مقدمة
يرتبط وجود الجريمة بوجود المجتمعات بأفرادها لارتباطها برغباتهم وأهوائهم وأهدافهم المختلفة والمتعارضة؛ الّتي توعز إلى النّفس أنّ الوصول إلى الأهداف يتحقّق عن طريق الاعتداء وخاصّة في ظلّ غياب الوازع الدّيني، وقد تعدّدت الدّراسات والأبحاث الّتي تهدف إلى التّخفيف من هذه الجرائم وبلوغ أسبابها للسّيطرة عليها.
في ظلّ العولمة بلغت الّلسانيات أعلى المنازل بما وصلت إليه من اجتياح لمختلف المجالات مواكبِة تحدّيات العصر وتطوّراته متجاوزة بذلك عدّة مشاكل سواء اجتماعية أو نفسية لتدخل اليوم إلى دائرة القضاء والقانون والجنايات والطّب الشّرعي، واعتبار الّلغة الملكة المميّزة للإنسان عن غيره هي ذاتها مادّة علم الّلسانيّات يجعلها في صلب أغلب الدّراسات سواء التّاريخيّة أو الاجتماعيّة أو النّفسيّة ؛لتصل إلى العلوم التّطبيقيّة كالإحصاء والمعلوماتيّة، وهاهي اليوم تدخل في مجال القانون والقضاء عن طريق الّلسانيات الجنائية، forensic linguistics؛ هذا العلم الّذي شهد ولازال يشهد تطوّرا سريعا، وقد وُجّهت نظريّات وتطبيقات هذا العلم بصفة مباشرة إلى الكشف عن بعض الجرائم الشّاغلة للرّأي العام والعالمي، وقد حظي هذا العلم بعديد الدّراسات والبحوث الميدانيّة في العقدين الأخيرين في الدّول الغربيّة ؛ما انتقل به من كونه فرعا من فروع الّلسانيّات التّطبيقيّة إلى علم قائم بذاته له فروعه وأصوله وقواعده ؛كما تعتمد الّلسانيات الجنائية عدّة أساليب مستمدّة من لسانيات النّص وتحليل الخطاب من خلال تحليلها للمحادثات وأفعال الكلام كالتهديد وغيرها.
لمّا كانت البصمة الماديّة كاشفة عن هويّة المجرمين، فكذلك كانت الكلمات الملفوظة أو المكتوبة دليلا على هويّة المجرمين فلكلّ سلوك لفظي طريقة تعبيرية يتميّز بها وأصبحت هذه البصمة اللّغوية واحدة من أهمّ الطرق المعْتَمَد عليها من قبل اللسانيات عامة والاجتماعية تحديدا للدّور الذي تُسهم به في الكشف عن السمات المشتركة بين أفراد الجماعة الواحدة؛ لتشكل اللغة مادّة أساسا في اللسانيات الجنائية بما تحمله من لهجات وأساليب معتمدة عليها لإثبات الجرائم، وخاصّة بالنّسبة لمن يتّبع المجال الكتابي في جرائمه كرسائل التهديد والتغرير أو الشفهي كالسب والشتم وغيرها؛ من هنا ركّزت الدّراسة على أساليب التحليل اللساني الجنائي بما تحمله من ملاحظات للعلاقات بين الجمل المصرّح بها في وسط الجريمة وتحليل للأفعال الكلامية والتراكيب الفعلية والعلاقات الإسنادية وأدوات الربط وكيفية استخدام أصحابها لها وتبيان الدّور الّذي تلعبه اللّغة في المجال القانوني وعلاقتها بها.
كما تتجلّى أهمّية دراستنا في كونها نقطة وصل بين علم الّلغة والقانون وعلوم الأدلّة الجنائيّة وحلّ المنازعات، والإشكالات الجنائيّة الّتي تحوي أدلّة لغويّة، وانتهجنا فيها منهج الوصف والتّحليل.
تمثّلت إشكالية دراستنا في الأسئلة التّاليّة:
-
كيف تكشف الّلسانيات الجنائيّة عن الجريمة؟
-
هل يمكن تحقيق العدالة عن طريق اللغة والتّعرّف على هويّة المجرمين؟
1. تحديد مفاهيم الدّراسة
1.1. مفهوم الجريمة وأركانها في القانون الجنائي
1.1.1. مفهوم الجريمة
الجريمة تُعتبر من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تواجه المجتمعات الحديثة، حيث تتسبب في تهديد الأمن والاستقرار. تُعرف الجريمة بأنها كل فعل أو امتناع يشكل خروجاً عن نصوص التجريم التي يحددها القانون، ويترتب عليه عقوبة جزائية. يعتمد تحديد الجريمة على ثلاثة أركان أساسية : الركن المادي الذي يتضمن السلوك الإجرامي والنتيجة المترتبة عليه، الركن المعنوي الذي يشمل القصد الإجرامي، والركن القانوني الذي يتطلب وجود نص قانوني يجرم الفعل أو الامتناع ويحدد العقوبة. يُعتبر فهم هذه الأركان أساسياً لتطبيق العدالة وتحقيق الردع وحماية المجتمع.
الجريمة هي كلّ فعل وامتناع يُشكل خروجا عن نص من نصوص التجريم، ويُرتب له المشرع عقوبة جزائية سواء كان النص المقترف وارد في قانون العقوبات أو في قانون آخر، والمهم أن تكون العقوبة جزائية سواء تمثّلت بعقوبة أو تدابير احترازية.
وعرّفها فقهاء القانون الجنائي أنّها : (كلّ عمل أو امتناع يُجرّمه النظام القانوني ويقرر له جزاء جنائيا، وهي العقوبة التي توقعها الدول عن طريق الإجراءات الّتي رسمها المشرّع) (البلوي، 2009 : ص09).
2.1.1. أركان الجريمة
يُعد فهم أركان الجريمة من الركائز الأساسية في القانون الجنائي، حيث يحدد كل ركن من هذه الأركان عناصر الجريمة ويُساهم في توضيح كيفية تصنيف الأفعال كجرائم يعاقب عليها القانون. يتألف الركن المادي من نشاط الفاعل الذي يمكن أن يكون إيجابياً أو سلبياً، والنتيجة غير المشروعة التي تترتب على هذا النشاط، بالإضافة إلى علاقة السببية التي تربط بين النشاط والنتيجة. يكتمل الركن المادي بثلاثة عناصر: السلوك الإجرامي، تحقيق نتيجة إجرامية، وتوفر علاقة السببية بين السلوك والنتيجة. إلى جانب ذلك، يلعب الركن المعنوي دوراً محورياً في تحديد القصد الإجرامي، والذي يتوفر عندما تصدر الأفعال عن إرادة حرة وآثمة. أما الركن القانوني، فيتعلق بوجود نص قانوني يجرم الفعل أو الامتناع، مستنداً إلى مبدأ شرعية الجريمة والجزاء. بدون توفر هذه الأركان الثلاثة، لا يمكن اعتبار الفعل جريمة يعاقب عليها القانون.
-
الرّكن المادّي: يتمثّل في نشاط الفاعل سلبا وإيجابا ونتيجة غير مشروعة، وعلاقة السّببيّة بين ذلك النّشاط وتلك النّتيجة، أي ليصبح الفعل جريمة يعاقب عليها القانون لابدّ أن تجسّد النية في سلوك مادي محسوس، وهو الرّكن المادي فالرّغبات والنّوايا الّتي لم تجسّد في شكل فعل مادي ولم ينتج عنها ضرر لا تترتب عليها عقوبة، ويكتمل بثلاث عناصر هي :
-
سلوك إجرامي من الفاعل وهو شرط لازم في جميع صور الجريمة بغض النظر عن كونه إيجابيا أو سلبيا.
-
تحقيق نتيجة إجرائية إرادية أو غير إرادية وتعني الأثر الّذي يُحدثه السّلوك الإجرامي، والّذي يرتب عليه المشرع آثار قانونية محدّدة.
-
توفر علاقة السّببية بين السلوك الإجرامي، والنتيجة التي تتحقق فالسببية تقوم متى كانت النتيجة التي حصلت محتملة الوقوع وفقا لما تجري عليه الأمور عادة.
-
الركن المعنوي: يعني القصد الإجرامي ويتوفّر هذا الرّكن في صدور النشاط المادّي عن إرادة آثمة تتمتّع بحريّة الاختيار، فالإرادة لا تكون آثمة إذا صدرت عن شخص لا يتمتّع بحرية الاختيار، ومن ثم لا يكون مسؤولا، فتكون الإرادة أو القصد شرطا في الركن المعنوي.
-
الركن القانوني(الشّرعي) : يتمثّل في النّص على الجريمة وعقوبتها في القانون بمعنى أنّه يعتبر الفعل أو الامتناع جريمة إذا وجد نص قانوني بذلك صادر عن هيئة تشريعية، وهذا بمبدأ شرعية الجريمة والجزاء أي أنّه لاجريمة ولا عقوبة إلّا بنص (ينظر:البلوي، 2009 : 16) .
2.1. الدليل الجنائي والإثبات في القانون الجنائي
يشكل الدليل الجنائي أحد أهم الركائز في عملية التحقيق وتحديد المسؤولية الجنائية، حيث يعتمد على الحجج والأدلة المادية والمعنوية التي تثبت وقوع الجريمة وتربطها بالمتهم. تتنوع هذه الأدلة لتشمل آثار الجريمة مثل الدماء أو أقوال الشهود الذين حضروا الواقعة، وكذلك الأدلة المستخلصة من الحواس الخمس. من جهة أخرى، يلعب الإثبات الجنائي دوراً حاسماً في تأكيد الحق وتثبيته عبر جمع الأدلة والبراهين التي تُعرف أيضاً بالبيّنات أو الحجج. يرتبط هذا المفهوم الوثيق بإجراءات التحقيق الجنائي التي تهدف إلى كشف جميع جوانب الجريمة وتقديم الجناة للعدالة. تندرج ضمن هذا السياق أيضاً الجرائم اللغوية، التي تُعتبر فيها اللغة وسيلة أو دليلاً على ارتكاب الجريمة، مما يبرز أهمية التحليل اللغوي في تحقيق العدالة الجنائية.
1.2.1. الدّليل الجنائي
:(هو الحُجّية الّتي تُستخلص من واقعة وِفق زمان ومكان لها نتيجة، لوجود آثار تدلّ عليها مثل : دماء وغيرها أو أقوال الشّهود نتيجة لحضورهم الواقعة أو مشاهدة أجزاء منها، وقد تكون ظاهرة مادّية ملموسة بالحواس الخمس، مثل : حوادث المرور أو ظاهرة معنويّة متعلّقة بالجريمة بحيث يُولِّد ظهورها الاقتناع الكافي بوقوع الجريمة أو واقعة من وقائعها وإسنادها إلى المتّهم أو نفي ذلك) (اليوسف، 2014 : 39).
2.2.1. أسس الإثبات والتحقيق في القانون الجنائي
1.2.2.1. الإثبات الجنائي
في سياق القانون الجنائي، يلعب كل من الإثبات والجناية دوراً حيوياً في تحقيق العدالة وتطبيق القانون. الإثبات هو العملية التي يتم من خلالها تقديم الأدلة والحجج لتوثيق الحق وتأكيده، مما يسهم في استقرار الحقوق وتحديد الطرق القانونية لمعرفة الحقائق. يُشار إلى أدلة الإثبات بمصطلحات مثل البيّنات والحجج وطرق القضاء. من ناحية أخرى، تُعرف الجناية بأنها أي فعل محظور يتسبب في ضرر للنفس أو للآخرين، مما يستدعي التدخل القانوني. بناءً على هذين التعريفين، يمكن فهم أن الإثبات الجنائي هو عملية تقديم الأدلة والبراهين التي تؤكد وقوع الجناية أو الفعل المحظور المخالف للقانون، مما يساهم في تحقيق العدالة وتطبيق القانون بشكل صحيح وفعال.
-
الإثبات: (هو الحجّة والثّبات وتأكيد الحقّ واستقراره أو معرفة الحقّ وطرقه، فهذه المُسمّيات وإن اختلفت في الّلفظ إلّا أنّ المعنى المراد واحد، وهو توثيق الحقّ وتأكيده وتُعرف أدلّة الإثبات باسم البيّنات، الحجج، طرق القضاء) .(الحجاحجة، 2011 : 22)
-
الجناية:( كلّ فعل محظور يتضمّن ضررا على النّفس أو غيرها) (الجرجاني، 2003 : 83) .
من خلال التّعريفين نصل إلى أنّ الإثبات الجنائي هو الإثبات بالحقّ والحجّة على وقوع الجناية أو الفعل المحظور المخالف للقانون.
2.2.2.1. دور المحقق الجنائي في مكافحة الجريمة وأهمية علم القانون الجنائي
يعد المحقق الجنائي الشخص الرئيسي المكلف بكشف خفايا الجرائم، وذلك من خلال إجراء التحقيقات اللازمة وجمع الأدلة بهدف القبض على الجناة وتقديمهم للعدالة. يتمحور دوره حول توضيح الجوانب الغامضة لكل جريمة عبر اتباع الإجراءات القانونية المناسبة، مما يُسهم بشكل كبير في حفظ الأمن وتحقيق العدالة. من جهة أخرى، يبرز علم القانون الجنائي كفرع قانوني يهتم بدراسة الجرائم استناداً إلى القوانين التي تحرم أفعالاً معينة وتحدد العقوبات المناسبة لها. يمثل هذا العلم أداةً أساسية لتحديد الأفعال المنحرفة عن المجتمع وتجريمها ومعاقبة مرتكبيها، مما يعزز النظام القانوني والاجتماعي (البلوي، 2009؛ شحاتة ربيع وآخرون، 1994).
-
المحقّق الجنائي : هو ذلك الشّخص المكلّف بالتحقيق بالجريمة واكتشاف جميع جوانبها الغامضة والقيام بما يلزم من إجراءات قانونية لجمع الأدلّة وإلقاء القبض على فاعلها أو فاعليها وتقديمهم للعدالة (البلوي، 2009 : 09).
-
«علم القانون الجنائي :يهتم بدراسة الجريمة في ضوء مفهوم القانون لها على أنها مجموعة من الأفعال التي نص القانون على تحريمها وحدّد لفاعلها عقوبات معينة والقانون في علم القانون الجنائي هو المعيار الثابت الذي يضفي طابع الجريمة على كل سلوك منحرف مضاد للمجتمع ويتطلب التجريم والعقاب (شحاتة ربيع وآخرون، 1994 : 48) ».
3.1. الجرائم اللغويّة
يقصد بها السّلوكيّات اللغويّة المجرّمة والتي تكون اللغة أداة من أدواتها، «وأشار كريستوفر هول وزميلاه et al, Christopher Hall أنّه في الحالات التي تكون فيها اللغة نفسها موضع التّرافع وهي التي نقصدها بالجرائم اللغويّة فإنّ اللغة هنا نفسها في قفص الاتّهام، وهذه الجرائم تُفسرها مفرداتها اللغوية باستخدام نظرية أفعال القول فللغوي أو اللساني دور في تحليل ما يصدر عن المتحاكمين من لغة» (العصيمي، 2020 : 129)
وقد تتنوع الجرائم اللغويّة كالتالي:
-
الضغط اللغوي: أي استخدام اللغة للحصول على اعتراف، وإقرار بارتكاب الجريمة، فمعلوم أن الاعتراف أو إنكار المسؤولية من المتهم هو نص لغوي يحدث باللغة، وقد أشارت الأدبيات إلى أن المحقّق معهم(المتهمين)قد يُسجّلون اعترافا بأمر لم يرتكبوه تحت ضغط الشرطة وإكراهها وهذا الإكراه والضغط يقع في دائرة الجرائم اللغوية (العصيمي، 2020 : 130) .
-
لغة السب والشتم والكراهية: تشكل هذه اللغة مادة في علم اللغة الجنائي، وقد تٌدرس في موضوعات مختلفة مثل : عدم التهذيب أو الكراهية أو اللغة السيئة أو اللغة العدوانية كما تشكل اللغة السيئة إشكالات عِدّة حين تكون في مواضع المزح وسياقاته، أو في سياق الغضب اليسير والانفعال البسيط مثل : مقولة (انقلع)أو (اقلب وجهك)بين الأصدقاء، أو بين الآخرين في سياق عام، وكُتب الفقه مليئة بالحديث عن القذف وألفاظه مثل : القذف الصّريح وقذف الكناية وقذف التّعريض (العصيمي، 2020 : 134) .
-
التشهير وتشويه السمعة: ناقش جون جيبونز John Gibbonsالتشهير بوصفة واحدا من جرائم اللغة مشيرا إلى أنه قد يكون على شكل قدح بشخص أو بجماعة أو قذفها أو سبها، وأكد أنه حتى يكون سبّا وقذفا مجرِّما فلا بد من توفر دليل على عدم صحة السب الّذي نُسب إلى من وُجّه إليه مثلا: حين أَنشر في وسيلة من وسائل التّواصل الاجتماعي أنني اشتريت سلعة من متجر ما، وكانت مغشوشة فإن كانت فعلا مغشوشة فهذه ليست جريمة لغويّة، لكن إن لم يكن لدي دليل على أنها مغشوشة فهي في نطاق الجرائم اللغوية (العصيمي، 2020: 136) .
-
التحرّش الجنسي والجرائم الجنسية : (يرى العصيمي أن هناك من يربط مفهوم التّحرش بتعدّي جماعة في الشارع على امرأة تمرّ عليهم جسديّا أو لفظيا؛ لكن في رأيي أنّ هذا من التّضليل اللغوي والخداع اللفظي، فهناك تحرّش وهو أن يتصرف من له أن يتفاعل مع الضّحية؛ مثل الطبيب بأن يتجاوز حدّه فيضع شيئا من جسمه على شيء من جسم الضّحيّة دون داع، أو ينطق بلفظ فيه إشارة جنسيّة وهو يفحصها، أو المحاسب الذي تشتري منه المرأة أو تبيعه فيقوم بالضّغط على يدها، أمّا من ليس له أن يتفاعل أصلا مع الضّحيّة مثل لمس متسوّق فهو هنا في رأيي اعتداء وليس مجرّد تحرّش) (العصيمي، 2020 : 138) .
-
التّهديد وخصائص رسائل التّهديد: أشار جون جيبونزJohn Gibbons إلى التّهديد بوصفه جريمة لغويّة، والتّهديد يحدث في المجال الفردي وفي مجال الجماعات الإرهابيّة، فلو هدّد شخص شخصا آخر فهو هنا يرتكب جريمة لغويّة سواء نفّذ أم لم يُنفّذ مثلا: شخص قال لآخر في رسالة أو وسائل التّواصل الاجتماعي : لو قابلتك قتلتك فهذه جريمة لغويّة، وهناك أربعة مكوّنات لنصوص التّهديد وطلب الفدية :
-
التعبير عن القوّة والنفوذ والقدرة مثل التمكن من الرّهائن والتحكم بمصيرهم
-
هذه القدرة تُمكنهم وتخولهم لتقديم (مطلب/مطالب)
-
عدم تنفيذ المطلب يُفضي بهم إلى تنفيذ (التّهديد)الذي هم قادرون عليه
-
في حالة تنفيذ المطلب لا بدّ من وجود (وعد)بإطلاق سراح الرّهائن (العصيمي، 2020 : 140) .
-
النّية والقصد في التحليل الجنائي : مفهوم النّية مفهوم زئبقي غامض وملتبس إذ لا يمكننا تحديد مقصد النّية ولا يمكننا إثبات هذا المقصد إلّا في عقل المرء الذي قَصد تلك النّية (العارف، 2006 : 263)، وتحدّث أولسون ولشينبرورزOlsson and Luchjenbroers عن دور التّحليل اللغوي لنيّة الإرهابي لإثبات الإدانة وأنّه في إحدى الجرائم لتفجير بُرج تمّ تحذير المحيطين بالتّفجير، فنستنتج بالتّحليل اللغوي أنّ عمل هذا المجرم سبقه نيّة وليس خطأ متعمّد ولهذا فتجب معاملة الإرهابي ليس على أنّه فقط وضع قنبلة كحدث يتيم؛ خاصّة حين التعرف على نمط حياته الإجرامي (العصيمي، 2020 : 141) أضف إلى ذلك ما لاحظه غرينفيلز من أنّه إذا استطعنا أن نعيد بناء السّابق والّلاحق مع تحديد الهدف، فإنّنا نكون قد توصّلنا إلى النّية المقصودة اتّجاه قضيّة ما (العارف، 2006 : 263) .
-
التّحريض والتّغرير: ذكر بيتر تيرسما ولورانس سولان Tiersma, Peter M. & Lawrence أنّ التّحريض يشمل الطلب والتّحريض وفي بعض القوانين يشمل الأمر أو إقناع شخص بارتكاب جريمة، وليس شرطا أن تُرتكب الجريمة فربّما نتعامل مع التّحريض على أنّه جريمة بحدّ ذاته، وقد يتّصل هذا بما يشيع في وسائل التّواصل الاجتماعي من مطالبة البعض بتحميل مسؤوليّة جرائم الإرهابيين لبعض دعاة التّطرّف. (العصيمي، 2020: 143)
-
الرّشوة : وهي دفع مال لشخص ما من أجل القيام بعمل غير قانوني، وعادة ما تكون من خلال أداء وتصرّفات إلا أنّ هناك رشوة قد تكون عن طريق اللغة، فالرّاشي قد يعرض عن طريق اللغة مقابلا ما والمُرتشي قد يطلب ابتداء أو يوافق على مقابل العمل.(العصيمي، 2020 : 144)
-
الزّور والحنث : أشار بيتر تيرسما ولورانس سولان Tiersma, Peter M. & Lawrence إلى قضايا متعدّدة تحت مسمّى الجرائم اللغويّة منها الحِلف أو الإخبار بشيء مع قصد غيره، ولتقريب المعنى مع الاختلاف في أنّها مزحة نبويّة حديث المرأة العجوز التي جاءت إلى النّبي عليه الصّلاة و السّلام تسأله أن يدعو لها الله بأن تدخل الجنّة فما كان من النّبي إلّا أن قال لها : لا يدخل الجنّة عجوز فقال الحسن رضي الله عنه فولّت العجوز وهي تبكي فقال لها الرّسول : أخبروها ليست يومئذ بعجوز وأنّها يومئذ شابة« ، إنّ الله عزّ وجل يقول : ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاء﴾(الواقعة 35) (العصيمي، 2020 : 145)
وقد تكون الجريمة من نوع آخر كالقتل أو الإرهاب أو التّغرير أو الاستدراج، فهذه ليست لغويّة بحدّ ذاتها ولم تقتصر على الّلغة وإنّما كانت عاملا مهمّا أو أداة ضمن أدوات أخرى، فالقتل رُبّما خُطّط له بالاتّفاق عن طريق الّلغة مع عصابة مثلا، والإرهاب جرى التّخطيط له باستخدام لغة بين الإرهابيين ومِثله الاستدراج والتّغرير، فالعقوبة فيها لاتكون موجّهة للّغة الّتي استُخدمت فقط بل ستكون موجّهة لردع الجريمة الّتي كانت الّلغة مجرّد أداة من أدواتها أو دليلا أو قرينة تستخدم للإدانة أو التّبرئة. (ينظر:العصيمي، 2020 : 22).
4.1.مفهوم اللسانيات الجنائية ومجالات تطبيقها
اللسانيات الجنائية، أو علم اللغة الجنائي، هو فرع حديث من اللسانيات التطبيقية يركز على تحليل اللغة ودورها في مختلف المجالات الجنائية والقانونية. يشمل هذا العلم تحليل النصوص اللغوية المتعلقة بالقضايا الجنائية مثل: رسائل الخطف، التهديد، والإرهاب، إلى جانب القضايا المدنية المتعلقة بالعلامات التجارية والتشهير. يمتد اهتمام اللسانيات الجنائية إلى دراسة اللهجات وتحديد صحة اللهجة في التسجيلات الصوتية، وكذلك نسبة النصوص إلى مؤلفيها سواء كانت مكتوبة أو منطوقة. على الرغم من حداثة هذا العلم، إلا أنه ينمو بسرعة ويزدهر، مما يجعله أداة مهمة في التحقيقات الجنائية والقضايا القانونية.
1.4.1. مفهوم اللسانيات الجنائية
وهي ما يعرف بعلم اللغة الجنائي أو اللغويّات الجنائيّة؛ تشمل طيفا من التّحليل اللغوي اللساني منها تحليل اللغة ودورها في مجالات عدّة مثل : القضاء أو القانون أو الإرهاب أو التّحقيقات الجنائيّة أو الحقوق الفكريّة، وهي فرع من فروع اللسانيّات التّطبيقيّة، وعلم حديث النّشأة نسبيّا وعلى الرّغم من حداثة نشأته فقد أكّد كريستوفر هول Hall, Christopher. et al. وزميلاه أنّه علم يزدهر وينمو بشكل سريع. (العصيمي، 2020: 24).
2.4.1. مجالات اللّسانيات الجنائية
تمتدّ على طيف من الميادين التي تكون فيها اللغة خاضعة للتّحليل والدّراسة من قبل اللساني واللغوي وأهمّها:
الأصالة في التّأليف ونسبة المكتوب إلى مؤلّفه (كما في السّرقات العلميّة والحقوق الفكريّة). الجنائيات الإجراميّة التي تُستخدم اللغة أداة فيها مثل : رسائل الخطف والتّهديد والإرهاب والقتل وطلب الفدية وغيرها من ممارسات التّواصل اللغوي لأغراض سيّئة أو إجراميّة. (العصيمي، 2020: 24)
ومن مجالاتها أيضا:
-
علم اللهجات: وترتبط غالبا بالتسجيل المسموع أو المرئي حيث يكلف اللساني بتحقيق اللكنة أو اللهجة ومدى صحة قرب أو بعد لهجة المتكلّم عن اللهجة المسجّلة في الشّريط.
-
القضايا المدنية: من مثل العلامات التجارية والملصقات التجارية ومنازعات العقود والتشهير. (بلعربي، 2017: 44)
) كما تهتمّ الّلسانيات الجنائية بجانبين :
-
نسبة النّص المؤلّف لصاحبه سواء كان منطوقا أو مكتوبا"رسالة انتحار، رسائل الجوّال أو البريد الالكتروني أو تسجيلات صوتيّة تهديديّة وغيرها.
-
الأسلوبيّات وتحليلها عن طريق سماتها الخطابيّة سواء بتحليل كيفي نوعي بوجه عام أو بتحليل الخطاب خاصّة) (العصيمي، 2020: 24).
2.دور الّلسانيات الجنائية في إثبات الجرائم
تتشارك جملة من المعارف الّلسانية وغير الّلسانية في كشف الّلسانيات الجنائية عن الجرائم كالدّراسات الصّوتية والمعجمية والصرفية والتركيبية والدلالية إضافة إلى اللسانيات الوظيفية والاجتماعية والنفسية والعصبية والحاسوبية والاجتماعية، وعلم القضاء وغيرها ودراسة النّصوص والتسجيلات من طرف المحقّق، فكما يبحث المحقّق العلمي في البصمة الرقمية وبصمة الوجه وغيرها فكذلك هي الّلسانيات الجنائيّة تبحث في البصمة الّلغويّة، وهناك مستويات للتّحليل الّلساني جعلها أوسون Olsson, John في أربع أقسام تثبت الجرائم في اللّسانيات الجنائية غالبا عن طريقها هي :
-
التّعــابـير الشـّائـعة: يُقصد بها المتواليّة الّلغويّة والعبارات في كلّ نصّ خاصّ بمؤلّف؛ خاصّة ما يحتوي على عدّة ألفاظ بادئا بأعلى ثمّ نازلا إلى أقلّ العبارات من خمس كلمات مثل: وغنيّ عن التّعريف (و+غنيّ+عن+التّعريف) فيرى أنّ إنتاج مثل هذه العبارات قد يكون حاسما في تحديد هويّة المؤلّف الأصلي.
-
الـمفــردات: يُقصد بها المُعجم الخاصّ بكلّ ناطق فهناك مُستخدم يُكثر مثلا من استخدام(طبعا)وهناك من يقول (بالطّبع)وهناك من يقول(بطبيعة الحال)وهكذا.
-
الأســـلوب/الســـّجل/المسكوكات: يُشير إلى استخدام التّنوّعات الّلغويّة في سياقاتها المتنوّعة مثل الرّسميّة والحميميّة وغيرها على سبيل المثال حين يُرسل شخص لصديق؛ فإنّ من المعتاد أن يكون بينهما رموز يفهمها كلاهما وتكون مختصرة، وتعمد إلى الإحالات لكن إذا جاءت رسالة إلى شخص آخر مِمّن يزعم أنّه صديقه فلان فربّما تخلو من هذه الرّموز الّتي ثعدّ مشتركة بينهما بل قد تنحو إلى تفصيل لا يُتوقّع حدوثه في خطاب الأصدقاء.
-
التّـرقيـم الإملائــي: استخدام علامات التّرقيم في الكتابة والأخطاء الإملائيّة فمثلا يستخدم بعض الأشخاص علامات التّرقيم بدقّة حتّى في الرّسائل العائليّة بينما يتجاهلها آخرون، وهي سِمة مميّزة لكلّ من هذين الفريقين، وفي رسائل الواتس آب لاحظت أنّ بعض النّاس يهتمّ مثلا بوضع نقطة في آخر الرّسالة بينما لا يضعها آخرون فمثل هذه الأمور الصّغيرة قد تساعد المحلّل الّلساني الجنائي على القيام بمهمّته بشكل خبير(ينظر:العصيمي، 2020 : 152-153) .
-
إنّ لتحليل الأفعال الكلاميّة دور في الكشف على المجرمين فالمتلفّظ بأي عبارة تنتمي إلى لغة طبيعية يقوم بإنتاج ثلاثة أفعال كلامية كما أشار لذلك أوستن Austin كالتالي:
-
(الفعل القولي: يتشكل في ثلاثة أفعال فرعية هي الفعل الصوتي والتركيبي والإبلاغي (الدلالي)فعبارة (إنها ستمطر) يمكن أن يفهم معناها ولكن لا يُدرى أهي إخبار أم تحذير أم أمر بحمل مظلة ومن ثم فهو مجرّد قول شيء.
-
الفعل الإنجازين: الذي يقوم به المتكلم أثناء تلفظه لينجز به معنى قصديا إذ أنّه قول يُنجز بقول ما، مثل : السؤال والتحذير والوعد والأمر والتأكيد إذن هو قيام بفعل ضمن قول شيء.
-
الفعل التأثيري: هو الأثر الذي يُحدثه الفعل الإنجازي في المخاطب فيتسبب في نشوء آثار في المشاعر والأفكار كالإقناع والتضليل والإرشاد والتخويف) (كاظم، 2015: 43).
من خلال هذه الأفعال التداولية وما تحمله من إبلاغ وتركيب وقصدية ودلالات يمكن التعرف على البصمة اللغوية للمجرمين والاستدلال بها لدى المحاكم الجنائية.
لا تفوتنا الإشارة إلى أنّ الّلسانيّات الجنائيّة لا تنحصر فيما يُصدره المتّهم أو الجاني أو المجرم بل تمتدّ إلى تحليل ما يصدر أيضا من غيرهم ممّن لهم علاقة بالجريمة سواء كانوا شهودا أو قضاة أو مشرّعين.
إنّ الّلغة أقرب رحما إلى القانون فالعلاقة بينهما هي الرّافد الأساسي للّسانيات الجنائيّة في كشفها عن عديد الجرائم والجنايات لقوّة القرينة الّلغويّة في إثبات الجرائم، ومن أدلّة قوّة القرائن الّلغويّة الدّور الّذي يلعبه الشّاهد في القضايا الجنائية بأقواله والّتي تحملها الّلغة (ومن ذلك ما احتجّ به ابن قيّم الجوزيّة من وقائع متعدّدة من القرآن الكريم والسنة النبوية وعمل الصحابة والتابعين، ومن ذلك ما رواه القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام من الحكم بقرينة مكان شق القميص لإثبات الإدانة أو البراءة في اتهامه-عليه السلام- بمراودة امرأة العزيز عن نفسها فقال تعالى" وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ"سورة يوسف،الآية26-27-28) (العوا، 1979 : 297)، فالقاضي يحكم بشهادة الشّهود بعد ثبوتها.
إضافة إلى ذلك نجد علاقة الّلغة بالقانون قويّة ودليل ذلك مانجده اليوم من القواعد الأساسيّة في القانون الجنائي كقاعدة أنّه لاجريمة ولا عقوبة بغير نصّ، وهي القاعدة الّتي يُعبّر عنها أحيانا بمبدأ الشّرعيّة ومقتضى هذه القاعدة أن لا تعتبر أفعال الأفراد، وصور سلوكهم جرائم إلّا إذا كان ثمّة نصّ قانوني صادر من السّلطة التّشريعيّة في الدّولة يقرّر جعل هذا السّلوك المعني جريمة ويقرّر عقوبة له. (ينظر:العوا، 1979 : 50(.
كما يشير كريستوفر هول وزميلاه أنّ الّلغة قد تكون أداة لتوضيح الوثائق القانونيّة وشرحها في حالتين :
-
إمّا دليلا يستخدمه المحامون والمحقّقون والقضاة...
-
إمّا الجريمة بذاتها كالقذف والشّتم......
ويكمن دور الّلساني الجنائي هنا في التـأكّد من الفهم والتّفسير والمعنى الموجود داخل الملفوظ الّلغوي أي أنّ الملفوظ نفسه قد لا يكون ذا أهمّية بقدر المعنى الّذي يحمله مؤكّدين في الوقت نفسه وجود فرق بين ما يقال وما يُعنى في بعض الأحيان، وأنّ الخلافات والمنازعات تكون أحيانا على ما يُعنى (العصيمي، 2020 : 24) .
كما يُلزم الّلساني الجنائي برسم خارطة لغويّة للموضوعات الرّئيسيّة لخدمة القضايا القانونيّة الّتي تجري في المحاكم لسببين:
-
لساني تحليلي: ذلك أنّنا نستطيع أن نُقسّم المحادثة إلى وحدات معنويّة(دلاليّة)يمكن للأقوال من خلالها أن تبيّن على أنّها مرتبطة بالرّدود ارتباطا علائقيّا.
-
قانوني : يتعلّق بهيئة المحلّفين في المحاكم إذ إنّ تحليل الموضوعات الرّئيسيّة في محادثة ما يمكن أن يزوّدنا بأدلّة واضحة عن طبيعة تلك المحادثة في مستوى مجسّم(مكبّر)وهذا بدوره يمكّن المحلّف ولاسيما ذلك الّذي ليس عنده تجربة غنيّة من أن يتطلّع إلى المشكلة بنزاهة وموضوعيّة مطلقتين متجنّبا بذلك هفوات الذّاكرة والتّفاصيل المملّة الّتي يمكن أن تضعف من قدرة المحلّف على استنباط الدّلائل والحقائق (العارف، 2006 : 263) "، فاعتبار اللغة هي الأداة والوسيلة الوحيدة غالبا الّتي تحقّق مشاغل القوانين؛ يُفضي بنا إلى القول أنّ مجال علم الّلغة أقرب رُحما إلى علوم القانون والقضاء من المجالات المعرفيّة الأخرى.
كما نجد أنّ للبيّنة الخطية دور كبير في إثبات الجنايات باعتبارها الوثائق المكتوبة المتعلقة بالجريمة، والتي تُشكل دليلا على حصولها ونسبتها إلى الفاعل، وهذه الورقة التي تصلح دليلا للإثبات توجد على نوعين:
-
النوع الأوّل: الورقة التي تنطوي على جسم الجريمة ومن الأمثلة عليها الورقة التي تتضمّن التهديد أو القذف أو التزوير.
-
النوع الثاني: الأوراق التي تشكل دليل إثبات على اقتراف الجريمة كأن تتضمّن الورقة اعترافا من المدّعى عليه أو تتمثّل في صورة أو مخطّط لمكان اقتراف الجريمة أو عقد من العقود (حسن، 2011: 60).
أمّا ثبوتية البينة الخطّية فالمحرّر أو كما يصطلح عليه أحيانا الدّليل الكتابي باعتباره ورقة تحمل بيانات في شأن واقعة ذات أهمية في إثبات ارتكاب الجريمة، ونسبتها إلى المتهم يمكن اعتباره كدليل أو وسيلة يخضع لمبدأ الإقناع القضائي يستمدّ قيمته من اقتناع القاضي بصحة ما يتضمنه من البيانات، ويتعين أن يستمد القاضي هذا الاقتناع وفقا للقواعد العامة في الإثبات الجنائي فالمحرّر الكتابي كدليل إثبات لا يخرج عن القاعدة العامة في الإثبات الجزائي والصلاحية التقديرية للقاضي (حسن، 2011 : 61) .
كما يمكن للّسانيات الجنائية تحديد كاتب الرّسالة متحدّثا أصيلا بالّلغة الّتي كتب بها أم أنّه من غير أهلها وهكذا كما تُمكّن من تحليل المكالمات الطّارئة وطلبات الفدية وحالات الاعترافات الزائفة، وكشف الكذب والخداع في كلام المجرمين والابتزاز وحقوق امتلاك العلامات التجارية والتزوير وكشف قضايا الانتحال، ففي تحليل المكالمات الطّارئة على سبيل المثال يركّزون على المتّصل وتعاونه مع موظّف الطّوارئ كونه هو من يُقدّم المعلومات ومدى رغبته في حلّ للمشكلة الّتي يتصل من أجلها بعدها ينتقلون إلى فحص مصداقية المتّصل من خلال تفاعله مع الموظّف، ومن خلال درجة ارتفاع الصوت وحدّته والتّناقضات أثناء إدلائه بالمعلومات.
خاتمة
-
يُمكن حصر مفهوم اللسانيات الجنائية في جزأين أحدهما واسع يضمّ اللغة المكتوبة للقانون، والتّفاعل المنطوق في السّياقات القانونيّة واللغة كدليل، وجزء ضيّق ينحصر في التّقيد باللغة كدليل وحيد وعالم اللغة كشاهد خبير.
-
تعمل اللسانيات الجنائيّة عموما والجانب القضائي منها أيضا على كشف الجرائم في الوثائق المكتوبة والمنطوقة(التسجيلات الصوتية)بتحديد هوية الصّوت من خلال نبرات الصّوت وسرعته وإيقاعه؛ إلّا أنّه وبعد انتشار اللغات واللهجات في العالم ممّا صعّب تحديد منشأ أصحابها؛ ممّا زاد من العناية بعلم علم اللهجات اللكنات واللغات المحكيّة باختلافها يُعنى باللهجات بطريقة منهجيّة تستند إلى معلومات أنثروبولوجية كلّ ذلك بغرض الوقوف على نشأة تلك اللهجات وتمييز الفروق الصّوتية والدّلالية بينها ومعرفة المنطقة الجغرافية لكلّ لهجة ممّا يُضيّق دائرة المشتبه بهم من خلال تسجيلات الصّوت، كما أنّ تحليل الخطاب الكتابي والّشفهي يكشف عن المعجم اللغوي الّذي يُميّز كلّ شخص عن الآخر فكلّ منّا له طريقته في استعمال العبارات والكلمات والتقديم والتأخير وتركيب الجمل ؛هذا المعجم اللغوي الخاص بذلك الشخص الّذي يتزوّد به من خلال تجاربه ومحيطه كما للعوامل النفسية والاجتماعية دور في تشكّل هذا المعجم اللغوي الّذي من خلاله يمكن تمييز وكشف صاحبها كاستعماله لضمائر المتكلم فقد يستعمل ضمير المفرد(أنا) أو(نحن)، كما نجد المحامين في دور القضاء والمحاكم يستعينون بعلماء اللغة في التحليل الخطابي المكتوب أو الشفهي سواء للجمل أو النصوص أثناء مساءلة المتهمين للاعتراف بالجريمة أو من شهد الواقعة.
-
لابدّ أثناء تحليل النّصوص الجنائيّة من مراعاة البيئة المجتمعية وثقافة المجتمع ولهجاته، وقد لفت الانتباه بعض الباحثين إلى أهميّة الاستعانة بالجانب العلمي التّقني أثناء تحليل النّصوص لإضفاء الدّقة عليها مثل : Machine Learning هذه الآلة الّتي أثبتت فاعليتها، ومزاوجتها مع هذا العلم يمكن أن تتقدّم به أكثر.
-
يحتاج هذا العلم إلى تطبيق في العدالة لأنها في حاجة إلى خبراء لغويين يمتلكون القدرة على تفكيك شفرات الرسائل سواء اللفظية والكتابية؛كما يحتاج عالمنا العربي والجزائري تحديدا إلى الوعي بأهمّية هذا العلم والحاجة إلى تطبيقه بصورة منهجيّة بالمؤّسّسات المعنيّة بهذا النّوع من القضايا حتّى تعينهم على إدانة المتهمين عن طريق البصمة اللغويّة بما تحمله من قرائن دالّة، فبالرغم من الاستفادة من نتائج هذا العلم واستعماله في الكشف عن الجنايات في أكبر القضايا وما يشهده من تطوّر إلا أنّنا نجد الدّول العربيّة عموما والمتخصّصين في علوم القضاء والجنايات في معزل عنه ولم يولوه المكانة الّتي يستحقّها وبذلك تفتقر المكتبة العربية إلى المصادر والمراجع التي تتناول هذا المجال.
-
وكما ذكرنا سابقا يتجلّى هنا احد مجال هذا العلم وهو علم اللهجات الذي ذكرناه آنفا الذي يعمل على تحليل الجوانب اللغوية في النصوص الجنائية من خلال البصمة الصوتية فقد يستخدم الجاني في الغالب كلمات وعبارات من لهجته التي تميّز إقليما عن آخر ما يضيّق دائرة تواجد الجاني من خلال الفروق اللغوية التي تتوفر عليها اللهجات وتميز كل إقليم عن آخر وحتّى أن بعض المجرمين يحاولون تغيير لهجتهم بهدف التضليل إلا أنّ هناك فراغات ولكنات فقد أثبتت نظريات اكتساب اللغة أنه رغم تعدّد لغات ولهجات الفرد الواحد إلا أنّه لا يمكنه النطق بنفس طريقة السكان الأصليين لها مهما كانت مهاراته في تعلمها خاصّة بعد مرحلة المراهقة.