تحليل الخطاب التربوي عند بيير بورديو كتاب «العنف الرمزي» 

Le discours éducatif: lire La violence symbolique de Pierre Bourdieu

Educational discourse: read La violence symbolique by Pierre Bourdieu

سليمة ذياب Salima Dhiab

للإحالة المرجعية إلى هذا المقال

بحث إلكتروني

سليمة ذياب Salima Dhiab, « تحليل الخطاب التربوي عند بيير بورديو كتاب «العنف الرمزي»   », Aleph [على الإنترنت], نشر في الإنترنت 14 janvier 2025, تاريخ الاطلاع 22 janvier 2025. URL : https://aleph.edinum.org/13689

تسعى الباحثة في هذه الدراسة إلى تحليل ونقد الخطاب التربوي عند بيير بورديو حول الصراع الرمزي داخل النظام التربوي في كتابه "العنف الرمزي"، ومراجعة أطروحاته من خلال دراسة الأدوار والصفات المنسوبة إلى الفاعلين الرئيسيين في هذا الخطاب، بالإضافة إلى تحليل الحجج التي اعتمد عليها. كما تسعى الدراسة إلى إبراز الأطر المرجعية التي استخدمها بورديو لتبرير أفكاره. اعتمدت الباحثة في دراستها على المنهج الوصفي واختارت العينة بطريقة عمدية، حيث تم جمع البيانات باستخدام أدوات تحليل الخطاب: الأطروحة، القوى الفاعلة، الأطر المرجعية، ومسار البرهنة.

نتائج الدراسة: توصلت الدراسة إلى أن الخطاب التربوي لبورديو يتشكل من خلال عدد من القضايا والأطروحات، حيث تمحورت أغلبها حول أطروحة شرعية السلطة، والتي تتجلى في قضية السلطة التربوية. وقد لعبت مؤسستان رئيسيتان دورًا محوريًا في الخطاب التربوي لبورديو، هما المؤسسة المدرسية والعائلة، وكانت صفاتهما سلبية بشكل عام. اعتمد بورديو في خطابه التربوي على مجموعة من الحجج والبراهين، وكان الوصف وإدراج الأمثلة هما الأداة الرئيسية التي استخدمها. كما استند إلى مرجعيات متنوعة، مع تركيز خاص على المرجعية الفكرية.

Résumé en français : Cette étude vise à analyser et critiquer le discours pédagogique de Pierre Bourdieu sur la lutte symbolique au sein du système éducatif, tel qu’il est présenté dans son ouvrage Violence symbolique. L'objectif est de revisiter ses thèses en s’intéressant aux rôles et attributs des acteurs dans ce discours, en examinant les arguments sur lesquels il s’appuie, et en mettant en évidence les cadres de référence utilisés pour justifier ses propos. L’approche méthodologique choisie est descriptive, avec un échantillon sélectionné de manière intentionnelle, et les données ont été collectées à l’aide d'outils d’analyse du discours : thèses, forces actives, cadres de référence et démarche argumentative.

Résultats de l’étude : L’étude montre que plusieurs enjeux et thèses ont contribué à façonner le discours pédagogique de Bourdieu, centré autour de la légitimité de l’autorité, notamment en ce qui concerne l’autorité éducative. Deux forces principales dominent son discours éducatif : l’institution scolaire et la famille, et leurs attributs sont majoritairement négatifs. Bourdieu s’appuie sur plusieurs arguments et preuves dans son discours, la description et l’utilisation d’exemples étant les plus récurrentes. Enfin, bien que son discours fasse appel à diverses références, l’accent est mis principalement sur la référence intellectuelle.

This study aims to analyze and critique Pierre Bourdieu's educational discourse on symbolic struggle within the educational system, as presented in his book Symbolic Violence. The objective is to revisit his theses by focusing on the roles and attributes of the main actors in the discourse, examining the arguments he relies on, and highlighting the reference frameworks he uses to justify his ideas. The study adopts a descriptive approach, with a purposely selected sample, and the data were collected using discourse analysis tools: thesis, active forces, reference frameworks, and argumentative path.

Study results: The study reveals that several issues and theses contributed to the formation of Bourdieu’s educational discourse, which centers around the thesis of the legitimacy of authority, particularly with respect to educational authority. Two main forces dominate his educational discourse: the school institution and the family, both of which are generally portrayed negatively. Bourdieu relies on various arguments and proofs, with description and examples being the most frequently used tools. Although his discourse draws from a variety of references, the focus remains largely on intellectual reference.

مقدمة

تعتقد الدراسات الحديثة أن دراسة الخطابات الفكرية التي نَظَرت للظواهر الاجتماعية ضرورة ملحة لما لها من تأثير على حياة الأفراد والمجتمعات بحيث لكل مؤسسة اجتماعية خطاب خاص بها، كالخطاب الديني والسياسي والتربوي، حيث يقوم المفكرون المهتمون بقضايا المجتمع بإنتاج تلك الخطابات الفكرية عن طريق استنطاق الواقع الاجتماعي وفقا لسياقات تاريخية واجتماعية يكون المفكر فاعل فيها، ثم يسعون لدعمها بالحجج والبراهين التي تُستخدم كأدلة إثبات لمقولاتهم وأطروحاتهم، ويعتبر هذا الشرط الأساسي لإعطاء خطاباتهم الصبغة العلمية، كما يَعتبر الكثير من المفكرين أن الخطاب التربوي من بين الخطابات الأكثر تأثيرا وأقواها هيمنة وأوسعها انتشارا في المجال الأكاديمي، نظرا إلى أن الخطاب التربوي يمثل رسالة هادفة يبعثها المفكر والتربوي إلى المتلقين تحمل أفكارا وقيما متعددة، مما جعله من المواضيع الأساسية الهامة التي تستقطب اهتمام الكثير من المحللين والمفكرين وتشغل حيزا فكريا كبيرا.

1. الجانب المنهجي

1.1. الإطار العام للدراسة

1.1.1. مشكلة الدراسة 

من الأمور التي نود أن نلفت لها الانتباه بشكل خاص، أن الخطاب الواحد يحمل معاني ودلالات متنوعة، ولا توجد طريقة واحدة لفهمه وتحليله، فالخطاب الواحد يقبل أكثر من تأويل، فلكل باحث قارئ الحق في التعبير عن وجهة نظره وطريقته في فهم الخطاب وتفسيره وفقا لعملية ممنهجة. ولقد اتفق غالبية الباحثين أن خطاب بورديو التربوي عمل أكاديمي غني بالمعرفة والنقد، ويحمل قيمة علمية عالمية وهو حري بالدراسة والإهتمام إلا أن هذا لا يعني أن نقف عند هذا الفكر ولا نتخطاه، بل لابد من فهمه وتفكيكه وإعادة إنتاجه والبناء عليه، وما يُنتظر من الباحثين ليس انضباطهم التام بأطروحات الخطاب فقط، بل من الضروري أن يقوموا بعملية فحص وتدقيق لهذا الخطاب ليكشفوا عن مدى قدرته وأهليته للقيام بما هـو مأمول منه في المعرفة العلمية، بل يتم ذلك من خلال عملية النقد الداخلي للخطاب ووفقا لسياقاته التاريخية والفكرية وغيرها من السياقات الأخرى، الأمر الذي يساعد الباحثين على إيجاد نقاط القوة وكذا تحديد الثغرات الفكرية والمنهجية به.

الأسباب العلمية للاختيار الموضوع:

  1. الجدة: بعد أن أجرت الباحثة مسح للتراث الأكاديمي حول تحليل الخطاب التربوي في علم الاجتماع وفقا لمنهجية التحليل النقدي للخطاب، وجدت الباحثة- على حد اجتهادها- أن مشكلة الدراسة جديدة.

  2. ارتباطها بالواقع الاجتماعي: يعتبر الخطاب ظاهرة معرفية ثقافية اجتماعية مركبة أو ممارسة اجتماعية، ولا شك أن هذه الخطابات تؤثر فينا وتوجه أفكارنا وسلوكنا ربما من حيث لا ندري لذا وجب علينا تفكيك خطاباتها وإعادة بناءها، فتحليل الخطاب التربوي يعكس لنا الصورة الذهنية التي نراها أو نرسمها لذواتنا وذوات الآخرين.

  3. ارتباطها بالواقع الأكاديمي: إن الأساتذة الذين يدرسون مقياس النظرية الاجتماعية يعرفون جيدا أن أغلب الطلبة ينفرون من هذا المقياس ويعزفون عنه ويتبرمون منه، هذا لأنهم لا يتذوقونه ولا يجدونا له انعكاسا في الواقع، فتحليل الخطاب ربما يساعدهم على الفهم.

  4. إمكانية التنفيذ: التمكن من تطبيق الأداة على الخطاب.

2.1.1. أهمية الدراسة 

سد فجوة منهجية: حيث تختلف هذه الدراسة عن الدراسات السابقة ككل من ناحية الهدف وطريقة التحليل، فقد استندت إلى إجراءات منهجية تختص في تحليل الخطاب المكتوب، فهي تصبو لقراءة خطاب بيير بورديو التربوي كما لم يقرأ من قبل بغية الإقتراب أكثر من البناء الفكري والأيديولوجي للمفكر، وذلك برد خطابه لسياقاته التاريخية والاجتماعية، وذلك بتوظيف منهجية وأدوات التحليل النقدي للخطاب.

أن الدراسات السابقة فضلت الاستعمال الآلي في دراساتهم للمناهج الكلاسيكية والإكتفاء بالفهم والتفسير السطحي والمقدس لأفكار وتصورات بيير بورديو، وتجنبت في تحليل أفكاره الإرتكاز على منهجية تحليل الخطاب، فنزعت بذلك صفة التجديد عنها، وبتالي لا تجد هناك عملية تنشيط أبحاث عديدة ذات صبغة منهجية عميقة.

3.1.1. أهداف الدراسة 

تمثلت أهداف الدراسة في تفكيك الخطاب محل الدراسة(كتاب « العنف الرمزي » لبيير بورديو) إلى قضايا ثم إلى أطروحات جزئية فاعلة ومتفاعلة من أجل معرفة أسباب إبراز أو إهمال جوانب دون أخرى وتبيان مختلف المرجعيات التي ساهمت في تشكله والتعمق في ما قدمه الخطاب محل الدراسة من قضايا كبرى حول الصراع الرمزي داخل النسق التربوي.

تفرعت منه أهداف فرعية:

  • رصد الأطروحات الأساسية التي قدمها بيير بورديو حول الصراع الرمزي داخل النسق التربوي والمتضمنة في كتابه «العنف الرمزي».

  • الكشف عن الدور الذي نسبه بيير بورديو للقوى الفاعلة وصفاتها في تحقيق الصراع الرمزي داخل النسق التربوي والمتضمنة في كتابه «العنف الرمزي».

  • إبراز مسارات البرهنة التي استند إليها بيير بورديو في تفسير أطروحات الصراع الرمزي داخل النسق التربوي والمتضمنة في كتابه «العنف الرمزي».

  • تحديد الأطر المرجعية التي ارتكز عليها بيير بورديو في تفسير أطروحات الصراع الرمزي داخل النسق التربوي والمتضمنة في كتابه «العنف الرمزي».

  • بناء أداة لعرض وتحليل ما قدمه بيير بورديو من قضايا وأطروحات أساسية حول الصراع الرمزي داخل النسق التربوي والمتضمنة في كتابه «العنف الرمزي».

2.1. مفاهيم الدراسة

تتظافر مجموعة من المفاهيم في ما بينها لتوضيح قضايا الصراع الرمزي داخل النسق التربوي في الخطاب محل الدراسة. نحددها في ما يلي :

  • الخطاب التربوي: هو

«الكلام الذي يدور حول التربية، وأوضاعها وقضاياها ومشكلاتها، وهمومها، سواء أكان هذا الكلام شفويا أم كلاما مكتوبا وسواء أكان هذا الكلام تعبيرا عن فكر علمي منظم، أم كلاما مرسلا عاما». (عبود،2002، ص43)

فهو كل

«خطاب صادر عن الفاعل التربوي، يروم منه تقديم بدائل وحلول لقضايا التربية، وتندرج ضمنه الكتابات التربوية، والتشريعية، من مذكرات تربوية، وأطر مرجعية ومناهج التربية، مفتشين وأساتذة، كما تندرج ضمنه الكتابات المتضمنة للتشريع المدرسي وقضايا مهنة التدريس». (صديقي، 2016: 99)

إن الخطاب التربوي الذي نقصده في هذه الدراسة، هو الذي يشمل مجموعة القضايا التي طرحها بيير بورديو حول الصراع الرمزي داخل النسق التربوي في خطابه محل الدراسة.

  • العنف: يعرفه قاموس علم الاجتماع بأنه تعبير صادر عن القوة التي تمارس لإجبار فرد أو جماعة، ويعبر العنف عن القوة حين يتخذ أسلوب فيزيقيا (ضرب أو حبس أو إعدام) أو يأخذ صورة الضغط الاجتماعي، وتعتمد مشروعيته على اعتراف المجتمع به. (بدون مؤلف، د.ت: 533)

  • الرمز: يرى جيدنز في كتابه علم الاجتماع بأنه أي إشارة تمثل معنى والكلمات التي نستعملها للإشارة إلى أمور محددة هي في واقع الأمر رموزا تمثل المعاني التي نقصدها (غيدنز، 2005: 76)، ويعبر أيضا على تشكيل اجتماعي خاص يؤدي طائفة من الوظائف في المجتمع: الرمز يصلح وسيلة للمعرفة (الرموز- بدائل الهدف، الرموز- الموديلات)؛ ووسيلة للاتصالات- الصلة أو التخالط بين الأفراد أو الجماعات؛ ووسيلة للتعبير عن المعارف التي اكتنزتها البشرية وحفظها ونقلها إلى الأجيال القادمة. (اوسيبوف،248 :1990)

  • العنف الرمزي: هو شكل من أشكال العنف الذي يستعمل البنية الفكرية لأشخاص لضغط على الآخرين، ويعرفه بورديو: أنه عنف هادئ لا مرئي ولا محسوس حتى بالنسبة إلى ضحاياه، ويتمثل في أن تشترك الضحية وجلادها في التصورات نفسها عن العالم والمقولات التصنيفية نفسها، وأن يعتبرا معا بنى الهيمنة من المسلمات والثوابت. (بورديو، 2014: 18)

ونقصد به في دراستنا هذه على أنه القدرة على التأثير في أفعال وتفكير ومشاعر الآخرين باستخدام سلطة الرمزية والتي من خلالها يفرض المسيطرون طريقتهم في التفكير والتصور الذي يكون أكثر ملائمة لمصالحهم، والتي أشار إليها بيير بورديو في كتابه «العنف الرمزي».

3.1. الدراسات السابقة 

لقد وقع الاختيار على عدة دراسات تمتلك مواصفات الدراسات السابقة على ضوء التوجهات البحثية للدراسة. وشملت الدراسات السابقة المتعلقة بالدراسة ثلاثة مجالات أساسية:

  1. المجال الأول: دراسات سابقة حول أهمية الخطاب التربوي، حيث أكدت هذه الدراسات على أن قراءة واقع النظام التربوي وسياساته يقتضى تحليل الخطاب التربوي؛ الأمر الذي يعطي لهذه الدراسة مشروعيتها.

  • دراسة عبود (2002) بعنوان «طبيعة الخطاب التربوي السائد ومشكلاته».

  • دراسة محمد الشيخ من موضوع إشكالية «المثقف والسلطة».

  • دراسة محمد بوكلاح (2020) بعنوان «منظومة القيم بين الخطاب التربوي والواقع المجتمعي».

  1. المجال الثاني: دراسات سابقة حول خطابات بيير بورديو، حيث أكدت هذه الدراسات على أهمية خطابات بيير بورديو في تحليل الصراع التربوي؛ فقد بدت خطاباته مرجعية فكرية للكثير من الباحثين وطلبة علم الاجتماع بشكل دائم في دراسة الصراع الرمزي بالنسق التربوي.

  • دراسة بشير محمد (2013) بعنوان «قراءة في كتاب» بورديو «حوصلة وعرض».

  • دراسة لعودي فرحات (2014) بعنوان «علم اجتماع المعرفة عند بيار بورديو».

  • دراسة عليوة علي في دراسته (2018) بعنوان «الصراع وإدارة الصراع عند كل من آلان توران، بيار بورديو، ميشال كروزيه».

  • كلثوم بن عبد الرحمان (2020) في دراستها حول« السلطة والآليات الرمزية عند بيار بورديو ».

  • دراسة (Gisela Da Silva Almeida) بعنوان« عنف المدرسة، قوة العنف الرمزي ».

  1. المجال الثالث: دراسات سابقة حول منهجية تحليل النقدي للخطاب، حيث ساعدت هذه الدراسات الباحثة في فهم كيفية استعمال وتوظيف أدوات تحليل الخطاب في تحليل ونقد خطاب محل الدراسة.

  • كتاب عماد عبد اللطيف، (2019)، بعنوان« منظورات ومقاربات عربية في التحليل النقدي للخطاب ».

  • دراسة نسرين محمد عبده إسماعيل حسونة (2014)، بعنوان  «الخطاب الصحفي الفلسطيني نحو قضايا حقوق الإنسان المدنية والسياسية» .

  • دراسة محمد عبد الفتاح الهمص (2018)، بعنوان« الخطاب الصحفي الفلسطيني نحو انتفاضة القدس ».

والتي من خلال تم تحديد أساليب البحث التي طبقها أصحاب هذه الدراسات الكلاسيكية وبعد تصنيف ووصف تلك الأساليب المتبعة في تحليل فكر بيير بورديو، تبين لنا الدراسات السابقة ربما تكون أقل موضوعية لأنها قبلت أن تكتفي بالتحليل الخارجي لخطابات بيير بورديو، وعدم اعتمادها أدوات تحليل خاصة بالنصوص من الداخل، فالأساليب المستعملة فيها كانت مقبولة في فترة سابقة، لكنها أصبحت اليوم محل نقاش وتجديد، وفي إطار التطور الواضح الذي شمل مناهج التحليل تعتبر الباحثة ذلك خللا منهجيا فيها، وهو أمر يمكننا معه القول بعدم وجود جهود أكاديمية تقوم على عرض الجهود العلمية السابقة ونقدها، تمهيدا لمحاولة انجاز بحث يضيف إليها ولا يكون نسخة مكررة منها.

ويمكننا توضيح لماذا نصف هذه الدراسات السابقة بالكلاسيكية، رغم أن الكثير منها قدم للعلم والمعرفة الأكاديمية نتائج هامة، من خلال استعمال أصحابها مهارات الربط والتحليل والتركيب وتوظيف قراءاتهم الواسعة في التحليل والوصول لنتائج، مثل : دراسة لعودي فرحات، إلا أن هذه الدراسات فضلت الاستعمال الآلي في دراساتهم للمناهج الكلاسيكية والاكتفاء بالفهم والتفسير السطحي والمقدس لأفكار وتصورات بيير بورديو، وتجنبت في تحليل أفكاره الارتكاز على منهجية تحليل الخطاب، فنزعت بذلك صفة التجديد عنها، وبتالي لا تجد هناك عملية تنشيط أبحاث عديدة ذات صبغة منهجية عميقة.

اختلفت الدراسة الحالية عن الدراسات السابقة ككل من ناحية الهدف وطريقة التحليل، حيث أنها استندت إلى إجراءات منهجية جديدة والمتمثلة في أساليب تحليل النصوص لتمكن من قراءة عميقة للخطاب محل الدراسة.

4.1. منهج اللدراسة والمقاربة النظرية للدراسة منهج وعينتها

وقد تم الاستعانة بـ

  • مقاربة معاودة الإنتاج: وظفت الدراسة الحالية هاته المقاربة في فهم الطريقة التي يتم بها استخدام بنى الخطاب في إعادة إنتاج الهيمنة الاجتماعية وتحليلها، حيث استندت في خلفيتها النظرية إلى نقد الهيمنة الاجتماعية ومقاومتها، والسعي إلى الاسهام في خلق نظام تربوي خال من الاضطهاد.

  • مقاربة التحليل الخطاب: وتم توظيف هذه المقاربة في فك شفرة الخطاب من أجل فهمه وقراءته بطريقة مختلفة، وحتى لا نقف عند الخطاب مكتوفي الأيدي وعاجزين لا نملك آليات التحليل، ولا القدرة على القراءة والتأويل، وهذا باعتبار خطاب محل الدراسة خطابا متماسكا وآية في التعقيد والتشابك.

لذا يمكن الجزم أن شبكة المفاهيم الشائعة لدى كثير من مفكري هاتين المقاربتين والمشتركة، مثل : الهيمنة، الطبقة، وإعادة الانتاج، البنية الاجتماعية، والنظام الاجتماعي...الخ، صالحة لتحليل وتفسير القضايا الكبرى التي شغلت فكر بيير بورديو حول الصراع الرمزي داخل النسق التربوي.

1.4.1. منهج الدراسة

ولتحقيق أهداف الدراسة تم الاعتماد المنهج الوصفي، والوصف في هذه الدراسة؛ إنما هو وصف علمي يستند إلى التحليل، ولا يكون وصفا علميا إلا أن يسبقه التحليل، بمعنى حصر جميع جزئيات الخطاب الموصوف وتصنيفها وترتيب هذه التصنيفات حسب نظام تحدده أهداف الدراسة.

2.4.1. عينة الدراسة التحليلية 

تم اختيار خطاب التحليل بطريقة عمدية وذلك وفقا لطبيعة مشكلة الدراسة وأهدافها، لقد اختارت الباحثة هذا الكتاب «العنف الرمزي» «لبيير بورديو» بالذات لأنه مؤلف فردي، كما أنه يدرس قضايا الصراع الرمزي داخل النسق التربوي بشكل مباشر.

3.4.1. أدوات تحليل الخطاب 

وبما أن الدراسة تصنف ضمن البحوث النوعية (الكيفيةQualitative) التي تجمع في طياتها بين : صرامة العلم والممارسة البحثية، مما جعل الباحثة تؤمن بأهمية التنويع في أدوات التحليل الخطاب؛ حيث تمثلت هذه الأخيرة في ما يلي :

  • أداة أطروحة الخطاب: تقوم هذه الأداة بتصنيف مجموعة من الأفكار الأساسية والمعلنة ضمن أطروحات أساسية لتشكل هذه الأخيرة قضايا كبرى تشغل فكر الكاتب.

  • القوى الفاعلة: تفيد هذه الأداة في الكشف عن الفاعلين الأساسين الذين يحركون الأحداث داخل الخطاب، وأهم الأدوار المرتبطة بهم والصفات التي يضيفها الخطاب عليهم، وذلك من خلال تصور الكاتب للقوى الفاعلة في القضايا موضع الدراسة ورصد وتحليل الأدوار والصفات المنسوبة لهم في كل قضية وترتيبها، لتحديد موقف الكاتب منها سواء أكان ايجابي أو سلبي.

  • مسار البرهنة: تفيد هذه الأداة في تحديد وتصنيف الحجج والبراهين التي يستعين بها صاحب الخطاب لتبرير موقف ما بشأن قضية ما، ومن هنا تبرز أهمية هذه الأداة في الكشف عن طبيعية التوجهات الأيديولوجية للكاتب، والتي يسعى إلى إقناع المتلقي بها، ليتم تحليل درجة السلبية أو الإيجابية في كل طرح وعملية الاستدلال والبرهنة على كل أطروحة.

  • الأطر المرجعية: تفيد هذه الأداة في الكشف عن الأطر المرجعية الدائمة والمتكررة والتي يستند عليها الكاتب في تزكية مواقفه داخل الأطروحات.

2. تحليل الكتاب

1.2. العرض التحليلي لشكل الكتاب 

سوف يخصص هذا الجزء لتقديم وصف شامل ومختصر للخطاب المحلل؛ وهذه النبذة الوصفية تتعلق بالمعلومات الأولية عن الكتاب، والجوانب الشكلية والفنية له، إضافة لتقديم وصف وتصنيف لمواضيع الخطاب.

  • اسم المؤلف: بيير بورديو، Pierre Félix Bourdieu التأليف فردي.

  • دلالة العنوان :«العنف الرمزي»   ( بحث في أصول علم الاجتماع التربوي) يحظى العنوان بأهمية بالغة في كل خطاب، لأنه يمثل الباب الأول الذي يمر منه القارئ أو المتلقي لهذا العمل، تلاحظ الباحثة وبعد دراسة سياق الفكري لبورديو أنه يوجد رابط وتداخل قوي بين نفسية الكاتب والعنوان مما ساهم في تقوية دلالات الكتاب؛ فالباحثة تعتقد بمقصدية المؤلف في إضفاء كلمة العنف violence على العنونة الرئيسة  العنف الرمزي violence symbolique  ولا يخفى ما  للعنف من دلالة على القهر؛ الأمر الذي يولد لدى القارئ المتمعن الأمر الرغبة في الإطلاع على عمله، لأنه صار يمثل له عنتا شديدا في سبب ربط مفهوم  العنف  و الرمز ؛ لذا بإمكاننا اعتبار هذا فرض سلطة على القارئ.

الترجمة العربية لكتاب بورديو «العنف الرمزي» التي تكفل بها نظير جاهل، والصادرة ببيروت في سنة 1972 والتي قمنا بتحليلها، لم تكن لها فصاحة العربية ولا صفاءها، فجاءت الترجمة جامدة وحرفية، أفسدت الكثير من تركيبة الفقرات ومعناها كما يظهر جليا في نسخة الكتاب الأخطاء الإملائية والتركيبة المختلفة واستعماله الخاطئ لعلامات الترقيم خاصة الفواصل. ربما يعود ذلك لأن المترجم لم يخاطر بتعريب المفاهيم لأنها عملية تحتاج إلى معرفة باللغات وسياقاتها الثقافية معرفة شاملة وواسعة تتنوع وتتخلق عبر فروع علمية متعددة، وربما يعود ذلك أيضا لأسلوب بورديو في الكتابة، فهو كثير ما ضلل المترجمين والقراء خاصة في مؤلفاته النظرية؛ لذلك حاولنا في دراستنا تجاوز المراجعة البسيطة إلى تكرار القراءة وتدقيق كامل للخطاب ومحاولة تبسيط أجزاء عديدة منه.

دار النشر: المركز الثقافي العربي، بلد النشر: بيروت، لبنان.

  • تاريخ النشر باللغة الأصلية 1970م، تاريخ الترجمة 1994م : وربما يرجع هذا لتأخر عملية الترجمة للعربية خاصة من طرف المستعمرات الفرنسية السابقة فهم يجيدون اللغة الفرنسية، الطبعة : الأولى.

  • لغة الكتاب الأصلية: الفرنسية، لغة الكتاب المترجم (محل الدراسة) : العربية، عدد الصفحات : 96؛ والصفحات المعنية بالتحليل : من الصفحة05 إلى 92، نستثني منها الصفحة 21 و28 لعدم وضوح الكتابة بها.

  • وصف الغلاف : نلاحظ أن غلاف الكتاب كان غير مفهوم؛ فمضمون الكتاب جاء يختلف تمام على الصورة على الغلاف؛ حيث تتصدر الواجهة المترجمة صورة تشكيلية فالباحثة لم تتمكن من تحليليها أو تحديد علاقتها بالمضمون؛ وربما يرجع ذلك إلى أن الغلاف في حد ذاته فرض رمزي : لو تم استبدل غلاف دار(س) للنشر، بغلاف دار (ج) للنشر، فسوف نلاحظ أن الواجهة المفروضة على الكتاب لكل ناشر سوف تختلف كليا، لذا جاءت صورة الغلاف تمثل ثقافة(ماركة) دار النشر، وترى الباحثة أن نسخة الكتاب الأصلية أقرب من المضمون حيث تمثل : مجموعة طلبة يستعرضون دروسهم على الأستاذ بشكل فردي.

نلاحظ كذلك بروز اسم الكاتب على الغلاف في حد ذاته يمارس وظيفة إشهارية، تفرض نفسها على القارئ من الناحية البصرية لتنتقل لفكره، فسوى كان القارئ ناقدا لبورديو أو مؤيدا فسوف يقوم هذا التقديم بالإستلاب الفكري، وهذا في النسخة المترجمة أو الأصلية. ونفس الشيء بالنسبة للذكر التخصص بشكل واضح.

2.2. عرض محتويات الكتاب

  1. تصنيف الكتاب: علم الاجتماع التربوي

  2. أهمية الكتاب: يعد هذا الكتاب من أهم المصادر السوسيولوجية التي درست النسق التربوي في العصر الحديث والمعاصر.

  3. موضوع الكتاب: إن الفكرة الجوهرية للكتاب، تتركز في اعتبار أن التعليم يعكس التراتبية الطبقية الموجودة داخل المجتمع الفرنسي. وبالتالي فالمدرسة هي انعكاس للتراتبية في المجتمع من هيمنة الطبقة البورجوازية على الانتاج المادي عبر وسائل الانتاج وهيمنتها كذلك على الانتاج الرمزي والمعرفي والذي تعتبر المدرسة أهم مؤسساته.

  4. أحتوى الكتاب على:

  • مدخل: ضمنها الفرضية العامة للكتاب: إن أي نفوذ يقوم على العنف الرمزي أو أي نفوذ يفلح في فرض دلالات معينة، وفي فرضها بوصفها دلالات شرعية، حاجبا علاقات القوة التي تؤصل قوته، يضيف إل علاقات القوة هذه، قوته الذاتية المخصوصة أي ذات الطابع الرمزي المخصوص.

  • الخاتمة : الملفت للإنتباه أنه لا يوجد به خاتمة.

  • بالكتاب : فهرس محتويات (95)، إضافة إصدار دار النشر(المركز الثقافي العربي)(96)، مسرد مصطلحات(93-94) : شرح فيها المترجم بعض المفاهيم، لإعطاء القارئ فرصة للتأكد منها.

مواضيع الكتاب :

جاء الكتاب مقسما إلى عدد من الموضوعات المتنوعة التي كونت بنية الخطاب محل الدراسة؛ يحتوي هذا الكتاب على موضوعات أو بإمكاننا أن نعتبرها خطابات جزئية، وكل موضوع يحتوي مجموعات تعليقات(Scolie)، تتفرع منها مجموعة قضايا كلية تتفرع عنها أخرى جزئية؛ وتتمثل العناصر فيما يلي :

  • التعسف المزدوج المميز للنشاط التربوي : Du double arbitraire de l’action pédagogique

  • السلطة التربوية De l’autorité pédagogique

  • العمل التربوي Du travail pédagogique

  • نظام التعليم Du système d’enseignement

3. نقد وتأويل نتائج الدراسة ومناقشتها

1.3. نقد وتأويل نتائج الخاصة بالأطروحات الأساسية 

من خلال عرض نتائج التساؤل الأول يتضح لنا تعدد أطروحات قضية السلطة التربوية المتضمنة في كتاب  «العنف الرمزي» ، حيث بلغت أطروحة شرعية السلطة التربوية المرتبة الأولى، إن بورديو يركز على هذا الأطروحة كثيرا، ويعتبر شرعية السلطة الانتكاسة النفسية للذات المغلوبة أمام الذات الغالبة، حتى تشعر بأن كل ما يقوله ويصفه ويضعه هو الصواب حتى ولو وصفته الجهة المتعسفة بأي شيء، المهم يعتبر في عرف الجهة المتعسفة صحيحا تدافع عنه، مما يجعل المتلقي في النسق التربوي يقتنع بأن كل ما يقوله ويصفه ويضعه النموذج التعسفي هو الصواب حتى ولو كان خاطئا. ولذا ترى الباحثة أنه لكي نتخلص من هذا الفرض التعسفي الجاثم على قلوبنا علينا أن نتخلص أولا من القابلية له.

كما أدرج بورديو في أطروحة أنماط السلطة التربوية التي كانت نسبة ظهورها 37.5 % في خطابه محل الدراسة معلومات أساسية حول أنماط السلطة وربطها بطبيعة الممارسين لها، سلطة العائلة، سلطة المدرسة، سلطة المدرس وغيرها. إذن بورديو يري أن المسألة تكريس السلطة التربوي بشكل تعسفي هي مسألةً نفسية بالأساس، فهو يقول في الصفحة 36 :

 «إذا كان من السهل جدا أن نلحظ ما يستتبعه التفويض من قيود عندما تكون محددة صراحة كما هي الحال عندما يمارس النشاط التربوي من قبل مؤسسة مدرسية فبإمكاننا أيضا معاينتها بالنسبة للنشاط التربوي الخاص بجماعة عائلية (سواء في إطار الجماعات أو الطبقات الغالبة أو الجماعات والطبقات المغلوبة).» 

فأنماط السلطة تستمد قوتها عن طريق إذعان واستسلام المتلقين لها والإيمان بمبادئها والانصياع لأوامرها.

وفي الأخير جاءت أطروحة حقيقة السلطة التربوية بنسبـة مئـوية أقل 12.5 % وقد إجتهد بورديو فيها في إبراز آليات السلطة التربوي، وعلاقتها بالبعد الاجتماعي والثقافي والسياسي مخطط لها من طرف جماعات وطبقات اجتماعية تخدم مصالحها.

ليؤكد بورديو لنا أن السلطة التربوية بناء تتألف من مجموعة علاقات قوة بين جماعات اجتماعية مترابطة التي تنتظم مع بعضها لتسهم في تحقيق هدف يخدم مصالحهم، وذلك في وجود نشاط تربوي، تحركه عملية تواصلية تفاعلية. وتعتبر الباحثة السلطة في النسق التربوي خطرا اجتماعيا ولكنها ضرورة اجتماعية، فالسلطة الإيجابية ليست شرا، ما يعد شرا هو السلطة التي تمارس حيل للإستلاب العقول.

وما يدعّم هذه النتائج ما توصلت إليه دراسة كلثوم بن عبد الرحمان (2020) التي أوضحت كيف تمارس السلطة فعلها بصورة رمزية في المجالات السياسية والاجتماعية والدينية والتربوية وتوضيح أساليبها وأدواتها الرمزية في الهيمنة.

لقد انصب حديث بورديو في قضية النشاط التربوي المتضمنة في كتاب «العنف الرمزي» على أطروحة حقيقة النشاط التربوي، فقد كان الشغل الشاغل لبورديو هو الكشف عن الحقيقة الخفية والمستحدثة للنشاط التربوي، والتي حجبت الوظيفة الأساسية للنشاط التربوي. ويؤكد على هذا في قوله : 

«لن نورد في النشاط الثلاث الأولى، الكثير من الأمثلة التي تنحصر بالنشاط المدرسي، وذلك كي لا يتكون لدى القارئ انطباع، وإن بصورة ضمنية، بأننا نحد من مصداقية القضايا التي تنطبق فعليا على أي نشاط تربوي...لتعين أشكال ومفاعيل النشاط التربوي الذي يمارس في إطار المؤسسة المدرسية.»

فالوظيفة الأساسية للنشاط التربوي تتمثل في البرامج التربوية اللامنهجية التي تنفذ داخل المدرسة، وجامعة (ملتقيات، ندوات علمية…) أو خارجها (بعثات، تكوين خارجي، تبادل الخبرة)، وهي تهدف إلى إثراء المقرر الدراسي لتنمية قدرات ومعارف واتجاهات المتعلمين، بمعنى آخر النشاط التربوي هو جزء من العملية التعليمية وداعم لها، كما تكسب الفرد راس مال ثقافي يساعده على استيعاب المقررات الدراسية بجميع معرفها ومصطلحاتها.

وبنظرة إسقاطيه على واقع النشاط التربوي، نلاحظ تغييب النشاطات لأسباب مجهولة في بعض المدارس، رغم أن المناهج الدراسية مثقلة بالمواد النظرية الكثيرة والمكثفة والتي لا تترك وقت للقائمين على عملية التدريس للقيام بأي نشاط تربوي داخلي (t. p) أو خارجي، فهم همهم الوحيد إنهاء المقرر الرسمي قبل نهاية السنة الدراسية فجداولهم المثقلة بنصاب كامل من الحصص لا يساعدهم على الإعداد الجيد لحصة النشاط، وعدم توفر الإمكانيات الضرورية (المالية – المادية – البشرية) لممارسة النشاط بفاعلية، وعدم اقتناع أفراد العائلة بممارسة أبنائهم أي النشاط التربوي وتركيز اهتمامهم على التحصيل الدراسي، ففي ظل هذا الواقع تتجمد حقيقة النشاط الخفية والمستحدثة التي أشار إليها بورديو إلى وقت لاحق.

جاءت بقية الأطروحات وظيفة النشاط التربوي وأسس النشاط التربوي وخصائصه، كروافد للأطروحة الأساسية الأولى حقيقة النشاط التربوي ومدعمه لها ووظف بورديو أطروحة الشروط الاجتماعية لنجاح وظيفة النشاط التربوي في خطابه؛ اعتقادا منه أنه لن تحقق أي إنجازات في المجتمع إذا لم تتوفر الظروف التي ستتحقق فيها وظائف النشاط الاجتماعي والتربوي. ونستدل على ذلك في الصفحة 10 : 

«يمتنع على النشاط التربوي بوصفه عنفا رمزيا، إنتاج أثره الخاص أي التربوي حصرا، إلا حين تتوفر له الشروط الاجتماعية الضرورية للفرض والترسيخ.» 

وأشار في أطروحة أنواع العقوبات في نشاط التربوي وآثارها، لنوعين منها المادي والنفسي، واعتبرها من المعوقات. رغم أنها ضرورة اجتماعية تعكس الضبط الاجتماعي.

ومن خلال القراءة الكمية تبين أن بورديو أعطى الأولوية لأطروحة وظائف العمل التربوي في قضية العمل التربوي المتضمنة في كتاب «العنف الرمزي»، والتي حصرها في الوظائف الأساسية، الحفاظ على النظام، التطبيع التربوي، تكريس الغفلة الاجتماعية (تعزيز الهيمنة). وكذا أطروحة مخرجات العمل التربوي، وحددها في عنصرين: تكريس الطاعة، واستبطان العمل التربوي للعنف الرمزي(الاستدماج)، فقد وضح في هذين الأطروحتين لما للعمل التربوي من قوة قسرية تعمل على تحقيق الاستمرارية الاجتماعية والثقافية، فهو يعمل على نقل ثقافة السائدة واستدماجها في أفراد المجتمع.

تجد الباحثة أن من البديهي أن الفرد المستلب عقليا أصبح لا يرى إلا ما يريد أن يريه إياه الغالب ولا سبيل له لأن يقوم بأعماله إلا بالقدر الذي تقدره جماعة النفوذ الرمزي له، فهو يعيش كأن يدا خفية، وتارة مرئية تشتت معالم طريقه، وتقصي باستمرار أمامه العلامة التي تحدد هدفه، فلا يدركه أبدا، إلا أن الباحثة تعتقد التغير يبدأ من داخل الأفراد ووعيهم وأفكارهم وتصوراتهم نحو ذواتهم والآخر، ولابد لهم من إيجاد حدود ومسافات أمينه بينهم وبين الآخر، لأن احترام الأفراد لمثل هذا النوع من المؤسسات أو أسباب وجودها، هو في حد ذاته دعم لها للحفاظ على وجودها.

أما برزت أطروحة الشروط الاجتماعية للتعسف التربوي في قضية التعسف التربوي المتضمنة في كتاب  «العنف الرمزي» ، والتي وضح فيها كيف ينجح القائمين على النشاط التربوي في إخفاء تعسفهم إذا توفرت لهم شروط اجتماعية معينة، فهم يعطونا فرصا متساوية لأفراد وفي نفس الوقت يقومونا بإخفاء الأساليب التي تنتجها المدرسة للإختلافات والتمايزات الطبقية، وقد ركز على ضرورة وجود نشاط تربوي ضمن علاقة اتصالية، بين علاقات قوة مجتمعية داخل نظام تعليمي مؤسساتي (ن. ت. م)K وعليه فسلطة هذا الأخير تتسلم في واقع الأمر تفويضا من الطبقات المهيمنة لفرض التعسف الثقافي، فعن طريق هذا التفويض يتم تمرير العنف الرمزي بطريقة لطيفة ومقبولة.

وهي تتّفق مع دراسة بوعلام معطر(2019) التي خلصت إلى أن الثقافة المدرسية هي ثقافة الطبقة المسيطرة، والمدرسة تمارس عنف رمزي عن طريق الاختبارات الشفوية والكتابية، الشهادة لا تعكس الامتياز المدرسي بقدر ما تعكس امتياز اجتماعي.

وهذا ما أكدته أيضا دراسة (Gisela Da Silva Almeida) أن القوة الرمزية تعمل على الإقصاء من خلال العمل التربوي وتعمل على غرس شرعية الثقافة المهيمنة، والعمل التربوي، من خلال استنساخ الثقافة السائدة، يساهم في إدامة هيكل ميزان القوى، وبالتالي النظام الاجتماعي بجميع القواعد والقيم والتصورات الاجتماعية وعدم المساواة.

إذن، تتّفق جميع هذه الدراسات على أن شرعية السلطة هي الأطروحة الأساسية في خطاب بورديو التربوي، والتي يرى بورديو أن وجودها في النسق التربوي يؤدي لتكريس الطاعة والحفاظ على النظام الاجتماعي، واستنساخ الثقافة السائدة.

2.3. نقد وتأويل نتائج الخاصة بالقوى الفاعلة وصفاتها 

فى إطار الصراع الرمزي، برزت قوتان فاعلتان، الأولى تمثلت في المؤسسة المدرسية واتضح من خلال رصد وتحليل خطاب بورديو أنه غلب على تصوره لدور المؤسسة المدرسية الصفة السلبية، يرى بورديو أن المؤسسة المدرسية تكرس القهر الثقافي ليتحول لعنف رمزي فهو يعتبر (الصفحة07) «أن أي نشاط تربوي هو موضوعيا نوع من العنف الرمزي، وذلك بوصفه فرض من قبل جهة متعسفة لتعسف ثقافي معين»  مما يشكل عند التلاميذ مقاومة ضد المناهج، والمعلمين، والإدارة مما ينتج عنه اتخاذ قرار استبعاد مبكر من المدارس سواء أكان ذاتيا أو إداريا.

فقد أكاد بورديو في هذا السياق أحد هذه الأدوار السلبية قائلا(الصفحة13):  

« إن نموذج التعسف الثقافي الذي تضعه علاقات القوة المتبادلة بين الجماعات أو الطبقات المكونة لتشكيلة اجتماعية معينة، في النصاب الغالب ضمن نسق التعسفات الثقافية الخاصة بهذه التشكيلة، هو ذاك الذي يعبر على الوجه الأكمل، وإن دائما بالتخلل أو بالواسطة، عن المصالح الموضوعية (المادية الرمزية) التي تسعى إلى تحقيقها الجماعات أو الطبقات الغالبة.»

و(الصفحة12) :  

« لئن بدت الاختيارات المكونة لثقافة معينة وهي اختيارات لا يختارها أحد) تعسفية، إذا ما قيست انطلاقا من منهج المقارنة بمجمل الثقافات الراهنة أو السالفة أو إذا ما أعيدت من خلال إخضاعها لتغيير خيالي، إلى فضاء الثقافات الممكنة، فإننا نكشف بالمقابل، طابعها الضروري ما إن نربطها بالشروط الاجتماعية التي تحكم ظهورها واستمراريتها. »

ويذهب بورديو في طرحه لأحد هذه الأدوار التي تتسم بالسلبية في ما ورد في (الصفحة16) : 

« وبالفعل فإن قوانين السوق حيث تتشكل القيمة الاقتصادية أو الرمزية، أي القيمة بما هي رأسمال ثقافي، وهي القيمة الخاصة بالنماذج الثقافية التعسفية التي تعاود النشاطات التربوية المختلفة إنتاجها إضافة إلى قيمة منتجات هذه الأنشطة نفسها (أفراد مثقفون)، تعتبر بمثابة إحدى الأوليات التي تتفوت آثارها العلية من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى والتي تؤمن معاودة الإنتاج الاجتماعي بما هي معاودة إنتاج بنية علاقات تنازع القوة بين التطبيقات. »

ودعم بورديو رأيه أيضا في (الصفحة18) : 

« كل من يسعى إلى تأسيس ممارسته التربوية على ما للممارسة التربوية من حقيقة : أن نعلم النسبية الثقافية أي أن نبين الطابع التعسفي لأي ثقافة يحملها أفراد سبق لهم أن تربوا وفقا لمبادئ التعسف الثقافي الخاص بجماعة أو بطبقة معينة أمر». 

و(الصفحة 31) :

 «في تشكيلة اجتماعية معينة، لا يكون النشاط التربوي الشرعي أي المجهز بالشرعية الغالبة، شيئا مختلفا عن الفرض التعسفي للنموذج التعسفي الثقافي الغالب وذلك بوصفه نشاطا مجهولا من حيث حقيقته الموضوعية، أي نشاطا تربويا مهيمنا وفرضا للتعسف الثقافي الغالب.». 

لقد ركز بيير بورديو في تحليله لبنية النظام الثقافي على المكتسبات اللغوية بالمؤسسة المدرسية، فإن رأس مال اللغوي لا يكف عن مزاولة تأثيره؛ بمعنى أن التمكنات اللغوية تحدد مسار الفرد في الجامعة، والعمل خاصة الأكاديمي، فكلما كانت التمكنات اللغوية جيدة تحصل الفرد على مكانة عالية، لأن من خلالها تزيد مكتسبات الفرد المعرفية والعالمية فيستفيد منها في إجراء اختبارات العمل أو أطوار الجامعة سواء كانت كتابة أو شفوية وهو يتوفر غالبا عند الطبقات المسيطرة التي وضعت المعرفة والمناهج الدراسية.

حيث يقول في (الصفحة 60) 

«ونحن نعلم أن ما يؤدي إليه التأهيل الذي لا ينفصل عن الحياة اليومية ويتم خاصة من خلال امتلاك اللغة الأم، أو استخدام مفردات وعلاقات القرابة هو تشكل نوع من الاستعدادات المنطقية التي يمكن التحكم بها على صعيد الممارسة، ولما كانت الاستعدادات تختلف من حيث التعقيد ودرجة الصياغة الرمزية من جماعة إلى أخرى أو من طبقة إلى أخرى، فإنها تهيئ، بصورة متفاوتة، للتحكم الرمزي بالعمليات الضرورية للاحتجاج الرياضي أو لفك رموز أي عمل فني».

ومنه يتجلى دور المؤسسة المدرسية بكل نظامها - حسب بورديو- في إعادة إنتاج تقسيم الطبقي للمجتمع، وفي نفس الوقت الأداة الفاعلة في إنتاج المجتمع على نحو طبقي إن ثقافة المدرسة تحمل خصوصية الطبقة المهيمنة، مما يجعل التربية المدرسية تعيد انتاج البنى الاجتماعية والثقافية بجميع سماتها وخصائصها. إن قوة التعسف الذي تمارسه الطبقات المهيمنة تضطر الطبقات المسحوقة إلى الاستسلام لما فرض عليها، ولا تجد بدا من الاعتراف، عن اقتناع أو دونه، بشرعية الثقافة السائدة وبالتالي شرعية التعسف الثقافي، وكنتيجة لذلك اعتبار أن ثقافتهم غير شرعية لذا يجب عدم التفكير فيها، والتمسك بما هو أرقى وأضمن ألا وهو الثقافة السائدة.

والقوى الثانية: العائلة التي سجلت حضورا بارزا، وتم دراسة كل ما هو منسوب من صفات إيجابية وسلبية لأدوار العائلة في خطاب بورديو محل الدراسة، واتضح لنا أن أدوارها اتسمت بالسلبية هي الأخرى.

فهو يقول في (الصفحة45):

«أن للطابع التقليدي الخاص بالنشاط العائلي، الذي يسعى عندما يتولى مهام التربية في السنوات الأولى إلى تحقيق النشاط الأكمل ويستطيع تبعا لذلك، أن يلعب، حتى في المجتمعات الحديثة، دور المحافظة على الموروث».

نفهم من كلامه أن التربية المدرسية لا يمكن أن تحقق النجاح إلا إذا كان هناك تعسفا ثقافيا d’un arbitraire culturel في الأسرة كذلك، أي في الجماعة الأولية للفرد، حيث أنه كلما وجد توافق بين العمل البيداغوجي داخل الفصل والعمل البيداغوجي داخل الأسرة كلما كانت عملية إعادة إنتاج نفس الطبقة سهلة، بمعنى أن ما يدرس في المدرسة من مناهج لابد أن تجد لها دعم أسري.

ففي (الصفحة 40) يرى بورديو أنه : 

«لا يمكن للنشاط التربوي العائلي أن يمارس في إطار الجماعات أو الطبقات المغلوبة إلا بقدر ما يعتبر شرعيا، سواء من قبل الذين يمارسونه أو من قبل الذين يمارس عليهم، حتى وإن كان هؤلاء قادرين على اكتشاف افتقاد التعسف التربوي الذي كان لابد لهم من الاعتراف به، إلى أي قيمة في إطار السوق الاقتصادية أو الرمزية...حل المثقف المتحدر من الطبقات المغلوبة، والمجبر على إعادة تقييم للسلطة الأبوية وعلى مواجهة ما تؤدي إليه من تنكر للهوية وكبت ومساومات.»

  وفي قول آخر :

 «يأخذ تحديد المربيين الشرعيين والدافع الشرعي لنشاطهم التربوي ولنمط فرضهم الشرعي أشكالا شديدة الاختلاف، وذلك تبعا لبنية القرابة والنسق الإرثي بوصفه نمطا لانتقال الأموال والنفوذ.» 

وأيضا في الصفات الايجابية ذكر بورديو في(الصفحة 60) :

 « يرتبط نجاح أية تربية مدرسية أو إجمالا نجاح أي عمل تربوي ثانوي، أساسا، بالتربية الابتدائية التي تسبقهما، وخاصة عندما ترفض المدرسة هذه الأولوية في إطار أيديولوجيتها وممارستها، مصورة التاريخ المدرسي وكأنه بلا تاريخ.» 

ليبرز دور المعلم كقوى فاعلة في الخطاب التربوي، حيث غلبت الأدوار الخاصة بالسمة السلبية على السمة الايجابية، فبورديو يتصور أن المعلم دخل هو الآخر في الغلفة الاجتماعية فالمعلم والأستاذ يتمثل صورته كفاعل ذو فعالية؛ لكنه لا يعدو أن يكون متفرجا يتمثل نفسه ايجابيا في التغيير لكنه في الحقيقة سلبي، بل هو دمية يحركها نخبة اجتماعية مسيطرة والتي تفرض سياساتها وخياراتها الفكرية والثقافية والتنظيرية.

حيث أكد بورديو في هذا السياق على أحد هذه الأدوار السلبية في(الصفحة25-26) : 

«. .. وبالفعل فإن تزامن التغيرات التي تطرأ على علاقات السلطة وتترافق مع تبدل في موازين القوى، قد يقود إلى رفع سقف التسامح تجاه بروز التعسف بشكل صريح وفظ، وتميل أيضا ضمن أطر شديدة الاختلاف مثل الكنيسة والمدرسة والعائلة والمستشفى أو حتى المنشأة والجيش، إلى إحلال « اللين» مكان « الشدة » ( طرق غير موجهة، حوار، مشاركة، علاقات إنسانية...) يكشف بالفعل علاقة الارتباط المتبادل التي تنسق تقنيات فرض العنف الرمزي المميزة سواء لنمط الفرض التقليدي أو للنمط الذي يميل إلى الحلول مكانة والاضطلاع بوظيفته.» 

(الصفحة29) : 

« بما أن أي نشاط تربوي يتمتع في حقل الممارسة ومن حيث تحديده نفسه بسلطة تربوية، يكتسب المرسلون التربويون دفعة أهليتهم لإبلاغ ما يبلغون، أي وتبعا لذلك صلاحيتهم بأن يفرضوا على الآخرين التقاط الرسالة، وصفتهم كمخولين لضبطها وترسيخها بواسطة عقوبات مقررة ومدعما اجتماعيا»

أما في (الصفحة 29) : 

«. .. أن تبحث المرجعيات (عملاء أو مؤسسات) التي تطمح دون أن تستحوذ دفعة واحدة على السلطة التربوية، إلى ممارسة نفوذ يقوم على العنف الرمزي (مروجون، إعلانيون، مبسطون للعلوم، مداوون...) عن كفالة اجتماعية من خلال «التطاول » على المظاهر الخاصة بالممارسة الشرعية.»

الصفحة (78) : 

«. ..هيئة دائمة، تكون مؤلفة من فاعلين مختصين قابلين للتبديل ومتوفرين لذلك باستمرار، ومجهزين بأدوات من طراز موحد، قادرة لمزاولة عمل تربوي مخصوص ومقنن.»

الصفحة (79-80) : 

« يكشف التمييز القروسطي بين الأستاذ المحاضر auctor الذي ينتج ويلقي بصورة غير منتظمة محاضرات تأسيسية أصيلة والمعيد lector الذي يقوم، مقيدا بتكرار تعليق على نص الأستاذ العلامة، قابل للتكرار، بإيصال رسالة لم ينتجها هو بنفسه، الحقيقة الموضوعية الخاصة بحرفة الأستاذ، وهي حقيقة تظهر جلية من خلال الأيديولوجية الأستاذية التي تتمحور على الجدارة/ الخبرة، وهي نوع من النفي الدؤوب وظيفة الأستاذ. »

ودوره الايجابي : 

« كما أنها تظهر أيضا من خلال الإبداع الأستاذي الموهوم، الذي يستخدم جميع الأساليب المدرسية في سبيل تخط مدرسي للطريقة المدرسية المتمثلة بالتعليق على النصوص»

(الصفحة 86) : 

« يجد الأساتذة أنفسهم، حين يواجهون خلال الأزمات التي تشهد نوعا من التشكيك بعقد التفويض الضمني الذي تستند إليه شرعية الـ (ن. ت. م)،في وضعية تذكر بتلك التي عاشها السفسطائيون، أي مجبرين على بذل جهود ذاتية لإيجاد حلول كانت المؤسسة لتؤمنها تلقائيا لهم لو أنها قادرة على الإضطلاع بوظيفتها : لا تتضح مهنة الأستاذ الموضوعية، أي الشروط الاجتماعية والمؤسسية التي تجعلها ممكنة (السلطة التربية) بقدر ما تتضح حين تمارس في ظل أزمة مؤسسية تجعلها صعبة أو مستحيلة»

(الصفحة80) : 

« حيث إنه لابد للـ (ن. ت. م) من تأمين الشروط المؤسسية الضرورية لتناسق وأرثوذوكسية العمل المدرسي، فإنه يسعى إلى إخضاع الفاعلين الموكلين بعملية الترسيخ إلى إعداد موحد وإلى تزويدهم بأدوات متسقة، قادة على توفير هذا التناسق» .

مما سبق يمكننا القول أن وصف بورديو لدور المعلم بالسلب يبقى حكرا على الظروف الاجتماعية لمجتمع دون آخر، وإلا كيف تفسر التجربة اليابانية والماليزية التي تعد من التجارب التربوية الناجحة، التي رفعت من شأن المعلم مقابل دوره الايجابي والفعال وأعطته الصلاحية في عدة أمور، كما أظهر بيير بورديو في خطابه أن المعلم مغلوب على أمره بينما يلمح أن للتربية عدوان هما المؤسسة المدرسية والعائلة بوصفهم قوتان فاعلتان سلبيتان يتخبط بينهما المتلقين في العملية التربوي، لكن السؤال الذي يطرح نفسه إلى أي حد ممكن أن نؤمن بهذه الفكرة.

3.3. نقد وتأويل نتائج الخاصة بمسارات البرهنة 

اهتم بورديو بتدعيم أطروحاته في طرح إشكاليات الصراع الرمزي داخل النسق التربوي بالحجج والأدلة التي تسهم في إقناع القراء، فقد عكست الشواهد والأدلة التي طرحها الخطاب التربوي محل الدراسة بخصوص مسارات البرهنة المتعلقة بتحليل عدد من الدلائل.

وربما يعود تركيزه في مسارات البرهنة على الوصف (الأمثلة)، والآراء والمقولات، ذلك أن أطروحاته حول الصراع الرمزي داخل النسق التربوي قد سبقتها أحداث كثيرة، مقولات لشخصيات ومفكرين فرأى بورديو أن يستدل بها في خطابه التربوي.

فقد أظهرت نتائج الخاصة بمسارات البرهنة، أن مسار البرهنة الوصف (الأمثلة) مثل أعلى نسبة تقدر بـ79 %، وفيما يلي نستعرض أمثلة لبعض مسارات البرهنة الواردة في الخطاب التربوي محل الدراسة. وما يفسر مجيء مسار البرهنة (الأمثلة) في المرتبة الأولى طبيعة الموضوع.

1.3.3. الأمثلة

أدرج بورديو عدة أمثلة في سياق تناوله موضوع الصراع الرمزي داخل النسق التربوي وضرب مثل على وظيفة علم التربية في (الصفحة 19) : 

« مثل الأساطير السقراطية أو السقراطية المحدثة حول التعليم غير موجه، والأساطير الروسوية حول التربية الطبيعية أو الأساطير شبه الفرويدية حول تربية لا قمعية وهي أيديولوجيات تبين ما لعلم التربية من وظيفة نوعية تتمثل بتجنب التناقض بين حقيقة النشاط التربوي الموضوعية والضرورية الأبدية لتصوير هذا النشاط التعسفي كنشاط ضروري (طبيعي).»  

وحول النزاعات التي ترافق التكيف مع الثقافة أورد المثال التالي (الصفحة41) :  

«النزاعات التي ترافق التكيف مع الثقافة الغالبة سواء في حال المثقف المستعمر- وهو الذي يدعوه الجزائريون « مرتد » « متورن » M’turni- أو في حال المثقف المتحدر من الطبقات المغلوبة، والمجبر على إعادة تقييم للسلطة الأبوية وعلى مواجهة ما تؤدي إليه من تنكر للهوية وكبت ومساومات... تأهيل الشاب النبيل بوضعه في بيت نبيل- « Fosterage »- أو في مرتبة أدنى، أعداد الجنتلمانGentlman في جامعة أوكسفورد التقليدية.»

وضرب مثل حول حق ممارسة التدريس الصفحة (86) : 

« لم يستطيع السفسطائيون الذين كانوا يعلنون صراحة عن طبيعة ممارستهم كمعلمين (مثلا بروتوغوراس الذي كان يقول: «أعترف أني معلم محترف-مربي الرجال») عندما لم يجدوا مؤسسة معينة يستندون إلى سلطتها، أن يتهربوا تماما من هذا السؤال الذي كان يتردد في سياق تعاليمهم ».

كذلك في قوله فيما يخص التضيق على مهنة الأستاذ  

« في رسالة إلى صحيفة يومية يعلن أحد المدرسين: «يجهل الأهل أن» العاهرة المحترمة «تحكي عما تحكيه ويظنون أن المعلم – مخبولا أو تحت تأثيرات المخدرات أو لا أعلم ماذا...يريد أن يأخذ الصف إلى أماكن مشينة...ومنهم من يعترض لأن المدرس تحدث عن حبوب منع الحمل: فالتربية العائلية هي حكر على العائلة... وأخيرا فإن هذا المدرس يعلم أنه سيتهم بالشيوعية إذا ما شرح الماركسية في الصفوف الثانية وذاك بالنبيل من العلمنة إذا ما رأى من الضروري أن يعطي فكرة عن التوراة أو عن مؤلفات كلوديل. »

2.3.3. آراء ومقولات

وجاءت الآراء والمقولات ثالث مسارات البرهنة التي اعتمد عليها منتجو الخطاب، فقد قام بورديو من خلالها بعملية استرجاعية لمقولات سابقة تخدم طرحه، فقد أدرج بورديو مقولة فلسفية لتأكيد أن علاقات القوة تنبع بصورة مخصوصة من سلطتها الشرعية في (الصفحة18) :

«وهكذا نجد أنفسنا هنا أمام مفارقة أبيمينيد Épiménide الكذاب وإن بصيغة جديدة: إما أنك تعتقد أتي لا أكذب عندما أقول لك أن التربية عنف وإن تعاليمي غير شرعية وعندئذ لا يمكنك أن تصدقني، وإما أنك تعتقد أني أكذب وأن تعاليمي شرعية ولا يمكنك أيضا والحال هذه أن تصدقني حين أقول إن التربية عنف.»

مثل قول دوركايم حول مهنة التدريس في (الصفحة 84) :

«يقال إن المعلم الشاب يلتزم بما يتذكره من حياته في المدرسة أي حياته كتلميذ، أليس هذا نوع من الإقرار باستمرارية الروتين؟ فمعلم الغد لن يقوم، والحال هذه، إلا بترداد حركات معلمه الذي كان يقلد هو أيضا بدوره معلمه، ولا نرى هنا كيف يمكن أن يدخل أي عنصر جديد في هذه المتوالية المتصلة من النماذج التي تعاود إنتاج بعضها البعض.»

كذلك (الصفحة59) :

«بشيء من الخبث نورد هنا ما قاله هوسرل Husserl كاشفا ما للتأصيل الإمبريقي للوعي من طابع بديهي:» لقد تربيت كألماني وليس كصيني، ولكن أيضا كمديني من مدينة صغيرة، في إطار عائلي ومدرسي بورجوازي صغير، وليس كنبيل ريفي مالك عقاري كبير نشأ في مدرسة الضباط «École de Cadets» ثم يلحظ أنه إذا كنا نستطيع دائما أن نحصل على علوم ثقافة أخرى أو حتى أن نعيد تربيتنا بصورة تتلاءم مع هذه الثقافة. »

(الصفحة77) : 

» فإن دور كايم يصر على رأيه بأن الغرب لم يعرف أي (ن. ت. م) قبل الجامعة القروسطية، ذلك أنه يعتبر ظهور الضبط القانوني لنتائج الترسيخ (الشهادة) كميزة أساسية لهذا النظام إضافة إلى تخصص الفاعلين وتواصل عملية الترسيخ وتناسق نمطه (التطبيع). »  

3.3.3. الاستشهاد بأدلة ووقائع وشواهد

أظهرت النتائج أن مسار البرهنة الأدلة والشواهد جاء في المرتبة الثانية، ومن أبرز الإشكاليات التي استخدام فيها بورديو الاستشهاد بأدلة ووقائع وشواهد قضية النشاط التربوي إلى جانب السلطة التربوية، كما تم استخدام الأدلة للتأكيد على الأدوار والمواقف السلبية لعدد من القوى الفاعلة.

وكذلك في (الصفحة 24) : 

« أن نعي التعسف المخصوص بنمط خاص من الفرض أو بثقافة محددة لا يجعلنا نحيط بما للنشاط التربوي من تعسف مزدوج، بل على العكس من ذلك، فإن الاعتراضات الأكثر جذرية ضد نفوذ تربوي معين تستلهم دائما الطوبى الذاتية- التدمير، القائلة بوجود تربية دون تعسف، أو الطوبي الفطروية التي تعطي للفرد القدرة على أن يجد بنفسه مبدأ «  تفتح » شخصيته، وتشكل جميع هذه الموهومات الطوباية أداة صراع أيديولوجي تستخدمها الجماعات التي تهدف من خلال الطعن بشرعية تربوية معينة، إلى امتلاك نمط الفرض الشرعي» .

وفي (الصفحة27) : 

« بخلاف الاعتقاد السائد في الفكر الشائع وفي بعض النظريات «العالمة» Savantes التي تجعل من الاستماع (بمعنى الفهم) شرطا للإصغاء (بمعنى الانتباه والموافقة) يبقى الاعتراف بشرعية البث، أي بالسلطة التربوية، في إطار أي تدريب ( بما في ذلك التدريب على اللغة) شرطا ضروريا سواء لعملية تلقي المعلومات أو لتحويلها من كونها إخبارا إلى إعداد أو خبر» .

ففي (الصفحة72) يقول بورديو :

 « نجد في تجربة رورزانتال صورة نموذجية عن مفاعيل أيديولوجية الموهبة، وهي الأشد دلالة: مجموعتان من العاملين في المختبر أعطيتا مجموعتين من الفئران من نوع واحد وبلغ هؤلاء العاملون أن مجموعتي الفئران هاتين انتقيتا واحدة بمعيار الذكاء وأخرى بمعيار البلاهة، فما لبث هؤلاء المختبرون أن حصلوا من قبل مجموعتيهما على تقدم مختلف تماما. «وبنفس الطريقة يتم التأثير على المعلمين والتلامذة الذي ينتج عن توزيع المجموعة المدرسية إلى فئات متراتبة مدرسيا إجتماعيا انطلاقا من تراتب المؤسسات التعليمية.»

4.3. نقد وتأويل نتائج الخاصة بالأطر المرجعية

من خلال عرض النتائج نجد أن المرجعية الفكرية حظيت بالنسبة الأكبر من بين الأطر المرجعية. وربما يعود ذلك إنطلق بورديو من خلفيته الفكرية والمعرفية للنظريات الكلاسيكية التي تناولت السلطة، ووظفها على شكل مقارنة في بينهم واعتبرها مرتكزات في قضايا عدة تخص الصراع الرمزي،

«نكفي أن نقارن بين النظريات الكلاسيكية التي تتناول أسس النفوذ، نظريات ماركس ودور كايم وفيبر، لنلحظ أن الشروط التي تتيح بناء كل منها، تعطل إمكانية بناء موضوع من الممكن أن تعالجه الأخرى.» (الصفحة5-6)

فمن وجهة نظر بورديو أن ماركس ودوركايم تعارض، فالأول يعتبر السلطة كنتاج للغلبة الطبقية، بينما يراها الثاني أثر اجتماعي لا يتجزأ، بينما يتعارض كليهما في بعض الأوقات مع فيبر، فهما يرون أن علاقات النفوذ بمثابة تأثير متبادل بين الأفراد أو إلى إظهار أشكال النفوذ المختلفة (السياسي، الاقتصادي، الديني…)

فيما اتجه دوركايم مدفوعا بردة فعل ضد التصورات المصطنعة حول النظام الاجتماعي إلى التشديد على وجود وازع- في- الخارج يمارس القهر على النظام، فيما دعى ماركس لتقليل من للطابع الرمزي من أثر على علاقات القوة، والاعتراف بشرعية. ووقف فيبر ضد ماركس ودوكايم في آن معا، متفردا بالاهتمام بما للتصورات حول الشرعية من تأثير على ممارسة النفوذ ودوامه.

فقد كان بورديو في كل مرة يعود للمقارنة بين هذه النظريات الكلاسيكية، (الصفحة 15)

« إن النظريات الكلاسيكية التي تعرف عادة النظام التربوي بكونه مجموعة الأوليات المؤسسية أو العرفية التي يتأمن من خلالها انتقال الإرث الثقافي من جيل إلى آخر( أي المعلومات المتراكمة) تميل إلى فصل عملية معاودة الانتاج الثقافي عن وظيفتها المتعينة بمعاودة الإنتاج الاجتماعي، أي تجاهل ما للعلاقات الرمزية في سياق معاودة إنتاج علاقات القوة من أثر مخصوص. »
«  بإسقاط على المجتمعات المنقسمة إلى طبقات، للتصور الثقافي والاتصال الثقافي الأكثر شيوعا في كتابات علماء الإناسة، فتستند إلى مسلمة ضمنية تعتبر أن النشاطات التربوية المختلفة، التي تمارس في تشكيلة اجتماعية معينة، تسهم بصورة متناغمة بمعاودة إنتاج الرأسمال الثقافي بوصفه مشاعا يملكه (المجتمع) ككل. »

وقد وظف المرجعية التاريخية بذكره احداث بعيدة المدى كاستشهاده بأحداث من العصور الوسطى، وأخرى قصيرة المدى توظيف أحداث من حقبته، حيث في كتابه « العنف الرمزي » يمزج بين الماضي والحاضر، أما المرجعية الاجتماعية، وظفها بورديو لشرح أنماط التشكيلات الاجتماعية، كما ورد (الصفحة 08) :

«  نجد أن علاقات القوة التي تكون التشكيلات الاجتماعية ذات النسب الصلبي (بالأب) والتشكيلات الاجتماعية ذات النسب الرحمي (الأم)، تظهر مباشرة في نماذج النشاطات التربوية المرتبطة بهذين النظامين الإرثيين »

وكذلك (الصفحة 09) :

«  يبقى أنه لا يمكننا إهمال المحددات الاجتماعية التي تعين، في جميع الحالات، علاقات الراشد بالطفل، بما فيها العلاقة حيث يكون المربون هم الأهل البيولوجيون أنفسهم. »

كما استخدم المرجعية القانونية في توضيح نوعي علاقات القوة التي تكون التشكيلات الاجتماعية وذلك كما ورد في (الصفحة08-09) :«  ففي النظام النسب الرحمي، حيث لا يتمتع الأب بأية سلطة (صلاحية) قانونية...أما في النظام الصلبي حيث يتمتع الابن بحقوق يقرها له القانون... »

والمرجعية الدينية لم يسجل لها أي حضور في خطاب بورديو التربوي، ورغم أن الكثير من الباحثين والمفكرين يرون أن المرجعية الدينية تعتبر المرجعية الأولى ذات التأثير على كثير من الأطروحات الفكرية في الإنسانية كلها، ويعود ذلك بسبب الفطرية الإلهية التي وضعها الله في الناس، وما يمثله الدين من تأثير على حياة الناس في كثير من القضايا الحياتية والتربوية التي تواجههم في الحياة العملية والنظري، فرئيس القبيلة البدائية يستعين بالساحر أو مشعوذ ليبرر سلطته، سرعان ما استغلت انتشار المسيحية وظهور الكنيسة لتستمد منها شرعيتها، ثم ظهرت البروتستانتية وانتشار فكرة أن من الواجب طاعة الملك مقابل عدم استبداده، وأن لأفراد الحق في الثورة إذا أمعن سلطانهم في فساده، تحول مصدر الشرعية من قداسة الملك إلى ارادة الشعب وذلك في القرن 18 بظهور فلسفة الأنوار، فرغم تنوع مصدر الشرعية وتبرير السلطة لكن شرط أساسي لإثبات شرعية البقاء في السلطة. ولكنها غابت بشكل كلي في خطاب بورديو التربوي وربما يرجع ذلك أنه يريد التهرب من أي انتماء ديني.

وأسند أي حديث عن الدين لمفكر آخر (الصفحة 36):

«  حدود فعالية أي تبشير أو دعاية ثورية تتوجه إلى الطبقات ذات فعالية الامتيازات) ايضا فإن النشاط التربوي – أي نشاط النبي الديني-، إذ عليه، بما هو auctor يدعى أنه يمتلك ذاتيا مبدأ auctoritas أن يشكل من العدم السلطة التربوية التي لابد من أن يتمتع بها أي مرسل وأن يقاتل ليستميل تدريجيا الجمهور، لن ينجح إلا بقدر ما ستند إلى تفويض مسبق بالسلطة ( وإن كان بالقوة أو ضمنيا). وبالفعل لابد لكي يفلح النبي، إلا إذا قبلنا بوجود بداية إعجازية مطلقة، (كما قد نفهم من نظرية فيبر حول الكاريزما »

(الصفحة87) :

« (أنظر ماكس فيبر) بخلاف النبي يدير الكاهن تجارة النجاة انطلاقا من وظيفته. ولئن كانت وظيفة الكاهن في ما يتمتع به من جاذبية شخصية، فإنه يكتسب، حتى في هذه الحال، شرعيته من وظيفته بوصفه عضوا في جمعية النجاة. »

 دور كايم :

 «يتمتع المعلم مثل الكاهن بصلاحية معترف بها، وذلك كونه جزءا من شخصية معنوية تتخطاه»  . و«رغم أن المؤسسات المدرسية كانت وليدة علمنة المؤسسات الإكليريكية أو التقاليد المقدسة (باستثناء مدارس العصور القديمة الكلاسيكية، كما يشير فيبر)» «كما نلحظ فإن دور كايم لا يقدم أي تفسير لهذا التشابه...تقوم الجامعة جزئيا على علمانيين حافظوا على مظهر الكاهن، وعلى كهنة تعلمنوا، وهكذا نجد الآن مقابل الجسم الإكليركي جسما مختلفا إلا جسم تشكل جزئيا على صورة ذاك الذي دخل في مواجهة « ضده ».« 

تعلمت الباحثة من البيئة البسيطة التي درست فيها، ومن التلاحم الشديد والتآزر الذي كانت تلمسه بين أهل قريتها الصغيرة، أن الدين والقيم المجتمعية هي التي تحكم المنظومة التربوية وليس السياسة ولم تعرف معنى الأيديولوجيا وقتها، إلا أن الباحثة من خلال القراءة متأنية والعميقة لخطاب بورديو محل الدراسة توصلت إلى فرضية : بيير بورديو لا يلجأ إلى حجج دينية فهو ربما يرى أنه ليس ملزم ليضع نفسه على أرضية دينية لتبرير أفكاره أو إضفاء صبغة شرعية على منظومته الفكرية، فلقد كان يشير إليها عن طريق فيبر(كما يشرح فيبر...الخ)، وبشكل سطحي.

5.3. نقد وتأويل نتائج التساؤل العام 

من خلال عرض نتائج أداة الأطروحة يتضح لنا تعدد الأطروحات وتنوعها وبناء على تلك النتائج برزت أن القضية الرئيسية والتي لعبت دورا بارز في تشكيل الخطاب التربوي لبورديو السلطة التربوية بوصفها ممارسة تربوية (صراع رمزي)، تندرج عنها أطروحة أساسية والمتمثلة في شرعية السلطة.

ولقد قاربت طروحات بورديو حول الصراع الرمزي بعض الأفكار الأساسية لفان دايك وبشكل خاص تلك الطروحات المرتبطة بمصادر السلطة، والقوة، والهيمنة، ففان دايك لا يتوانى عن أن يجهر بالقول في قضايا تكتنفها الحساسيّة في البيئة الغربية، فهو يعمل في نقد المركزية الغربية، ويسمها بأنها تُقدِّم النفس إيجاباً وتقدم الآخرين سلباً، فالخطابات المختارة في كتاب الخطاب والسلطة تفيض بهذه الاستراتيجيات المركزية في تجميل الذات وتحقير الآخر، لأنها تصدر عن عقلية تبريرية تتلاعب في الخطاب للوصول إلى مآربها في الهيمنة على عقول المتلقين والفئات المستهدفة.

ويتقاطع بورديو مع ألتوسير، جرامشي، مفكري مقاربة اعادة الانتاج الاجتماعي في العديد من النقاط منها التركّيزَ على ما أطلق عليه غرامشي البنية الفوقية، وما أسماه بورديو حقول الهيمنة الثقافية، فكل منهم يصبو إلى بيئة العلمية تربوية تعمل على إيجاد معرفة لا تنحاز إلى فئة دون أخرى، بل تعمل على تظهير العلاقات التي تنظم قوى المجتمع، فتنهض على ترسيم ميثاق يبسط العدالة والمساواة بين الأفراد، معرفة لا تقوم على أساس السيطرة والهيمنة.

لكن تعتقد الباحثة أن كثيرا هم من يشاركونها الرأي سواء من الأكاديميين أو العامة أن الجيل الستينات والسبعينات؛ كان أشد حبا للقراءة وأكثر بذل للجهد من الجيل الحالي ويظهرون الكثير من الأسف لذلك، كما أنهم يشكون من أن أبناءهم لا يتجاوبون معهم في الإقبال على التعلم، وربما كانت هذه النظرة غير صحيحة، لأن التعليم قبل مئة سنة لم يكن إلزاميا، ولا عاما، فأبناء الأثرياء وأبناء المثقفين والعلماء، هم الذين كانوا يسافرون لتلقي العلم خارج أوطانهم، أما معظم الناس فقد كانوا أميين، ويعيشون في أوساط يسيطر عليها اليأس والانبهار بعجائب الغرب. وأما المكتبات المنزلية، فقد كانت محدودة، نقول هذا الكلام لنوضح أن ظروف اكتساب المعرفة اليوم أفضل بكثير مما كان في الماضي، وأن الذين يقرؤون ويطورون ثقافتهم هم أيضا أكثر وأفضل استعداد، إلا أن التكنولوجيا سلاح قاتل لمن لا يحسن استعماله، فقد صرف الجيل الناشئ عن المعرفة واستبطن بداخله كره التعلم والتعليم ووصفه بالقيد.

خاتمة

في ختام هذه الجولة التحليلية النقدية في خطاب التربوي للمفكر الفرنسي بيير بورديو توصلت الدراسة بما يلي :

ساهمت الكثير من القضايا والأطروحات في تشكيل الخطاب التربوي لبورديو والتي تمحورت جلها حول أطروحة شرعية السلطة والمتضمنة في قضية السلطة التربوية.

احتلت قوتان فاعلتان الدور الأساسي في الخطاب التربوي لدى بيير بورديو وهما المؤسسة المدرسية والعائلة، وجاءت صفاتهما في مجملها سلبية.

استند بورديو في خطابه التربوي إلى عدة حجج وبراهين، وكان للوصف وإدراج الأمثلة النصيب الأكبر في الظهور.

ارتكز بورديو في خطابه التربوي إلى مرجعيات متنوعة، إلا أن تركيزه كان على المرجعية الفكرية أكثر.

كما أوصت الدراسة بإلإهتمام بالأداء اللغوي في إنتاج خطاب وبما أن جل الخطابات التربوية جاءت مترجمة، فكان لابد أن يراعى فيها مقتضى حال من يتلقون هذا الخطاب ومحاولة تقريبها للمعنى المراد والحذر من مزالق الترجمة خاصة عندما يكون الكتاب ينقل حمولة من الفكر الإنساني، لأنها أكبر من مجرد لفظة لأنها ذات حمولة فكرية قائمة بذاتها، لذا جاءت بعضها كما هي في الفرنسية جاءت الترجمة حرفية، مثل: هابيتوس...الخ.

لابد أن يولي المؤلفون اعتبارا كافيا للخلفية المعرفية والبنية الذهنية لمن توجه إليهم هذه المادة المعرفية، وتحديد مضامينها بدقة.

الالتزام بإعادة النظر في كل ما درس سابقا وعدم الرضوخ والاستسلام لما هيمن من نتائج وآراء ردحا من الزمن، بمعنى أن الباحثون مطالبون بمراجعة كل ما قيل وفقا منهج علمي، وبكل جرأة وإبداعية ووعي وإدراك للتغيرات التي وقعت في منهجية البحث على المستويين المفاهيمي والنظري.

قائمة المراجع

أنطوني غدينز(2005)، علم الاجتماع، ترجمة : فايز الصباغ، مؤسسة ترجمان للوحدة العربية، لبنان.

اوسيبوف (1990)، أصول علم الاجتماع، ترجمة : سليم توما، موسكو : دار التقدم.

بدون مؤلف،(د.ت)، المنجد في اللغة الإعلام، دار المشرق عنوان الكتاب، بيروت.

بيير بورديو (2014)، العنف الرمزي : بحث في أصول علم الاجتماع التربوي(pdf)، ترجمة : نظير جاهل : المركز الثقافي العربي.

عبد الغني عبود (2002/1423هـ)، طبيعة الخطاب التربوي السائد ومشكلاته، مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي بيروت، لبنان، العدد29، (31- 52)

عبد الوهاب صديقي(سبتمبر2016)، بلاغة الخطاب التربوي- من النقل إلى الفعالية، مجلة علوم التربية، المعاهد، الرباط، المغرب، العدد 66، (98- 109).

سليمة ذياب Salima Dhiab

جامعة الوادي - الجزائر Université d'El oued – Algérie

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article