من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي: تحولات في الرؤية والمنهج

De la critique littéraire à la critique culturelle : mutations de la vision et de la méthodeFrom Literary Criticism to Cultural Criticism: Shifts in Vision and Methodology

صليحة بردي Saliha Berdi

Citer cet article

Référence électronique

صليحة بردي Saliha Berdi, « من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي: تحولات في الرؤية والمنهج  », Aleph [En ligne], mis en ligne le 13 mai 2025, consulté le 14 mai 2025. URL : https://aleph.edinum.org/14450

تتناول هذه الدراسة التحولات المنهجية والإبستمولوجية التي أدت إلى إعادة رسم الحدود بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، في سياق تتزايد فيه الدعوات إلى تعدد المقاربات وتحول النصوص إلى ظواهر ثقافية متعددة الدلالات. وتتمثل الإشكالية الرئيسة في تحديد ما إذا كان النقد الثقافي يشكل بديلاً عن النقد الأدبي التقليدي، أم أنه امتداد وتوسيع لأفقه. ومن خلال منهج نقد النقد، بالاستناد إلى تحليل مقارن للأطر النظرية والإجرائية لكل من المقاربتين، تسعى الباحثة إلى إبراز الفروقات والتقاطعات بين الخطابين. وتبين النتائج أن النقد الثقافي لا يُقصي النقد الأدبي، بل يثريه بتناول الأبعاد الإيديولوجية والاجتماعية والثقافية للنصوص. وتخلص الدراسة إلى ضرورة التكامل بين المنهجين بما يتيح مقاربة أكثر شمولاً للخطاب الأدبي، تأخذ بعين الاعتبار البعد الجمالي والأنساق المضمرة في آن واحد. كما تقترح الدراسة أفقًا جديدًا لتجديد القراءة في ضوء تعدد المعاني وتشابك المرجعيات الثقافية.

Cet article interroge les mutations épistémologiques et méthodologiques qui ont conduit à une redéfinition des frontières entre la critique littéraire et la critique culturelle. Dans un contexte où les pratiques discursives évoluent vers une pluralité des approches, la problématique centrale consiste à déterminer si la critique culturelle constitue un prolongement, une rupture ou un substitut de la critique littéraire classique. En mobilisant une méthode métacritique fondée sur l’analyse comparative des fondements et des fonctions de chaque approche, l’auteure retrace les déplacements opérés au niveau des objets, des outils et des finalités du discours critique. Les résultats montrent que la critique culturelle ne se substitue pas à la critique littéraire, mais la complète en lui donnant accès à des dimensions idéologiques, sociales et symboliques jusqu’alors négligées. En conclusion, l’étude plaide pour une complémentarité entre les deux paradigmes, dans une perspective de lecture transversale, sensible aux enjeux du sens, du pouvoir et de la mémoire culturelle. Cette réflexion ouvre la voie à un renouvellement des pratiques interprétatives dans les études littéraires contemporaines.

This article explores the epistemological and methodological shifts that have reshaped the boundaries between literary criticism and cultural criticism. In a context marked by increasing pluralism in discursive practices, the core issue is whether cultural criticism represents an extension, a rupture, or a substitute for traditional literary criticism. Using a metacritical approach based on comparative analysis, the author examines the evolution of each method’s conceptual framework, objects of analysis, and critical functions. The findings reveal that cultural criticism does not replace literary criticism but rather enriches it by introducing ideological, social, and symbolic dimensions often left unexplored. The study concludes that a complementary relationship between the two paradigms offers a more comprehensive mode of interpretation, attuned to issues of meaning, power, and cultural memory. This reflection paves the way for renewed interpretive practices in contemporary literary studies.

مقدمة

شهدت الحقول النقدية في العقود الأخيرة تحولات عميقة مست جوهر الممارسة التأويلية، من خلال انتقال ملحوظ من مركزية النقد الأدبي إلى انفتاح أوسع على النقد الثقافي. ويأتي هذا التحول استجابة لتغير طبيعة النصوص وتعدد الأنساق المنتجة لها، مما فرض على الخطاب النقدي أن يراجع أدواته ومفاهيمه ومجالات اشتغاله. لم يعد النص الأدبي يُقارب فقط من زاوية الجمالي والبلاغي، بل أضحى يُنظر إليه بوصفه تمثيلاً لخطابات ثقافية مضمرة، تنطوي على أنساق فكرية، اجتماعية وإيديولوجية تتجاوز البُنية النصية ذاتها.

تنطلق هذه الدراسة من إشكالية مركزية مفادها : هل يشكّل النقد الثقافي بديلاً نوعيًّا للنقد الأدبي، أم أنه يشتغل ضمن أفق تكاملي يعيد تعريف حدود الممارسة النقدية؟ كما نتساءل عن مدى استقلالية المنهج الثقافي في أدواته ومفاهيمه مقارنة بالنقد الأدبي، ومدى قدرته على احتواء التعقيد النسقي للنصوص دون الوقوع في الاستبدال أو الإقصاء.

تعتمد الدراسة منهج نقد النقد بوصفه مقاربة فاحصة للأسس المعرفية والإجرائية التي يقوم عليها كل من النقدين، مركزة على تحليل المفاهيم المحورية كالنسق، الدال، المضمر، والتمثيل الثقافي. وتستند إلى مدوّنة نظرية غنية تشمل مساهمات مفكرين بارزين أمثال عبد الله الغذامي، ميشيل فوكو، رولان بارت، محسن الموسوي، وآرثر أيزابرجر، لتقاطع مداخل الأدب والثقافة في سياقاتها الخطابية.

تهدف هذه الورقة إلى تتبع دينامية الانتقال من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، واستجلاء مظاهر التداخل والاختلاف، مع إبراز النتائج التي تُفضي إليها كل مقاربة على مستوى فهم النص وتفكيك أبعاده الجمالية والثقافية. كما تُفضي بنا إلى مناقشة فرضية البديل النوعي ومآزقها، في ضوء الحاجة إلى بناء نموذج نقدي أكثر شمولاً وانفتاحًا.

1. الإطار النظري

1.1. التعريفات المفهومية : النقد الأدبي والنقد الثقافي

يمثل كل من « النقد الأدبي » و« النقد الثقافي » مجالين معرفيين يتقاطعان أحيانًا ويتمايزان في أحيان أخرى من حيث الموضوع، المنهج، والغاية. إذ يُعرّف النقد الأدبي بأنه :

« نشاط فكري – يتجسد إنشاءً لغويًّا – ينتسب إلى الأدب الذي يُحدد هويته، فهو نقد أدبي... تتحدد هويته بصفته (أدبيًا) المستمدة من واحد من أهم الفنون الجميلة هو الأدب » (اصطيف، ربيع 2017 : ص 15)

أما النقد الثقافي، فيرتبط مباشرة بمنتَج الثقافة لا الأدب وحده، ويتجاوز الجمالي إلى المضمر والنسقي :

« النقد الثقافي نشاط فكري يتجسد إنشاءً لغويًا ينتسب إلى الثقافة (culture) التي تُحدد بدورها طبيعته ووظيفته وحدوده... المستمدة من الثقافة القومية بتجلياتها المادية وغير المادية أو المعنوية »(اصطيف، 2017 : ص 16)

ومن هنا يتّضح أن الفرق الجوهري بين النقدين لا يكمن في الأداة بقدر ما يكمن في طبيعة الموضوع والمنظور الذي يتم اعتماده أثناء المقاربة.

2.1. الأصول والخلفيات النظرية

يعود النقد الأدبي إلى تقاليد كلاسيكية تستند إلى البلاغة والفلسفة الجمالية (من أرسطو إلى النقد البنيوي)، وقد حافظ لعقود على مركزية النص ومبدأ « أدبية الأدب ». في المقابل، برز النقد الثقافي مع صعود الدراسات الثقافية في بريطانيا في سبعينيات القرن الماضي، متأثرًا بمدارس الماركسية الجديدة، والدراسات ما بعد الكولونيالية، ونظريات السلطة والمعرفة.

وقد عرّف عبد الله الغذامي النقد الثقافي بأنه :

« فرع من فروع النقد النصوصي العام... معنيّ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء »(الغذامي، 2005 : ص 83)

أما أيزابرجر، فيمنح لهذا النقد صبغة متعددة التخصصات :

« النقد الثقافي... مهمة متداخلة، مرتبطة، متجاوزة، متعددة... يشمل نظرية الأدب والجمال والنقد، وأيضًا التفكير الفلسفي وتحليل الوسائط والنقد الثقافي الشعبي »(أيزابرجر، 2003 : ص 30)

هكذا، يظهر النقد الثقافي كتيار معرفي يتقاطع مع علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، علم النفس، والنقد الفلسفي.

3.1. الانعطاف الثقافي والتغير الإبستمولوجي

شهدت الدراسات النقدية في نهاية القرن العشرين ما يسمى بـ « الانعطاف الثقافي » (Cultural Turn)، وهو تحوّل جذري في تمثّل النصوص والخطابات، حيث لم تعد تُفهم باعتبارها أنظمة لغوية جمالية فحسب، بل كأنظمة دلالية مشبعة بالسلطة، والتاريخ، والهويات المتصارعة.

وهذا ما أكد عليه فوكو عندما دعا إلى تجاوز تحليل الخطاب من زاوية « المعنى » إلى تفكيكه من مدخل علاقات السلطة والمعرفة :

« الخطاب ليس فقط ما يُقال، بل ما يُمارس داخل شبكة من القوى والضوابط والتمثيلات؛ إنه تمثيل للعالم ولهوية الذات والآخر »(فوكو، مقتبس لدى خليل، 2012)

في هذا السياق، يُنظر إلى النص الأدبي – من منظور النقد الثقافي – باعتباره حدثًا ثقافيًا مشروطًا بسياقه، يعبّر عن بنى ذهنية وإيديولوجية أكثر مما يعكس جمالية لغوية فقط. وبهذا، يصبح موضوع التحليل ليس « النص » بل « النسق » :

« من أسئلة النقد الثقافي : سؤال النسق بدلًا من سؤال النص، وسؤال المضمر بدلًا من سؤال الدال، وسؤال الاستهلاك الجماهيري بدلًا من سؤال النخبة المبدعة »(الغذامي، 2004 : ص 36)

2. المقارنة النقدية بين النقد الأدبي والنقد الثقافي

1.2. موضوع التحليل : من « النص » إلى « النسق »

يُركز النقد الأدبي تقليديًا على النص الأدبي ككيان لغوي مغلق، يهتم بالبلاغة، والصورة، والبنية الجمالية. في المقابل، ينظر النقد الثقافي إلى النسق الثقافي الذي يُنتج النص، أي البنية الأيديولوجية والاجتماعية والسياسية التي تختبئ خلف الجمالي.

« يتخطى النقد الثقافي حدود اشتغال المقاربة النقدية الأدبية التي تعنى بالكشف عن تجليات الأثر البلاغي... إلى البحث في متاهات المخبوء وراء أقنعة هذا الأثر »(النص الأصلي)

في حين يتعامل النقد الأدبي مع الدال، فإن النقد الثقافي يفتش عن المضمر؛ أي ما لا يُقال، وما يتم حجبه خلف اللغة البلاغية أو الجمالية.

« الفرق بين النقدين يكمن في انتقال الأسئلة من النص إلى النسق، ومن الجمالي إلى الوظيفي »(الغذامي، 2004)

2.2. أدوات التحليل : من البلاغة إلى الخطاب

تعتمد المقاربة الأدبية على أدوات تحليل بلاغية وبنيوية تهتم بالشكل والأسلوب، في حين يتبنى النقد الثقافي أدوات تحليل الخطاب، بما يشمله من علاقات السلطة والهيمنة والتمثيل.

« النقد الثقافي لا يستخدم الأدوات البلاغية والجمالية المعتادة في النقد الأدبي، بل يعتمد على أدوات تستقصي النسق الخطابي والمحمول الإيديولوجي »(خليل، 2012 : ص 7)

كما تختلف نقطة الانطلاق؛ فبينما ينطلق النقد الأدبي من السياق النصي الداخلي، يتجه النقد الثقافي إلى السياق الثقافي الخارجي.

« النقد الأدبي يخشى الابتعاد عن « أدبية الأدب »، في حين أن النقد الثقافي ينطلق من فرضية أن النص حادثة ثقافية يجب ربطها بنسقها المنتج »(الغذامي، 2005 : ص 89)

حتى الذوق الجمالي نفسه، الذي يشكّل مرجعية ضمنية للنقد الأدبي، يُستبدل في النقد الثقافي بمنطق الاستهلاك الجماهيري وتلقي النصوص في سياقاتها الشعبية والرمزية.

3.2. الوظيفة النقدية : من التفسير إلى التفكيك

تهدف المقاربة الأدبية غالبًا إلى تفسير النص والاحتفاء بجمالياته الداخلية، بينما يعمل النقد الثقافي على تفكيك آليات التمثيل والسلطة التي يبثها النص.

« النقد الأدبي ينشغل بتأويل النص داخل بنيته، أما النقد الثقافي فيشتغل على كشف الأنساق الخطابية التي تُشكل هذا النص من خارج بنيته الظاهرة »(الموسوي، 2005 : ص 19)

وبينما يتماهى النقد الأدبي غالبًا مع انتماءات نخبوية ومرجعيات أكاديمية مغلقة، يسعى النقد الثقافي إلى تبني موقع مقاوم، ينحاز للهامش، ويعيد الاعتبار للثقافات المهمشة وغير المؤسسية.

« من مهام النقد الثقافي التعامل مع النصوص بوصفها تجليات للثقافة الشعبية... وتحطيم المركزية الجمالية الرسمية »(قنصوه، 2007 : ص 6)

ومن هنا يتضح أن النقد الثقافي يطرح نفسه كبديل نقدي مقاوم، أكثر انفتاحًا على قضايا الهوية، والذاكرة، والسلطة، مقارنة بالنقد الأدبي الذي ظل مرتبطًا بأفق الجماليات البنيوية.

3. التطبيق على القصيدة الجاهلية : بين النقد الأدبي والنقد الثقافي

يمثل تحليل corpus أدبي بعينه خطوة حاسمة في اختبار صلاحية النماذج المنهجية، ليس فقط من حيث قدرتها على تفسير النصوص، بل من حيث جدواها التأويلية في كشف مستويات المعنى الخفية والمضمرة. وفي هذا السياق، اختيرت القصيدة الجاهلية بوصفها corpusاً غنيّاً ومركباً، يسمح بإجراء قراءة مزدوجة تسلط الضوء على الاختلاف بين مقاربة أدبية كلاسيكية وأخرى ثقافية نسقية.

القصيدة الجاهلية ليست مجرد نص شعري تقليدي؛ إنها وعاء دلالي معقد يُخفي خلف صورته الجمالية نسقاً ثقافياً عميقاً يعكس رؤى المجتمع الجاهلي للعالم، وللذات، وللآخر. وهي بذلك تشكّل نموذجاً مثالياً لتجريب تداخل المناهج، واستكشاف حدودها وقدراتها.

وكما يشير يوسف عليمات :

« بما أن القصيدة الجاهلية تحوي في بنيتها العميقة مضمرات نسقية متعلقة بنظرة الشاعر الجاهلي للوجود الإنساني بكلية أضداده، فإن تأويل هذه الأنساق المضمرة من حيث هي مكونات ثقافية للمجتمع الجاهلي تحتاج إلى تأويل ثقافي عميق يبين طبيعة الموضوعات التي يمكن أن تنتجها هذه الأنساق »*(عليمات، 2004 : ص 11)*

1.3. القراءة الأدبية : تمجيد البنية الجمالية

تتعامل القراءة الأدبية مع القصيدة الجاهلية بوصفها نصاً شعرياً متكاملاً يهدف إلى إحداث الأثر الجمالي في المتلقي، ولذلك فهي تركّز على العناصر الفنية التي تُعدّ جوهر النص الأدبي، مثل الإيقاع، التفعيلة، الصور البلاغية، وتماسك البنية الأسلوبية. ويُعدّ هذا المنظور امتداداً لمدارس النقد الشكلاني والبنيوي التي أولت النص مركزية مطلقة، واعتبرته كياناً مكتفياً بذاته يمكن تحليله وفهمه من داخله، دون الحاجة إلى الرجوع إلى خارجه السياقي أو الثقافي.

في هذا السياق، تحظى الوقفة الطللية، باعتبارها لازمة تقليدية، باهتمام خاص كونها تعبّر عن الحنين، الفقد، والتحول، ما يمنح القصيدة أبعاداً وجدانية عميقة. كما تحلل القراءة الأدبية الغزل باعتباره وسيلة للتعبير عن الحب المثالي، ويُنظر إلى الفخر بوصفه إعلاءً لقيم الشجاعة والكرم. وتصبح هذه المكونات بمثابة وحدات تحليل دالة تكشف عن انسجام داخلي يعكس حرفية الشاعر وبراعته.

تُنتج هذه القراءة خطاباً جمالياً صرفاً، يُعلي من قيمة اللغة، ويحتفي بالأسلوب، ويُهمّش إلى حد بعيد السياقات الأيديولوجية أو النسقية التي قد تكون حاضرة ضمنياً في النص. وتُقيَّم جودة النص بمدى قدرته على الالتزام بالمعايير الفنية التقليدية، لا بمدى كشفه لواقع ثقافي أو اجتماعي معين.

2.3. القراءة الثقافية : كشف المضمر وتمثيلات الهيمنة

بعكس المقاربة الأدبية، تفتح القراءة الثقافية أفقاً مغايراً في فهم النص، حيث لا يتم التعامل مع القصيدة باعتبارها منتجاً جمالياً فقط، بل بوصفها خطاباً ثقافياً مشبعاً بتمثيلات القيم والسلطة والهوية. في هذا الإطار، لا يُنظر إلى الوقفة الطللية فقط كتقليد شعري، بل كوسيلة لإعادة إنتاج الحنين إلى مجتمع ذكوري ماضوي، يُكرّس صورة معينة للذات والمكان.

يحاول الناقد الثقافي أن يفكك الخطابات الكامنة خلف الصور البلاغية، فيرصد كيف يتم بناء الهوية الذكورية من خلال التغني بالقوة والبطولة، وكيف يتم تهميش المرأة من خلال حضورها الرمزي ككائن غائب أو موضوع للمتعة. كما يتم تحليل تمجيد القبيلة والانتماء كأدوات لترسيخ المركزية العشائرية وتبرير العنف ضد الآخر. بالتالي، تُصبح القصيدة الجاهلية سجلاً ثقافياً يُكرّس نسق الهيمنة الثقافية ويعيد إنتاجه.

ويُعزّز يوسف عليمات هذا التصور من خلال تأكيده على أن القصيدة الجاهلية لا تقتصر على بنية شعرية، بل تمثل أنساقًا ثقافية متضادة تعكس البنية العميقة للمجتمع الجاهلي. يذهب إلى أن تحليل هذه الأنساق يفتح المجال أمام دلالات متعددة تتجاوز الظاهر إلى الباطن النسقي، وهو ما يمنح النص قابلية غير محدودة للتأويل.

وكما يقول عليمات :

« أن تأويل أنساق الضدية في الشعر الجاهلي يسمح بفتح دلالات لا متناهية داخل النسق نفسه، تماماً كما هو الأمر في الدائرة التأويلية (Hermeneutics Circle)، وهذا يعني أن دراسة الأنساق المتضادة في بنية النص تضع المتلقي أمام فكرة النسق المتعدد (Polysystem)، وبناء على ذلك فإن النص الشعري الجاهلي يمثل ظاهرة نسقية متسمة بالحركية والانفتاح... »*(عليمات، 2004 : الصفحات 15–16)*

تشير هذه القراءة إلى أن النص الجاهلي يُبنى على نظام من التوترات الثنائية (مثل القوة/الضعف، المركز/الهامش، الذكورة/الأنوثة)، وهو ما يضفي عليه طابعًا ديناميكيًا متغيرًا يخضع للتأويل المستمر. وبالتالي، تصبح مهمة النقد الثقافي ليس فقط رصد هذه الثنائيات، بل تفكيكها وكشف ما تحمله من تحيزات ثقافية وقيم أيديولوجية مضمرة.

تستعين القراءة الثقافية بمفاهيم من حقول معرفية متعددة مثل علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، ودراسات الجندر، والتحليل النفسي، ما يجعلها قراءة متعددة الأبعاد، قادرة على الكشف عن عمق النص وامتداداته في البنية الثقافية الكبرى للمجتمع المنتج له.

3.3. عرض تحليلي ومقارنة بين المقاربتين

يعرض الجدول الآتي الفروقات الجوهرية بين المقاربتين الأدبية والثقافية، من حيث أدوات التحليل، الأهداف، ونتائج القراءة :

مقارنة منهجية بين النقد الأدبي والنقد الثقافي

البند

طبيعة النص

موضوع التحليل

أدوات التحليل

النتائج التأويلية

النقد الأدبي

بناء لغوي مغلق

الصور البلاغية، الإيقاع، التشكيل الشعري

البلاغة، السيميائيات، الموسيقى الشعرية

التذوق الجمالي، إبراز مهارة الشاعر

النقد الثقافي

خطاب ثقافي مفتوح

الأنساق المضمر، التمثيلات، السلطة

تحليل الخطاب، النقد النسقي، الأنثروبولوجيا

تفكيك السلطة الرمزية، تحليل الهوية الثقافية

تُظهر المقارنة أن كل من المنهجين ينطلق من منطلقات معرفية مختلفة، ويصل إلى نتائج تأويلية متباينة. بينما يهدف النقد الأدبي إلى إبراز الجماليات، يسعى النقد الثقافي إلى تفكيك النسق السلطوي الكامن في النص. هذا التباين لا يعني التناقض، بل يعكس تعدد الرؤى وثراء النص في استيعاب قراءات متعددة.

4.3. استنتاج

يكشف التحليل المقارن بين المقاربتين أن كلا منهما يشتغل ضمن أفق تأويلي مختلف، يهدف إلى تحقيق غايات مغايرة. فالنقد الأدبي يعمل على تعزيز الذوق الجمالي وتقدير البنية الفنية للنص، مما يجعله مهماً لفهم البعد الأسلوبي والإبداعي للقصيدة الجاهلية. غير أن انغلاقه ضمن حدود النص يجعله أحياناً قاصراً عن الكشف عن الأنساق الثقافية العميقة التي تشكل الإطار المرجعي لهذا النص.

في المقابل، يُعدّ النقد الثقافي محاولة جريئة لاختراق طبقات المعنى واستنطاق المضمر، مما يمنحه قدرة على كشف الأيديولوجيا، والهويات الجماعية، وتمثيلات السلطة. لكن هذا المنهج قد يغفل أحياناً عن الأبعاد الجمالية للنص، إذا ما أُفرط في تحميله قراءة أيديولوجية حصرية.

وعليه، فإننا ندعو إلى تبنّي مقاربة تكاملية لا تقف عند حدود الجمالي أو النسقي، بل تجمع بينهما، وتمنح النص فرصة التعبير عن تعددية معانيه. فالقصيدة الجاهلية في عمقها نص متعدد الطبقات، يحتاج إلى قراءات متقاطعة تحترم بنيته، وتفكك رموزه، وتربطه بسياقه الحضاري والثقافي

4. النقاش النقدي والآفاق التأويلية

1.4. بين الإقصاء والتكامل : مراجعة تأويلية

كشفت القراءة التطبيقية للقصيدة الجاهلية، عبر مقاربتين متباينتين —الأدبية والثقافية— عن تباينات جوهرية لا تقتصر على أدوات التحليل، بل تشمل الأفق التأويلي برمته. النقد الأدبي يشتغل على التذوق الجمالي ويولي اهتماماً بالبنية الأسلوبية، بينما يسعى النقد الثقافي إلى كشف الأنساق المضمرة والهويات المتصارعة في النص.

لكن المفارقة أن هذا التباين لا يُنتج تنافراً، بل إمكاناً لقراءة مزدوجة، تعزز من فهم النص لا تُقصيه. فالتوتر بين المنهجين —عوض أن يُفهم كتناقض— يمكن أن يُفهم كعلامة ثراء في القراءة، ودليل على خصوبة النص. كل مقاربة تُضيء جانباً مسكوتاً عنه لدى الأخرى، ما يجعل منهما مسارين متكاملين أكثر منهما متنافسين.
وفي هذا السياق، تصبح القراءة المتعددة للنصوص ضرورة منهجية، لا مجرد ترف نقدي. إن التفسير الذي يجمع بين العمق الرمزي والجمالي من جهة، والرؤية الثقافية التحليلية من جهة أخرى، يمنح النص قدرة أكبر على مقاومة القراءة الأحادية. وهذا ما يجعل المقاربة المزدوجة ليست فقط خيارًا، بل ضرورة لفهم النصوص المركبة مثل القصيدة الجاهلية.

2.4. حدود المرجعيات وقيود التلقي

يُثير هذا التباين سؤالاً عميقاً حول المرجعيات النظرية التي يستند إليها الناقد، ومدى صلاحية استنبات المفاهيم الغربية —لا سيما في النقد الثقافي— داخل السياق العربي. فمفاهيم مثل الخطاب، السلطة، التمثيل، والهوية، نشأت في بيئات فكرية وسوسيولوجية غربية، مما يجعل تطبيقها على نصوص عربية تقليدية عملية محفوفة بالمخاطر، إن لم تتم بعناية ووعي ثقافي.

كما أن التلقي يختلف بحسب الخلفية الفكرية للناقد والمتلقي معاً. فبينما قد يرحب الباحث الحداثي بالقراءة الثقافية، قد يراها آخر إقحاماً لأيديولوجيا معاصرة على نصوص كلاسيكية. وهذا ما يعكس تعدد المواقف من أسئلة الحداثة، والهوية، والمرجعية داخل الحقل النقدي العربي المعاصر.
كما ينبغي الإشارة إلى أن التلقي ليس عملية حيادية، بل هو مشروط بالبنية الثقافية للمتلقي نفسه، وتكوينه المعرفي وموقعه الاجتماعي. فالتأويل يتغير بتغير السياق، وهذا ما يجعل كل قراءة مشروعًا تأويليًا متجدداً يحتاج إلى مساءلة ذاته ومراجعة أدواته ومفاهيمه باستمرار.

3.4. نحو رؤية تكاملية : الأدب والثقافة بوصفهما نصًّا مزدوج البنية

تدفع نتائج التحليل نحو تجاوز الثنائية الصارمة بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، لصالح نموذج نقدي أكثر شمولاً يتعامل مع النص بوصفه بنية مزدوجة : جمالية وثقافية، لغوية ونسقية، رمزية وتمثيلية. هذا النموذج لا يُقصي البعد الجمالي، بل يعيد توظيفه في إطار سياقي أوسع يراعي البُعد التاريخي والاجتماعي للنص.

من هذا المنظور، يُقترح اعتماد مقاربة هجينة تستفيد من أدوات النقد الأدبي من جهة، وتحليل الخطاب والأنساق من جهة ثانية، بحيث يكون النص ساحة تفاعل معرفي متعدد الأبعاد. فمثل هذه الرؤية التكاملية تُعيد الاعتبار للنص وللقارئ معاً، وتُقرّ بتعدد التأويل دون تفريط في الجمالية أو المعنى الثقافي.
إن هذه الرؤية التكاملية لا تُفيد فقط في مجال تحليل النصوص الشعرية القديمة، بل يمكن توسيعها لتشمل الرواية، الخطابات الإعلامية، وحتى الإنتاجات الرقمية الحديثة، مما يجعل من النقد أداة معرفية قادرة على مواكبة تحولات النصوص والمجتمعات في آن واحد.

الخاتمة

تُبرز الدراسة الحالية أن التحول من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي لا يمثل مجرد انتقال في الأدوات أو المصطلحات، بل هو انعكاس لتحول أعمق في الرؤية النقدية، وفي طبيعة الأسئلة التي يطرحها الناقد على النص. فقد أظهرت القراءة التطبيقية للقصيدة الجاهلية أن كلا من المقاربتين – الأدبية والثقافية – يُنتج معرفة مختلفة بالنص، ويكشف بعدًا خاصًا من أبعاده، ما يدل على أن المعنى الأدبي ليس معطًى جاهزًا، بل هو بناء تأويلي يتشكل حسب زاوية المقاربة.

وإذا كان النقد الأدبي قد قدّم لنا إمكانية فهم البنية الجمالية للشعر الجاهلي، فإن النقد الثقافي منحنا مفاتيح لتفكيك النسق القيمي الذي يخترق هذا الشعر، ويشكّل تمثيلاته للذات والآخر. وهذا التكامل في النتائج يدعونا إلى تجاوز النظرة الثنائية نحو ممارسة نقدية أكثر شمولاً وانفتاحًا، تزاوج بين البعد الجمالي والبعد النسقي، بين النص وسياقه، بين الشكل والمضمون.

وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن مستقبل النقد الأدبي والثقافي في السياق العربي يكمن في بناء خطاب نقدي مركّب، يتجاوز التمركز حول النموذج الغربي دون الانغلاق على الذات، ويُقيم حوارًا مستمرًا بين الأدب وسائر العلوم الإنسانية، في سبيل فهم أعمق للظواهر النصية والثقافية على السواء.

« ليس المطلوب من النقد أن يختار بين الأدبي والثقافي، بل أن يُحسن الجمع بينهما بما يُنصف النص ويُنصف السياق في آنٍ معًا. »

🔹 المراجع العربية

اصطيف، ربيع (2017). النقد الثقافي : مفاهيم وتطبيقات. دمشق : منشورات اتحاد الكتاب العرب.

الغذامي، عبد الله (2004). النقد الثقافي : قراءة في الأنساق الثقافية العربية. بيروت : المركز الثقافي العربي.

الغذامي، عبد الله (2005). المرأة واللغة. بيروت : المركز الثقافي العربي.

خليل، عماد (2012). النقد الثقافي العربي : مقاربة معرفية. القاهرة : مكتبة الأنجلو المصرية.

قنصوه، شحاتة (2007). النقد الثقافي : مفاهيم وقضايا. القاهرة : دار قباء للنشر والتوزيع.

عليمات، يوسف (2004). تحليل الخطاب الثقافي في الشعر الجاهلي. عمان : دار الكندي للنشر والتوزيع.

الموسوي، محسن مهدي (2005). النقد الثقافي والنص الأدبي. بغداد : دار الشؤون الثقافية العامة.

المراجع الأجنبية

Barthes, Roland. (1977). Image, Music, Text. Trans. Stephen Heath. New York: Hill and Wang.

Bhabha, Homi K. (1994). The Location of Culture. London: Routledge.

Eagleton, Terry. (1996). Literary Theory: An Introduction (2nd ed.). Minneapolis: University of Minnesota Press.

Foucault, Michel. (1971). L’ordre du discours. Paris: Gallimard.

Hall, Stuart. (1997). Representation: Cultural Representations and Signifying Practices. London: Sage.

Isar, Yudhishthir Raj. (2003). Cultural Policy and Cultural Diversity: Mapping the Global Scene. Strasbourg: Council of Europe Publishing.

Jameson, Fredric. (1981). The Political Unconscious: Narrative as a Socially Symbolic Act. Ithaca: Cornell University Press.

Leitch, Vincent B. (Ed.). (2001). The Norton Anthology of Theory and Criticism. New York: W.W. Norton & Company.

Said, Edward. (1978). Orientalism. New York: Pantheon.

Williams, Raymond. (1980). Culture and Materialism. London: Verso.

صليحة بردي Saliha Berdi

جامعة الجيلالي بونعامة - خميس مليانةUniversité de Khemis Miliana

Articles du même auteur

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article