الإشكاليات المنهجية والحدود المعرفية في بحوث الاتصال وعلوم الإعلام

Questions méthodologiques et limites épistémologiques dans la recherche en sciences de la communication et des médias

Methodological issues and epistemological boundaries in communication and media science research

عصام رزاق لبزة Issam Rezzag-Lebza

للإحالة المرجعية إلى هذا المقال

بحث إلكتروني

عصام رزاق لبزة Issam Rezzag-Lebza, « الإشكاليات المنهجية والحدود المعرفية في بحوث الاتصال وعلوم الإعلام », Aleph [على الإنترنت], نشر في الإنترنت 11 mai 2025, تاريخ الاطلاع 06 juin 2025. URL : https://aleph.edinum.org/14445

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل مظاهر الاعتلال المنهجي والقصور البحثي في دراسات علوم الإعلام والاتصال، من خلال قراءة نقدية تتناول الإشكالات المتكررة في مراحل بناء البحث، من صياغة العنوان إلى التحديد المفاهيمي، واختيار المناهج وتوظيف النظريات. تنطلق الدراسة من ملاحظة تكرار القوالب النمطية، وضعف الترابط بين مكونات البحث، وانعدام التفكير النقدي، لتخلص إلى ضرورة إعادة النظر في الممارسات البحثية السائدة، وتعزيز التنوع المنهجي، والانفتاح على المقاربات النظرية الحديثة بما يعزز جودة البحث الأكاديمي.

Cette étude propose une lecture critique des principales défaillances méthodologiques observées dans les recherches en sciences de l’information et de la communication. Elle explore les problèmes liés à la formulation des titres, la définition des concepts, le choix des approches méthodologiques et l’utilisation des cadres théoriques. L’étude conclut à la nécessité de repenser les pratiques de recherche en valorisant la diversité méthodologique et en intégrant les évolutions épistémologiques contemporaines.

This study offers a critical examination of methodological shortcomings in media and communication research. It addresses key issues related to research design such as title formulation, conceptual clarity, methodological choices, and theoretical frameworks. The paper concludes by advocating methodological diversity and alignment with evolving theoretical paradigms.

المقدمة

يُعدّ تحليل مظاهر الاعتلال المنهجي في بحوث علوم الإعلام والاتصال مدخلًا ضروريًا لفهم مكامن القصور التي تحدّ من فاعلية البحث العلمي في هذا الحقل المعرفي المتداخل والمنفتح على تحولات اجتماعية وتكنولوجية متسارعة. فالواقع يُظهر، خصوصًا في سياق التعليم العالي بالمنطقة العربية، تكرارًا لنماذج بحثية مألوفة، تخضع لقوالب تقليدية في صياغة العناوين، وتوظيف المناهج، واستدعاء النظريات، مما يؤثر سلبًا على جودة النتائج ومصداقيتها.

لا يُراد بهذا الطرح إصدار أحكام مُسبقة، بل فتح أفق للتفكر في مدى توافق الممارسات البحثية السائدة مع متطلبات التخصص وحيويته. ذلك أن العديد من الدراسات تعاني من ارتباك مفاهيمي، وضعف في التأسيس النظري، وغياب للقراءة النقدية، ما يؤدي إلى اختلال التوازن بين الأبعاد النظرية والمنهجية والميدانية.

انطلاقًا من هذه الملاحظات، تسعى هذه الورقة إلى تشخيص أبرز الإشكالات المنهجية المتكررة في بحوث الإعلام والاتصال، عبر قراءة تشخيصية نقدية لا تدّعي الإحاطة، وإنما تطمح إلى إثارة نقاش علمي جاد حول الممارسات البحثية السائدة، وتحفيز إعادة النظر في آليات إنتاج المعرفة داخل الأطر الأكاديمية الرصينة.

1. مظاهر الاعتلال في بناء الدراسات الإعلامية

1.1. صياغة عنوان الدراسة

تمثل صياغة عنوان الدراسة أحد المفاتيح الأساسية التي تعكس وعي الباحث بطبيعة موضوعه، ومدى قدرته على الإحاطة بإشكاليته المركزية. ورغم وجود معايير معروفة في ضبط عنوان البحث (الدقة، الشمول، الإيجاز، الارتباط بالموضوع)، إلا أن ما يُلاحظ في العديد من دراسات الإعلام والاتصال هو الميل إلى اعتماد صيغ مكررة، خاصة تلك التي تدور حول مفهومي « الدور » و« التأثير ».

ويبدو أن هناك اعتقادًا راسخًا لدى الكثير من الباحثين وحتّى بعض المؤطرين بأن العناوين التي لا تتضمن هذه الصيغ تُعدّ غامضة أو غير أكاديمية، مما يدفع الباحث في أحيان كثيرة إلى إعادة صياغة عنوانه قسرًا وفق هذه القوالب التقليدية، ولو على حساب دقة المعنى ومطابقته لموضوعه الحقيقي. غير أن دراسات رصينة متعددة بيّنت أن هذه الصيغ ليست قاعدة إلزامية أو ضرورة منهجية، بل قد تُعدّ أحيانًا محدودة الدلالة وغير كافية لضبط إشكالية مركّبة.

على سبيل المثال، اختار الباحث سعيدات الحاج عيسى عنوانًا مبتكرًا لدراسته هو : « الانقرائية الإعلامية للجرائد اليومية »، دون اللجوء إلى مفاهيم « الدور » أو « التأثير »، رغم أن دراسته تتناول علاقة الجمهور بالمضامين الإعلامية. وهذا النموذج ليس استثناءً، بل يندرج ضمن توجه أوسع نحو تنويع الصيغ العنوانية بما يعكس خصوصية كل موضوع.

كما يمكن للباحث أن يدعم العنوان الرئيسي بعناوين فرعية توضّح مجاله واتجاهه ومنهجيته، دون الوقوع في الإطالة أو الغموض، مما يعزّز الوضوح والربط مع المجال التخصصي للدراسة.

2.1. تنوع المنهجيات : بين التعدد البنّاء والخلط المربك

يُنظر في الغالب إلى تعدد المنهجيات كعامل إيجابي يُثري زوايا التحليل ويُساعد على الإحاطة الشاملة بالظاهرة المدروسة. غير أن هذا التعدد قد يتحوّل إلى عامل إضعاف في دراسات الإعلام والاتصال، خصوصًا حين يُمارس دون وعي براديغمي أو مبررات علمية واضحة.

فبعض الباحثين يقعون في فخ الدمج الاعتباطي بين منهجيات ومقاربات متباعدة معرفيًا وإجرائيًا، مما يؤدي إلى بناء بحثي مهتز، ونتائج غير متماسكة، بل وقد يعجز الباحث نفسه عن تحديد البراديغم الذي تنتمي إليه دراسته، مما يكرّس الضبابية في الأسس الفكرية والإجرائية التي تُوجّه البحث.

هذا التداخل العشوائي يختلف تمامًا عن التركيب المنهجي الواعي، الذي يقوم على دمج مدروس لمقاربات متعددة، شرط أن يكون التبرير العلمي حاضرًا، وأن تبرز الحاجة المنهجية الحقيقية لهذا التعدد. فالتركيب المنهجي الناجح يُفترض أن يؤدي إلى نتائج أكثر عمقًا واتساقًا، لا إلى تشويش أو تضارب.

كما أشار إلى ذلك فلاق ولعلاوي (2018، ص 96)، فإن التعدد غير المنضبط قد يُفضي إلى تسطيح البحث، وإضعاف قيمته العلمية، في حين أن التعدد المؤسس بعمق معرفي ومنهجي، يمكن أن يكون أداة قوية لفهم الظواهر المركّبة في حقل الإعلام والاتصال.

3.1. إشكالية قوالب المقاربات النظرية 

لا يزال التصوّر السائد لدى عدد من الباحثين في مجال الإعلام والاتصال، فيما يتعلق بالمقاربات النظرية المُعتمدة في معالجة موضوعات الدراسة، محصورًا في إطار النظريات الكلاسيكية الراسخة في هذا الحقل، أو ما يُشبهها من نظريات تقليدية مجاورة. وحتى عند الاستعانة بنظريات أحدث، فإن الكثير من الباحثين يحتفظون بنفس الاعتقاد القائل بأن الاشتغال النظري لا يكون إلا من خلال الاستدعاء الكامل لتلك النظريات، بما تحويه من فرضيات وصياغات مفاهيمية جاهزة، من دون النظر في تحييناتها الممكنة، خاصة في ظل التحولات المتسارعة التي تعرفها البيئة الميديولوجية المعاصرة، أو مساءلة أوجه القصور المنهجي والمعرفي التي تطبعها.

إن هذا النمط من الاشتغال لا يستجيب في جوهره لمتطلبات الدقة المنهجية، بل ينتج عنه في أحيان كثيرة توظيف نظري « مُشوَّه »، ليس بسبب تقادم النظرية فحسب، وإنما بسبب طريقة توظيفها غير الواعية أو غير المبرّرة علميًا. ونموذج ذلك ما يُلاحظ في التعامل مع نظرية « الاستخدامات والإشباعات » في صيغتها التقليدية، أو مع نظريات مشابهة، يتم استدعاؤها بصورة آلية دون مساءلة مدى ملاءمتها لسياق الدراسة.

في المقابل، كان من الأجدر – كما تشير بعض الدراسات الرصينة (بن شراد ورحموني، 2021، ص 9) – الانفتاح على نظريات جديدة أو مراجعة، تتسم بقدرة أكبر على تفسير الظواهر الاتصالية المتغيرة، وتكون أقل قصورًا من حيث صلاحيتها التفسيرية، وأكثر توافقًا مع خصوصيات الواقع الميدياتيكي المعاصر. وهو ما حاولت أن تُحققه جملة من البحوث الغربية من خلال تبني مقاربات نقدية لنظريات الاتصال والإعلام، والسعي إلى تكييفها مع مستجدات الواقع الرقمي (أبو الحمام، 2022، ص 9)، بل والذهاب أبعد من ذلك نحو استحداث تصورات نظرية جديدة تساعد على تفكيك مظاهر القصور في البحوث الإعلامية المعاصرة، والتغلب على الإشكالات المعرفية الناتجة عن توظيف نماذج تفسيرية تقليدية، لم تعد قادرة على ملامسة تعقيد الظواهر الإعلامية المتجددة (Hafez, 2013, p. 325).

إلى جانب ذلك، يُلاحظ غياب التمييز – لدى عدد من الباحثين – بين مستويين أساسيين في التعامل مع النظريات :

  • المستوى الأول : التوظيف الجزئي، والذي يقضي بالاستفادة من النظرية في حدود ما تقتضيه الحاجة البحثية، كالاعتماد على بعض مفاهيمها أو فرضياتها، بما يُسهم في بناء إطار نظري مرن وقابل للتكييف مع خصوصيات الموضوع.

  • المستوى الثاني : التبني الكلي، والذي يفترض توظيف النظرية بكل مكوناتها ومفاهيمها وتصوراتها، مما ينعكس على طبيعة بناء أدوات الدراسة، وعلى مستوى التحليل والتفسير، بل ويُؤثر على صياغة النتائج نفسها.

ومن ثَم، فإن النتائج التي تُفضي إليها الدراسة ليست سوى امتداد طبيعي للبنية النظرية التي تأسس عليها العمل منذ البداية، ولطريقة استدعاء النظرية وتوظيفها. وهنا تبرز أهمية أن يُدرك الباحث الفرق الجوهري بين التوظيف والتبني، وأن يُحدد موقع نظريته ضمن منظومة متكاملة من المعالجة المنهجية الدقيقة، حتى يتمكن من إنتاج معرفة علمية أصيلة وقابلة للاستدلال.

4.1. مأزق المناهج الموروثة 

يُعد اختيار المنهج خطوة جوهرية في بناء أي دراسة علمية؛ فهو لا يمثل مجرد إجراء تقني، بل هو إطار معرفي وإجرائي يحدد طبيعة المعالجة ومجال الاشتغال. فالباحث، في سعيه لتحقيق أهداف دراسته، مطالب باختيار المنهج الذي يُناسب موضوعه، ويُتيح له الأدوات والآليات الكفيلة بفهم الظاهرة محل البحث وتحليلها ضمن نسق علمي مضبوط. وهذا ما أشار إليه زيات (2022، ص 680) حين أكد أن اعتماد منهج ملائم ومُفكر فيه هو السبيل الأمثل لضمان مشروعية العمل البحثي ومصداقيته.

غير أن الملاحظ في العديد من الدراسات المنجزة، لاسيما تلك التي تُقدم ضمن أطر جامعية في تخصص الإعلام والاتصال، هو اعتمادها على مناهج تقليدية موروثة، دون إخضاعها للتساؤل النقدي، أو مساءلة مدى ملاءمتها لموضوع البحث وظروفه. هذا النمط من « الاستنساخ المنهجي » لا يُمثل فقط عائقًا أمام التجديد، بل يُفضي في كثير من الأحيان إلى إنتاج نتائج نمطية باهتة، يمكن التشكيك في صدقيتها وجدواها العلمية.

وقد يعود هذا الميل إلى عوامل متعددة، لعل أبرزها تخوف الطلبة والباحثين الشباب من مغادرة المألوف، وهواجسهم من التعرض للنقد من طرف لجان الإشراف أو التقييم في حال استعانوا بمناهج غير شائعة أو غير مألوفة. كما أن غياب التكوين المنهجي العميق يجعل بعضهم يختار « الطريق الآمن » من خلال استدعاء منهجية سبق استخدامها في دراسات مماثلة، دون تفكير في مدى صلاحيتها لموضوعهم الخاص، أو في إمكانية تحيينها أو تعديلها.

لكن هذا التصور، وإن بدا في ظاهره احترازيًا، لا ينسجم مع روح البحث العلمي الذي يقوم على التجديد والتساؤل والتجريب. فالمناهج ليست قوالب ثابتة بل أدوات ديناميكية يجب أن تُختار بناء على طبيعة الإشكالية، وأن تُبرّر علميًا داخل متن الدراسة. إن الالتزام الأعمى بالمناهج الموروثة، دون تكييف أو تعديل، يُحوّل المنهج من أداة علمية فاعلة إلى مجرد إجراء شكلي.

وفي حال استمرار هذا التوجه، فإننا بصدد إعادة إنتاج نفس النتائج تقريبًا، خاصة إذا تعلّق الأمر بمواضيع سبق تناولها، مما يكرّس حالة الجمود المنهجي، ويُفضي إلى عطالة فكرية حقيقية تعيق تطور البحث العلمي في مجال الإعلام والاتصال. فكل علم يطمح إلى المشروعية والاعتراف الأكاديمي لا بد أن يُبنى على ديناميكية التفكير، وتعدد الرؤى، والانفتاح على أدوات جديدة، تُخضع للتأصيل والتبرير، لا للتكرار والتقليد.

5.1.إشكالية تحديد المفاهيم 

يُعد التحديد المفاهيمي في أي دراسة علمية خطوة بالغة الأهمية، بل هو أحد الركائز الأساسية التي يُبنى عليها مجمل التصور النظري والإجرائي للبحث. فالمفهوم الذي يتبناه الباحث لا يحدد فقط الإطار العام للموضوع، بل يُشكل العدسة التي يرى القارئ من خلالها مضمون الدراسة، ويوجّه تموقعها داخل الحقل المعرفي. كما أن التحديد المفاهيمي الدقيق يُمكّن الباحث من تضييق دائرة المعالجة، وضبط المؤشرات والأبعاد التي تمنح الموضوع معناه وجدواه، وتُحدد طبيعته وحدوده، من الماهية النظرية إلى التفرعات التحليلية التي تستتبعها.

غير أن المتأمل في واقع البحوث الأكاديمية، وخصوصًا في دراسات الإعلام والاتصال، يلحظ تكرار عدد من الاختلالات المنهجية الملازمة لهذه المرحلة المفصلية، والتي تمس بوضوح دقة الدراسة ومصداقيتها. ومن أبرز هذه الاختلالات، كما يشير سيد عبد الحميد (2016، ص 44)، الميل إلى استخدام مفاهيم فضفاضة وواسعة النطاق، يصعب حصرها أو إخضاعها للقياس أو الضبط التجريبي، الأمر الذي يُعطل إمكانية صياغة فرضيات دقيقة أو بناء أدوات بحث فعّالة.

يُضاف إلى ذلك ما يمكن وصفه بـالإطناب المفاهيمي، حيث يُغرق الباحث نصّه بعدد كبير من التعريفات، غالبًا ما تُستقى من مصادر معجمية أو اصطلاحية دون ربطها بسياق الدراسة، مما يُفقد المفهوم تماسكه الدلالي ويجعله رخو الحدود، ملتبس المعنى، مفتوحًا على تأويلات متضاربة. وهذا ما حذّر منه سويروس (2017، ص 270) حين أشار إلى أن تعدد التعريفات غير المضبوط قد يُربك القارئ، ويقود إلى تحيّزات في التفسير، ويُعقّد عملية التوظيف العلمي للمفاهيم، بسبب تنوع العناصر المدمجة فيها دون معيار واضح.

ولا تقف الإشكالية عند هذا الحد، بل تمتد لتشمل تعدد الفهم لدى المبحوثين أنفسهم للمفاهيم المستخدمة في الدراسة، خصوصًا في البحوث الميدانية التي تتطلب وضوحًا مفاهيميًا لتوحيد إدراك أفراد العينة، وضمان اتساق استجاباتهم. وهنا يظهر قصور آخر في بعض الدراسات، إذ لا يُنظر إلى التحديد المفاهيمي باعتباره مرحلة إنتاج دلالي وسياقي، وإنما يُختزل في كونه حشدًا للتعريفات المكررة من دون تحليل أو توجيه.

إن التحديد المفاهيمي الحقيقي هو عملية تفسيرية مركبة، تهدف إلى تموضع المفهوم ضمن شبكة دلالية واضحة، لها امتدادات على المستوى النظري، وارتدادات على المستوى الإجرائي والميداني. ومن ثم، فإن ضبط المفهوم لا يعني فقط تعريفه، بل توطينه في سياق الدراسة، وربطه ببنية الإشكالية والأهداف والفرضيات، بشكل يجعله أداة فعالة في بناء المعرفة، لا عقبة منهجية تعرقل تطورها.

2. صعوبات منهجية في بناء البحث وتحليله

1.2. إشكالية عدم تماس الدراسة مع الواقع

يرتبط تشكُّل الهاجس البحثي في أي مجال معرفي بوجود مؤشرات واقعية قوية تُعبّر عن ظواهر أو إشكاليات تتطلب التقصي والدراسة. فالواقع يشكّل دائمًا القاعدة الأساسية التي ينطلق منها الباحث لتأطير موضوعه، وتشخيص الظاهرة التي يتناولها، بشرط أن تكون قابلة للرصد والتحليل باستخدام أدوات البحث العلمي وأساليبه المنهجية الرصينة.

ومع ذلك، فإن المتمعن في العديد من الدراسات الأكاديمية، سواء المعاصرة أو السابقة، يُلاحظ غيابًا لافتًا للتماس الحقيقي بين موضوعات هذه الدراسات والواقع الميداني. إذ نجد في كثير من الأحيان أن الموضوعات المختارة تبدو أقرب إلى اختلاقات ذهنية أو ميول شخصية للباحث، أكثر منها استجابة لحاجة معرفية فعلية تُحتّم معالجتها علميًا. وهذا التوجّه قد ينتج عن غياب معايير دقيقة لاختيار موضوع الدراسة، أو عن عدم إدراك الباحث لطبيعة الظواهر الاجتماعية والإعلامية التي تستحق التفكيك والفهم، وهو ما يخلق فجوة منهجية بين البحث ومجاله الواقعي المفترض.

ومن تجليات هذا الإشكال، اعتماد بعض الدراسات على موضوعات مستهلكة، أو بناء موضوعات حول جمهور غير موجود فعليًا، أو حول وسائط إعلامية لم تعد ذات أثر، مما يُفرغ البحث من مضمونه العملي. بل إن هذا الانفصال عن الواقع يدفع بعض الباحثين إلى اختلاق نتائج غير موجودة لتبرير موضوع دراستهم، أو تحوير البنية الداخلية للموضوع ليتماشى مع ما يعتقدونه « نتائج شرعية »، دون وجود أسس ميدانية أو علمية تبرر تلك المعالجة.

والأخطر من ذلك، أن هذه النوعية من الدراسات تُدرج لاحقًا ضمن قائمة « الدراسات السابقة »، مما يُكرّس أخطاء منهجية جديدة ويُوجّه أبحاثًا لاحقة نحو مسارات مغلوطة. إن غياب التماس الواقعي يُشكّل إذًا مأزقًا منهجيًا خطيرًا، لا يؤثر فقط على الدراسة المعنية، بل يمتد إلى تشويه المنظومة البحثية بمجملها في حقل الإعلام والاتصال.

2.2. مشكلة الإحاطة المعرفية

تُعدّ الإحاطة المعرفية شرطًا أساسيًا لكل ممارسة بحثية علمية متماسكة، فهي التي تُؤهل الباحث لفهم موضوعه في عمقه، والتمييز بين متغيراته، وتوظيف أدواته بشكل فعال. إذ أن غياب هذا النوع من التكوين يؤدي إلى انفصال حاد بين الباحث وموضوعه، ويضعه في موقف هشّ لا يسمح له بمعالجة الإشكالية بشكل دقيق أو بناء استنتاجات ذات مصداقية.

إن القراءة المعرفية ليست مجرّد تكديس للمعلومات أو استعراض للمصادر، بل هي فعل ذهني مركّب، يقوم على تحليل متأنٍّ للمراجع، وانتقاء واعٍ لما يخدم موضوع الدراسة، مع إدراك للعلاقات المفاهيمية والمنهجية بين النصوص. وقد نبّه إلى ذلك سفاري (1995، ص 40) حين أشار إلى أن المؤسسات الأكاديمية العريقة لا تسمح للطالب بالخوض في الكتابة البحثية إلا بعد التحقق من مدى امتلاكه لرصيد معرفي متين، يمكّنه من النظر إلى موضوعه من زوايا متعددة، ويكفل له مستوى من العمق الفكري.

لكن ما يُلاحظ في بعض الدراسات هو سوء فهم لطبيعة الإحاطة المعرفية، حيث يعتقد البعض أن كثرة القراءة وحدها كافية، أو أن تنوّع مصادر المطالعة – من مقالات، أطروحات، وكتب – يُغني عن التفكير المنهجي. غير أن الأمر يتطلب انتقاءً نقديًا، وتصنيفًا دقيقًا للمصادر، وتحليلًا لمضامينها، مع إخضاع كل ما يُقرأ للمساءلة العلمية من حيث صدقيته وجدواه ومدى ارتباطه بالإشكالية المركزية.

الإحاطة المعرفية إذًا ليست ترفًا فكريًا، بل هي أساس البناء العلمي للدراسة، فهي التي تُمكّن الباحث من صياغة إشكالية واضحة، ومن بناء شبكة مفاهيمية صلبة، ومن اختيار أدوات منهجية متناسقة مع أهدافه. كما أنها تُوفّر له الرؤية الكلية التي تسمح له بالاصطفاف الفكري داخل الحقل العلمي، لا بصفة مقلد، بل كمُفكّر يسعى إلى إنتاج معرفة حقيقية.

3.2. غياب التفكير الناقد

إن القراءة المعرفية الأفقية والعمودية في تراث أي موضوع، ولا سيما في حقل علوم الإعلام والاتصال، لا يمكن أن تثمر معرفة حقيقية ما لم تخضع لمنهجية المساءلة النقدية. فتوفر المعلومات أو البيانات، سواء أكانت خامًا أو معالجة، لا يمنحها تلقائيًا صفة الصدقية أو المشروعية العلمية. إذ أن المعرفة، في جوهرها، لا تتأسس إلا عبر أدوات التفكير الناقد التي تُفرز وتُقوّم، وتُميز بين ما يُعتد به وما يُعاد النظر فيه، ما يُستبقى وما يُستبعد.

إن غياب هذه الرؤية الناقدة في كثير من الدراسات، وخصوصًا في تلك المرتبطة بالبيئة الرقمية الجديدة، يؤدي إلى تصورات سطحية ومبتذلةللظواهر قيد الدراسة. فالعديد من الباحثين يسارعون إلى تجميع معلومات من مصادر متفرقة، خشية الوقوع في أزمة نقص المراجع، دون التمحيص الكافي لمضامينها، أو تساؤل حول صلاحيتها. هذا التراكم الكمّي الذي لا يرافقه تفكير نقدي، يفرز نوعًا من الدراسات التي تفتقر إلى العمق، وتفتقد للمشروعية الأكاديمية.

وتتجلى خطورة غياب التفكير الناقد أيضًا في بنية الموضوع نفسه، إذ أن عدم مساءلة الباحث للمعارف المتاحة يؤدي إلى تناقضات داخلية في صلب الموضوع، وإلى تشكيل غير منسجم للأفكار والمفاهيم. كما أن تعارض وجهات النظر بين المناقشين لا يجد له انعكاسًا في الدراسة عندما يغيب التحليل النقدي، مما يجعل الباحث عرضة للتشكيك في قدرته على ضبط منهجية التفكير العلمي. ومن هنا، يصبح غياب التفكير الناقد مأزقًا حقيقيًا يُضعف من قيمة الدراسة، ويُفقد الباحث السيطرة على موضوعه، منذ بدايات تشكيله إلى نهايات استنتاجه.

3. نزعات مهيمنة تُضعف جودة البحوث

1.3. تنميط البحث في علوم الإعلام والاتصال : إشكالية النزوح نحو الدراسات الكمية

لا جدال في أن التوجه السائد داخل بحوث علوم الإعلام والاتصال يُظهر ميلًا مفرطًا نحو الدراسات الكمية، رغم ما يُسجّل من محاولات خجولة في اعتماد المقاربة الكيفية كآلية منهجية موازية. إلا أن هذا الميل لا يعكس دائمًا قناعة علمية بملاءمة المقاربة الكمية، بقدر ما يعكس نزعة تلقائية أو استراتيجية هروبية لدى بعض الباحثين، تهدف إلى تحوير الموضوعات البحثية لتتماشى قسرًا مع منطق التكميم، حتى وإن كان الموضوع في جوهره يتطلب معالجة كيفية عميقة.

ويُلاحظ أن هذا التوجه قد أصبح نوعًا من القيد المنهجي غير المعلن، حيث يندفع الكثير من الباحثين إلى اعتماد أدوات كمية – كالاستبيانات والجداول الإحصائية – دون تبرير علمي دقيق، مما يُنتج دراسات شكلانية تبحث في العموميات، وتفتقد إلى التمفصلات الدقيقة التي تحتاج إلى سبر معمق وفهم كيفي للظواهر الإعلامية المعاصرة، خاصة في ظل تحولات البيئة الرقمية. كما أشار إلى ذلك بوعزيز ورداوي (2020، ص 28)، فإن هذا المسار يجعل البحوث تميل إلى التكرار والسطحية.

ويجب التنويه هنا أن الطرح لا ينطوي على تفضيل قيمي بين المقاربتين الكمية والكيفية، وإنما يُسلّط الضوء على التمركز غير المبرر حول خيار منهجي واحد، واستبعاد المداخل المنهجية الأخرى التي قد تكون أكثر ملاءمة للسياق أو الموضوع. فالكثير من الباحثين يتجنبون استخدام أدوات المقاربة الكيفية – كالمقابلة، والملاحظة، وتحليل الخطاب، والسيميولوجيا – نظرًا لصعوبتها النسبية، أو بسبب غموض مفاهيمي ومنهجي يُحيط بها، مما يُعزز التصور الشائع بأن هذه المقاربات « معقدة » أو « غير مضمونة النتائج ».

هذا التصور جعل العديد من الدراسات الكيفية تتحوّل إلى أبحاث مشوهة منهجيًا، تتبنى ظاهريًا المقاربة الكيفية، لكنها تُخضع مكوناتها إلى التكميم القسري، عبر إقحام تحليل المحتوى الكمي في ثنايا تحليل الخطاب أو السيميولوجيا، في مخالفة واضحة لطبيعة هذه الأدوات. وهذا ما نبه إليه البياتي (2016، ص 64) حين أشار إلى أن الأبحاث الإعلامية في العالم العربي لا تزال أسيرة المنهج الكمي، حتى في محاولاتها التجريبية للكيفية، حيث تُطبّق المناهج الكيفية داخل أطر إمبريقية شكلية تُفرغها من محتواها.

يعود هذا الخلل في جزء كبير منه إلى التصور الثنائي الصراعي الذي يتبناه بعض الباحثين بين المقاربتين الكمية والكيفية، حيث يُنظر إلى كل منهج على أنه نقيض للآخر. في حين أن العلاقة بينهما، في كثير من الحالات، تقوم على التكامل لا التنافي، كما تؤكد مي العبد الله (2010، ص 135)، حيث قد يلجأ الباحث إلى توظيف معطيات كيفية لتفسير نتائج كمية، أو العكس، خاصة في مرحلة التحليل والتركيب، وربط النتائج بالدراسات السابقة.

كما أن أدوات البحث الكمية – مثل الاستبيانات – قد لا تكفي أحيانًا للإحاطة الشاملة بالموضوع محل الدراسة، مما يقتضي الاستعانة بالمقاربات الكيفية كالإثنوغرافيا أو التحليل السيميولوجي. وقد أكّد بوعزيز ورداوي (2020، ص 28) أن بعض المواضيع الإعلامية لا يمكن مقاربتها من خلال إطار كمي أو كيفي صرف، بل تتطلب تعددية منهجية، قائمة على التكامل بين المقاربتين، لضمان فهم أعمق وأدق للظاهرة.

وعليه، فإن التنميط المنهجي الذي يُقصي المقاربة الكيفية من منظومة البحث، أو يُخضعها لمنطق تكميمي قسري، يُعدّ عقبة حقيقية أمام تطوير البحث العلمي في علوم الإعلام والاتصال. المطلوب إذًا هو تجاوز هذه الثنائية الصراعية، وتبني منظور منهجي مرن، يضع موضوع الدراسة في صلب اختيار الأدوات والمقاربات، لا العكس.

2.3. متاهات الترجمة

والقصد هنا هل ننظر إلى الترجمة الحرفية أم نرى ما بعدها من معنى سياقي، وهذا إشكال عويص يجعل الباحث يترنح بين مستويين، الأول يتعلق بالمراجع التي تنقل عنها المعلومات والتي تأخذ الترجمة الحرفية للمصطلح والجملة، وهذا يؤدي بالضرورة إلى الحصول على معلومات ومعارف مشوهة وقد تكون في أحيانا كثيرة محرفة عن المراد في النص الأصلي، والمستوى الثاني المتعلق بالترجمة المرتبطة بالباحث بعد حصوله على النص الأصلي وهنا يقع في إشكالية التأويل وإشكالية الالتزام بالمعنى الضيق للمصطلح، خاصة أن علوم الإعلام والاتصال تتميز بمصطلحات معقدة ومركبة لا يمكن فهمها في معناها المرادف بالغات الأخرى وفق المدلول الواحد بل يحتاج استيعابها إذا ما انتقلت إلى لغة أخرى إلى إرجاعها لدلالاتها المعجمية والسوسيوثقافية بكل حمولتها، وهذا ما يعجز عنه الباحثين في كثير من الأحيان لاكتفائهم قصدا أو تكاسلا بالمعاني الأولى للمصطلح دون النظر إلى قواعده المعرفية أو الثقافية أو الفلسفية أو غيرها التي نشء في إطارها، وهو ما يعمق الاختلالات المفاهيمية في التعبير عن المدلولات الحقيقية للنصوص الأصلية، مما يجعل النقل المعرفي غير صحيح وقد يحمل في ثانيه مغالطات تؤدي بالدراسة إلى السطحية في المعالجة أو الخروج عن المقصود من حيث الهدف والنتيجة المتوصلة إليها، على اعتبار أن الدراسات لا تتكون وحدها هكذا، وإنما تستند إلى خلفيات معرفية تبني الترجمات للنصوص الغربية ، أنها إذا عملية تقوم أساسا على الخطاب الذي يصل اللغة بالفكر فليست وصفا للغات، وإنما هي دراسة وتحليل لتمفصل أفكار نص ما، ثم إعادة صياغتها في لغة ثانية (شاوش شعبان، 2015، الصفحات 57-62)، وهذا يوضح أن اللغة في حدا ذاتها بمصطلحاتها ليست متغيرا معزولا عن الخلفيات التكوينية لها، وما المعنى الموجود في عمق التراكيب التراتبية للأحرف المشكلة للمصطلح إلى المدلول الذي أكسبتها إياه التأسيسات المعرفية والاجتماعية والثقافية والعملية له، فلا يعقل بأي شكل من الأشكال أن تكون هناك ترجمات صحيحة وخاصة في علوم الإعلام والاتصال، إلا وفق التفسيرات الأولى للحمولة الإيحائية للمصطلح.

زد على ذلك أن التسارع في حركية التغيرات داخل البيئة الميدياكتية الجديدة أفضى إلى وجود فجوات متعلقة بسياقات تواجد كل مصطلح، حيث أنه عندما يتأسس مصطلح ما مثلا في البيئة الإعلامية في الغرب ويتطور ويتبلور لا يعني ذلك أنه اكتسب نفس المدلول التطوري في البيئة الإعلامية العربية، علاوة على أن علوم الإعلام والاتصال تشهد تنامي كبير في المصطلحات على اعتبار كمية التطورات والظواهر التي تنبع وتتكون في إطارها خاصة في البيئة الغربية، وهذا ما يحيلنا لمعضلة التقعيد لها في بيئتها الأصلية بشكل متوازن وعميق بدافع جدتها لذا يجب التنبه إلى معاني نشأتها بالأساس قبل ترجمتها، وعدم التسرع إلى الأخذ بها وإقحامها لدى الدارسين في أبحاثهم، لأن ذلك يخلق عرج في البنية المعرفية للدراسة مما ينعكس على غموض التوظيف داخل المستويات الثلاث للدراسات إذا ما وجدت بداية من الإطار المنهجي فالنظري التوثيقي وصولا إلى المجال الميداني التطبيقي، وقد يتعدى العرج في الترجمة إلى سوء استيعاب المفهوم، مما يحيل إلى رؤية غير واضحة للظواهر الإعلامية والاتصالية التي تكون محل دراسة وتنقيب علمي. (لعياضي، 2016، صفحة 12)

3.3. التكميم : المبالغة في الحجم على حساب القيمة العلمية

شاعت في الأوساط الأكاديمية، وخصوصًا في تخصص علوم الإعلام والاتصال، فكرة خاطئة مفادها أن قيمة البحث العلمي تقاس بحجمه المادي، أي بعدد الصفحات التي يشتمل عليها. وقد أصبح هذا التصور مهيمنًا لدى عدد من المؤطرين والأساتذة والمناقشين في مختلف مستويات التكوين الجامعي (ليسانس، ماستر، دكتوراه)، إلى حدٍّ صار فيه تقليص حجم الدراسة يُعدّ نقطة ضعف، والإطناب في الصياغة دليلاً على الجهد والمشروعية العلمية.

لكن هذا التوجه يمثل انحرافًا عن جوهر البحث العلمي، الذي لا تُقاس جودته بالكمّ بل بالكيف، ولا تُقيّم أهميته بطول مادته بل بعمق إسهامه العلمي. إذ أن تضخيم الصفحات عبر التكرار والاستطراد والحشو غير المبرر، لا يؤدي سوى إلى تمييع الموضوع وإضعاف قيمته المعرفية، بل ويجعل القارئ يغرق في تفاصيل لا تضيف جديدًا.

والخطورة هنا لا تكمن فقط في تضخم الشكل، بل في فقدان البوصلة المنهجية، حين تصبح غاية الباحث « ملء الصفحات » عوض الإجابة على إشكالية بحثية حقيقية. فالبحث العلمي، في جوهره، يُبنى على الدقة والتركيز والاختزال المنتج، لا على الكثافة النصية الخالية من القيمة.

إن إسناد أهمية مفرطة للحجم الورقي، وإهمال الوزن المعرفي للدراسة، يُنذر بانزلاق المنظومة البحثية إلى سطحية علمية، ويكرّس ممارسة شكلانية قد تفضي إلى فقدان الثقة في إنتاجات التكوين العالي ذات الطابع الأكاديمي.

4. اختلالات فكرية وأسلوبية في البحث

1.4. الدوغمائية في بحوث علوم الإعلام والاتصال

من المظاهر المنهجية السلبية التي تميز بعض البحوث في مجال الإعلام والاتصال، تبنّي الباحث لنمط تفكير دوغمائي، يقوم على اليقين المطلق بأن ما توصل إليه من تصور أولي لمعالجة الظاهرة هو الخيار الوحيد الصحيح، ورفضه التام لأي رأي مغاير. وغالبًا ما يظهر هذا التصلب الفكري في طريقة تمسكه بالأدوات والمقاربات التي اعتمدها، حتى بعد تلقيه ملاحظات نقدية بناءة من قبل لجان التقييم أو الأساتذة المشرفين.

ويُلاحظ، على سبيل المثال، تمسك بعض الباحثين بشكل عنيد بصيغ استماراتهم أو أدوات جمع البيانات، رغم وجود ملاحظات موضوعية تدعو إلى المراجعة أو التعديل أو حتى الإلغاء، مما يدل على أن خياراتهم لم تكن قائمة على أسس علمية، بل على رغبات شخصية أو تصورات مسبقة. وقد يمتد هذا التعنت إلى المقاربات النظرية أو المنهجية التي تم اختيارها، حيث يرفض الباحث إدخال أي تعديلات، حتى وإن أجمعت لجنة التحكيم على وجود ثغرات.

هذا السلوك لا يدل فقط على غياب النضج العلمي، بل يعكس أيضًا ضعف المرونة المعرفية، وهي سمة أساسية في كل باحث علمي جاد. فالبحث الأكاديمي، بطبيعته، يقوم على الانفتاح، والمراجعة، والاستجابة للنقد كآلية لتجويد العمل، لا كمصدر تهديد.

2.4. التفكك : القطيعة بين المحاور الثلاثة في البناء البحثي

يتطلب إنجاز دراسة علمية متكاملة – سواء كانت مذكرة، رسالة، أو أطروحة – بناءً منهجيًا متماسكًا يتضمن ثلاثة مكونات رئيسية : الإطار النظري، الجانب المنهجي، والجزء التطبيقي الميداني. ويُفترض أن تكون هذه المكونات في حالة اندماج عضوي، يُفضي إلى تحقيق انسجام عام في بنية البحث. غير أن الواقع يكشف عن وجود فجوات حادة بين هذه المكونات في عدد من الدراسات.

ويتمثل هذا الخلل في غياب الترابط بين الإطار النظري والتحليل الميداني؛ حيث لا تنعكس المفاهيم والنظريات المستعرضة في التحليل الفعلي للبيانات، ولا تظهر لها أثار واضحة في التفسير أو الاستنتاج. كما أن أدوات الدراسة كثيرًا ما تُبنى بمعزل عن المرتكزات المفاهيمية، مما يُضعف من صلابة العمل ويوحي بكون الباحث لم يُدرك طبيعة الموضوع، أو لم ينجح في ترجمته إلى بناء منهجي متكامل.

إضافة إلى ذلك، نجد أن العلاقة بين مشكلة البحث والمتغيرات المفترضة كثيرًا ما تكون مفككة أو مفتعلة، ويغيب الربط المنطقي بين المراحل المتعددة للدراسة، من تحديد الإشكالية، إلى بناء الفرضيات، إلى تصميم الأداة الميدانية.

إن هذا التفكك يُضعف من مصداقية العمل البحثي، ويعرضه للنقد والشك، بل ويُفرغه من جدواه الأكاديمية. ومن ثَم، فإن معيار تقييم أي دراسة يجب أن ينطلق من مدى الترابط بين أجزائها، وقدرتها على بناء مسار متسق، يربط بين النظرية والمنهج والميدان، بشكل يؤسس لإنتاج علمي رصين.

3.4. مأزق أحادية اللغة

تُعد الإشكالية اللغوية من أكبر العوائق التي تواجه الباحثين العرب، وبشكل خاص في الجزائر، في مجال الإعلام والاتصال. فالحديث عن أحادية اللغة لا ينبع من ترف أكاديمي أو تقليد معرفي، بل من وعي عميق بخطورة الفجوة المعرفية التي تنشأ حين يعجز الباحث عن تجاوز لغته الأم نحو الاطلاع على الأدبيات الأجنبية، خصوصًا تلك المكتوبة بالإنجليزية، وهي اللغة السائدة عالميًا في هذا الحقل.

وقد أشار شاوش شعبان (2015، ص 55) إلى أن معظم الدراسات المؤثرة في هذا المجال ذات منشأ غربي، مما يجعل الإلمام بلغات أجنبية شرطًا حتميًا لمواكبة التقدّم العلمي. فالعزلة اللغوية تُفضي إلى إعادة إنتاج أبحاث سابقة بشكل مكرّر أو معرّب دون مساهمة فعلية في تطوير الحقل.

وفي هذا السياق، يشير بركات (2016، ص 7) إلى أن ضعف التمكّن من اللغة الأجنبية يحول دون الإمساك الدقيق بالمصطلحات المحورية، ويؤدي إلى قراءة سطحية أو خاطئة للدراسات، بما يُعطّل إنتاج المعرفة. فاللغة ليست أداة تواصل فقط، بل هي أداة تفكير وتحليل. وعليه، فإن إشكالية أحادية اللغة تُعد عقبة منهجية ومنظومية تحول دون بلوغ الباحث المستوى المطلوب من العمق والإضافة.

4.4. إشكالية التغير المستمر في الظواهر

تتميز الظواهر الإعلامية والاتصالية المعاصرة بكونها ديناميكية ومتغيّرة بصورة سريعة، خصوصًا في البيئة الرقمية التي أعادت تشكيل المفاهيم والسلوكيات، وأنتجت قضايا وإشكالات جديدة لم تكن مطروحة من قبل. وقد ترتب على هذه التحولات حاجة ملحة إلى مراجعة المفاهيم والمقاربات التقليدية، بما يتماشى مع طبيعة التحول المستمر في الحقل.

لكن ما يُلاحظ هو أن العديد من الدراسات لا تُراعي هذه الديناميكية، بل تتعامل مع الظواهر على أنها ثابتة أو قابلة للضبط النهائي، مما يؤدي إلى إنتاج نتائج سرعان ما تتقادم أو تتعارض مع الواقع الجديد. ويكمن الخطر هنا في أن الظاهرة – بحكم تغيرها – قد تفلت من القبضة المنهجية للباحث، فيبني افتراضاته على تصور مبدئي، ثم يكتشف عند التحليل أنها تغيّرت بشكل جذري، فيصبح في مواجهة مع إشكالية لم تعد موجودة، أو بنتائج لا تعبّر عن السياق الحالي.

من هنا، وجب على الباحث في علوم الإعلام والاتصال أن يسائل نفسه منذ البداية : هل الظاهرة التي أدرسها قابلة فعلًا للضبط والتحليل؟ وهل تتمتع بقدر كاف من الثبات المرحلي يسمح بتناولها ضمن منطق البحث العلمي؟. ذلك أن الفشل في الإجابة عن هذا السؤال يُفضي إلى دراسات غير متماسكة، تعاني من فقدان المصداقية والانفصال عن الواقع، وهي إشكالية حادة في مجال يَسِمُه التجدد والتفاعل الدائم.

الخاتمة

لا شك أن كلما طُرح سؤال المنهجية في علوم الإعلام والاتصال، عادت إلى الواجهة إشكاليات التمكين المعرفي والعلمي لمسارات البحث في هذا الحقل. وتتجدد معها التساؤلات الجوهرية المتعلقة بمدى التزام البحوث بتصورات منهجية رصينة، أو بمرجعيات براديغمية مبرّرة، وقادرة على تأطير الظواهر المعقدة التي يُعالجها هذا المجال.

لكن الممارسة البحثية الراهنة تكشف عن مأزق معرفي متكرر، يتمثل في ازدواجية حادة بين التبني المنهجي الواعي من جهة، والانزلاق إلى تطبيقات مشوهة من جهة أخرى، حيث يتم تجاهل الضوابط العلمية، أو استبدالها بتصورات سطحية، في الغالب ناتجة عن نقص في التكوين أو غياب الإدراك المنهجي الواعي. وهذا ما يُنتج، في نهاية المطاف، بحوثًا تفتقر إلى التجانس، وتُعاني من مظاهر اعتلال في جميع مستويات بنائها : من تحديد الإشكالية إلى بناء الأداة إلى تحليل النتائج.

إن خطورة هذا الوضع لا تنبع فقط من كثافة الخلل، بل من تحوّل بعض الممارسات الخاطئة إلى أعراف راسخة داخل الثقافة البحثية، حيث لم تعد تُطرح على طاولة النقاش، وأصبحت تُمرّر تحت غطاء « المنهج المقبول » أو « المعتاد ». هذا المسكوت عنه يُسهم في ترسيخ المغالطات، ويحول دون تطور حقيقي في الأداء البحثي داخل الحقل.

انطلاقًا من هذا التشخيص، تبدو الحاجة مُلحّة إلى فتح ورشات تفكير معمّقة تُعيد النظر في المسارات المنهجية المعتمدة، وتعمل على غربلة الممارسات السائدة، عبر قراءات تحليلية من المستوى الثاني، لا تكتفي بوصف الظواهر بل تسعى إلى تفسيرها وتصحيحها. ويتطلب هذا المسار جهدًا جماعيًا من الباحثين والخبراء والمؤسسات العلمية، لتأصيل ثقافة علمية قائمة على النقد، والتحقيق، والتفكيك، والتجديد.

إن استعادة الرصانة المنهجية في بحوث الإعلام والاتصال لا تمر فقط عبر تدريب الباحثين على استخدام الأدوات، بل عبر إعادة تشكيل العقل العلمي ذاته، ليكون نقديًّا، متبصرًا، وواعيًا بحدود المعرفة وإمكاناتها.

فلاق، أ.، & لعلاوي، خ. (2018). إشكالية منهجية في أطروحات الدكتوراه لعلوم الإعلام والاتصال بالجزائر. مجلة الاتصال والصحافة، 5(1). المدرسة العليا للصحافة، الجزائر.

بوعزيز، ب.، & رداوي، م. (2020). اتجاهات البحث في علوم الإعلام والاتصال (أبحاث الوسائط الجديدة نموذجًا) : قراءة نقدية في المرجعيات المنهجية والنظرية لعينة من رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه بالجزائر. مجلة بحوث ودراسات الميديا الجديدة، 1(2)، جامعة المسيلة.

شاوش، ش. ج. (2015). إشكالية ترجمة المصطلحات وتأويلها في بحوث علوم الإعلام والاتصال. المجلة الدولية للاتصال، 2(1/2)، جامعة مستغانم.

بوجمعة، ر. (2004). ابستيمولوجيا علوم الاتصال : أزمة فهم بنية الاتصال في المجتمع الجزائري. المجلة الجزائرية للاتصال، 9(12)، جامعة الجزائر 3.

سويروس، س. (2017). البحث الاجتماعي (ش. فارغ، ترجمة). الدوحة، قطر : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

بركات، ع. ع. (2016). الإشكالية المنهجية في الدراسات البينية. المجلة العربية لبحوث الإعلام والاتصال، (12)، جامعة الأهرام الكندية، مصر.

أبو الحمام، ع. (2022). مراجعة نقدية لنظرية ترتيب الأجندة في سياق البيئة الرقمية للاتصال والإعلام. دراسات إعلامية، مركز الجزيرة للدراسات، قطر.

زيات، ف. (2022). ابستيمولوجيا العلوم الإنسانية والاجتماعية. مجلة الساورة للدراسات الإنسانية والاجتماعية، 8(1)، جامعة بشار.

بن شراد، م. أ.، & رحموني، ل. (2021). المشكلات المنهجية لبحوث الإعلام الرقمي في الجامعة الجزائرية : من استلاب المناهج التقليدية إلى ضعف التحكم في براديغمات الإعلام الجديد. في أعمال الملتقى الدولي لمعايير الجودة في بحوث علوم الإعلام والاتصال. جامعة الوادي، الجزائر.

العبد الله، م. (2010). البحث العلمي في علوم الإعلام والاتصال : من الأطر المعرفية إلى الإشكاليات البحثية. بيروت، لبنان : دار النهضة العربية.

سفاري، م. (1995). الأسس المنهجية في توظيف الدراسات السابقة. مجلة العلوم الإنسانية، 6(1)، جامعة أم البواقي.

لعياضي، ن. (2016). البحث العلمي في علوم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية وغياب الأفق النظري. مجلة المستقبل العربي، 39(450)، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان.

سيد عبد الحميد، هـ. (2016). البحث العلمي بين المشكلات المنهجية وعدم صدق النتائج. مجلة كلية الخدمة الاجتماعية للدراسات والبحوث الاجتماعية، 3(3)، جامعة الفيوم، مصر.

البياتي، ي. خ. (2016). إشكاليات بحوث الاتصال : التحديات النظرية والتطبيقية. بيروت، لبنان : دار النهضة.

Hafez, K. (2013). The methodology trap : Why media and communication studies are not really international. *Communications – The European Journal of Communication Research*, 38(3). De Gruyter Mouton.

عصام رزاق لبزة Issam Rezzag-Lebza

جامعة قسنطينة Université Constantine 3

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article