مقدمة
تعتبر المنطقة المغاربية كغيرها من المناطق في العالم ذات التداخل العرقي والإثني والهوياتي، وفي ظل التجانس بين دولها وتزايد التهديدات الأمنية اللاتماثلية بات لزاما عليها ان تجد ميكانيزمات من شأنها أن تشكّل أعمدة حصينة للتصدي لها من أجل درء كل إمكانات التفكك التي تهدد وحدتها وتجانسها، وتعدّ الحوكمة الأمنية إحدى هذه الميكانيزمات بما تتوفر عليه من تنسيق وتعاون وتنظيم أمني إقليمي في الفضاء المغاربي، وكذا سعيها من أجل بناء هوية أمنية مغاربية مركبة في ظل ما تشهده الدولة في هذه الجغرافيا من تجزّء كفاعل أمني في مقابل تعدد الجهات الفاعلة في إطار الفواعل اللاشرعية العابرة للحدود، هذه الأخيرة التي شكلت وتشكل شبكة معقدة ومركبة من عدة أجزاء لعدسات التحليل. مقدمة المقال على تمهيد مناسب للموضوع، ثم طرح لإشكالية البحث ووضع الفرضيات المناسبة، بالإضافة إلى تحديد أهداف البحث ومنهجيته.
وفي هذه المقالة سيتم تبيان ما سيق أعلاه، انطلاقا من إشكالية رئيسية يمكن ذكرها كما يلي : إلى أي مدى يمكن اعتبار الحوكمة الأمنية كميكانيزم فعال من شأنه إدارة شبكية الفواعل الأمنية اللاتماثلية بالمنطقة المغاربية؟ وللإجابة على هذه الإشكالية سيتم افتراض أساسي مفاده أنه لإيجاد حوكمة أمنية فعالة في المنطقة المغاربية فإن ذلك يتطلب مقاربة تنسيقية تعاونية لتوحدي الرؤى اللامتجانسة لدول المنطقة.
وفي سبيل بلوغ هذه الغاية يتعين رصد عدة مناهج ومداخل نظرية، فتمت الاستعانة بالمنهج الوصفي من أجل جمع الحقائق والمعلومات المتعلقة بالمنطقة المغاربية وأهم خصائص جغرافيتها السياسية، كما تمت الاستعانة بالمنهج التفكيكي-التركيبي لفحص التفاعل الحاصل بين مختلف متغيرات الدراسة وكذا تفكيك العنوان العام لعدة عناوين فرعية لفهمٍ أكثر وضبطٍ أكثر لهذه المتغيرات، أما المنهج النسقي فتمت الاستعانة به من أجل معرفة تفاعل وتبادل مختلف التصورات بين النظام الإقليمي المغاربي كجزء من بنية النظام العالمي، وبالتالي نظام أمني إقليمي جزء من نظام أمني عالمي. في حين تمت الاستعانة بمقاربة التحليل الشبكي من أجل فهم علاقة التفاعلات بين القطاعين العام والخاص ودورهما في صياغة وتنفيذ السياسات الأمنية على مختلف المستويات، من منطلق أن هذه المقاربة تجيب على أسئلة مهمة من قبيل كيف تؤثر الشبكات على مدخلات ومخرجات التنسيق الرسمي وغير الرسمي لأنواع متعددة من الفواعل؟ وما هي الشروط الواجب توفرها لتوظيفٍ فعال للشبكات؟
وبالنسبة لهندسة المقالة فقد تم إدراج عناوين رئيسية ثلاثة؛ الأول يخص مفْهمة الحوكمة الأمنية وكذا أهمية الجغرافيا المغاربية، أما الثاني فيخص تنامي الفواعل اللاشرعية في المنطقة المغاربية ودور الجزائر كفاعل أمني رئيسي، الثالث والأخير فهو مختص بحدود ونطاق الحوكمة الأمنية بالمنطقة المغاربية.
1. الحوكمة الأمنية والجغرافيا المغاربية: مدخل عام
سيتم البحث هاهنا في مضامين ودلالات مصطلح الحوكمة الأمنية أولا، وأهمية الجغرافيا المغاربية من جهة ثانية.
1.1. مفْهمة الحوكمة الأمنية
من أجل التوصل إلى فهم الحوكمة الأمنية يتعين بادئ ذي بدء التعرف على معنى المصطلحين الحوكمة والأمن، ووفق الباحثة البريطانية إلك كراهمن فإنه ولفهم الحوكمة الأمنية يحيلنا إلى تفكيك ظاهرتي الأمن والحوكمة من أجل الحصول على توصيف دقيق لهذا المفهوم المركب (زقاغ ومنصوري 2016: 155). مع ذلك يجب علينا من الناحية المنهجية إضافة التركيب اللفظي في اقتراب تأصيلي متعدد المستويات من هذه الصياغة، وذلك من أجل التوصل إلى بناء وتفصيل مفهومي الحوكمة والأمن، فبالنسبة للحوكمة الذي يبرز من عدة مستويات من عمليات الضبط والتنظيم والتعاون، حيث تختص به عدة جهات فاعلة متنوعة، مما يجعل منه مفهوما معقدا (قوي 2014: 4). لكونه نتاج عن تشابكية التفاعلات القائمة بين قوى الحوكمة، وبالتالي لا يكتفي بمأسسة بسيطة على المستوى الوطني انطلاقا من مؤسسات الدولة فقط، بل يكون من الناحية المعيارية بمثابة حوكمة عقدية، هذه الأخيرة تشترط في جزئياتها المركبة عقد فاعلة غير دولاتية مترابطة مع بعضها البعض (زقاغ ومنصوري 2016: 156).
لذا فإن التحليل الشبكي متعدد المستويات مثل هذا يمكن أن عقد علاقة مميزة بين مفهومي الحوكمة والأمن بشكل خاص، حيث يتم ربط الشبكات في إطار صناعة السياسة الأمنية لحقيقة أن القوة الضابطة فعلا تتحقق بالمضي إلى الجهات الفاعلة غير الرسمية وغير الحكومية القادرة بشكل مضبوط أكثر من الجهات الرسمية والحكومية والدولاتية، في ظل استمرار ترتيبات وعمليات التعاون بشكل أفقي وكذا بشكل عمودي (طويل 2009: 8).
وبالنسبة لمفهمة الأمن، فثمة عديد من الباحثين يثيرون إشكالية حول تحديد هذه المفهمة، ومردّ ذلك أن الأمن يعدّ من المفاهيم الغامضة في تخصص العلاقات الدولية، فمفهوم الأمن يحمل دلالات مؤدلجة في غالبيتها، وهو ما ينتج عنه غياب فهم مشترك لماهية الأمن وكيفية تصور القضايا البحثية المتعلقة به (قوجيلي 2012: 25). ولم يبق الحال كما هو، فمع تصاعد الدراسات الأمنية النقدية غيرت النظرة التقليدية للأمن وفي مقدمتهم باري بوزان من خلال التحليل الافقي والعمودي للأمن؛ فالتحليل الأفقي للقطاعات الجديدة للأمن مسّت أربع مجالات: السياسية والمجتمعية والاقتصادية والبيئية، أما التحليل العمودي للأمن فانطوى على ثلاثة فواعل ممثلة في الدولة والمجتمع والفرد (زقاغ ومنصوري 2016: 157).
وما يهمنا في هذه المقالة هو توسيع مفهوم الأمن الذي صاحبه توسيع الأجندات البحثية التي لم تستطع الدولة التعامل معها، الأمر الذي فتح مجال البحث عن بديل بغية ضبط مختلف التهديدات والتحديات الجديدة ليس للمنقطة المغاربية محل الدراسة بل للعالم قاطبة، لذلك تم هندسة المفهوم المركب «الحوكمة الأمنية» قصد ضبط وفحص أهم التفاعلات العبر حدودية الجديدة.
2.1. أهمية الجغرافيا المغاربية
يطل المغرب العربي على البحر المتوسط ويقع شمال إفريقيا، يحدها شمالا ساحل طوله 4837 كلم، وعلى المحيط الأطلسي غربا بساحل طوله 3146 كلم، في حين تمتد حدوده على اليابسة شرقا مع كل من مصر والسودان غربا مع دول الساحل الإفريقي (معراف 2012: 147). أما فلكيا فنجد المغرب العربي يمتد ما بين خطي طول 25 درجة شرقا (الحدود الليبية المصرية)، و17 درجة غربا (تحديدا الساحل الأطلسي لموريتانيا)، ويتحدد من الشمال إلى الجنوب بين دائرتي عرض 37 درجة شمالا (بنزرت الليبية)، و18 درجة جنوبا (الحدود الجزائرية) (سعيدوني 1986: 56).
هذا، ويشكل المغرب العربي كتلة جغرافية موحدة متناسقة ذات خصائص مماثلة، ولا توجد حواجز طبيعية فاصلة بينها، وتتخللها الأقاليم الجغرافية عرضا، وقد هيأت هذه الأوضاع الجغرافية تشابها كبيرا في الظروف المناخية والاقتصادية والاجتماعية، ويسرت سبل التواصل بين أقطارها، كما عززت عبر العصور عوامل التبادل بينها. أما بخصوص طبوغرافية البلدان المغاربية فمجمل ما يمكن قوله انها ذات مميزات طبيعية متاجنسة، فنجد السهول الضيقة والمنقطعة في المناطق التلية المحاذية للشريط الساحلي وما يتخللها من جبال وهضاب، في حين تمثل المناطق الصحراوية مساحة شاسعة إذ تمتد على ما يفوق 4000 كلم انطلاقا من موريتانيا غربا إلى ليبيا شرقا (معراف 2012: 148). وبخصوص المناخ فإنه يتسم بالتنوع، ففي المناطق الساحلية نجد مناخا معتدل الحرارة في فصل الصيف، وبارد دافئ مصحوبا بأمطار خلال الشتاء، ويتغير هذا المناخ كلما توغلنا باتجاه المناطق الصحراوية،هذه الأخيرة التي تعرف درجة حرارة مرتفعة جدا وأمطار تكاد تكون منعدمة (بخوش 2010 : 7).
وإذا كان الموقع الجغرافي يسهم في تقارب الشعوب فإن ما تحمله هذه الشعوب من مقومات حضارية وقيم مشتركة هو المكون الأهم في مسار توحدها وتجانسها السياسي والاجتماعي، ولعل أهمها اللغة والدين والتاريخ، فبالنسبة للغة فنجد في المنطقة المغاربية ان العربية تكتسي بعدا وطنيا وقوميا كانت ولا زالت اداة الحفاظ على الهوية الوطنية والتجانس، حيث أن وحدة اللغة توجِد نوعا من ذلك الشعور والتفكير الموحد لديهم، كما تقوّي الروابط الفكرية والعاطفية بينهم، وإذا ما عدنا إلى أصل اللغة العربية في المنطقة المغاربية فهي لغة وافدة ارتبطت بالفتوحات الإسلامية في المنطقة حيث استقر باستقرار الإسلام فيهان وهي بذلك تشكّل إرثا مشتركا لكل الشعوب المغاربية (الكواري وآخرون 2005 : 12).
اما بالنسبة للدين، فمما لا شك فيه أن العامل العقائدي لأي امة يعتبر في الحقيقة الوعاء الذي تلتقي فيه جميع الروابط بين الافراد، وعلى هذا الأساس قامت العديد من الحضارات، فالدين يؤدي وظيفة أساسية في تكوين وتسيير المجتمعات، فهو الذي يحدد مصيرها وأساليب تفاعلها، ومن هنا عُدّت الوحدة الدينية عاملا من عوامل الترابط الاجتماعي، لأن الدين رابطة روحية يقوي اواصر التماسك بين الأفراد، ويقل ذلك التلاحم ويتلاشى في المجتمعات التي لا تتوافر فيها هذه الوحدة، بشكل يؤدي إلى التنازع والتباعد وعدم الاستقرار، ومن هذا المنطلق فقد شكل الدين دورا هامّا في مسار تطور الشعوب، كما شكل في عديد البناءات الاجتماعية والسياسية أساسا لشرعية السلطة، هذا الأمر بطبيعة الحال يجعلنا نقف على حقيقة موازية لا يمكن إغفالها، فمثلما كان للدين عاملا لبناء وحدة الشعوب وتماسكها، كان في كثير من الأحيان أداة سيطرة فعالة لبعض الأنظمة السياسية بهدف تثبيت شرعيتها(طويل 2009 : 6).
أما التاريخ فهو الآخر يكتسي أهمية كبيرة، فإذا كانت اللغة هي لسان الأمة والدين روحها، فإن التاريخ هو محدد قيمها وهويتها، وإذا ما عدنا إلى تاريخ المغرب العربي الطويل فإننا لا نستطيع أن نفصل بين جوانبه عند تحديد مراحل تطور تاريخه، كونه يشكّل كتلة موحدة في صناعة هذا الإرث، حيث يمثل المغرب العربي ملتقي حضارات مختلفة تعامل معها وفق معادلة التحدي والاستجابة إيجايا وسلبا، تأثرا وتأثيرا، ومن بين الحضارات نذكر الفينيقيين والرومان وصولا للحضارة الإسلامية، هذه الأخيرة التي شكلت تحوّلا فارقا في تطور البناء الحضاري للمنطقة ككل، بالإضافة إلى مقاومة الاستعمار الأوروبي، ككل هذه الأحداث سمحت بتحديد وعاء الهوية التاريخية المشتركة كنتيجة للمسار الموحد للشعوب المغاربية(بخوش 2010 : 12).
2. الفواعل اللاشرعية في المنطقة المغاربية والدور الأمني الجزائري
في هذا المحور سيتم التحدث عن تنامي الفواعل اللاشرعية في المنطقة المغاربية أولا، ومن ثم سيتم البحث في مضامين دور الجزائر كفاعل أمني رئيسي من جهة ثانية.
1.2. تنامي الفواعل اللاشرعية في المنطقة المغاربية
عند الحديث عن الفواعل اللاشرعية في المنطقة المغاربية فإننا نعني مثلت الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية؛ فبالنسبة لتنامي ظاهرة الإرهاب العابر للحدود يمكن القول أن الحرب الليبية كان لها الاثر البالغ في استفحال هذه التنظيمات، كما مثّلت اهم تحول سياسي مغاربي منذ عقود خلت، ومما لا شك فيه أن الأزمة الليبية جعلت الوضع الأمني للمنطقة يتسم بالهشاشة، فنفاذية الحدود وتردّي فاعلية الأجهزة الأمنية جميعها عوامل شجعت التنظيمات الإرهابية على تفعيل مخططاتها في هذه الجغرافيا الشاسعة، وبات واضحا لدى الكثيرين من الباحثين والمتخصصين أن عناصر مختلف التنظيمات الإرهابية على اختلاف مشاربها وتسمياتها دخلت مرحلة متقدمة من التسليح السريع بفعل وقوع مخازن السلاح الليبي في أيديهم بعد التدخل الأجنبي في ليبيا وإسقاط نظام القذافي، ومن جهة ثانية فإن دائرة النزاع قد تتوسع رقعتها لتمتد إلى دول الجوار وهو أمر لا يمكن عدم تصوره خصوصا أن الجارتين الواقعتين غرب ليبيا (تونس والجزائر) لها مواقف متباينة إلى حد بعيد فيما يخص الصراع الدائر في ليبيا (إدريس 2016 : 1-2).
فأخذت الضغوطات الأمنية والسياسية المفروضة على التنظيمات الإرهابية إلى إحداث تغييرات هيكلية لتتحول من الشكل الهرمي ذي المركزية الشديدة إلى الشكل العنقودي اللامركزي، ففكرة التنظيم الشبكي التي باتت تسيطر مخيلة الكثير من التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود تعطي هيكلا أقل هيراركية وأكثر أفقية لتمنح مرونة كبرى وقدرة على التكيف مع هيئات مضطربة بطبيعتها، فضلا عما يؤكده المنظور الشبكي من حساسية الترابط والتي تعني أن أعضاء الشبكة يصبح لهم حساسية اتجاه الأفعال والإجراءات التي تطال أحد أعضاء الشبكة الإرهابية، فالاضطرابات الأمنية والصراعات القائمة في دول عدة كليبيا من شأنها أن تلعب دورا محوريا في تأطير النمط الذي تتخذه الشبكات الإرهابية وتحديد مدى استمراريتها (بسيوني 2015 : 13).
بالنسبة لتنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية، فمجمل ما يمكن قوله أن موجة الهجرة غير الشرعية زادت وتيرتها بقوة بعد ما يسمى «الربيع العربي» بسبب هشاشة الدول أو غيابها أحيانا كما هو الحال في ليبيا، إذ تشير تقارير أن الآلاف يدخلون إلى أوروبا وغالبية المهاجرين يدخلون عبر الشواطئ الإيطالية، بالإضافة إلى استعمال المهاجرين لثلاثة ممرات في البحر المتوسط؛ الممر الغربي (بين المغرب وإسبانيا) والممر الأوسط والممر الشرقي (إدريس 2016 : 5).
وقد صاحبت الاضطرابات الحاصلة في بعض الدول المغاربية فتح الباب لشبكات التهريب من أجل تهريب البشر، وأضحت ليبيا محطة عبور مهمة للقادمين من سيراليون ودول إفريقيا الوسطى، ولعل العمليات الإرهابية الخطيرة التي عاشتها بعض الدول الأوربية حتمت عليها عسكرة عمليات مواجهة الهجرة غير الشرعية وشبكات تهريب البشر والتعامل معهم كإرهابيين بتفويض أممي للحصول على الشرعية الكاملة، وهو الأمر الذي لاقى انتقادات لاذعة من طرف منظمات غير حكومية (بسيوني 2015 : 18).
وبالنسبة لتنامي ظاهرة الجريمة المنظمة فيمكن ضبطها من خلال معايير ثلاثة؛ المعيار الأول يشمل تهريب المنتجات القانونية، ونعني بذلك التجارة غير الرسمية والمنتشرة بكثيرة في موريتانيا والنيجر والمغرب لعديد من السلع الغذائية الرئيسية القادمة من بعض الدول المغاربية، أما المعيار الثاني فيشمل تجارة المخدرات والتي جعلت من إفريقيا عامة والمنطقة المغاربية خاصة منطقة استراتيجية لها، وأصبحت المنطقة تحوز على تجار مخدرات وبارونات ذوو صلة بكارتيلات المخدرات في أمريكا اللاتينية، وتتصل هذه الأخيرة بالمنطقة المغاربية عبر ثلاثة طرق؛ البحري يصل إلى غينيا بسيراليون ومنها إلى السنغال وموريتانيا ثم المغرب، اما الطريق البري فيمر عبر موريتانيا والمغرب، في حين يمر الخط الجوي عبر الدار البيضاء ومالي، الأمر الذي يجعل من موريتانيا بمثابة سوق جملة لتجارة الكوكايين المرسلة إلى المغرب(إدريس 2016 : 9).
المعيار الثالث والأخير فيشمل تجارة الأسلحة الخفيفة، وما يزيد من صعوبة مراقبة هذا النوع من نشاطات الجريمة المنظمة هو تعقيدات وتعدد أطرافها، خاصة مع ظهور السماسرة الذين يمثلون حلقة وصل بين المشتري والبائع والناقل والمقرض وشركات التأمين بغية ترتيب عملية النقل، ويمكن هاهنا رصد ظاهرتين لانتشار هذا النوع من النشاطات الإجرامية وهي انتشار الصراعات المحلية والتمرد الداخلي في الدول المتاخمة للمنطقة المغاربية، والانحرافات السياسية في موريتانيا والتي ولدت مسافة فارغة ساهمت بشكل كبير في تغذية شبكات التهريب وفتح مجال أمام المهاجرين غير الشرعيين (زقاغ ومنصوري 2016 : 156-157).
2.2. دور الجزائر كفاعل أمني رئيسي في المنطقة المغاربية
إن استبطان الدور الجزائري في الفضاء الجيوسياسي المغاربي وخصوصا مع تنامي الأزمات والتهديدات الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي يجعلنا في أمسّ الحاجة إلى محاولة تلمس مدى توظيف الجزائر لمقاربة الدور كمحدد مهم في العلاقات الدولية الراهنة تجاه العمق الإفريقي والجزائر بدورها تدرك تماما أنها تدير عملية بالغة التعقيد، وهذه العملية الأمنية تظهر في ثلاثة مؤشرات؛ الأول يتمثل في الدبلوماسية الأمنية التي أصبحت تحكم الجزائر، والتي أضحى لزاما إدراكها في التعاطي مع الفضاء الإفريقي الهش والمأزوم.
المؤشر الثاني يتمثل في سعي الجزائر لتأمين الدبلوماسية الأمنية الجزائرية من خلال اتخاذها منهجا انكفائيا على الذات عبر التعامل مع الجريمة الاقتصادية في المنطقة التي تبعث رائحتها في دول الجوار الليبي والمالي، ولذلك لجأت الجزائر في سلوكها إلى قبول دور الفاعل لتتمكن من إدارة التعقيد في بيئة تحكمها حالة عدم اليقين، ولعل القارئ لتحرك الدبلوماسية الجزائرية يقر بأولوية الداخل الجزائري على الخارج الإفريقي الساحلي لتجنب أي تهديدات وافدة. المؤشر الثالث والأخير يتمثل في انتهاج الجزائر للغة سياسية متوازنة استنادا إلى تاريخها الطويل في مجال الدبلوماسية مع دول الجوار القريب وكذا على المستوى القاري والدولي (قوي 2014: 2-3).
إذا فالجزائر تعتبر فاعلا محوريا مهما في الفضاء المغاربي وبخاصة بعد دورها المحوري في استتباب الأمن ولعبها دور الوسيط السياسي والفاعل الدبلوماسي في أكثر من مناسبة سواء في أزمة مالي وكذا في أزمة الليبية، ودور الجزائر في الدعوة لجلسات الحوار بين أطراف النزاع الليبي قصد بلوغ اتفاق جدي لأزمة السلطة والشرعية في الدولة، والتي أضحى الانفلات الأمني والنزاع الداخلي يشكل خطرا على الدولة الجزائرية، ومن جهة أخرى تعتبر الحدود التونسية محل اهتمام كبير في جدول أعمال الحكومة الجزائرية، وهذا من منظور احداث سوسة وما سبقها من عمليات إرهابية أكدت عقبها السلطات الجزائرية أنها تؤكد التعاون الأمني والعسكري المابين حكومي(سنوسي 2023).
ونظرا لتنامي الهواجس الأمنية فقد ضخت الحكومة الجزائرية ميزانية دفاع كبيرة في السنوات الأخيرة، الأمر الذي حمل معه تفسيرات بان هذا الانفاق مرده إلى ارتباطه بالمهام الدفاعية وليس لأغراض هجومية، وخير دليل على ذلك حادثة تيقنتورين، والتي مثلت محاولة لضرب استقرار الأمن القومي للجزائر، نتيجة مشاركة ثمانية جنسيات مختلفة لتنفيذ العملية الإرهابية باستهداف قاعدة الحياة في تيقنتورين، وهي القاعدة التي تمثل ما نسبته 12 بالمائة من صادرات الجزائر، وقد تمكن الجيش الجزائري من السيطرة على الوضع الأمني، وهذا ما يؤكد مقاربة الجزائر في محاربتها للإرهاب ومبدأ عدم التفاوض مع التنظيمات والجماعات الإرهابية (قوي 2014 : 6).
ولذلك، تعتبر الجزائر فاعلا محوريا في إدارة الأزمات الإقليمية المغاربية والإفريقية، رغم تعثر التنسيق الأمني المتعدد الأطراف على دول الجوار باستثناء التعاون الجزائري-التونسي المميز، وهذا الأخير مردّه إلى العلاقات المميزة بين تونس والجزائر، والتي تجعل التنسيق الأمني أكثر فعالية في ظل الهشاشة التي تتسم بها المنطقة، وهذا راجع لضعف الخبرة التونسية في مجال مكافحة الإرهاب، وتخوف الجزائر من انتشار الفوضى الوافدة من ليبيا إلى تونس، ولذلك يتعين عليها تعزيز التعاون العسكري والاستخباراتي، وهو ما من شأنه أن يعزز مكانة الجزائر أكثر في ان يكون فاعلا أمنيا محوريا برغم غياب التنسيق الأمني مع الطرف المغربي.
3. حدود ونطاق الحوكمة الأمنية بالمنطقة المغاربية
سيتم التحدث في هذه الجزئية حول نقطتين أساسيتين، النقطة الأولى تدور حول المركب الأمني المغاربي وما يفرضه من ضرورات التنسيق الأمني والتعاون المابين حكوماتي، أما النقطة الثانية فتتمحور حول الدبلوماسية متعددة المسارات ودورها في ضبط الحوكمة الأمنية.
1.3. المركب الأمني المغاربي وضرورات التنسيق الأمني والتعاون المابين حكوماتي
بداية، يسعى مفهوم المركب الأمني إلى التمييز بين تفاعل القوى على مستوى النظام العالمي التي تملك القدرة على تجاوز المسافة، وبين تفاعل الفواعل الأقل قوة على مستوى النظم الفرعية، والتي يمثل بيئة أمنهم الرئيسية، ويقوم هذا المفهوم على مجموعة من القواعد تأتي في مقدمتها قاعدة تقول أن أكثر التهديدات تنتقل بصورة أسهل من المسافات القصيرة منها في المسافات الطويلة، فالتقارب الجغرافي عامل فعال في الأمن، لأن العديد من التهديدات تنتقل بسهولة أكبر عبر المسافات القصيرة منها للمسافات البعيدة، أما القاعدة الثانية تقول أن الأقاليم لها درجة كبيرة من الاستقلالية في وضع أنماط مرتبطة بديناميكيتها الإقليمية (جارش 2023).
نظريا، تنطوي مركبات الأمن الإقليمي على خمسة أنواع؛ مركب خاضع لهيمنة إحدى الوحداتن ومركب تحكمه بنية قائمة على مفهوم الأمن الجماعي، ومركب قائم على الحد من قوة إحدى أو مجموعة من الوحدات، ومركب قائم على علاقات متجانسة، ومركب غير خاضع لبنية محددة (زقاغ ومنصوري 2016 : 159)، ونحن هاهنا سنعمل على التركيز على النوع الأول والأخير لمواءمتهما التحليلية لمتطلبات المقالة، حيث ينطلق التفسير من وجود وحدة تتفوق على باقي وحدات المركب الأمني من حيث القوة البنيوية ما يجعلها قادرة على خلق وكذا المحافظة على القواعد والمعايير الأساسية وأنماط العمليات انطلاقا من المستوى الإقليمي إلى العالمي، والسؤال الواجب طرحه بالتالي بالنسبة للمنطقة المغاربية هو هل تمثل منطقة المغرب العربي مركبا امنيا خاضعا للهيمنة أم أن هذه الجغرافية يمكن اعتبارها بمثابة مركب غير خاضع لوحدة معينة؟ (حمشي 2014: 3).
من هنا يبرز اتجاه التحليل من خلال التركيز على طبيعة العلاقات الأمنية المغاربية من المنظور الجزائري المغاربي لفهم طبيعة وديناميكية هذه التفاعلات على الفعل الأمني في المغرب العربي في مواجهة مختلف التحديات الأمنية الممتدة، فالتناقض الجزائري المغربي يعد بحقّ محددا أساسيا لفهم طبيعة العلاقات المغاربية ككل، وكانت نتيجة تنازع الإرادات بينهما أن خلق حالة من اللايقين الاستراتيجي واللاأمن الذاتي عنك كل منهما، وهو ما أدى إلى حالة اللاأمن جماعي في المنطقة المغاربية ككل. وأفضت حالة التأهب العسكري شبه الدائم على الحدود الجزائري المغربية، وكذا إلى التنافس الكبير في اقتناء الأسلحة بغية تحسين القدرات الدفاعية، وتطوير المعدات العسكرية بالنسبة لكل دولة (بن عنتر 2005: 8).
فتاريخيا، يمكن القول أن منشأ التوجس الذي يطبع العلاقات الجزائرية المغربية يعود أصله إلى البدايات الأولى لاستقلال البلدين، فقد طالبت المغرب باقتطاع جزء من الأراضي الجزائرية بزعم أنها تعود إليها كحق تاريخي، وهو ما قوبل برفض جزائري عسكري حاسم تجسد في حرب الرمال عام 1963، وتكررت المواجهة العسكرية بعد سنوات تحديدا عام 1976 بمنطقة أمقالا جنوب الجزائر أين غدرت القوات المغربية بقافلة للجيش الجزائري كانت تضم شبابا للخدمة الوطنية، وليبلغ التوتر أوجّه حين اتهمت المغرب المخابرات الجزائرية بالضلوع في حادثة الاعتداء الإرهابي على فندق الأطلس بمراكش عام 1994 وكانت النتيجة إغلاق المغرب للحدود مع الجزائر، قبل أن ترد الجزائر بإجراء مماثل، ولينعكس ذلك على مسار التعاون الهش بين البلدين(حمشي 2014 : 6).
تعكس هذه التراكمات الجانب السلبي في العلاقات بين البلدين، وهي تراكمات تستند إلى مواقف وحقائق تاريخية، لكن لا يمكن إنكار ذلك التأثير الذي أفرزه هذا التراكم على مواقف الدولتين باتجاه تحصين مواقفهما وكسب التأييد والدعم حول المواقف الإقليمية، بما يعكس كل سعي كل طرف إلى تبوأ مركز الزعامة ولعب دور المحور في مسار وتطورات القضايا المغاربية كأحد سمات المنافسة الإقليمية بين البلدين، بالإضافة إلى كل هذا تبرز الاتهامات المتبادلة بين البلدين، فالجزائر تتهم المغرب بالإغراق الممنهج والمقصود للسوق الجزائرية بالمخدرات القادمة عبر الحدود البرية بين البلدين والتي تنهك الاقتصاد الجزائري وتهدد الأمن الاجتماعي الجزائري، وكذلك الدعم المغربي السري لبعض الخلايا الإرهابية في الجزائر، وفي المقابل تتهم المغرب الجزائر بالتقصير فيما يخص ردع المهاجرين غير الشرعيين وتسهيل مرورهم عبر الحدود الجزائرية إلى المغرب الأقصى (حمشي 2014 : 8).
2.3. الدبلوماسية المتعددة المسار ودورها في ضبط الحوكمة الأمنية
تهدف الدبلوماسية المتعددة المسارات لإدراج جميع مستويات الدبلوماسية في بناء السلام الحقيقي والمستدام، وتعرف على انها تلك الأفعال والأنشطة الحكومية وغير الحكومية التي يقدمها الخبراء في المجال الدبلوماسي بهدف فض النزاعات وإحلال التعاون، كما تعرّف بأنها السلوك الرسمي وغير الرسمي لتسوية النزاعات بين مجموعة من المواطنين، والذي يهدف إلى الحد من تصعيد الصراع عن طريق الحد من الغضب والخوف والتوتر، وتحسين قنوات الاتصال والتفاهم المتبادل (قماز 2016 : 88-89)، ويمكن ضبط تلك المسارات كما يلي :
-
المسار الحكومي، ومن خلاله يتم صنع السلام عبر الدبلوماسية الرسمية عن طريق سياسات الحكومات.
-
خبراء النزاع، ويشمل الجهات الفاعلة غير الدول من الخبراء الذين يشغلون مناصب عليا في المنظمات الدولية.
-
القطاع الخاص ورجال الأعمال، من خلال التبادلات التجارية بين أطراف النزاع عبر تكوني حوافز والفرص للتعاون.
-
المواطن المميزن ويتم صنع السلام فيه من خلال المشاركة الشخصية والتطوعية في المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني.
-
البحث والتدريب والتعلم، فمن شان دور التعليم ونشر المعرفة ان تساهم في تلطيف خطابات النزعة العقائدية للجماعات مما يساهم في حل النزاعات وصناعتها.
-
الدعوة والسلام، وتكون في أبعاد متعددة بارزة في الجانب البيئي ونزع السلاح وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
-
الدينن فمن شان نشر المعتقدات واستعمال الدين بين المجتمعات المتنازعة أن يساهم في تسوية النزاعات.
-
التمويل، يحتاج بناء السلام إلى التمويل من أجل تلبية الحاجات الأساسية الاجتماعية والاقتصادية، خاصة إذا ما تعلق الامر بالنزاع حول الموارد.
-
الإعلام والرأي العام، والذي يمكن ان يكون له الأثر البالغ في توجيه الخطابات (دياموند 2017 : 38).
وبالعودة إلى موضوع الدراسة في المنطقة المغاربية فإن أهم دور للدبلوماسية كآلية لضبط الصراعات وعدم انكفائها كتهديدات ووقوع الأسلحة في أيادي المتطرفين هي الدبلوماسية الوقائية،هذه الأخيرة التي تعني بأنها مجموع الإجراءت والترتيبات التي يتعين اتخاذها لمنع نشوب المنازعات أصلا، أو منع تصاعدها وتحولها إلى صراعات مسلحة، أو وقف انتشارها إلى أطراف اخرى، والعمل على حصرها في حدود أطرافها الأصلية. ويتضمن تحقيقها عدة آليات تشمل تدابير لبناء الثقة (كتبادل المعلومات لكسب الثقة)، وتقصي الحقائق (بغرض التعرف بدقة على أطراف الأزمة مباشرة على وجهة نظرهم قبل تفاقم الأزمة)، النشر الوقائي للقوات (ويكون ذلك لدواعي وقائية بناء على طلب الأطراف المعنية وخصوصا بالنسبة للنزاعات المحلية)، إنشاء مناطق منزوعة السلاح (يتم اللجوء إليه كإجراء تقليدي في إطار حل الازمة وتسوية الصراع) (بيجمان 2014: 241-242).
خاتمة
كان المسعى البحثي لهذه المقالة يتمحور حول فحص أهم المدلولات المعرفية والنظرية وربطها بمدى تفعيل الحوكمةالأمنية كآلية لضبط الوضع الأمني في المنطقة المغاربية التي تعرف تشابك وتكامل عديد من الأزمات والتهديدات اللاتماثلية، واتضح جليا أنه من الصعب بمكان الضبط دون إيجاد ميكانيزمات عمل جادة تشكل أرضية لتجفيف تلك الأزمات الزاحفة وتداعياتها المتعددة المآلات على المنطقة المغاربية. ويمكن حصر النتائج التالية:
-
ما زالت عملية الضبط المفاهيمي للحوكمة الأمنية ومحاكاتها للمداخل النظرية الجديدة في حقل العلاقات الدولية كمدخل للشبكة تحتاج إلى التعمق أكثر في ميكانيزمات عملها ومدى تخطيها للحدود العبر إقليمية إلى الدولاتية ومنها إلى العالمية، في ظل تعقد وتشابك المفهوم.
-
يبقى تكامل الأدوار بين مثلث الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية كفواعل غير شرعية تتخطى قوة سيادة الدولة، مما يربك دورها كشرطي مانع لتخطي حدودها نظرا لتعقدها وتخطيها لكل الاطراف كمراقبة وضابطة للحدود.
-
يبقى تفعيل التنسيق الأمني والميداني بين أطراف المنطقة المغاربية هو السبيل لبناء مركب أمني إقليمي فعال في ظل عدم القدرة على ضبط قوس الازمات التي تحيط بدول المنطقة.
-
تبقى الجزائر كفاعل محوري مهم في إدارة شؤون المنطقة المغاربية نظرا لخبرتها الميدانية والعسكرية، والخوف من تفشي الأوضاع إلى ما وراء حدودها، لذلك تعمل على لعب دور أساسي في الحؤول دون تنامي هذه المخاطر مع عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية.
-
أحد أهم ميكانيزمات نجاح الحوكمة الأمنية هو فتح مجال الدبلوماسية المتعددة المسارات بغية فتح مجال الدمقرطة وضبط الصراعات والتنسيق الأمني والعمل على تخطي الحدود عبر فتح باب الشراكة والتعاون الإقليمي في إطار الاعتماد المتبادل.