مقدمة
حظيت النصوص الأدبية -على اختلافها- منذ زمن بعيد باهتمام بالغ من النّقاد الذين حاولوا جذبها في اتّجاهات شتّى، واهتمام الّلغويين والنقّاد بالنّصوص بدأ يتزايد أكثر، خاصّة عندما أدرك هؤلاء أنّ النّص لم يعد ذلك البناء الّلغوي فحسب، بل أصبح يُعدّ إنتاجا معقدا يتمركز على مكان هام في العملية التّواصلية بين شركاء التّواصل وقد قُصد به التّأثير، فهو إذن محور الفعاليّة والحيويّة الاتّصالية بين المجتمعات الإنسانية.وقد أفادوا من تنوع المعطيات النقدية والمناهج اللسانية التي شاعت في عالم متسارع، تجاوز حدود التخصصات وأزال الحواجز بين العلوم.
ولأنّ القصيدة العربية هي نص انحرف عن مواضعات العادة والتّقليد، فقد أخذت بحظ وافر من الدّراسة والتّحليل، فالشعر ظلّ دائما أقرب الفنون إلى النفس البشرية، وهو مصدر المتعة واللذّة والفائدة. إنّ عمليات التّحليل لهذه المنجزات الإبداعية الّلغويّة (القصيدة العربية) هدفها هو فهم هذه الظاهرة اللغويّة ومحاولة تأويلها وفهم مقاصدها التي لم يصرّح بها منتجوها. وعليه تظلّ خير وسيلة للتّأويل الناجح هو البحث في المستوى التّداولي، وقبل التّركيز على هذا الأخير وتجلّياته في قصيدة ّ« المساء » التي عُدّت بناء ثريّا تفاعلت فيه عناصر السياق، لابدّ من الوقوف أولا على مفهوم التّداوليّة ثم نعرج على تطبيق هذا المنهج على قصيدة « إيليا أبي ماضي ».
1. التّداولية وماهيتها
تُعدّ التّداوليّة منهجا قويما ورافدا ثريا في عملية تحليل النصوص الأدبية وفهمها وتأويلها، انطلاقا من فكرة أنّ هذه الإنتاجات الّلغوية هي وسيلة تواصل بين منتج ومتلق، أي هي أشكال من الّلغة قُصد بها الاتّصال، أنتجها منتجها في ظروف معينة لمتلق أو مجموعة من المتلقين، القصد منها تحقيق هدف أو أهداف معينة. والحق يقال إنّ تحقيق هذه الأهداف والوصول إلى التّأثير المنشود الذي يرجوه المنتج من شريك الاتّصال (المتلقي/المستهلك)، هو ما يفرض حسن استعمال الّلغة في المقال، إذ لابدّ أن تراعي مجموعة من الشروط حتى توظف هذه النّصوص ليست عملية عشوائية، وإنّما هو فعل مؤسّس يخضع لقواعد لغوية وكثير منها غير لغوي، كمراعاة المتلقي وثقافته وتكوينه ومراعاة الأحداث التي تقع في زمان ومكان معينين.
إنّ إنجاح العملية التّواصلية عن طريق النّصوص الأدبية يعني التأثير في المتلقي الذّي هو مبلغ اهتمام التداولية، إذ نلاحظ دائما أنّ التأثيرات التي تحصل في سلوك الأفراد والمجتمعات نابع من قوة اللغة التي تُوظّف في نصوص داخل سياقات معينة، وبتعبير آخر لا يمكن أن ننظر الى النص على أنه بنية من القواعد المترابطة فحسب، إنّما يجب أن يُنظر إليه على أنّه قوة تدفع المتلقي إلى إنجاز فعل معين أو تبنّ فكرة ما، أو تغير سلوك إلى آخر. والسّبيل إلى إحداث هذه التّغييرات والتّأثيرات هو ما تدرسه التّداولية إذ « تسهم إسهاما مستقلّا في تحليل الشّروط التي تجعل تلك العبارات جائزة ومقبولة في موقف معين بالنسبة للمتكلمين بتلك اللغة ». كما تهتمّ التداولية أيضا بإبراز المعاني والمقاصد الخفيّة التي تستتر داخل عالم النص، والمعاني المضمرة كثيرا ما تختصّ بها النصوص الأدبية عموما والشّعرية خصوصا، (الغذامي، 2006، صفحة 83).فالنص يظهر كحضور معلّق، يتطلب من القارئ استدعاء العناصر الغائبة ليمنحه فهما كاملا وقيمة دلالية متكاملة.
والقصائد الشعرية تضطلع بهذه الصفة إذ لا تفصح في غالب الأمر عمّا يريده المنتج، وإنّما يُترك ذلك للمتلقي حتى يكون مشاركا فاعلا في صنع المعاني، مستعينا في ذلك بحدسه وبمجموعة من الاستدلالات التي تمكّنه من البحث والكشف. إن التداولية وانطلاقا ممّا سبق قوله نوع من الدّراسة يبحث في «كيفية إدراك قدر كبير ممّا لم يتمّ قوله على أنه جزء ممّا يتمّ إيصاله، إنّه دراسة المعنى غير المرئيّ» (يول، 2010، صفحة 19). وباختصار شديد إنّ التداولية هي «دراسة كيفية إيصال أكثر ممّا يقال» (يول، 2010، صفحة 19). وإذا كانت المنجزات الإبداعيّة الشّعريّة لا بدّ أن تقول شيئا فإنها تبرز بعض المعاني، إذ يقوم المتلقي بالبحث عن المعنى كما أراده المنتج أو المتكلم وعلى هذا يختصّ الوافد الجديد في اللسانيات(التداولية) ويُعنى أيضا «بدراسة المعنى الذي يقصده المتكلم» (يول، 2010، صفحة 19). وعلى ذلك تتأكّد في هذا النوع من الدراسة قيمة المتلقي وإشراكه في عملية البحث والتحليل.
ودراسة النّصوص الشعرية وتحليلها تقوم في المقام الأوّل على دراسة اللغة أولا، وبالاستعانة بالوسائل غير اللغوية ثانيا. إنّ التداولية بهذا الصّنيع تبيح للمتلقي أن يخرج من سطوة النّص في حدوده الضيقة إلى
«ضرورة تناول عوامل توظيف النّصوص وشروط ذلك التوظيف أيضا في الدّراسة النّصية، حيث لا يمكن على ما يبدوا استنباط المعنى الاتّصالي للنّصوص من أبنية النّصوص بمفردها» (فولجانج هاينه من، 1419ه، صفحة 57).
ويبرز التّأكيد هنا على أهمية السّياق في تحليل النّصوص، إذ لم يعد كافيا أن تحلّل هذه الأخيرة من منظور نحوي ودلالي فقط، بل بالاعتماد على المستوى التداولي الذي بإضافته « سيمكّن من إعادة بناء جزء من المقتضيات التي تجعل الأقوال (المنطوقات/ الجمل الصّغرى مقبولة تداولية » (خطابي، 1991، صفحة 29). أي مناسبة الأقوال المنجزة للسياق التي ترد فيه.
ولما كان السّياق مرتبطا ارتباطا قويّا بالنّص لأنّه مجاله الذي يُطبّق فيه، فقد اعتُبر وسيلة هامة لفهمه لأنّ
« محلّل الخطاب يعالج مادته الّلغوية بوصفها نصّا لعملية اتّصاليّة استُعملت فيها الّلغة كأداة توصيلية في سياق معين من قبل متكلم أو كاتب للتّعبير عن معان وتحقيق مقاصد الخطاب » (براون، 1997، صفحة 60).
2. التّحليل التّداولي لقصيدة المساء
1.2. النص والنّص الموازي
قبل الحديث عن السّياق وعناصره الأساسية في القصيدة محلّ الدراسة، يجدر بنا أن نقف عند العنوان باعتباره نصّا موازيّا للمنجز اللّغوي الإبداعي. إذ يعتبر عتبة مهمة تضيء للقارئ سلفا اكتشاف بعض الدّلالات وتضعه في السّياق العام للنّص الشعري « المساء » وهو مدخل ذو أهمية بالغة في صنع التنبّؤ بالمضمون العام، إنّه
« عبارة عن علامات سيميوطيقيّة تتجاوز كونها مجرد عنوان إلى كونها حاملة الدّلالة الكليّة للمتن، واختصارا للمضمون، وتعبيرا عن وجهة نظر، وتوجيها لفكر أو رأي أو موقف » (نوّاري سعودي، 2012، صفحة 101)
إنّ تحليل العنوان « المساء » يعني الوصول إلى مقاربة نصّية تداولية هدفها استنطاق بناه العميقة وتأويلها واكتشاف أبعاد الشّاعر الفكرية والفلسفية.
النّص الموازي هاهنا مركّب من عنصر واحد وهو المسند إليه أي « المساء » وهو مصّرح به، جاء معرفة والمعرفة في العربية عكس النّكرة تأتي لتدلّ على حالة من التّحديد والتعيين، ليؤكد على فترة زمانية محددة تأتي بعد نهاية النّهار، أو لنقل إنّه اللّيل، وقد ارتأى الشّاعر أن يُقصي عمدا المسند أي الخبر الذّي يمكن أن نقدّره ب« قادم » وهذا لبيان قيمة المبتدأ (المساء)، والتّصريح بهذا الأخير هو تأكيد على أهميته وقيمته كوقت زمني يحلّ بعد نهاية كل يوم، إذ لا خيار للإنسان في قدومه أو مجيئه من جهة، وهو (أي المبتدأ) سيحدد مجال الخطاب بالنسبة لما يأتي بعده من جهة ثانية، وهذا ما نراه ماثلا أمام أعيننا إذ تطلّ علينا بدايات القصيدة برسم لوحة فنية جميلة توضّح تأهب النّهار لترك مسرحه أمام قدوم المساء أو الليل، فالشّمس بدأت تختفي، والبحر ساج صامت قد هجره البشر والطيور، وبدأت تختفي المدن والمدائن في ظلمته، وتتساوى الأشياء في عتمته. فلا فرق عند اللّيل بين النّهر والمستنقع، ومع كل هذه الأوصاف التّي يرسمها الشّاعر تحيلنا لفظة « المساء » على الهدوء إذ بقدوم هذا الأخير تنقطع صلة الإنسان بعالم مليء بالصخب والفوضى والجلبة لتحلّ السكينة والصمت. وكما « المساء » يحمل دلالات السّكون فإنّ له من الدلالات الأخرى ما يوحي بالقلق النفسي وعدم الراحة، فالإنسان لا تفترسه الهواجس إلّا في المساء، ولا يستبدّ به التفكير إلّا في الليل، فهو مبعث على الهمّ والقلق والانشغال بالدّهر ونوائبه.
إنّ إيليا واعتمادا على هذا العنوان يحاول أن يتجاوز الدّلالة الحرفية له حتى يجعل المتلقي يُبحر في عالم الدلالات الموحية التي تتجدّد من قارئ إلى آخر، وكلّها تساهم في تأويل النّص. والمساء باعتباره دالّا على الزمن يمكن أن يكون إيحاء على النهاية والزوال والفناء، فالحياة مآلها إلى الانقضاء وبين الزوال والفناء يستسلم الإنسان أحيانا لهواجس النفس والحيرة والقلق، فيُمنَع إذ ذاك من رؤية مباهج الحياة الأخرى، فكما للنّهار بريقه فللدّجى أيضا أحلامه ورغائبه وسماؤه وكواكبه، وللأزهار والجداول سحرها الفاتن حتّى في المساء ما دامت تفوح عطرا ويمتلئ الكون شذى، وما دام خرير الجداول تأنس له الآذان فيتحول إلى نغمات عذبة.
والشّاعر وهو يضع هذا العنوان بداية لقصيدته ليكون مبتدأ، فإنّه يوجه المتلقي بذلك إلى قيمة المساء.
« إنّه يوجد شبه إجماع بالنسبة للفكرة الأساسية التي يقوم عليها تعريف المبتدأ في مختلف الدراسات التي اهتمّت بالوظائف التّداولية، وهي أنّ المبتدأ يحدّد مجال الخطاب بالنسبة لما يأتي بعده » (المتوكل، 1985، صفحة 113).
والملاحظ في هذه القصيدة أنّ « المساء » كعتبة يحاول أن يضعنا أمام لوحة فنية تجتمع فيها عناصر طبيعية متحركة هي التي تشكّلها، فنستمتع بها وبجمالها. إنّ توظيف المبتدأ مرتبط بالمقام الذي يهيّئه الشاعر في البداية وهو توظيف تداولي، فالخاصيّة التي تميّز المبتدأ ترتبط بالمقام أي أنّ تحديدها لا يمكن أن يتمّ إلّا انطلاقا من الوضع التّخابريّ القائم بين المتكلم والمخاطَب في طبقة مقامية معينة (المتوكل، 1985، صفحة 115). ويبدو أنّ الشاعر أبا ماضي حين تنسلخ شخصية أخرى من ذاته وهي الفتاة التي يحاورها موجود في حيز زماني معلوم مدرَك بالنسبة له وللمخاطَب (الفتاة)، ولكنّ المساء هنا منظور إليه من زوايا أخرى ودلالات حيّة تسعى كلّها إلى إجبار المخاطَب إلى الاستمتاع بكل مراحل العمر، فهي دعوة ماثلة أمامنا نحو التفاؤل والفرح. يمكن أن نقول إذن إنّ النّص الموازي هو في حدّ ذاته أداة لتحقيق رؤية ينشدها الشاعر.
2.2. السياق وعناصره
من البديهي هنا أن تتجاوز فكرة السياق البناء الداخلي للنصوص، إذ لم يعد من الممكن الوصول إلى تشريح دقيق للنص لمعرفة ما قيل وما لم يُقل في ظلّ أحادية التّركيز على البناء اللّغوي فحسب، إذ لا بدّ من التأكيد على
«الاتصال اللغوي وأطرافه وشروط قواعد وخواصه وآثاره، وأشكال التفاعل ومستويات الاستخدام وأوجه التأثير التي تحققها الأشكال النصية في المتلقي وصور التّلقي » (بحيري، 2010، صفحة 162).
إنّ النصوص في حدّ ذاتها نشاط تواصلي اجتماعي يفرض وجود عناصر تؤطّر هذه الممارسات الاتّصالية وهي كما يذكرها براون ويول : المتكلم، والمخاطَب، والرسالة، والزمان، والمكان، ونوع الرسالة ينظر (براون، 1997، صفحة 31). إنّ قيمة البحث التداولي تكمن في الإجابات عن التساؤلات التالية : من المتكلّم؟ ومن يتلقى؟ ماهي المقاصد الضمنيّة داخل الخطاب أو النص؟.
1.2.2. من المتكلّم في قصيدة المساء؟
بما أنّ النّص الشعري للشاعر اللبناني «إيليا أبو ماضي» ، فإنّنا نفترض مسبقا أنّه الباث/ المخاطِب الذي أنتجه، وهو الذي يتلفّظ به من أجل التّعبير عن مقاصد معينة مسكوت عنها، وهو الذات المحورية التي تتكلّم وتسأل إذ لا يمكن «للّغة الطّبيعية أن تتجسّد وتمارس دورها الحقيقي إلّا من خلال المرسِل، فبدونه لا يكون للّغة فاعلية» (ابن ظافر الشهري، 2004، صفحة مقدمة الكتاب). فالأنا النّصي الحاضر في القصيدة يؤطّره ضمير المخاطِب (أنا) الدّال على المفرد وهو صنف من تلك الإشاريّات الشخصية التي تدل على المتكلم الحاضر، فالمخاطِب حاضر بالفعل فهو الذي يسأل ويستفهم، كما تدل على ذلك الأسطر الشعرية التالية : إني أراك كسائح في القفر ضلّ عن الطريق- فلقد رأيتك في الضحى- وجدتك في المساء. والمتأمل في القصيدة يستطيع أن يدرك أنّ الشاعر (المخاطِب) من خلال أسئلته هو إنسان تظلّ نفسه حائرة موزعة بين متاهات الحياة والموت ليجعل من اقتراب المساء وحلوله هاجسا يسيطر على كيانه فيفقده توازنه، إنّها الحيرة عندما تستبد بالفكر فتحول إلى تساؤلات تتردّد في أعماقه. يقول إيليا أبو ماضي :
«أرأيتِ أحلامَ الطفولةِ تختفي خلفَ التّخومْ؟
أم أبصرتْ عيناك أشباحَ الكهولةِ في الغيومْ؟
أم خفتِ أن يأتيَ الدّجى الجاني ولا تأتي النجومْ؟» (أبو ماضي، (د ت)، صفحة 764).
إنّ الشاعر ومن خلال كل هذه التساؤلات المبثوثة في كل مقاطع القصيدة يجد نفسه ضائعا يشبه حاله حال السائح الذي ضلّ في القفر طريقه، فهو لا يكاد يجد أجوبة لما يدور بفكره. والواقع أنّ هذه الحيرة سمة من سمات الرومانسيّين الذين كان أبو ماضي واحدا منهم
«فقد غلّف الرومانسي العالم بالمشاعر الصفراء الاحتضاريّة وجثم أمام كل ملمح من ملامح العطب والزّوال، فتجربة الطبيعة تحتضن تجربة الزمن وتجربة الزمن تحتضن تجربة الموت» (الحاوي، 1986، صفحة 34 ج05).
وكما تدلّ المقاطع الاستفهامية على حيرة الشّاعر تطلعنا بعض المقاطع السّرديّة على العدميّة في فكره أحيانا، إذ تتساوى الأشياء لديه :
«إنّ المسا يُخفي المدائنَ كالقرى
والكوخَ كالقصرِ المكينْ
والشّوكُ مثل الياسمينْ
لا فرقَ عند اللّيل بين النهرِ والمستنقعْ
يُخفي ابتساماتِ الطروبِ كأدمعِ المتوجّعْ
إنّ الجمالَ يغيبُ مثل القبحِ تحتَ البّرقعْ» (أبو ماضي، (د ت)، صفحة 766)
يتضح من المقاطع السابقة أنّ الشاعر طرف مهمّ في عملية التخاطب يظهر تارة في وضع الحيرة وهو ما يبرّر لوجود مفردات يمكن أن تُصنّف ضمن حقل القلق النفسي وهي كالآتي : الخائفين، باهتتان، تختفي، أشباح، الكهولة، ضلّ، الجاني، القفر، حيرة، الهواجس، الغاز، اكتئاب، هوت، انكسار، ...، إلخ. ولكنّه تارة أخرى إنسان متجدّد حرّ، يتدفق الشباب في أعماقه فيحاول أن يستمتع بكل لحظات الحياة حلوها ومرها، متّخذا من الطبيعة سبيله للتعبير عن مشاعره الفياضة التي ترى الجمال في كلّ شيء وتزدري القبح أينما كان، فالطبيعة كما يراها أبو ماضي مصدر إلهام ورمز للحياة والفكر والتّأمل. (هلال، 1973، صفحة 415). ومن المفردات التي تدلّ على حقل الطبيعة نذكر : السّحب، الياسمين، الشّمس، البحر، النّجوم، النّهر، المروج الخضر، العصافير، الزّهر، العندليب، سهولها، كواكبه، ...، إلخ. وبين الحيرة والتّجدد نجد الشّاعر قد ربط بين صورتين متناقضتين جمعت في العمق ثنائية الموت والحياة، وهو في هذه التناقضات يجد نفسه يصارع كل مظاهر السّكون والقلق والتّفكير الذي لا طائل منه، كأنّه في حرب مع خصم يبرّر لنفسه تلك الحيرة الّتي تستبدّ به عندما يأتي المساء.ولا عجب في هذا التوظيف، فالشاعر ينتمي إلى التيار الرومانسي، حيث ينعكس الوجدان على الطبيعة، وتتحول الأشياء إلى كائنات تتفاعل مع مشاعر الإنسان، وتتمركز الذات في قلب التصوير الشعري.
2.2.2. المخاطَب المتخيَّل في القصيدة
المقاطع كلّها تشي بوجود ثنائية المخاطِب والمخاطَب، وهذا الأخير هو الذي يتّجه إليه الشّاعر بالحديث وهو جوهر العلية التّواصلية لأنه المقصود بالخطاب، وهو كذلك «المتلفّظ المشارك دالّا على أنّ التلفّظ هو في الواقع تلفّظ مشترك وأنّ الطرفين يلعبان في صلبه دورا نشطا، فعندما يتحدث المتلفّظ فإنّ المتلفّظ المشارك يُبلَّغ هو الآخر» (مانغونو، 2008، صفحة 16). والطرف الآخر الذي يقصده الشّاعر كان واضحا، وقد أعلن عنه إمّا بالتّصريح المباشر ذاكرا اسمه منذ المقطع الأوّل في القصيدة في السطر الخامس : سلمى بماذا تفكرين؟ أو بصيغ أخرى تشير دائما إلى المخاطَب عينه كاستبدال لفظ سلمى بالفتاة بقوله : فدعي الكآبة والأسى واسترجعي مرح الفتاة، أو بكاف الخطاب أو بالضمير المنفصل أو المستتر في مواضع عديدة، مثلا : -إني أراك كسائح، -بل أنت أعظم حيرة من فارس تحت القتام، -فأصغي (أنت) إلى صوت الجداول جاريات في السفوح. وقد عمد الشّاعر إلى حذف المرسل إليه عمدا بعد ذكره في المقطع الأوّل ليدلّ السّياق العام عليه، وهو وجهة الخطاب التي لم تتغير منذ البداية حتى النهاية. على أنّ المتأمل يدرك أنّ هذه الفتاة ما هي في واقع الأمر إلّا ذات الشاعر التي انسلخت عنه فتخيّلها شخصا يمكن مساءلته والحوار معه لعلّه يجد أجوبة تروي ظمأه، ولكننا نجد أنّ هذا الطرف (أي المخاطَب) يدخل في علاقة سلبية مع المخاطِب، إذ يفترض أن يتبادل الاثنان أطراف الحديث ويُفترض أن يجد الشّاعر ما يحقّق رغبته في معرفة حقائق الأشياء وأسرارها، ولكن عبثا فقد وجد نفسه سائلا ومجيبا في الوقت ذاته.
إنّ الشّاعر وهو يقصي الطرف الثاني من التّفاعل والحوار فقد تعمّد ذلك، إذ أراد أن يُجسّد عبر المتخيّل الشّعري سلبية بعض الشّباب الذين يشبهون سلمى إزاء الحياة والجمال. لقد رسم أبو ماضي الفتاة بصورة الإنسان المنعزل الذي يهوى الوحدة والعزلة على الرغم من أنّها فتاة صغيرة كان لا بدّ أن تكون مرحة، فالواقع يدلّنا على أنّ الفتيات يبعثن على البهجة والمرح والحبّ والاستمتاع بالّلعب أكثر من الفتيان. يقول إيليا :
«هذي الهواجسُ لم تكن مرسومةً في مُقلتيكِ
فلقد رأيتكِ في الضّحى ورأيتهُ في وجنتيكِ
لكنْ وجدتكِ في المساء وضعتِ رأسكِ في يديكِ
وجلستِ في عينيك ألغازٌ، وفي النّفس اكتئابْ
مثل اكتئاب العاشقينْ» (أبو ماضي، (د ت)، صفحة 765)
إن هذا المخاطَب هو الذي يتحول فجأة من فتاة مرحة تحب الحياة وتستمتع بكل لحظاتها وتحسّ بالجمال وتشعر بالقوة إلى شخص يشبه الكهل الذي فقد طعم الحياة وهو خائف من انقضاء النهار وقدوم المساء. ولكنّ الشّاعر وفي آخر مقطع في القصيدة يؤكّد على الانتصار على هذه الهواجس. يقول إيليا :
«ماتَ النهارُ ابن الصباحِ فلا تقولي كيف ماتْ
إنّ التأمّل في الحياةِ يزيدُ أوجاعَ الحياةْ
فدعي الكآبة والأسى واسترجعي مرحَ الفتاةْ
قد كان وجهك في الضّحى مثل الضّحى مُتهلّلا
فيه البشاشةُ والبهاءْ
ليكن كذلكَ في المساءْ» (أبو ماضي، (د ت)، الصفحات 767-768)
ولئن كانت «سلمى» هي المخاطَب المتخيّل في المساء، وهو -كما نرى- متخيّل لا يتجاوب مع الشّاعر، فإنّ المخاطب الحقيقي هو كل إنسان يشبه سلمى اتّخذ من الكآبة والعزلة عنوانا لحياته.
3.2.2. المكوّن الموضوعي لقصيدة المساء
قصيدة المساء نصّ شعري حداثي ينقسم إلى بنيتين دلاليتين متناقضتين تجتمعان لترسما صورة واضحة عن الذّات في صراعها مع الذّات، ذلك الصّراع الذي تؤجّجه هواجس النفس في لحظة من اللحظات داخل كل إنسان، إنّه الصراع الأبدي بين ثنائيات الحياة والموت، واليأس والفرح والألم والأمل، وبين كل هذه التّناقضات يظهر موقف الشّاعر الرّافض للاستسلام، فهو يرى أنّ الحياة تستحق أن نعيشها بكل تفاصيلها وتبايناتها وتشابكاتها في حبّ وسعادة وأن نسمو بأخلاقنا فنرى الجمال في كل زاوية من زواياها. وإلى جانب هذا الموقف الذي عُرف به إيليا فإنّه يرى أنّ للشعر رسالة لابدّ أن يؤدّيها، وهو الدعوة إلى التّفاؤل ونبذ اليأس. إنّ النزعة التّفاؤلية عند أبي ماضي عقيدة آمن بها وفكر تجدّر في عقله، فهو يرى أنّ الإنسان جريّ به أن يخلق الجمال في كل شيء حوله ويتجاهل كلّ ما يكدر صفوه و«على الإنسان أن يعيش وفق طبيعته وألّا يغرم باصطياد الهموم والتقاطها، ذلك أنّ الحياة الجميلة التي جعلته يعيش في مراتعها سوف لا ترحمه إن كفر بنعمة جمالها» (أبو ماضي، (د ت)، صفحة 81 تقديم سامي الدهان).
3. الزمن الداخلي في القصيدة
إنّ كل إنتاج لغوي هو إنتاج يحصل ضمن زمن معين، ويحدّد هذا الزمن موقعه من الرحلة التي كتبت فيها قصيدة المساء، غير أنّ في هذا المنجز اللّغوي الإبداعي لا يؤطّره زمن محدّد أو سنة بعينها، لذلك ارتأينا أن نتحدث عن الزّمن النّصي الدّاخلي الذي يتمدّد عبر كل مقاطع النّص الشعري، وهو مجسّد في هيمنة الفعل المضارع أو الحاضر، ويتجلى ذلك في توظيفه عبر كلّ مقاطع النّسيج الشّعري، ومن أمثلته : تركض، تبدو، تفكرين، تحملين، تختفي، يأتي، تلمحين، يخاف، تخدعه، يستطيع، يطيق، تكن، يخفي، تجزعين، ...، وغيرها، أما الماضي فكان وروده قليلا. وتوظيف الشّاعر للحاضر له ما يبرّره فهو ذو قيمة بالغة عنده، إذ يؤكّد أنّ الإنسان لابدّ أن يعيش حاضره ولا يلتفت إلى الماضي لأنّه زمن ضائع، فالمضارع فهو الزمن الذي نحياه الآن فالحياة لا تستحق كل هذا العناء في التّفكير، إذ لابدّ أن يرتبط الفرد بحاضره وينظر إلى المستقبل نظرة تفاؤل وسعادة ومرح حتى يحيا حياة هادئة بعيدة عن كل أشكال الحزن والتّعاسة التي هي من صنع الإنسان، إنّ المستقبل يطل علينا في آخر مقاطع النّص دالّا على أنّ الشيء الذي يسعى إليه هو القادم المليء بالفرح وهو ما تؤطّره أفعال الأمر في قوله :
«فاصغي إلى صوتِ الجداولِ جارياتٍ في السّفوحْ
واستنشقي الأزهارَ في الجنّاتِ ما دامت تفوحْ
وتمتّعي بالشّهبِ في الأفلاكِ ما دامتْ تلوحْ
(...)
لتكن حياتك كلّها أملا جميلا طيّبا
ولتملأ الأحلام نفسك في الكهولة والصّبى
مثل الكواكب في السماء وكالأزهار في الرّبى
ليكن بأمر الحبّ قلبك عالما في ذاته» (أبو ماضي، (د ت)، صفحة 767).
أفعال الأمر كما هو جليّ توحي بالحيويّة والحركة والنشاط، وكلها تشي بالسعادة والإيجابية، إذ كل الحواس تستمتع بالمناظر وتصغي للأصوات الجميلة وتستنشق عبق الأزهار.
4. البنية الإيقاعية وبعدها التّداولي
الشعر العربي قوامه الموسيقى، والقصيدة العربيّة حظيت منذ وجودها بوجود العنصر الغنائي، وهو العنصر ذاته الذي جعل الشّعر يتبوّأ المكانة التي كان عليها ولا يزال إلى الآن، وأداؤه بالطّريقة الفنيّة الجيّدة تبقى أمرا بالغ الأهميّة يرتبط بمدى قدرات المبدع في تشكيل بنائه اللّغوي بطريقة جميلة يشغل الجانب الصوتي فيه حيّزا هاما. ومن الظواهر الصّوتيّة التي تلفت الانتباه مسألة التّنغيم التي تبرز كمعطى صوتيّ يعزّز بناء النّص ويحاول أن يعين المتلقي على فهمه وتأويله، والتّنغيم في أبسط تعريفاته «من الظواهر التطريزيّة، أي الملامح الصّوتيّة التي تصاحب الكلمات المتّصلة أو الجمل، فتؤدّي وظيفة دلاليّة» (إلجو، صفحة 130). أو هو «الخاصّية الجامعة التي تلفّ المنطوق بأجمعه مبناه ومعناه حسب مقاصده التّعبيريّة وفقا لسياق الحال أو المقام» (بشر، 2000، صفحة 531). ويظهر ذلك على التّغييرات التي تطرأ على الكلام صعودا وهبوطا من حيث نغمته، ولأنّ «المساء» تعكس جانبا من جوانب الانفعال اللّساني فلا تقع على الوتيرة نفسها، فالشّاعر وهو يصف قدوم المساء ينعكس ذلك على نفسيته التي تهيّج في القارئ كوامن الشجن واليأس. وتصل هذه المعاناة ذروتها حين يستعين بالتّنغيم كظاهرة صوتيّة تقدّم للمتلقّي نظرة شاملة عن المضمون الشّعري، والملاحظ أنّ كثيرا من المقاطع وُظّفت فيها أساليب التّقرير التي فرضها الحال والمقام في مثل المقطع الأول :
«السحبُ تركضُ في الفضاءِ الرّحبِ ركضَ الخائفينْ
والشمسُ تبدو خلفها صفراءَ عاصبةَ الجبينْ
والبحرُ ساجٍ صامتٌ فيه خشوعُ الزاهدينْ
لكنّما عيناكِ باهتتان في الأفقِ البعيدْ» (أبو ماضي، (د ت)، صفحة 764).
وهي جمل تقريريّة تامّة تشي بالحزن والهدوء والسّكينة لذلك تشيع النغمة الهابطة، وتُشعر القارئ وهو يستمع إليها بانخفاض حاد في تأدية هذه الأسطر، وتمتدّ النغمة الهابطة إلى أسطر كثيرة ولهذا الامتداد ما يبرّره، فالشّاعر يحاول أن يشارك المتلقّي حالته النّفسيّة التي تبعث على اليأس والكآبة حين قدوم المساء. فالأوصاف التي يقدّمها إيليا لظاهرة تحدث كل يوم هي حلول اللّيل هي حقيقة نراها كل يوم، فهي لا تحتاج إلى تنغيم صاعد ولا إلى ارتفاع في الصوت، ففي المساء تختفي الشمس والبحر يهجره النّاس، والطّير تغدو إلى وكناتها ...
إنّ الأسطر الشّعرية التي جاءت في العموم ذات تنغيم منخفض يبدأ متوسطا ويستمرّ كذلك ثم ينتهي ضعيفا، تؤكّد على حالة من اليأس النّاتج عن الشّعور بالزّوال والفناء، وكلّ ذلك يتجلّى في أفعال الأمر حيث تتغيّر النّغمة الهابطة إلى صاعدة مرتفعة لتدلّ على عدم الاستسلام، وهنا يختار الشّاعر مجموعة من الأفعال التي جُمعت ورُبطت بالواو ليأتي التّأكيد على الاستمتاع بكل ما في الطّبيعة من جمال وعدم تضييع العمر في الانغماس بآلام الحياة وأحزانها. وقد استخدم العطف بالفاء الدّال على التّقارب الزّمني بين تتاليات الأحداث، إذ يدعو من خلال هذا التّوظيف إلى اغتنام كلّ مباهج الحياة دون توقف. ومن أمثلة أفعال الأمر الواردة : فأصغي، فدعي، وتمتّعي، واستنشقي، لتكن، ولتملأ، واسترجعي، والنّهي : لا تقولي.غير أن هذه الحالة لا تدوم، إذ تتحول في المقاطع الأخيرة إلى قوة داخلية تدعو إلى التفاؤل، وتنقلب الكآبة إلى إرادة للحياة.
وتمتدّ هذه النغمة الصاعدة في أساليب النداء : -سلمى بماذا تفكرين، - سلمى بماذا تحلمين، -تنمّ يا سلمى عليك، وأساليب الاستفهام التي تتكرّر في أسطر شعريّة كثيرة نذكر منها المقطع الآتي :
«بالأرضِ كيف هوَتْ عروشُ النّورِ عن هضباتها؟
أم بالمروجِ الخضرِ سادَ الصّمتُ في جنباتها؟
أم بالعصافيرِ التي تغدو إلى وكناتها؟
أم بالمسا؟ إنّ المسا يُخفي المدائنَ كالقرى» (أبو ماضي، (د ت)، الصفحات 765-766).
وتوظيف أساليب الطلب في النّص الشعري «المساء» والتي تتوزع عبر النّداء والاستفهام والأمر يؤكّد على البعد التّداولي لها، فهي كما نرى ذات نغمة عالية يحاول الشّاعر من خلال هذا الأداء المرتفع أن يحول هذه الأساليب إلى فعل وإلى عقيدة، فهي ذات قوة إنجازيّة تدفع بالمتلقّي إلى نبذ التّشاؤم واليأس واعتناق عقيدة التّفاؤل والحبّ والجمال.
خاتمة
حاولت هذه الورقة البحثية أن تقدّم لمحة وجيزة عن أحدث المناهج النقديّة المعاصرة التي ميّزت الدّراسات التي تُعنى باللّغة ممثّلة في التّداوليّة التي تبوّأت مكان هاما في تحليل النّصوص الأدبية بوصفها (التّداوليّة) منهجا من مناهج التّحليل يمكن أن تقدّم نتائج ذات قيمة، وقد اتّخذت من قصيدة «المساء» منطلق لها وقد تلخّصت نتائج البحث فيما يأتي :
-
التّداوليّة من المناهج الثّرية التي تمنح للمتلقّي أن يكون عنصرا فاعلا في البحث واكتشاف المقاصد الخفيّة، ولا يكون ذلك إلّا إذا وضعنا النّصوص الأدبية موضعها من السّياق الذي أنتجها، وتحديد كل العناصر التي تشكّله من منتج ومتلق وظروف زمانيّة ومكانيّة.
-
ينطلق التّأثير في المتلقي من المنجز اللّغوي الذي تُستخدم فيه اللّغة استخداما موازيا للسّياق والمقام، وهو ما يجعل هذا البناء محكم ومنسجم في دلالاته لأنّ الهدف في الأخير هو إنجاح العمليّة التّواصليّة.
-
لا تكتفي قصيدة المساء بنقل حالة شعورية انتابت الشّاعر في لحظة من لحظات الضعف الإنساني بقدر ما هي فعل إنجازيّ قويّ يهدف إلى تغيير الفكر نحو الأفضل، إذ يحاول إليا أبو ماضي أن يؤثّر في فئة من النّاس تجعل من اليأس والإحباط عنوانا لحياتها تأثيرا إيجابيا حتى يجعلهم كلهم تفاءلا وحبّا للحياة.