مقدمة
يعتبر فضاء المدينة أنموذجا مصغرا لفضاء العالم الكوني الفسيح، ويشكّل بتظافر أجزائه وتراصّها حياة متجددة الأحداث ومتشاكلة في طابعها العام، فهي رحلة في حدود الزمان والمكان، موازية لتلك الحياة الإنسانية الخاصة بكل فرد منتمي لعالمه المستقل بكل جزئياته، حيث تجسد المدينة في صورتها الخارجية تنوع معالم الإبداع اللامحدود للإنسان منذ القديم، من خلال تكريسها لمبادئ الانسجام الحضري والتداخل العمراني، وإسهامها في تحديد الإطار العام للحياة البشرية عموما، والتي تتفاضل فيما بينها، نتيجة لرحلة التطور الثقافي والفكري المتسارع لمختلف الفنون والعلوم، الذي شكّل فارقا في إقامة المدينة على أنساق وخلفيات ثقافية وإيديولوجية مقصودة وموجهة، تعكس في فحواها القيمي التنوع الحضاري لمجتمع الإنسانية، وتؤشر في ظاهرها على خصوصية الإنسان المتماهي مع فضائه، وتؤسس في عمقها لشخصنة المكان وأدلجته بما يتناغم وروح الفكر الأصيل والمتجدد .
وفن ّالرواية في بداياته التأسيسيّة إبداع ولد وترعرع في حضن مدني، وتركيبة سردية تستجمع مادتها من حيثيات تحتضنها المدينة وتسهم في نضجها، وخارج معمار الرواية تحتضن المدينة أركان العملية السردية، كالروائي والسارد والمسرود له وكل الوسائط المتعلقة بالحكي قبل احتوائها المادة السردية. ولهذا جاء تطور بنية الرواية في صورها المتنوعة متناغما مع التموجات التي عرفها تاريخ المدينة، كما مثلت مضامينها انعكاسا للتطور الحضري للمدينة، تباينت موضوعاتها بين التوافق والتضاد في كل القضايا المطروحة، والرواية الجزائرية عينة في هذا المقال لاقتفاء دلالات فضاء المدينة وتعالقاتها، وتضيق دائرة المقال أكثر مع لمناقشة بعض التداخلات المكانية في شكل تقاطبات ثنائية، توضح مكامن التداخل وتجلي النتائج المتوخاة من ذلك التعالق المفتوح على عدة تأويلات.
فإذا كانت جغرافيا الفضاء بمثابة الركح الحاضن لفاعلية الأفعال والفواعل الروائية في حركتها وسكونها وما ينجر عن ذلك من نتاج حدثي، يبلوره الروائي إلى عملية سردية محكمة النسج والبناء لتشكل صورة مكتملة للمعمار الروائي، فإنّ هذا المنحى يدخل الروائي في ضرورة الاعتناء بالجانب اللامادي للأمكنة ليستنطق الأرواح المبثوثة خلف ستائر المدينة.
وهذا ما جعلنا نثير تساؤلين جوهريين تدور في فلكهما مقالتنا وهما على النحو الآتي:
-
ماهي أهم التعالقات التي يطرحها الروائي الجزائري حين يبني ديكورا مكانيا مفتوحا في نصه الروائي؟ وهل من قصدية له في الاعتناء بالفضاء موازاة باعتنائه بالأفكار؟
-
وللتفصيل في إثراء التساؤل والإحاطة بفك جوابه، اعتمدنا منهجا وصفيا تحليليا، بدأناه بعرض لقيم المدينة والتمدن وعلاقته بحضارة الإنسان، ثم تطرقنا لحضور المدينة في حكي الإنسان، لنعرج على المدينة في الرواية الجزائرية من خلال بعض الروائيين الجزائريين الذين اعتنوا بفضاء المدينة في متونهم السردية لنقف على معانيها الأدبية والإنسانية.
1. فضاء المدينة وفعالية الإنسان / جدلية التأثير والتأثر
تستمدّ تيمة المدينة دلالتها العميقة من فعالية مساحتها الواقعية المترامية ضمن مدى الآفاق، وينعكس صداها في عمق النفس البشرية من جراء تشظي حدودها المفتوحة مع مكونات الفضاء الحاضن للفعاليات النشطة والمستدامة للإنسان منذ القديم، بفعل المنحى الديناميكي لتطور مظاهر الحياة المتغيرة على الدوام، أين تفرض وجودها الأدبي ضمن محددات التصور الشمولي للفضاء وداخل الإبداع الإنساني عموما، فهي صورة تقترب من تجسيد معنى الحيز الذي يحتوي أمكنة أصغر مساحة، كون المكان الواحد المحدود يثقل عليه حمل معاني متنوعة وأشكال متباينة، وفي نفس الوقت تشكل المدينة جزء من روح الثقافة العمرانية العريقة، إذا ما قرنا مصطلح المدينة بالإنشاءات الكبرى، التي كانت في صلب التعاقب الحضاري بين الأمم القديمة، فالمدينة في تكوينها الواقعي لم تنشأ جملة واحدة ولم تستقر على هندسة معينة، فهي حكاية رحلة طويلة للبناء والتطور المكاني، فقد تنشأ من أصغر مكون مكاني كالبيت، وتبدأ في رحلة النشوء والنمو عبر مراحل أكبر، كالشارع والحي والتجمع فالقرية، ثم تتحول إلى التدرج في التصنيف الإداري الذي يشترط عدد الساكنة وامتداد المساحة وتطورها في ترقية الأمكنة إلى درجات أعلى، إنها عملية تحول من نمط معيشي مستقر إلى آخر متغير، ومن مستوى حياة بسيطة إلى مستوى حياة أكثر تعقيدا في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وهي أيضا نقلة تثبت المنحى التصاعدي للرغبات البشرية على مر العصور في التطور والتطلع للأفضل، حيث «مر الإنسان بتغيرات مختلفة في حياته الطويلة إلا أن أهم هذه التغيرات كانت ثلاثة:
-
انتقاله من حالة البحث عن الطعام إلى إنتاج الطعام والمعيشة الثابتة. أي إلى حالة القرية.
-
انتقاله من القرية إلى حياة المدينة الأولى.
-
انتقاله من حياة المدينة الأولى إلى حياة المدينة الصناعية» (شوقي عبد المنعم 1981: 38)، وهو رأي « ابن خلدون » في تفسيره للاختلاف الحاصل بين الأجيال المتعاقبة عبر الزمن وتباينها في أنماط الحياة وضرورياتها، وتوضيحه للمنحى المتنامي في حياة الإنسان منذ القديم، فيقسم المجتمعات إلى ثلاثة أصناف مختلفة في المعاش، الأول مجتمع ضروري والثاني مجتمع حاجاتي والثالث مجتمع كمالي،
«فالبدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه، وإن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم، ولا شك أن الضروري أقدم من الحاجاتي والكمالي وسابق عليه، لأن الضروري أصل والكمال فرع ناشئ عنه، فالبدو أصل المدن والحضر وسابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلاً، فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة، ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي، يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها» (ابن خلدون2006: 472).
وبهذه السيرورة المتنامية لبناء المدينة وتطور حيثياتها الفاعلة والمنفعلة مع غيرها، في مساحات مكانية لا متناهية، واستغراقها لحقب زمانية متسارعة ومسجلة عبر التاريخ، تداخل ذكرها ضمن آثار إبداعية إنسانية متنوعة، أماطت اللثام عن جملة التداخلات الأدبية والفكرية والثقافية للحياة المدنية، وتحويلها إلى موضوعة حيوية للتفكير والتدبر، وكان لها الحسم في تحديد الكثير من المؤشرات والقيم، وكذا إرساء العديد من التيارات المتخصصة التي أضحت علوما مستقلة في ميادين محددة، تستقرأ جزئيات المدينة وأركانها، وتستنبط الدلالات الكامنة قبيل إنشائها وأثناء وبعد استوائها، وتواصل الحفر في معاني الحياة داخلها، فتوالدت الآراء واستوت الأفكار حول علاقات الإنسان بمحيطه وبمدينته، وأضحت نظريات مؤسسة يعتد بها كالرأي القائل «الإنسان بن بيئته » والمقولة « الإنسان اجتماعي بطبعه »، وكانت السنن والأعراف قبلها تدعو إلى حياة الاجتماع وتوصي على مبادئ التآلف والإعمار .
إن المدينة في أسمى قيمها معنى موسع لاستقرار الإنسان وتكاثره، وهي ملمح حقيقي لإعجاز عالم الإنس في الأرض، إذ لا تعرف مساحتها الاستقرار طولا وعرضا، جراء النشاط المتنامي في زواياها الممتدة، بفعل الحيوية الفكرية المطردة للإنسان، الذي يميل بطبعه إلى التوسع والتحرر من ضيق الحدود، فيشق الطرقات الطويلة في السهل وفي الوعر، ويشيد الصروح الفخمة مختلفة الأشكال والألوان، فيساهم بذلك في بناء المزيد من أجزاء الأمكنة في كل مجالات الحياة وتخصصاتها،
«فإذا كان المكان يتشكل بالدفء الذي ينهض من روح الكائنات فيه، وإذا كان الكائن بمسيرته مجموعة من الأمكنة تشكلت في ذاكرته وشكلت ذاته، فإن سيرة المكان لا تنفصل بشكل من الأشكال عن سيرة الكائن الذي يطلق روحه وذاته في المكان بقدر ما يطلق المكان روحه في ذلك الكائن، ليصبح الإنسان تكوينا واحدا يكتب تاريخ وجوده») بهيجة الصري إدلبي/عامر الديك2011: 103).
وتحولت أشكال المدن وطرق تسييرها في عصرنا المتسارع إلى مقياس لمقدار التطور العلمي والتكنولوجي ومعيار للتحضر البشري، إذ على أساسها تصنف مراتب الأمم، بل استحالت هندسة المدينة إلى مضمار للتسابق العمراني، وحقلا إجرائيا للتفاوت في تحقيق شروط العيش الكريم، كالسهر على نظافة المحيط واحترام البيئة وتزيين المساحات وتنويع المرافق الخدماتية، وصولا إلى مدى توفر شروط الرفاهية وتحقيق المدنية المثالية التي يتطلع إليها أصناف وطبقات خاصة من السكان أصحاب المال والأعمال، عن طريق خلق ترسانة قوانين صارمة لتسيير الفضاءات العمومية والخاصة، وهنا يتحول التسابق إلى رهان لتحطيم أرقام قياسية، تتفاوت فيها المدن والشوارع في معايير الطول والعرض وكبر المساحة وعلو المباني، حتى أضحت للمدينة علومها المنشئة وقوانينها الضابطة لهيكلها.
وظهرت المدن الجديدة التي تمثل
«المجتمع المحلي المستحدث الذي يتم إنشاؤه بناء على أسس تخطيطية شاملة ومتكاملة بكل جوانبه الاقتصادية والفيزيقية والتنظيمية، ويلي ذلك نقل العناصر البشرية المختارة بشروط معينة، وذلك بهدف تحقيق وضع اجتماعي واقتصادي متطور عن الوضع في المدن التقليدية السابقة، ويكون الهدف منه تنمية وتطوير الموارد البشرية والاقتصادية ورفع المستوى الاجتماعي.» (مصطفى عمر حمادة 2012: 39)
ومنها المدن المتخصصة في بنائها على غايات وأهداف لتطوير مجال حياتي معين أو لتنمية فن من الفنون أو علم من العلوم، كالمدن الذكية ومدن العلوم ومدن السياحة ومدن الرياضة ومدن الطب ومدن الفنون وغيرها، فتمايز المدن يعود إلى
«العوامل والأسباب التي أدت إلى نشوئها وتكوينها وتطورها، فهناك مدن تجارية، ومدن دينية، ومدن صناعية، ومدن تاريخية، كما أن هناك مدنا تستمد أهميتها من كونها مصدر القرارات والاختبارات السياسية» (رزاق إبراهيم حسن1984: 17).
وعلى غرار المدن العريقة التي خلدها التاريخ، فكان لكل حضارة عاصمتها الكبرى، التي هي بمثابة الرأس للجسد، تدير الكل المجزأ فتحفظ له استمراره، وترفع ذكره في الخالدين، وتحاكي في رسمها للأبنية وظيفة المتحف المفتوح أمام الإنسان المعاصر، للوقوف على كل التفاصيل لمعالمها ووظائفها المادية والمعنوية، وكذا لطرق تأطيرها الشوارع والحارات، بكيفيات دقيقة ومدروسة، تظهر أسبقية الحس الفني المعماري عند الإنسان القديم، وتبرز إحساسه المرهف بتنظيم إطاره المعيشي، وتجسيده لمبدأ الشخصية المعنوية المستقلة في كل مظاهره القريبة والبعيدة، للتعريف بالعادات والتقاليد ومختلف الخصوصيات الحضرية، في صورة حية لتعاقب الأنماط العمرانية، ولتراكم الفكر الحضاري الذي يؤشر على صراع هادئ بين القيم والقوى المتعاقبة على مساحة الفضاء.
فسقوط فضاء المدينة في كتب التاريخ القديم والحديث يعني سقوط حدود الجغرافيا القريبة والبعيدة للدول والإمبراطوريات الكبرى، وهو مؤشر على سقوط موازي لفلسفات وإيديولوجيات إنسانية وطموحات بشرية سيطرت على الفضاء، وكان لها الأثر الواضح في تصميم وتوجيه زوايا المدينة، التي ستبقى شاهدة على مرور الحضارات بين جنباتها الضيقة وفي عمق سفوحها الشامخة، فالتاريخ يذكر حضارة الإغريق ومدينتهم أثينا في اليونان، ويمتدح حاضرتها وازدهارها وما تزخر به من روافد العلوم والآداب والأعلام في كل مجالات الحياة، ولم ينس التاريخ ما حدث لأثينا بعد سقوطها في يد الرومان، حين شهد على بقاء الحضارة اليونانية قائمة حتى بعد الهزيمة، كون الانتصار السياسي والعسكري الروماني لا يمكنه أن يأتي على نسائم التطور الفكري الكامن في زوايا الأمكنة وضمن خلايا العقول، بل أكد التاريخ تبعية الفكر الروماني للفكر اليوناني، وقيام حضارة الرومان على قواعد الحضارة اليونانية،
«وقد عرفت حضارات الشرق مدنا تشبه لبناتها ومعمريها بالعبقرية والإبداع، ولعل من أعظم هذه المدن تلك التي قامت في بلاد الرافدين ومصر واليمن وكان من أشهرها بابل وصنعاء، وسبأ وطيبة، والإسكندرية وبيت المقدس وغيرها» (قرطي خليفة 94/95 : 13).
كما جسدت المدينة الوجه العنيف للإنسان، حين اتخذها عنوانا صريحا لمعارك طاحنة وحروب طويلة، خاضها الإنسان الحديث واختلفت معانيها بين فكر الغزو التوسعي المباشر وبين فكر الغزو العقدي، وتنوعت طرقها ووسائلها بين أساليب الحروب التقليدية والحروب الحديثة، واعتلت عنوانا للسقوط ومرادفا للهزيمة ولانتهاء حقبة الشموخ المكاني والازدهار الحضاري، وهي أيضا معنى لنهاية حدود الأمس وبداية حدود اليوم، عندما تقترن بالحاجة الماسة للبناء والإعمار، كونها طبيعة وحاجة بشرية ترفض ألوان الخراب والحروب، وتتطلع دوما لفضاء مدني حضري أكثر أمان وأكثر شفافية، وترنو إلى الاتجاه صوب المستقبل الذي يبعث أطياف الحياة، بخطى ثابتة تتراكم مع الحاضر المتسارع لتشييد المدينة الفاضلة التي تتسع للجميع دون تمييز أو تفاضل.
فالمدينة في دواخل النفس هي صورة مكبرة لأحلام الإنسان وانكساراته، وهي أيضا صورة راسخة لإصراره وتحديه في تدبيره لأفق المستقبل، حين يأخذ من ماضيه وحاضره دعائم نفسية تتراوح بين الرجاء والخيبة، وتشكل معه ثنائية التأثر والتأثير بالفضاء الذي أنشأه من العدم، وساق له بواعث التطور والانعتاق من العبودية المقنعة لفكر الحدود المستحيلة، فكان ارتباطه بالفضاء يستمد معنى الهوية ويتناغم مع ثوابتها، « فالذات البشرية لا تكتمل داخل حدود ذاتها، بل تبسط خارج هذه الحدود حيث المكان الذي يمكنها أن تتفاعل معه » (الشريف حبيلة 2010 : 22)، وهو ما جعل الإنسان الروائي يذوب مع المدينة في كتاباته، ويتحدث عن زواياها كأنما يصف نوازعا في ذاته، ويتأوه لهول الأنانية البشرية حين تدوس على معالمها العريقة، بل وينتصر للجمادات والأبنية القفار على حساب بني جلدته في صورة واضحة جلية لرسوخ رياح المدينة في أوصال الإنسان وفي عمق عروقه، وهو رأي ينافح عنه الروائي« عبد الرحمان منيف » صاحب خماسية « مدن الملح » في قوله« إن المدن هي البشر هي التاريخ وبالتالي فإنها الذاكرة الحقيقية لما كان ولما يجب أن يبقى »(شرف الدين ماجدولين2010 : 51).
إن وفاء الإنسان للمدينة له ما يبرره، فالمدينة الحديثة وإن جمعت بين ثناياها ثوابت التاريخ الحضاري للأمكنة العتيقة فإنها انصهرت في مفاهيم العصرنة وأتت عليها رياح الحداثة واشتراطات العولمة، مما جعلها ترضخ لنوازع الإنسان وتلبي له رغباته المتزايدة، وتكون أكثر مرونة مع اشتراطاته في نوعية الحياة، فأضحت المدينة الركن الركين والحيز المفضل للإنسان، مما يفسر هجرته المتزايدة من الأمكنة المحدودة كالريف والقرية نحو رحاب المدن، رغم مآخذ المدينة وصخبها، فالتحول إلى المدينة هو تحول شامل في المكان والزمان، فالهدوء وسعة الأفق عملتان نادرتان ضمن فضائها،
«هذه مرحلة أخرى من مراحل الصورة الأليمة المريرة التي يلحظها الناس داخل المدينة، فالشيء الذي يحكم علاقاتهم هو السرعة...إنها رمز للطرف الثاني من أطراف الصراع داخل المدينة المليئة بالأحزان هذا الطرف هو الوقت، فما أكثر ما يتحمله إنسان المدينة من أعباء صغيرة لا تنتهي.» (عبد الحميد جيدة1980: 279)
لكن هوس الإنسان بالمدينة ومفاتنها وتفاعله مع غنجها وعنادها يغطي على مثالبها، ويجعل من هذا الفضاء الصاخب رافدا للإبداع الإنساني وملهما للوحي السردي بكل المقاييس، إذ المدينة في سمو معناها
«ليست مجرد أبنية أو شوارع أو ميادين أو معدات للحياة اليومية توفر الوقت والمجهود، بل إنها نوع من الحياة جديد على البشرية يجب أن نهيئ له الأساس المعنوي، وما يتضمنه من تنظيم اجتماعي لا بد أن يصل مرتبة التضامن والتماسك.» (محمد عاطف غيث1972: 105)
2. فضاء المدينة وفنّ الرواية / جدليّة الحضور والغياب
شكّل فضاء « المدينة » ضمن المتون الروائية المعاصرة حقلا إجرائيا خصبا، من خلال حضوره اللافت وتجسيده المكثف في المنجز السردي، واشتغال الروائيين عليه بكل عناية وفنية، قصد إخراج الأمكنة من طبيعتها السكونية الثابتة إلى طبيعة مغايرة، تتسم بالحركية والحيوية الدلالية، ويتراءى ذلك الاحتفاء بالمدينة، عندما يلبسها السارد خلفيات فكرية وتنوعات ثقافية، يتجاوز معها الحيز المدني معانيه الهندسية المألوفة، ليحمل نقاشات واستثارات لإشكالات عميقة، تبعث على التدبر في معاني الأمكنة، وتغري بالانفتاح على الحفر في تسجيلات التراث، والنبش في مكنونات الإرث التاريخي العريق، كونه الشاهد الثابت على التشكلات الأصلية لروح المدينة والسجل الصامد لحفظ الأفكار والخلفيات الإديولوجية والمعرفية، التي سطرت الأسس النظرية الأولى لإقامة مفاصل البناء، وأرست أساساته ودعائمه الراسخة في حدود الزمن القريب والبعيد، إذ بداية البناء الهندسي فكرة تصميمية دقيقة وشاملة، تراعي الخصوصيات الثقافية والدينية، وترسم النمط الخاص بمكونات الشخصية القاطنة لهذا الفضاء المتحرك، وكل متعلقات المحيط العام للمدينة، وتحاول أن تستلهم من روح الانتماء أسرارها لتقوية شروط التجانس والاستقرار ضمن حدود المدينة، وتمكن الأمكنة من ضمان البقاء والرسوخ في سجلات التاريخ العمراني .
فتجليات فضاء المدينة ضمن فضاء الرواية ليست مجرد أطلال خالية تستوقف الناظرين، وليست بقايا هياكل خاوية الروح، تستجدي عطفهم على زواياها المترامية، بل هي جغرافيا حية تتوالد في حضنها الرؤى وتسمع الأصوات، وتنبعث من وحيها السرود بصيغها المتعددة، في وصف يجاري كبرياء المساحات الواسعة عموما، ويدقق في رسم الزوايا الضيقة خصوصا، فللمدينة في الرواية جمالياتها التي تطبع المكان عند انفتاحه على عالمه الفسيح، تحمل همومه وتستدعي أحلامه، لتستنطق صمته وتزيل شروده، وهو رأي الناقد « حسن بحراوي » حينما يتحدث عن تعالق المكان بعناصر البنية السردية، في المقدمة التي وضعها لكتاب الفضاء الروائي إلى القول :
«لا شيء في الرواية يتميز بالاستقلالية عن البنية المكانية، كما أن كل المواد والأجزاء والمظاهر الداخلة في تركيب السرد، تصبح تعبيرا عن كيفية تنظيم الفضاء الروائي، وعليه يمكننا النظر إلى المكان بوصفه شبكة من العلاقات والرؤيات التي تتضامن مع بعضها لتشييد مواقع الأحداث، وتحديد مسار الحبكة ورسم المنحنى الذي يرتاده الشخوص..» (جيرار جنيت وآخرون2002: ص6).
ولعلّ تراكم دلالة المدينة في الرواية يعكس عراقة المدن والإنسان المبدع لها، واقترانها بمعنى المدنية والحضارة منذ الأزل، كونها فضاء تعاقبت عليه حضارات مختلفة التوجهات والانتماءات العرقية والعقدية، وجاء معمارها متباينا في الزمان ومتداخلا في المكان بطرق جسدت ألوان الاختراق لحدود الفضاء، وفعلت صنوف التفكير التاريخي والجغرافي بمختلف معانيه من بناء وإعمار وازدهار إلى معاني الأفول والغزو والاستعمار، مما جعل دلالة المدينة في الرواية تخرج عن طبيعتها المادية الصامتة إلى طبيعة ناطقة، تؤخذ مرتكزا بنائيا في السرد، ومحفزا يستثير ألوان الحكي، حين يستثمر في متغيرات حدود المساحة الشاسعة، ويستلهم من تصورات الموقع الاسترتيجي الجذاب للأماكن، فالسارد في بنائه للمرويات
«اختارها لتمرير فكرته، ولم تعد مجرد مكان للأحداث، بل استحالت موضوعا خاصة مع تنامي العوامل الداخلية والخارجية، فمن الناحية الاجتماعية تعد ذات كثافة سكانية كانت سبب مظاهر كثيرة ومشكلات نفسية واجتماعية استغلها الراوي في تشكيل صورة المدينة في الرواية.» (الشريف حبيلة2010: 256)
فكانت بنايات المدن وشوارعها قلاعا صلدة في معمار الرواية، وحملت في المضامين الروائية مسميات عدة حسب كل حقبة، لترسم تعلّق الإنسان بأرضه وتشبثه بأصله عبر العصور، كما أماطت اللثام عن رسوخ الطبيعة النفسية والاجتماعية للروح المحلية، وبقاء سمة الوفاء والانتماء لصيقة بمكونات المدنية، التي تستمد قوتها من رسوخ معالم عميقة في ذهنية الفرد المنتمي للمكان، تصل حد الذوبان في نسج فضائه، ف
«الإنسان يستمد قوة إضافية، وبعدا إنسانيا أعمق من خلال ممارسة اجتماعيته، ومن خلال شعوره بالانتماء إلى كم كبير من الآخرين، الذين يقاسمونه الهموم ذاتها، ويشاركونه التطلعات ذاتها، ولذلك كانت المدن ملاذا آمنا لكل من يرغب في –بصورة واعية أو غير واعية-بالانتماء إلى المجموعة البشرية التي يجد نفسه جزءا منها.» (صلاح، صالح2014: 143).
فالرواية صناعة مدينية وملحمة برجوازية (جورج لوكاتش1979: 07) كما وصفها «جورج لوكاتش»، وهذا يعني أن ظهور الرواية وتألقها هو علامة على انبثاق الطبقة الوسطى بوصفها قوة تشكل التاريخ، ذلك أن الرواية وثيقة الصلة بتشخيص القضايا الاجتماعية والثقافية، وهي تأتي أيضا استجابة للتغيرات في المجتمع والفلسفة ومفاهيم التاريخ (والسن مارتن1992: 20)،
«إنها هوس إنساني بثورة الأمكنة وتحولاته عبر العصور، فهي بناء تخييلي متجدد، يخترق المستحيل ليثبت الممكن في إعادة الحياة لزوايا المدن الغابرة، ويستدعي السارد بما أتيح له من تقنيات السرد زخم المدن الحاضرة، لتبوح بما جادت به تلاقحات الفكر الإنساني مع رغباته في بناء حضارته الخاصة، ومدى تأقلمه مع مختلف الذوات الأخرى العابرة للأزمان، فكان لكل روائي مدينته الملهمة القاطنة في مخيلته ووفق رؤيته، فهو يستجدي بحكيه تراثها، وينفخ في جسدها من روحه، لتتجلى له في بناء يروق لنظره، ويفجر سروده الكامنة، لتستحيل المدينة المألوفة شكلا مخالفا وتفصيلا مغايرا، يشبه المدن العجائبية في بعض التصورات السردية، لأن فضاء الرواية فضاء مرن في التشكيل المكاني، يستوعب كل التخييلات الهندسية المسبقة، ويرتدي مختلف المقاييس المتاحة دون اشتراطات أو محاذير»، سواء كان ذلك المكان واقعيا محسوسا أو كان مجرد حلم أو رؤية»(حسن بحراوي 2009 : 25)
تؤطر أبعادها المترامية سعة التخييل الروائي، وتحدد معالمها الدقيقة مساحة اطلاعه على فنون موسعة، تساير الوصف المكاني بكل أنماطه وتجسده على أرض الرواية.
وفي تتبّع للدراسات النظرية للرواية الجزائرية في شقّ مكوّن الفضاء نجد فضاء المدينة حاضرا في أغلبها، وهو أمر مبرر بكون الرواية فن مديني، «تستأثر من بين جميع الأجناس الأخرى، بقدرتها على اكتناه معنى المدينة، أو فكرتها الجوهرية تركيبيا، بوصف طريقة التركيب سبيلا لإنتاج المعنى، فالرواية قائمة على أساس التنوع والتراكب اللذين يسمان مدينية أية مدينة» (صالح، ولعة 2000: ص38). سواء من المدن البائدة أو تلك المدن المستقبلية الشبيهة بمدن الخيال العلمي، فحدود الرواية تسع مدنا بأكملها، وتلتهم بشغف عوالم لا يحدها إلا عقل الإنسان مع امتداد الزمن، والمدينة أيضا هي فضاء محبب للروائيين كونها مساحة غنية بالمادة السردية، وبنية خصبة صالحة للاستثمار في مشتقات السرد في الفنون الأخرى.
إنّ المدينة من خلال صورتها الطبيعية الناصعة والملهمة للعارفين بخلفيات الآثار الإنسانية، ومن خلال تجليها للناظر الثاقب لمقوماتها هي إبداع إنساني منقطع النظير، يجسد القيمة الفنية لفكر الإنسان في تصميم محيطه، ويجلي بحثه الدائم عن ظروف عيش مبتكرة، تحقق له ذاته وتوفر له رغباته المتزايدة، مما جعل مساحة المدينة فضاء ديناميكيا يكسر أغلال السكون، ويحول صورته الطوبوغرافية إلى فسيفساء دائمة التطور وسريعة التحول، كما تعرف المدن في تركيبتها المتنوعة تباينا فيما بينها في الماضي وفي الحاضر، وهو ما يكشف عن سعة في المخيال العمراني وتنام في التجسيد المكاني، الذي يساير بدوره خصوصيات الساكنة، ويراعي حساسياتهم الثقافية والعقدية والتاريخية والاجتماعية وغيرها، في تحقيقه لبنية لمدن المثالية الخالدة. فالمدينة في تجلياتها للعالم هي الوجه الخارجي للحضارة.
3. فضاء المدينة في المنجز الروائي الجزائري
إنّ المتمعن في البدايات الأولى للرواية الجزائرية المكتملة من الناحية الفنية، يلمح ذلك الحضور اللافت لفضاء الريف والقرية، في صورة جلية للتعلق بالأمكنة القريبة في ذات الروائي، والتي شكلت جزء معتبرا من فحوى السرود، ويعود هذا الاحتفاء بالريف في الرواية الجزائرية إلى اعتبارات عدة، أهمها الاعتبار المكاني الذي يمثل فيه الريف المرجع التاريخي للمقاومات الشعبية، إذ كان دوما القوة الخفية للثورة الكبرى، والتي مثلت المحطة المفصلية والحاسمة في مسيرة النضال ضد الاستعمار الفرنسي، فكان الإحساس بالانتماء للريف لدى الروائيين الجزائريين يكاد يكون جبليا، تدفعهم إليه العاطفة التاريخية ويوجهها المخيال الجمعي المتوارث حيال قداسة الدروب والجبال والوديان، التي استمدت قداستها حين تلونت بدماء الشهداء وارتسمت لوحة ناصعة للحرية، كما أسرتهم حكايا الأجداد والجدات المفعمة بعبق الذكريات الخالدة ضمن فضاء الريف، وألهمتهم الحنين إلى البطولات المحفورة في صخور الأماكن وفي عمق رمالها في صورة تعانق بين وحي من الأرض باركته السماء، ليتحول هذا الزخم المكتنز من السرود المتوارثة إلى ثروة حكائية استدعت الاحتفاء بأحداثها في المضامين السردية المتلاحقة، والتي بقيت جزء لا يتجزأ من شخصية الروائيين حين عايشوها من قريب، ونشأت بينهم رابطة تماثل في رسمها رابطة الأصل بالفرع، وتطورت بفعل التخييل الروائي لتعطي في أسمى معانيها صورة لامتزاج الدم بالأرض، وهو رأي «الطاهر وطار» في قوله :
«إننا كلنا من منبت ريفي أو من قرى صغيرة تئن تحت ضغط الرؤية الريفية للحياة، وإلى الآن - وعلى ما أعرف- فإن نتاجنا إما لا يعكس سوى الإنسان الريفي في صراعه مع الحياة، في انتصاره أو في انهزامه، وإما لا يتعرض إلا بصفة سطحية للمدينة وخاصة للمدينة الكبيرة.» ( صالح مفقودة :2003 177).
كما يحمل التعالق الروائي بالريف دلالة البعد الثابت والأصل الصامد في وجه رياح التبشير والتنصير، التي انتهجها الاستعمار الفرنسي مذ وطئ المدينة، وبدأ في نسج خيوطه الغربية في رسم الأماكن وفي تفصيل المساحات المشكلة للمدينة، وانتهاجه أسلوب الإغراء للهيمنة على ساكنة المدينة وإدماجهم في فضاء المعمرين، ومن هذه الأساليب المفضوحة مشروع قسنطينة، الذي يذكره التاريخ كونه جاء في أوج الثورة في صورة تكرس استعمال الاستعمار الفرنسي لمكونات المدينة وحدودها من مشاريع البناء والإعمار لشراء السلم المستحيل، ولاحتواء الهزائم النكراء التي يتلقاها يوما بعد يوم من الثوار الأحرار، ولجوئه لسياسات إغراء الساكنة عن طريق تحريف الأمكنة وتوسيعها وتزيينها كوسيلة أخيرة للتهدئة والهروب إلى الأمام، والتي بدورها بدأت تخرج عن سيطرته، غير أن سياسة المستعمر تجاه الريف كانت دوما حقودة وهمجية في ممارسة أساليب قاسية كالتجويع والاستغلال والتعذيب، فالريف كان دوما ميدانا للحرب ولم يكن في نظر الاستعمار إلا مجرد تجمعات للخارجين عن القانون، ومساحة مستباحة لتجريب فنون القمع، وتطبيق نظريات العنصرية ومخططات الإبادة الجماعية للقضاء على الإنسان الجزائري في العمق، وطمس الأثر العربي في شخصيته، فعلى سبيل المثال نجد فضاء الريف حيزا لأحداث روايتي «ريح الجنوب » و«نهاية الأمس» ل «عبد الحميد بن هدوقة»، ومرد هذا التكثيف لهذين الفضاءين هو تعلق الروائي الجزائري بأصوله التي نشأ فيها، أو كانت له معها علاقة حميمة غير مباشرة، مع توارث الانطباع الجمعي حول شفافية الريف، وملاءمته للشخصية العربية عموما، فالريف كان دوما مكانا مألوفا ومناسبا للطبقات الفقيرة، ولا تتغير صورته النمطية في المخيال الروائي على تشكيله بأنه صورة للبساطة ولسهولة الاندماج المحلي، وإن كان للمدينة مساحة محتشمة في الروايتين، من خلال إبراز »الصراع العنيد بين مخلفات الماضي ومستجدات الحاضر بين قيم عتيقة وقيم جديدة، بين أنماط تقليدية ريفية وأنماط حياتية عصرية« ( شايف عكاشة 1990 : 9). فإن روح العاطفة والوفاء للريف والقرية واضحة جلية، كون الريف هو الحضن الدافئ للثورة في مهدها وبعد نضجها والسند الدائم للثوار في نضالهم وكفاحهم، ولا تزال صورته رمزا للحرية والتحرر بعد الاستقلال، كما يمثل ساكنته الجذور الصافية للجزائريين، على اعتبار المدينة شكلت امتزاجا بين المستعمر والمستعمر، وكانت مركزا للاستعمار ومستقرا للمعمرين في نمط العيش، وفي هندسة الشوارع وفي النظام العام للحياة اليومية، فسمات الاختناق والتضييق والازدحام والفوضى مؤشرات عالقة بطيف المدينة، كما تبقى عقدة الاستعمار وروحه قاطنة بالمدينة، ومرتسمة على أبنيتها وهياكلها التي تحمل لمساته على هندستها الغربية .
غير أنّ فضاء المدينة كان ركحا لأحداث رواية «بان الصبح » لعبد الحميد بن هدوقة، وبدا الروائي مشتغلا على جزئيات المدينة «الجزائر»، ومحتفيا بأركانها من شوارع وساحات وشقق وفيلات وجسور، ليعبر عن انشغالات الجزائري المتحرر من وضعه الجديد ويرسم حياته الجديدة، في مدينة أضحت ملكه وهو ملكها الأوحد، كما يوجه سرده إلى العلاقات الاجتماعية داخل المدن، والتي تحولت إلى شبكة من العلاقات المثقلة بالمشاكل والهموم جراء الهشاشة التي تتسم بها روابط المجتمع المديني، والتي تكون المصلحة الذاتية الضيقة عاملا فاعلا في إقامتها، ويطرح الروائي مسألة تحول الهرم الاجتماعي الجزائري المحافظ إلى طبقات متباينة في مستويات العيش، واتجاهه نحو التباعد المادي والمعنوي في بداية لظهور برجوازية مصغرة تخلف البرجوازية الاستعمارية.
ويطرح الروائي قضايا الهوية والثقافة والعادات والتقاليد، التي بقيت تصارع في وجه الخيارات المتعددة للجزائري الجديد، الذي استمات في نضاله ومحاربته لسياسات الطمس والمحو لأصوله وثوابته في الماضي القريب، ويجد صعوبة في الحفاظ عليها في حاضره، نظرا لعوامل عدة أهمها مخلفات الاستعمار وفتوة دولته المنهكة، ورياح التغريب الموجهة ضده من هنا وهناك، للتشويش على إقامة دولته الحديثة.
كما يقلّص «مرزاق بقطاش» من صورة مدينة الجزائر العاصمة، ويقزم من فضاءاتها في سرد روايته «حمائم الشفق»، التي حصر أحداثها بين غابة وحي، حكت فصولها هموم مساحة مكانية محددة في بداية الثورة التحريرية، وحمل أبطالها من الأطفال راية أحداثها، وهو ما جعل النقاد يحكمون على فضاء الأحداث بالمحدود جدا، وشبهوه بفضاء الريف، خاصة عندما اشتمل على موضوع الثورة، الذي هو مؤشر أساسي على معنى الريف، وهو رأي الدكتور «شايف عكاشة» في قوله :
«أن طيور في الظهيرة نفسها قد ألبست المدينة الثائرة ثوب الريف، ولعل ما يؤكد هذا أن بقطاش نفسه لجأ في هذه الرواية إلى الغابة ليحتمي بها...إن اهتمام بقطاش بثورة المدينة لا يعني أنه كان يريد أن يدخل لهيب الثورة إلى المدينة» (نفس المرجع، ص63)
وهو ابن المدينة الذي سجل تأوهاتها ووقف عند زفراتها، غير أن حدود الفضاء المدني اتسعت مع روايته التالية «البزاة» حيث اتضحت معالم المدينة المستعمرة أكثر، وأدخل الروائي مزيدا من الأمكنة كالبحر والقصبة والثكنة والمدرسة والسوق والمقهى والميناء، كأنه يرسم فوتوغرافيا المدينة ويمسح معالمها العتيقة، لكنه لا يتماهى معها حد الذوبان في مدلولاتها، بل هي سيرورة نحو تمكن المدينة من فضاءات الرواية عند الروائي.
ولا يخرج بقية الروائيين الجزائريين عن التعبير عن هموم المدن الجزائرية وآمالها، فنجد دلالة المدينة حاضرة وفاعلة في توجيه السرد وفي تحفيزه، فالروائي يتعلق بالفضاء المنشأ ويوظفه في حكيه، فعلى سبيل المثال نجد مدينة «قسنطينة» التي جمعت الطبيعة الكامنة بين الصخور مع المعجزة المعمارية المعلقة بالجسور في تحديها لقوانين الهندسة المدنية وخلوصها من شروط السلامة فيها، لتتعانق على جسورها السماء بالأرض، فتتفتق الحياة الأبدية للمكان وتلهم المرهفين برسم الخوارق على التصوف والتجلي، وتحضر فضاءاتها في أعمال «الطاهر وطار» على غرار روايته «الزلزال» التي بنى الروائي معمارها على سبعة فصول، يسمي كل فصل على أحد جسور المدينة بدءا بباب القنطرة، سيدي مسيد سيدي راشد، مجاز الغنم، جسر المصعد، جسر الشياطين، وانتهاء بجسر الهواء، في صورة فنية سردية حولت المدينة من هيكل ساكن إلى خطاطة ديناميكية، لإقامة بناء روائي ناطق ومتلون بشتى صنوف التخييل وأطياف الإبداع اللامتناهي، ومن جهتها «أحلام مستغانمي» في روايتها «ذاكرة الجسد» التي تناولت المدينة بشوارعها ومقاهيها وجسورها بطريقة تناغمت فيها الأسطورة مع زوايا الأمكنة، وخصوصا مع الجسور التي وظفت بطريقة سردية تفاعلية، يشكل ضمنها المكان بؤرة النهاية والبداية مع أحداث الرواية ومع حركية الشخصيات، حيث توظيف السارد لمعالم الأسطورة وبثها في تخوم الحكي، حين يستثير الجسور المعلقة لتبسط من ذاكرتها حكاية المكان، إذ أن «اسم كل جسر من جسور المدينة يخلف وراءه حكاية نشأته وكبره، ومن ثمة ذوبانه في ذاكرة قسنطينة الشعبية» ( صالح، ولعة2000 : 55).
والمدينة عند «رشيد بوجدرة» لا تحمل اسمها في السرد صراحة، مما يجعل القارئ يستجمع مؤشرات وأوصاف متفرقة في فضاء النص، حتى يستقر على تحديد الفضاء الجغرافي لأحداث الرواية، فهي إذن فضاء مفتوح تحتكم إليه مكونات السرد وفق رغباتها ونزواتها الفطرية والمكتسبة، فترى فيه الملاذ والمفر، وأحيانا فهو المستقر المؤقت لأن المدينة في روايات بوجدرة على غرار روايته «التفكك» تقدم الوجه المتقلب للمدينة بين صور السلبيات والإيجابيات، فالسرد يكاد يخضع للمزاجية المتقلبة للساردين، ويساير النظرة الذاتية للروائي في رصد أوجاع المدن وما تعانيه من صخب يطبع يومياتها، ومن اكتظاظ شوارعها واختناق مختلف فضاءاتها، بفعل النمو الديموغرافي وما ينعكس على الأمكنة من ضيق في العيش، وظهور آفات اجتماعية ترهن الأحلام الجميلة وتلطخ الآفاق المشرقة للإنسان الجزائري الحالم إلى إثبات ذاته وسط ركام المدينة المتهورة.
إنّ المدينة عند «بوجدرة» مساحة متحررة من قيد التعريف والتحديد، وصورة محصورة بين ثنائيتي الاضطراب والاستقرار، تبحث في ذاتها عن مكامن التأقلم مع ثورة الظروف المعيشية، ومع قلق الذات الناقمة على تحولات المدينة، فهي مرتهنة بين السوداوية الناجمة عن الطبائع الشاذة للساكنة، وبين التطور الرهيب الذي تعرفه حدود المدينة، موازاة مع ما يحدث بين الحدود من سلوكات، تجسد أصناف الآدمية في علاقتها مع محيطها الفسيح.
فدلالة المدينة التي تحمل معاني التشاكل والتداخل في ظاهرها وفي عمقها، جعل رسمها في الرواية الجزائرية يعبر عن هواجسها المنفتحة على أزمة الفرد والجماعة، وتراوحت صورتها الحكائية بين عدة رؤى سردية متضاربة في الطرح ومتباينة في زاوية التوصيف، تخضع لانطباعات وأحكام روائية متراكمة، تعود إلى التركيبة الشخصية للروائي وإلى ظروف تكوينها وتطورها، ويبدو الروائيون مفتونون بالمدن القريبة من انتمائهم أو تلك التي نشأوا في حضنها، حتى جاء وصفهم للأمكنة قريبا من حقيقة الواقع، وجاءت صور المدينة واضحة ودقيقة.كون بنية المدينة الجزائرية لم تعرف الاستقرار عبر تاريخها البعيد والقريب، مما جعل معمارها كتابا مفتوحا على عدة حضارات وعلى عدة مدارس هندسية، فهناك من الروائيين من استعمل معناها الهندسي المباشر، الذي يرى في المدينة معمارا صامتا وهيكلا بلا روح، فيحصرها في سرده عند جملة الأماكن المرئية المكونة لفضاءات المدينة، كالأزقة والبيوت وما يتراءى للبصر من زوايا المدينة، ونلمسه في روايات «الطاهر وطار» و«عبد الحميد بن هدوقة» وأقلام أخرى، ترى في المدينة روحا وحياة مفعمة بالدلائل والمعاني الخفية بين اللبنات المتراصة وفي عمق الشوارع المترامية، غذتها عوامل ثقافية وفكرية، تتخيل في المدينة ذاتا لا تختلف عن الذات البشرية بل هي امتداد للروح الإنسانية، حيث «المكان عجينة قابلة للتشكل حسب رغبة أو حركة الزمان...فهناك مكان في الحس، ومكان في الذهن» (علي شلق1979 : 23/24). وتمثله روايات جاءت بعد الفئة الأولى، كروايات «واسيني الأعرج« و«رشيد بوجدرة»، وجل الروائيين المتأخرين أو الروائيين الشباب، تحولت معها المدينة إلى تيمة هامة وبؤرة مؤثرة في بناء الحكي، تحاكي نظرة الإنسان للعالم الذي أضحى قرية صغيرة لا تعترف بالحدود المادية، وتعتبر المدينة امتداد لهموم المواطن الجزائري، ومحددا هاما لشخصيته الضاربة في أعماق التاريخ الحضاري، إذ تعدّ جغرافيا الجزائر ثروة مكانية غنية بالذكريات ومثقلة بالتسجيلات السردية الواقعية والخيالية، ومساحة متفاعلة مع عدة حقب متنوعة، تختلف حكاياتها باختلاف المسافات بين أجزاء الأمكنة، ويعد الإنسان فيها انعكاسا حتميا لتمظهرات الأمكنة وتلوناتها، «ذلك أن الإنسان في المدينة يشعر بأنه يعيش حالة ضياع، نظرا لتعدد جوانب الحياة فيها وهذه الحالة النفسية هي التي تجعل الناس يبتعدون عن الاستجابة العاطفية، نتيجة لتعقد الحياة الحضرية» ( محمد عاطف غيث : دت 129).
كما يقدّم «واسيني الأعرج» فضاء المدينة في رواياته بطرق سردية مبتكرة، يظهر عليها قصدية الاعتناء بملامحها وفاعلية الاشتغال على دورها في مجمل الحكي، فهو يظهرها في صورة أوسع من التقديم المألوف في كثير من الروايات الجزائرية، إذ يتجه واسيني صوب مضمرات المدينة وصوب الدلالات والمعاني البعيدة لمكوناتها، ويصقلها بقدرة تنم عن سعة اطلاعه على عالم الرواية في شقه النظري الأكاديمي، كما تعكس تكون شخصية الروائي بين فضاء الريف والمدينة، فهذه الثنائية كان لها الأثر الواضح في تشكيل عوالم المدن في رواياته، فهو يخضع المدينة لأوجه التجريب الروائي من خلال تحويلها إلى صوت ناطق باسم الأمكنة والأزمنة، حين يوظف المدن التاريخية العريقة في مواجهة المدن الحاضرة لاستنطاق الماضي وموازنته مع الحاضر، ومنها تتوالد نقاشات حادة حول قضايا يعيشها الإنسان المعاصر، ويعاني من آثارها كظاهرة الاغتراب الزماني والمكاني، ومعضلة استيعاب روافد الحداثة وما بعدها، وصراع الحضارة ومخلفاتها، وكل مشاكل الإنسان الحديث، ولهذا نجده يستخدم خام التراث العربي والعالمي في سروده، ويجعل من المدينة عالما موسعا لكل القضايا، وأحيانا كثيرة تكون هي بؤرة الصراع، كما سنلاحظ في روايته «البيت الأندلسي» على غرار رواياته الأولى، أين كانت المدينة محفزا للسرد، وغاية لتحريك كل المكونات السردية الأخرى، وجاء توصيفها مليئا بالمعاني المتضاربة والثنائيات المتناقضة، مما حول السرد إلى حركية تفاعلية، تشبه ضجيج المدن وصخبها المتنامي .
إنّ المدينة عند «واسيني» ذات مستقلة في كينونتها، تتكرر مع الحكي، وتحدد الانطباع العام للقارئ من خلال الدلائل والمؤشرات التي يضفيها السارد على سحنتها، مما يجعل المتلقي وجها لوجه مع أصوات الفضاء المرسومة على أمزجة عناصر السرد، فتراها تتراوح بين الضيق والاتساع، وتتقلب بين الانتماء والانسلاخ في علاقتها بالمدينة.
واللافت للانتباه في تناول «واسيني» للمدينة هو تجاهله لماديات المدينة، وتجاوزه لزخرف معمارها، وإمعانه النظر في ماورائيات الأبنية والتضاريس، واحتفاؤه بالمعاني والدلالات التي تخلفها على أمزجة الشخوص، فالمدينة عنده إطار مليء بالاضطراب والقلق النفسي، تضيق وتتسع مساحته، وترتسم على محيا الشخصيات مخلفاته، كما يستعمله لتوجيه الحكي والتوسيع من دائرة الأحداث النشطة في مناطق محدودة من السرد، وإضفاء نوع من الواقعية السردية في توصيف أجزاء المدينة وحاراتها، واستقراء صور الأزقة والأفنية، واستنطاق الأبواب المفتوحة والموصدة، وتوصيف النوافذ الشفافة والمعتمة، وتفسير تاريخها وأبعادها الفنية العميقة، والتعليق على امتدادات المدينة من خلال أوصاف البحر، الذي يعتبره «واسيني» مرتكزا حاسما في الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، إذ كثيرا ما وظف البحر بصورتين مختلفتين، في الصورة الأولى يوظف معاني البحر الواقعية، فهو في رواياته ميدانا مكملا لأحداث البر، وشاهدا على أحداث المعارك البحرية الحاسمة بين الفكر الغربي والعربي، ورمزا للتلاقح الحضاري والتناوب على قيادة قاطرة التداول في السيطرة على كتابة أمجاد التاريخ، وكان دوما المطية الحاملة لسفن الحرب والسلم بين الضفتين والجسر التقليدي للتواصل بين العالمين المتجاورين. وفي الصورة الثانية وظفت طبيعة البحر رمزا للشفافية ومساحة للبوح والتماهي مع تموجاته وهدوءه، وفضاء للتجلي النفسي للشخصيات الروائية، وملاذا للهروب من ضوضاء المدينة ومن ظلاميتها المعتمة للآمال والأحلام، التي تحد من انشراح الأمزجة النفسية ومن تعايشها مع ظروف المدن المتمردة.
خاتمــة
إنّ دلالة المدينة ضمن فضاء الرواية الجزائرية هي مزيج من الأحاسيس والتعالقات بين مكونات الأمكنة وبين عناصر العملية السردية، حين يصمم التخييل الروائي زواياها القريبة والبعيدة، بما يباح له من تحوير وتصوير للأمكنة بكل مرونة وليونة، فتستحيل المدينة إلى فضاءات حية، ومعاني عميقة، نجدها في المتن الروائي ترتدي أثوابا مختلفة ألوانها، تنفي عنها صفة السكون، وتسكن أجسادا تلغي عنها صفة الموت، إنها روح لذاتها وكثيرا ما تعير أنفاسها لغيرها، لتعيد إليهم الحياة، وتأخذ دورا حاسما في تحديد المصائر الخاصة بمكونات الحكي الأخرى، وتسهم في تأطير المسارات السردية الكبرى.
وإذا ما تأملنا التحولات التي جدّت في تناول الأمكنة في الرواية الجزائرية نجد فيها نزوحا نحو إقرار الأمكنة الواسعة، كالاهتمام بتوظيف المدينة التي جاءت مكانا مركزيا مكثفا تتجلى فيه بصورة مكشفة من الأمكنة المفتوحة، لتتحول من المركز المتمدن المحلي إلى المركز المتمدن الخارجي، وتنفتح على المدينة الغربية، وعلى صورة البحر المرتبط بعلاقة وثيقة بالمدينة، ومع البيوتات المكونة لها، مما انعكس على تعميق البعد الدلالي وعلى كثافته.