرمزية (مثل فوكو وبورديو).
-
آخرون يركّزون على مفاهيم الهامش والمركز، والتمثيل الثقافي للذات والآخر، انطلاقًا من فكر ما بعد الكولونيالية (إدوارد سعيد، هومي بابا).
-
بينما ينشغل البعض بكشف البنية النفسية أو اللاواعية للخطاب، عبر مزج النقد الثقافي بالتحليل النفسي الثقافي.
غير أن ما يجمع بين هذه التوجهات هو القناعة بأن النص ليس كيانًا جمالياً مغلقًا، بل هو بنية نسقية مشبعة بالقيم والمعايير والرؤى الثقافية، وأن الجمالية ليست سوى واجهة ناعمة تمرر الأنساق. فالنص، في هذا المنظور، يتحوّل إلى فضاء للصراع الرمزي، بين ما يُقال وما يُخفى، بين المركز والهامش، بين الظاهر والمضمر.
كما أن هذا التعدد في الرؤية لا يُناقض وحدة الهدف، بل يعززه، إذ يسمح للنقد الثقافي بأن يُنتج معرفة عابرة للتخصصات، تُسائل النصوص من زوايا سوسيولوجية، أنثروبولوجية، سياسية، وجمالية في آن واحد، وفق مقاربة تفكيكية تفضح ما يستبطنه النص من بنى سلطوية وأوهام رمزية.
ويمكن القول إن قوة النقد الثقافي تكمن في كونه لا يفرض على النصوص أدوات مسبقة، بل يبني أدواته انطلاقًا من خصوصية كل نص، وسياقه، وتموضعه داخل الشبكة الثقافية. وهذا ما يجعله إطارًا نقديًا مفتوحًا، قادرًا على التكيّف والتحول دون أن يفقد بوصلته المنهجية.
4. أهمية النقد الثقافي : من الجمالية إلى مساءلة الثقافة
يشكل النقد الثقافي إحدى المحطات الأكثر حيوية في تحول النظرية النقدية المعاصرة، من خلال قدرته على تفكيك الحدود الصلبة بين التخصصات، وعلى مساءلة البنى الثقافية الكامنة خلف النصوص، بوصفها امتدادات للأنظمة الاجتماعية والتاريخية التي تُنتج الخطاب وتُعيد إنتاجه.
تظهر أهمية النقد الثقافي في كونه ينكر الفصل التقليدي بين البنى التحتية والفوقية، وبين الواقعي والإيديولوجي، وبين المادي والروحي، معتمدًا رؤية شمولية ترى الثقافة كمنظومة متداخلة تشمل الرمزي والمادي، المعرفي والانفعالي، السياسي والأخلاقي. فالثقافة، وفقًا لهذا الطرح، ليست مجالًا ثانويًا تابعًا، بل هي بنية منتجة للمعنى ومؤطرة للذوق والمعرفة.
وقد تعزز هذا المنظور مع التحولات التي عرفها الخطاب النقدي في ظل ما بعد الحداثة، حيث تحوّل الاهتمام من الجمالي إلى الثقافي، ومن الأدبي إلى النسقي. وبات النص يُقرأ لا بوصفه إبداعًا قائمًا على الجماليات فقط، بل كحدث ثقافي مشبع بأنساق مضمرة يجب تفكيكها. إن النص، في هذا السياق، لم يعد مجرد وعاء للخيال، بل فضاء للصراع الرمزي، وللتمثيل الثقافي للذات والآخر.
يرى عبد الله الغذامي أن قيمة النص لا تكمن في جمالياته الظاهرة، بل في كونه يمثل حالة ثقافية تشتبك فيها اللغة بالنسق، والإبداع بالسلطة، والمعنى بالتمثيل الاجتماعي. لذا فإن القراءة الثقافية لا تهدف إلى التذوق، وإنما إلى الكشف والتحليل والتفكيك، لاكتشاف ما يتوارى خلف سحر الجمالي من أنساق وأيديولوجيات.
وقد مكّن النقد الثقافي من تجاوز النزعة الانتقائية للنقد الأدبي، حيث وسّع دائرة الاشتغال النقدي لتشمل المهمش، والمقصى، والمسكوت عنه، ما جعل منه أداة فعالة في استعادة ما أهملته القراءات الشكلانية والجمالية. فهو يسعى إلى تفتيت البنية الثقافية للنص، وفك شفراتها المضمرة، عبر استثمار أدوات متعددة من حقول معرفية متقاطعة.
كما أنه يستهدف الظواهر الثقافية المتنوعة، من الثقافة الشعبية إلى الثقافة الجماهيرية، ومن التعبيرات الرمزية إلى أشكال الهيمنة الثقافية، دون أن يهمل الكشف عن القيم الجمالية والإنسانية الإيجابية. فهو قراءة مزدوجة تكشف الإيجابي كما تفضح النسقي السلبي.
وتتأكد اليوم أهمية النقد الثقافي في ظل الانفتاح المتزايد بين التخصصات، والتقاطع بين العلوم الإنسانية والأدبية، مما جعله ضرورة معرفية ومنهجية تفرض نفسها بقوة داخل مشهد الدراسات المعاصرة. فالنقد الثقافي لا يقف عند حدود النص الأدبي، بل يتجاوزه ليرصد مضمراته الثقافية والإيديولوجية، ويوجه فعل القراءة نحو مساءلة معمقة للخطاب، بوصفه أداة تمثيل ومجال هيمنة وإعادة إنتاج رمزي.
5. النقد الثقافي وتقاطعاته مع المناهج والنظريات المعاصرة
1.5. التفكيكية : نحو خلخلة مركزية المعنى
تُعدّ التفكيكية من أبرز النظريات التي مهدت الطريق أمام النقد الثقافي، ليس فقط من خلال طرحها لفكرة اللايقين النصي وغياب المعنى الثابت، بل كذلك عبر دعوتها الصريحة إلى خلخلة البُنى الفكرية للخطاب. فالفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي يُعدّ الأب الروحي للتفكيكية، طرح مفهوم « الاختلاف » (différance) ليؤكد أن المعنى لا يُنتج إلا بتأجيل دلالي لا نهائي، وأن كل نص يحمل داخله آثار نصوص أخرى، مما يفتح إمكانات لا متناهية للتأويل.
لقد استفاد النقد الثقافي من هذه النظرة حين انطلق إلى ما يُسمى بـ« اللاوعي الثقافي للنص »، وهو مجال مفعم بالتوترات والدلالات غير المُصرّح بها. فعملية التفكيك، كما مارسها دريدا، لا تقتصر على البنية اللغوية، بل تمتد لتشمل المضمر الإيديولوجي والمسكوت عنه داخل النصوص. وهنا يلتقي النقد الثقافي بالتفكيكية في هدف الكشف : لا من أجل تدمير المعنى، بل من أجل تعرية أنماط الهيمنة الرمزية التي يتواطأ فيها الشكل مع النسق.
2.5. ما بعد الكولونيالية : الهوية، التمثيل، والآخر المهمّش
يرتبط النقد الثقافي بشكل عميق بخطاب ما بعد الكولونيالية، وهو خطاب يركّز على تفكيك العلاقات التاريخية بين المستعمر والمستعمَر، ويعيد مساءلة التمثيلات الثقافية للآخر المهمش في الأدب والخطاب. استقى النقد الثقافي من أعمال إدوارد سعيد، خاصة في كتابه الاستشراق (1978)، مفاهيم محورية مثل : التمثيل، المركز والهامش، المعرفة والسلطة، والتغريب. كما استفاد من تصورات هومي بابا حول « التهجين الثقافي »، ومن مقولات غاياتري سبيفاك حول « الذات التابعة ».
في هذا السياق، ركز النقد الثقافي على إعادة التفكير في الهوية، ليس بوصفها جوهرًا ثابتًا، بل بوصفها بناءً خطابيًا ينتج داخل علاقات القوة والتمثيل. وقد اهتم بمفاهيم مثل « ازدواجية الذات » و« الذات المهمشة » و« كتابة الضد »، معتبرًا أن النصوص الأدبية تمثل مجالًا للمقاومة، وفضاءً لتفاوض الهويات المهشمة والمقموعة. هذا ما يُفسّر توجهه نحو دمج الأدب الهامشي ضمن مسارات القراءة المركزية، لا بهدف إلغاء الأدب الرفيع، بل لتوسيع الأفق القرائي والاعتراف بتعدد أشكال التعبير.
3.5. السيميائيات : تفكيك الشفرات الثقافية
إن اعتماد النقد الثقافي على السيميائيات (علم العلامات) يتجلى بوضوح في اهتمامه بتحليل الخطابات المتنوعة، من النصوص الأدبية إلى الصور والإعلانات والأفلام والرموز البصرية. فالنص، وفقًا لهذا المنظور، ليس وحدة لغوية فقط، بل نسق دلالي مركب يتضمن مؤشرات رمزية تعبّر عن منظومات ثقافية متجذّرة.
لقد استلهم النقد الثقافي من تصنيفات تشارلز ساندرز بيرس (الرمز، المؤشر، الأيقونة) ومن تأملات رولان بارث في أسطورياته (1957)، التي بيّن فيها كيف تعمل الثقافة على إعادة إنتاج المعنى عبر ما يُسمى بـ« الأساطير المعاصرة ». هنا، يدخل مفهوم « النسق الثقافي » الذي اقترحه عبد الله الغذامي كامتداد سيميائي جديد، لأن العلامة لا تكتسب دلالتها إلا داخل شبكة نسقية تضم اللغة والسياق والرمز الثقافي.
هذا الربط بين العلامة والنسق يجعل من القراءة الثقافية قراءة سيميائية عميقة، هدفها فك تشفير البنى الرمزية التي تتسلل في النصوص على شكل استعارات أو مجازات أو رموز، لكنها تخفي خلفها تمثيلات اجتماعية ومعرفية وأيديولوجية.
4.5. التحليل النفسي : كشف اللاوعي الثقافي
أدخل النقد الثقافي أدوات التحليل النفسي إلى الحقل الأدبي، ليس فقط لقراءة الشخصيات أو العلاقات، بل لتفسير التمثيلات الثقافية للاوعي الجمعي، الذي يتجلى في الأسطورة، والرمز، والبنية الزمنية المعقدة. وقد تأثر بمفاهيم فرويد حول اللاوعي، والرمز، والكبت، كما استفاد من أطروحات كارل يونغ حول « الأنماط الأصلية »، والتي يُنظر إليها كصور رمزية تتكرر في الحكايات والأساطير والنصوص.
أبرز من عمّق هذا الاتجاه هم نقاد « مدرسة نيويورك »، الذين استخدموا التحليل النفسي لفهم الظواهر الثقافية والتاريخية الكبرى. في هذا الإطار، لا تُقرأ الأسطورة كخرافة بل كآلية رمزية تفسّر الحاضر والماضي والمستقبل، وهي، كما يؤكد كلود ليفي-شتراوس، بنية فكرية تكشف عن انتظام ذهني مشترك بين جميع البشر.
هنا تتعزز أهمية النقد الثقافي في مساءلة هذه البُنى اللاواعية، والكشف عن الرسائل الضمنية التي تُبنى عبر تكرار رمزي يتجاوز الزمن واللغة.
5.5. الأنثروبولوجيا الرمزية : الثقافة بوصفها نسقًا للتفسير
تشكّل الأنثروبولوجيا الرمزية، كما طوّرها كليفورد غيرتز وفيكتور تيرنر، خلفية معرفية مهمة في مسار النقد الثقافي. فالثقافة تُقرأ هنا بوصفها نظامًا من الرموز والمعاني التي تُنتَج وتُعاد إنتاجها داخل الجماعة. والنص، في هذا المنظور، لا يُعبر عن حالة فردية، بل عن سياق ثقافي/اجتماعي يُجسد الوعي الجمعي والهوية الجمعية.
وقد وسّع النقد الثقافي من هذا التصور ليشمل الأدب والفن والإعلام بوصفها أدوات لإعادة تشكيل الرموز الاجتماعية وتوجيه الرؤية نحو العالم. ولهذا انفتح على مفاهيم مثل « الاختلاف »، « الهجنة »، « تعدد النماذج الثقافية »، معتبرًا أن كل قراءة للنص هي قراءة للثقافة التي أنتجته، أو التي يعيد إنتاجها.
6.5. التكامل المعرفي : نحو نسق نقدي شامل
تكمن قوة النقد الثقافي في كونه مشروعًا تداخليًا بامتياز. فهو لا يتعامل مع النص من خلال منظور واحد، بل يستدعي العلوم الإنسانية المختلفة (علم الاجتماع، الفلسفة، علم النفس، اللسانيات، التاريخ، الأنثروبولوجيا...) ليقدّم قراءة شاملة ومعقدة تتعامل مع النص كمنتج ثقافي مشبع بالسلطة والمعنى.
في هذا الإطار، يرفض النقد الثقافي الفصل بين الأدبي وغير الأدبي، بين الجميل والسياسي، ويعتبر أن كل خطاب هو موقع للصراع، وأن القراءة هي فعل مقاومة، سواء في تفكيك السلطة الرمزية، أو فضح التمثيلات الطبقية، أو إعادة الاعتبار للمهمّش والمنسي.
بهذا التداخل بين النظرية والممارسة، وبين الأدب والمجتمع، يُحقق النقد الثقافي أحد أهدافه الجوهرية : كسر هيمنة النسق الأحادي، والانفتاح على التعدد الثقافي والمعرفي والتأويلي، بما يمنح النص إمكانات أوسع للفهم والتفكيك.
الخاتمة
جاء ظهور النقد الثقافي في سياق تحوّلي عميق عرفه الخطاب النقدي والأدبي، وعبّر عن انزياح منهجي من سلطة الجمالي إلى تفكيك الثقافي، ومن التلقي الجمالي إلى استنطاق الأنساق المضمرة. لقد مثّل هذا التوجّه نقلة نوعية أعادت تشكيل العلاقة بين النص ومحيطه، بين الأدب والواقع، وبين الجمالي والرمزي.
وقد أبرز هذا المسار النقدي عدة مكتسبات مفهومية ومنهجية، من بينها :
-
توسيع مجال القراءة ليشمل مختلف الخطابات الثقافية، بما في ذلك الأدب، الموسيقى، الإعلام، الأسطورة، والتمثيل البصري؛
-
كسر الثنائية التقليدية بين الأدب الراقي والأدب الشعبي، وتعزيز الاهتمام بـ المهمش والمقصى في الفضاء الثقافي؛
-
الانتقال من تحليل الجمالية إلى كشف القبحيات الرمزية بوصفها عناصر تأسيسية في فهم النسق؛
-
دمج المعارف المتعددة عبر انفتاح المنهج النقدي على علم النفس، السوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا، الدراسات البصرية والإعلامية؛
-
التركيز على النصوص بوصفها أنظمة ثقافية تعكس شروط إنتاجها وتحمل آثار أيديولوجياتها؛
-
إعادة تعريف « النص » باعتباره بنية مفتوحة على التاريخ، والسلطة، والتمثيل الرمزي.
بهذا المعنى، لم يأتِ النقد الثقافي كمجرد بديل عابر للنقد الأدبي، بل كـ مشروع معرفي ومقاربة تفسيرية متعددة الأبعاد، تؤمن بأن وراء كل جمالية هناك نسق، وأن وراء كل خطاب هناك سلطة. فقد أسهمت مرجعياته النظرية اللسانية والثقافية، إلى جانب انفتاحه على العلوم الإنسانية والاجتماعية، في بلورة قراءة جديدة للنصوص، تُحرّرها من قيود التلقي الجمالي الصرف، وتعيد توجيه الانتباه إلى البنية النسقية التي تُنتج وتُعيد إنتاج الوعي والمعنى.
من هذا المنظور، يُعيد النقد الثقافي الاعتبار للثقافة بوصفها مرآة للواقع وخزانًا رمزيًا للهيمنة والمقاومة على السواء. وهي الرؤية التي تفتح أمام الدراسات النقدية آفاقًا جديدة تُعيد طرح الأسئلة القديمة بعيون معاصرة :
من يكتب؟ عن من؟ لمن؟ وبأي نسق يُمرّر المعنى؟