مقدمة
لا شك إن العلاقة بين الفلسفة والترجمة، في إحدى صورها، علاقة اتصال، فالترجمة من صميم الممارسة الفلسفية. هذا ما ينطبق على التقليد العربي الإسلامي، إذ انتقلت الفلسفة في أوجّ الحضارة الإسلامية عبر الترجمة، وكذلك حدث في الفترة الحديثة والمعاصرة، ولازالت الفلسفة تنتقل عبرها إلى يومنا هذا. وقد توجّه المترجم العربي المعاصر إلى النصوص الفلسفية، تحدوه رغبة عارمة في نقلها، ليس لأنها نصوصا غربية، وإنما لأنها غدت تراثا إنسانيا عالميا، فالشعوب مهما بلغت من أسباب الرقي الثقافي، لا تستطيع الاستغناء عن التراث الإنساني العام. ولأن المترجم والمؤسسات التي تسند ظهره، على دراية بأن العصر الذي نحياه، عصر تداولي رقمي، فلابد أن يكون الإقبال على الترجمة بكل روح متلهفة إلى المعرفة.
إن ما يجعل من ترجمة الفلسفة نقطة تحول للعربي المعاصر، هو ما تتيحه من انفتاح إيجابي على الآخر، لأن الفلسفة تعلمنا أن الاختلاف أمر مشروع، وتجعل من قبول الآخر بعدا جماليا يقرّب بين اللغات والثقافات، والانتقال إلى مستوى توسيع أفق العقول واستثارة مكامن الإبداع. إن المضي في هذه السبيل، هي محاولة جادّة للسموّ بوعي المتلقي العربي، إلى مستوى تفكير الفلاسفة، ذلك المستوى، الذي يتجاوز مضائق الحياة المادية والنفعية، إلى آفاق لا محدودة من الأسئلة الروحية الكبرى، ومن ثم التخلي عن الولاء للتجمع القبلي والإيديولوجي المتزمت، نحو معانقة أفق الإنسانية الرحب، الذي يسمح باستيعاب مختلف اللغات والشعوب والذهنيات.
ومن الآراء التي يمكن أن تعارض النزعة الحماسية والتفاؤلية في ترجمة الفلسفة، ذاك التوجّه الذي يذهب إلى أن نشاط المؤسسات القائمة على الترجمة، وتجنّد المترجمين أصحاب المواهب والكفاءات، التي أخرجت مجموعة من النصوص الفلسفية، لم تبلغ المستوى المطلوب من حيث كم المؤلفات، ولا مستوى الجودة في الأداء، فبقيت ضعيفة الفعالية، لا تملك القوة الكافية في إحداث وثبة ثقافية عربية معاصرة.
لكننا، لابد أن نتحلى بالشجاعة والاستمرار في العمل، فالترجمة مشوار ملغم بالهفوات، وسبيل تطبعها المتعرجات، وليست خطا مستقيما يرتاح فيه مستعمله. إن المترجم لا يمكنه أن يفرض الخط المستقيم في متعرجات التعامل مع النصوص الفلسفية، فهو ليس كشخصية « المفتش جافير » في رواية البؤساء لفكتور هيجو، والذي وصفه بأنه : أراد أن يُدخل الخط المستقيم في متعرجات الحياة. وما باليد حيلة، سوى أن يساير المترجم هذه المتعرجات برفق، ليخرج منها ظافرا، بنص أمين في المعنى، وسلس في الأسلوب إلى حدّ ما.
وإذا كان المترجم العربي في موقفه من النص الفلسفي، ذا توجّه عملي تطبعه الممارسة أكثر من التنظير، فماهي التحديات التي واجهته في مهمته؟ وكيف احتال على تجاوزها؟ وما هي الآفاق التي انفتحت أمامه من خلال ممارسته في ترجمة النصوص الفلسفية؟
1. تحديات ترجمة الفلسفة
تطرح ترجمة المؤلفات الفلسفية إلى اللغة العربية مجموعة من التحديات الجدّية، تناولها المترجمون العرب المعاصرون في تقديمهم لترجماتهم تتراوح بين غموض فكر الفيلسوف وصعوبة اللغة التي يكتب بها، وعسر مسايرة المفاهيم المتغيرة التي لا يستقر لها حال، وأحيانا تعذّر العثور على النص الفلسفي بلغة الأصل، فيضطر المترجم إلى اعتماد نص انتقل عبر لغة أو أكثر.
1.1. الغموض آفة الترجمة
من النصوص الفلسفية التي اشتكى المترجمون من صعوبة ترجمتها إلى اللغة العربية، نصوص مارتن هايدجر Martin Heidegger (1889-1978)، إذ يرى عبد الغفار مكاوي إن صعوبتها يرزح تحتها جميع المترجمين إلى مختلف اللغات، وذلك يعود في نظره إلى اللغة التي يعبّر بها عن « فكرة الوجود »، وإن أسلوبه عجيب، غير مألوف حتى بالنسبة للناطقين بالألمانية، فهو يعمل على إبداع مصطلحات لا تعرفها اللغة الفلسفية، إذ يغوص في اشتقاقات لغوية منسية بعيدة الغور في التاريخ. ويخلص مكاوي إلى أن لغة الفيلسوف عسيرة ومعقّدة حقا، وأسلوبه ركيك إلى أقصى حدود الركاكة، وذلك باعتراف هايدجر نفسه في مواضع كثيرة من مؤلفاته. (مكاوي، 1977، صفحة 17)
ويشير مكاوي إلى إن بعض كتابات هايدجر تستحيل تماما على المترجم، حينها يضطر المترجم إلى تفسير كل جملة بحاشية أكبر منها، وفي بعض الترجمات الإنجليزية والفرنسية أدلة على مدى الجهد الذي يبذله المترجمون قبل الاهتداء إلى الكلمة المناسبة في لغتهم، وأحيانا يبقى المترجم حائرا أمام بعض المصطلحات التي لا يمكن ترجمتها.
ولكن لماذا نلح على قراءة هذا الفيلسوف رغم صعوبة لغته في الأصل، ناهيك عن ترجمته إلى اللغات الأخرى، واللغة العربية خصوصا؟
لأن هايدجر فيلسوف لا نستطيع تجاهل أثره الضخم على الفكر المعاصر في شتى مجالاته، ولعل صعوبته، راجعة إلى صعوبة الموضوع الذي يحاول الإبانة عنه، ومن ثم لا مناص لنا من تصديقه حينما يعترف لنا أنه لا يملك اللغة التي تسعفه في التعبير عن « الوجود ». إن هايدجر يغوص في التراث الفلسفي لكي يكشف عن أساسه الذي أهمل، ويبين قصور هذا التراث وضرورة تجاوزه، لذلك تراه يتخلى شيئا فشيئا عن لغة ذلك التراث، ومضطر إلى فتح الحوار معه وانتقاده، وخلال هذه المسيرة يعمل على تكوين لغته الجديدة. (مكاوي، 1977، الصفحات 17-18)
ويعترف فتحي المسكيني في مقدمة ترجمته لكتاب كانط « Emmanuel Kant (1724-1804) الدين في حدود مجرد العقل » إن ترجمة النص الكانطي ليست فسحة فلسفية مأمونة وسهلة، لكنها مهمة شاقة يتوجّس منها المترجمون في كل اللغات. والإقدام على ترجمة كانط يقتضي مراسا نظريا أوليا، واستئناسا طويلا بمفاهيمه، وتمرينا وجدانيا على تحمّل أسلوبه في الكتابة؛ ذلك الأسلوب الذي يتميّز بالثقل، على غرار أسلوب هايدجر وهيجل، وصعوبة مضاهاة المترجم لسلاسة المعاني والصرامة النموذجية لفكره، والدقة في تخريج المشكلات المطروحة، والعمل الدؤوب على معالجتها في أناة عجيبة، ومراس منقطع النظير، لا يتوفر إلاّ عند الفلاسفة الكبار. (المسكيني، 2012، صفحة 42)
وفي السياق نفسه، تشير ريتا خاطر في مقدمة ترجمتها لكتاب كريستيان دوميه Christian Doumet « جنوح الفلاسفة الشعري »، إلى صعوبة أخرى تتمثل في شساعة المعجم الفلسفي وما يحويه من قدر هائل من المصطلحات المتخصصة التي ينبغي تحليلها وفرزها بغية الوقوف على معانيها ودلالاتها قبل ترجمتها، مما يفوق طاقة المترجم الواحد المقبل على نقل النص الفلسفي، يضاف إليه، هجرة بعض المصطلحات من اللغة العامة، إلى معجم المصطلحات المتخصصة، فيصعب التعرّف عليها أحيانا، وذلك يتطلب تركيزا وأبحاثا عميقة تضاعف من جهد المترجم. (خاطر، 2013، صفحة 10)
يتضح مما سبق، إن ترجمة النصوص الفلسفية ليست مهمة سهلة، خاصة إذا تعلق الأمر باللغة التي يكتب بها الفيلسوف، لأن اللغة هي الثوب الذي يغطي الفكر الذي نضج في ظروف خاصة ومرّ بمراحل متعددة، وتداخلت عوامل عدة في تكوينه.
2.1. تحديات ترجمة عمل أكاديمي لفيلسوف
هناك فارق في الدرجة، بين ترجمة كتاب معدّ للنشر، لا يشترط فيه الكثير من القيود المنهجية والمعرفية، وبين عمل أكاديمي لفيلسوف، كأن يكون أطروحة دكتوراه على سبيل المثال، هذا الأخير الذي يراعى فيه شروطا منهجية صارمة؛ إحالات وشروح ومفاهيم وشخصيات عديدة. هذا ما أشارت إليه وفاء شعبان في مقدمة ترجمتها لكتاب جيل دولوز Gilles Deuleuze (1925-1995) « الاختلاف والتكرار »، إذ ترى إنه من أكثر الكتب صعوبة، لأنه في الأساس أطروحة دكتوراه، راعى فيها الفيلسوف المعايير الأكاديمية المطلوبة، ولأنه كذلك من الكتب التي وسمت مرحلة جديدة من مشوار الفيلسوف. الكتاب جاءت أفكاره مكثّفة، ومفاهيمه غزيرة، تلك المفاهيم التي استعادها من خلال قراءاته الواسعة لكبار المفكرين والفلاسفة والأدباء والعلماء والفنانين، وأعاد إنتاج هذه المفاهيم بطريقته الخاصة وبحسب مقاصده، موظفا إياها في سياقات جديدة. (شعبان، 2009، صفحة 34)
وهذا الانشغال بالمفهوم يعود بالأساس إلى إن مهمة الفلسفة « إبداع المفاهيم » والفيلسوف هو في الحقيقة من يبدع مفاهيم جديدة (دولوز، 1987، صفحة 28)، لذلك ارتبطت باسم دولوز لائحة من المفاهيم الجديدة المبثوثة في كتبه. وتتضاعف مشقة المترجم، إذا علمنا إن دولوز يتخلى عن بعض المفاهيم، ويجدّد فيها، ومن أمثلة هذه المفاهيم؛ الجدّة، والصيرورة، والاختلاف... فمفاهيمه لا تتوقف عن التجدّد والصيرورة. (شعبان، 2009، صفحة 15)
ومن مميزات الأعمال الفلسفية الأكاديمية، كثرة المصادر والمراجع والمصطلحات، وهو ما يشكّل إرهاقا للمترجم، فهذا الأخير يحبذ العودة إلى بعض تلك المراجع، ليس فقط لفهم الأفكار في مصادرها، وإنما، أيضا، من أجل التعمق أكثر في النص الذي يحاول ترجمته، وهذا من أجل حسن رسم الأفكار في النص العربي، وصياغة المفاهيم والمصطلحات بطريقة تحفظ المعاني الأصلية. (شعبان، 2009، صفحة 34)
وفي السياق ذاته، تشير ريتا خاطر إلى صعوبة التصدي لكثرة الاقتباسات والإحالات التي يوردها المؤلف في كل صفحة، وعلى المترجم، إذا أراد فهم الاقتباس بعمق، أن يعود إلى المصدر الذي اقتطع منه القول لمعرفة المناسبة التي ورد فيها، وقد يضطر المترجم الشغوف بإتقان عمله، إلى التنقيب عن المصادر الكثيرة التي اقتبست منها الأقوال والأمثلة، سواء باللغة التي يتم الترجمة منها، أو لغات أخرى، أو قد يكون الكتاب الذي أخذ منه القول مترجما إلى العربية، فيضطر المترجم مرة أخرى للبحث عن الكتاب المترجم. وهكذا، فالمترجم ينتقل من مجهود إلى مجهود أشقّ منه للحصول على مبتغاه. (خاطر، 2013، صفحة 13)
ومنه، فإن ترجمة الأعمال الفلسفية الأكاديمية، عادة ما تأتي مكثفة ومثقلة بالأفكار والمفاهيم المختلفة والمتباينة، وبالأعلام الذين ترتبط بهم هذه الأفكار، فيكون ذلك أقوى على قدرات المترجم. وإذا لم يتسلح بالإرادة القوية والصبر، فإنه سيفشل في مهمته.
3.1. بين الترجمة عن الأصل والترجمة بتوسط
من المتفق عليه في حقل الترجمة، إن الترجمة المثالية في أحد جوانبها، تكمن في نقل النصوص الفلسفية من لغاتها الأصلية التي كتبت بها أول الأمر، فالنقل بذلك يكون في غاية الحسن والأمانة، وإذا لم يكن مشابها للأصل، يكون على الأقل قريبا من روح النص.
ولكن، قد يضطر المترجم تحت وطأة عدة عوامل إلى نقل بعض النصوص الفلسفية، عن ترجمة أخرى، فرنسية أو إنجليزية، أو غيرها من اللغات الأوروبية، وهذا حال ترجمة عادل مصطفى لكتاب بوئثيوس Boethius « عزاء الفلسفة » المكتوب أصلا بلغة لاتينية. وقد فعل مثله بعض المترجمين، أو بالأحرى فعل مثلهم، في بداية عصر النهضة العربية، إذ ترجموا بعض الأعمال الأدبية والفلسفية عن الفرنسية والإنجليزية، في حين أن هذه الأعمال كتبت في الأصل بلغة يونانية أو لاتينية. فعلى سبيل المثال، ترجم رفاعة الطهطاوي عن الفرنسية « وقائع الأفلاك في مغامرات تلماك »، وترجم سليمان البستاني عن الفرنسية كذلك « الإلياذة » للشاعر اليوناني هوميروس، وكذلك فعل مترجمون آخرون أمثال لويس عوض، ودريني خشبة، وشكري عياد. ويعتقد أحمد عثمان، وكان ممن راجع بعض هذه الترجمات عن اللاتينية، أنها ترجمات ليست بعيدة عن الأصل، رغم أنها ليست منقولة عن الأصل، لسبب يراه وجيها، وهو إن، هؤلاء المترجمين اتصفوا بسعة الثقافة والذوق الأدبي الرفيع.
وترجمة عادل مصطفى لــ : « عزاء الفلسفة » تدخل في هذا الإطار، فهي ترجمة عن اللغة الإنجليزية، ورغم ذلك، يعتقد مراجع هذه الترجمة –أحمد عثمان-إنه لم يكن فيها أي نقص جوهري، عندما راجعها عن الأصل اللاتيني، لأن المترجم يتمتع بثقافة واسعة على التراث الفلسفي اليوناني والروماني. (عثمان، 2008، الصفحات 20-21)
ولكن إذا نظرنا إلى المسألة من زاوية أخرى، نجد إن الترجمة عن لغة أخرى، غير الأصل، قد توقع المترجم في مجانبة المعاني المقصودة في لغة الأصل، فلو أخذنا على سبيل المثال الترجمة الفرنسية لعنوان كتاب إيمانويل كانط « la religion dans les limites de la simple raison » ومقابلها في اللغة العربية « الدين في حدود مجرد العقل البسيط »، في حين أن لفظ « blob » في اللغة الألمانية، وكما أراده كانط لا يعني « بسيط »، أي أن المعنى لا ينحصر في معنى العقل البسيط أو العادي، الذي يأخذ عدة دلالات منها : السهل، واليسير ، وبالتالي، السريع التصديق، والبريء والطاهر والساذج. كما أن عبارة « العقل البسيط » لا معنى لها في العربية الكلاسيكية، فالبساطة بالمعنى المتداول في اللغة العربية المعاصرة، منقول عن اللغات الأوروبية، والمعنى القريب إلى روح العربية هو « المجرد ». إن التجريد في نظر كانط هو تعرية الدين من ملابس العقائد السائدة والمختلفة، والكشف عن مفهومه الصرف، أي مفهوم الدين العقلي المحض. إن القصد من العنوان الذي وضعه كانط لكتابه، إبراز الدين العقلي مجردا من اللواحق الغريبة عنه، أي عاريا من إضافات العقائد الرسمية التي استهدفت الهيمنة على الضمائر. (المسكيني، 2012، الصفحات 39-41)
من خلال ما أوردناه عن ترجمة عنوان كتاب كانط، نخلص إلى إن الترجمة بتوسط لغة أخرى، قد يوقع المترجم في إيراد معاني ودلالات بعيدة عن قصد المؤلف، لذلك يُفضّل الترجمة عن الأصل، وإلاّ احتاجت الترجمة إلى مراجعة عن الأصل.
وقد يُترجم النص الفلسفي من لغة الأصل التي كُتب بها أول الأمر، إلى لغة أخرى، ولكن تحت إشراف الفيلسوف صاحب النص. وهذا ما حدث مع روني ديكارت René Descartes (1596-1650) في « تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى » إذ نُشر أول مرة باللغة اللاتينية عام 1641، ثم تُرجم النص إلى الفرنسية عام 1647 من طرف الدوق دوليان De Luyne ابن وزير لويس الثالث عشر، وقد أشرف ديكارت نفسه على الترجمة، أي قام بتصحيح ما يمكن تصحيحه، وزاد عليه، فأصبحت ترجمة أصل عن أصل. (الحاج، 1988، صفحة 1)
وفي مثل هذه الحال، يمكن للمترجم أن يعتمد عن تلك الترجمة، لأن الفيلسوف نفسه من قام عليها، وحرص على دقة معانيها، وسلاسة أسلوبها، لاسيما وأن نص « التأملات » من أفخر المصنفات الفلسفية.
2. رفع التحديات
إن تحديات ترجمة الفلسفة إلى اللغة العربية، قديمة قدم ترجمتها في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية ذاتها، وهي تحديات جدّية، لا سبيل إلى رفعها بسهولة، وفي فترة زمنية وجيزة. ولكن مع مرور الزمن والتطورات التقنية التي قرّبت المسافات، وأبانت على الكثير من التقارب بين الثقافات، أمكن تذليل معظم الصعوبات التي يعاني منها المترجمون. ولدى المترجمين عموما، وفي كل اللغات شبه اتفاق على أن الترمة الجيدة تقتضي توفر بعض الشروط التي لا غنى عنها، كسعة الثقافة، وربط النص المترجم بالمجال التداولي العربي، والاستعانة بجهود المترجمين الأكثر خبرة، وتزويد النص بالحواشي اللازمة.
1.2. سعة الثقافة
إذا كان التفلسف نشاط نقدي بنّاء ينصب على المنتوج الثقافي، فإن الثقافة مجال واسع يشمل الدين والفن واللغة والعادات. لذلك فالفيلسوف كثيرا ما يتناول قضايا تمسّ هذه المجالات الواسعة، الأمر الذي يجبر المترجم، عندما يتصدى لترجمة النصوص الفلسفية، على أن يكون كذلك واسع الثقافة، وهذا ما تؤكده وفاء شعبان في مقدمة ترجمتها لكتاب جيل دولوز « الاختلاف والتكرار »، فما لا يمكن القفز عليه في ترجمة مثل هذا الكتاب؛ هو ولوج الثقافة الفرنسية المعاصرة، والتمكن من مختلف ميادين المعرفة؛ العلم والأدب والفن، فالمترجم عليه التخلي عن فكرة إن بعض الميادين بعيدة عن الفلسفة. إن جيل دولوز في كتاباته يخوض في مختلف النشاطات الإنسانية من زاوية فلسفية، ولكن من غير أن يحلّ محل المتخصصين في تلك المجالات؛ يتساءل، وينتقد، وبعبارة واحدة، يعيد التفكير في معارفهم، تعبيرا منه عن مسؤولية الفلسفة، وحقّ الفيلسوف في مناقشة مختلف المعارف. (شعبان، 2009، صفحة 7)
وهذا ما أكدته ريتا خاطر في مقدمة ترجمتها التي أشرنا إليها سابقا، وهي تتمنى في نهاية المقدمة، أن تكون ترجمتها للكتاب قد ساهمت في إيصال فكرة المؤلف الأصلية بشكل مقبول، وتعترف بأن الكتاب قويّ في نصه الأصلي، تتعذّر ترجمته، إلاّ إذا كان المترجم واسع الثقافة، ملما بالمصطلحات الفلسفية والأدبية، أضف إليه، عوامل أخرى، كالتركيز والانتباه، كي تكون الترجمة العربية مقبولة ونافعة للقارئ. (خاطر، 2013، الصفحات 13-14)
وقد يجازف بعض المترجمين، في الإقدام على ترجمة كتاب ما، ولا يستطيع في النهاية أن يفي بأداء الأفكار والمفاهيم والمعاني التي أودعها المؤلف كتابه، لأنه لا يحوز ثقافة معمقة في ميدان تخصص الكتاب، وهذا ما حصل مع أحد مترجمي كتاب سيد محمد نقيب العطاس « مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية ». وثبت هذا عندما تم تكليف محمد طاهر الميساوي بمراجعة الكتاب، وبعد الشروع في المراجعة، تبين له أن الترجمة التي بين يديه تعاني من مشكلة جوهرية تخصّ بنيتها، أي من حيث مدى وفائها بأداء الأفكار والمفاهيم والمعاني، وليست مسألة أسلوبية، أو تدقيق في مصطلح هنا أو هناك، أو مسألة لغوية تتعلق بخيارات المترجم. (الميساوي، 2001، صفحة 9)
والخلل الذي تعاني منه الترجمة، يعود أساسا إلى إن المترجم تنقصه المعرفة الكافية بالمجال الذي ينتمي إليه النص المترجم، أي مجال الفكر الفلسفي، بما ينطوي عليه من مفاهيم ومصطلحات، وما يعجّ به من مدارس وتيارات وشخصيات. إن التمكّن من اللغتين المنقول منها، والمنقول إليها، شرط ضروري في حسن الترجمة، ولكنه غير كاف، فمجالات الفكر والمعرفة واسعة تحتاج إلى سعة الاطلاع على مواضعاته ورموزه ومرجعياته، وبدون الحصول على قدر كاف من الإلمام، يكون الإقدام على الترجمة مغامرة غير محمودة العواقب. (الميساوي، 2001، الصفحات 9-10)
لهذه الأسباب تقرّر تعيين مُراجع الكتاب، كمترجم جديد للكتاب، لتوفير الجهد والوقت، وليأتي النص على نسق واحد ومتميزا بالسلاسة والتكامل، لاسيما إن كتاب « مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية » نصّ فلسفي قويّ، يضرب بجذوره في التراث الحكمي والفلسفي والعرفاني في الحضارة الإسلامية، ويقوم على قاعدة متينة من تراثهم الزاخر. والنص يحيلنا إلى كمّ هائل من المفاهيم والإشكالات في تاريخ الفكر الفلسفي والعرفاني الإسلامي والغربي على حدّ سواء. (الميساوي، 2001، صفحة 10)
لهذا وذاك، ينبغي على المترجم الحاذق، إلى جانب إتقان لغة الأصل، اللغة التي يُترجم إليها، أن يكون ملما بتخصص موضوع الكتاب، ومطلعا على مجالات أخرى لها صلة بموضوع الكتاب.
2.2. ربط النص بالمجال التداولي
من الواضح أن الفلسفة أخذت طابعا مفهوميا مع جيل دولوز، عندما اعتبر إن مهمتها إبداع المفاهيم (غتاري ج.، 1987)، والمفهوم الفلسفي لا يمكن تجريده من البنية اللفظية الخاصة التي جاء عليها، ولا حتى من قرينة الاستعمال التي يتصل بها، واقترانه باللفظ يعطيه صفة « الانفهام »؛ الإفهام من طرف الفيلسوف، والفهم من جهة المتلقي، كما أن اقتران المفهوم بالاستعمال يطبعه بخاصية الانتساب إلى مجال تداولي مخصوص. ومن المعلوم أن لغة الفيلسوف ليست إلاّ اللغة الخاصة التي يستقيها من مجاله التداولي، فيكون فهم مفاهيمه انطلاقا من الألفاظ المنتسبة إلى ذلك المجال التداولي. وبهذا يكون الانتساب التداولي شرطا في حصول فهم الفلسفة. (الرحمان، 2005، الصفحات 120-121)
إن النصوص الفلسفية التي كتبها أصحابها، وأكثرها في الغرب، تنتمي إلى المجال التداولي الغربي، وعندما يتصدى المترجم العربي لنقلها إلى العربية، إذا أراد لهذا النص الجديد أن يحصل على خاصية الانفهام، عليه أن يربطه مرة أخرى بالمجال التداولي العربي، وإلاّ كان النص كائنا غريبا في الأرض الجديدة، وانعدم النفع المُرتجى منه.
وقد أشار جلال الدين سعيد في مقدمة ترجمته لكتاب باروخ سبينوزا Baruch Spinoza (1632-1677) « علم الأخلاق » إلى الاختلاف الذي وقع فيه المترجمون الفرنسيون أثناء نقلهم للكتاب من اللاتينية إلى الفرنسية، حول مصطلحي Mens-Ame أي النفس، وSpiritus-Esprit أي الروح، وكل مترجم يقدّم الأدلة على خياراته، وبالمثل، فالمترجم إلى العربية عليه تقديم خياراته التي تستند، أساسا، إلى المجال التداولي العربي، وكذلك فعل جلال الدين سعيد، إذ ترجم مصطلح Mens-Ame بمصطلح نفس بدلا من روح، وذلك لسببين في رأيه؛ الأول إن لفظة نفس مستساغة في اللغة الفلسفية، خاصة عندما يتم مقابلتها بالجسم، والثاني إن لها صلة بالمجال التداولي الفلسفي العربي القديم، إذ جرى استعمال اللفظة أكثر من غيرها عند فلاسفة العرب القدامى، بينما لفظة الروح تدل على ما به حياة النفس، وللإشارة إلى الملاك مثلا، أو إلى الله تعالى (الروح الأعظم)، أو الأقنوم الثالث من أقانيم المسيحية (الروح القدس)، أو إلى جبريل عند المسلمين (الروح الأمين) (سعيد، دت، صفحة 21)
فعلى المترجم أن يقرّر منذ البداية أي السبيلين ينتهج، إذا كان-على سبيل المثال-بصدد ترجمة « خواطر بسكال »، فهل يحتفظ بقالبها الفرنسي الأصيل؟ حيث المعاني والدلالات نابعة من صميم ثقافة فرنسية، ذات خلفية دينية مسيحية كاثوليكية، والمؤلف يتوجّه إلى قارئ فرنسي مُشبع بتلك الخلفية الثقافية، أم يحاول تقريب « الخواطر » إلى القارئ العربي المعاصر، حيث المرجعية عربية إسلامية؟ أم يحاول التوفيق بين السبيلين دون الوقوع في التلفيق؟ (فريد، 2016، صفحة 162)
والسبيل الأسلم هي تقريب العمل المترجم إلى القارئ العربي، واختيار المفاهيم والألفاظ التي لا تتعارض والمجال التداولي العربي، إذا أراد المترجم فعلا خدمة ثقافته، وجعل النص المنقول يلعب دور الخميرة التي تدفع المتلقي إلى التفلسف المبدع، لا اجترار ما قاله السابقون من ثقافات وحضارات أخرى.
إن اختيار المعادل العربي الدقيق للفظة الأجنبية من بين بدائل مطروحة، لهو جانب أساسي في الترجمة. خذ مثلا فعل الكينونة في اللغة الفرنسية Etre كما يظهر في كتاب جون بول سارتر L’Etre et le Néant الصادر عام 1943، إذ يُترجمه عبد الرحمن بدوي، وتابعه في ذلك معظم المترجمين، بـ « الوجود والعدم » ورغم سلامة هذه الترجمة، فالترجمة الأفضل تكون « الكينونة والعدم ». صحيح إن لفظتي الكينونة والوجود مترادفتان مثلما تشير إليه القواميس، ولكن لفظة الكينونة أقرب إلى مبحث الأنطولوجيا الذي يندرج كتاب سارتر في إطاره. أليس الأفضل أن نترجم لفظة Existence بالوجود، وEtre بالكينونة؟ إن جزء من المشكلة يعود أساسا إلى الفروق بين لغة هندو-أوروبية، ومنها اللغة التي كُتب بها نص سارتر، ولغة سامية كاللغة العربية. (فريد، 2016، صفحة 163)
لكل ذلك، على المترجم أن يدرك الفروق بين اللغات، ويختار في ترجمته بين بدائل عدة، ومن ثم اختيار اللفظ العربي الذي يخدم المجال التداولي للشعب الذي تسكنه تلك اللغة.
3.2. الاستعانة بجهود مترجمين آخرين
يصرّح أغلب المترجمين بصعوبة نشاط الترجمة، ونظرا لأن المترجم عضو في المجتمع العلمي والمعرفي، فإنه يستند في عمله إلى جهود المترجمين العاملين في مجال تخصصه، سواء صرّح بذلك أم لا. وهذا جلال الدين سعيد في مقدمة ترجمته التي ألمحنا إليها سابقا، عندما واجه صعوبة في ترجمة عبارة ides adaequata التي تعني « الفكرة المطابقة »، ولم يجد فيها استقامة في المعنى، لجأ إلى الكتاب الذي وضعه فؤاد زكريا عن سبينوزا، والمنشور في بيروت عام 1983، ففهم منه أنه من غير المناسب ترجمة العبارة بالفكرة المطابقة، أو بأية لفظة تحمل معنى اتفاق الفكرة مع الموضوع، ويفضّل عليها عبارة « الفكرة الكافية »، فعند سبينوزا، الفكرة الكافية تتميز عن كل ما عداها بخصائصها الكافية فيها، لا بأية إشارة خارجية عنها. كما اعتمد على مقال لمحمد مصطفى حلمي عن سبينوزا نُشر في الجزء الثاني من كتاب « تراث الإنسانية ج2 » الصادر عام 1984، واهتدى إلى ترجمة أخرى للعبارة وهي « الفكرة التامة »، بمعنى تمام الفكرة وكمالها الذي يجعلها تحوز على كل الخصائص المميزة للفكرة الصحيحة، وقد وجد سندا لهذه الترجمة الموفقة في مؤلفات الفارابي وابن سينا والجرجاني. (سعيد، دت، صفحة 22)
ويؤكد المسكيني إنه استفاد كثيرا من أعمال المترجمين والمؤلفين العرب الذين اهتموا قبله بكانط؛ عبد الرحمن بدوي، عبد الغفار مكاوي، موسى وهبه وغيرهم. كما استفاد من ترجمات فرنسية وإنجليزية، خاصة وأن البعض منهم، تمثل الألمانية، اللغة الأم بالنسبة له. وعن المترجمين الغربيين، يذهب المسكيني إلى أنهم سبقونا بأجيال في التعامل مع صعوبات النص الكانطي المعقد، وصار لديهم تقليد في فهم وترجمة وتأويل كانط، هذا التقليد الذي يشكّل تراثا لا يمكن للمعاصرين الاستغناء عنه في فهم كانط أو ترجمته. ويدعو المسكيني إلى ضرورة الالتحاق بما يسميه « صفوف الجماعة العلمية العالمية في ميدان الدراسات الكانطية » من خلال نافذة الترجمة، لأن حسن فهمنا لنصوص هذا الفيلسوف، ونجاح ترجمتها إلى اللغة العربية، والاستفادة من فلسفته، التي صارت جزءا من العقل البشري، تقاس بمدى انتمائنا إلى تلك الجماعة العلمية ترجمة وفهما. (المسكيني، 2012، الصفحات 43-44)
ويصنّف عبد الغفار مكاوي جهد ترجمته لكتاب هايدجر « نداء الحقيقة »، بعد الجهود التي قام بها مترجمون عرب سابقون، بعد أن يعترف بفضلهم، لأنهم عبّدوا له الطريق. ومن الدراسات التي استفاد منها عن هايدجر، يذكر مؤلفات عبد الرحمن بدوي عن الوجودية، وكتاب عثمان أمين « في الفلسفة والشعر »، ومؤلفات زكريا إبراهيم عن الوجودية خاصة، والفلسفة المعاصرة عامة، ويحيى هويدي في كتابه « دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة »، ومحمود رجب في ترجمته لمحاضرة هايدجر « ما الفلسفة؟ »، وفؤاد كامل في ترجمته لمحاضرتيه؛ « الميتافيزيقا » و« هلدرلين وماهية الشعر ». أما عن المؤلفات التي كانت عونا لمترجم هايدجر في مسألة الحقيقة، فينوّه بكتاب لنظمي لوقا عن الحقيقة، وأطروحة الدكتوراه التي أعدّها فؤاد زكريا عن الحقيقة كذلك. وعلى مستوى اللغات الأجنبية، يثني مكاوي، على الترجمة الفرنسية كمؤلف هايدجر الذي يحمل عنوان « ماهية الحقيقة » لمؤلفيه فالتر بيميل، وألفونس فيلنس، إلى جانب كتاب فردي لفالتر بيميل عن هايدجر. (مكاوي، 1977، الصفحات 20-21)
نخلص إلى إن المترجم، لا ينطلق من العدم في ترجماته، لأن النص الأجنبي، وخصوصيات اللغات، تفرض نفسها عليه بقوة، وما عليه إلاّ الاستعانة بجهود مترجمين آخرين، لتذليل الصعاب التي تواجهه، إذا أراد أن يقدّم نصا يفيد به المتلقي في اللغة التي يترجم إليها.
4.2. تزويد النص المترجم بحواشي
الحاشية تنتمي إلى محيط النص، وهي حيّز يلجأ إليه المؤلف، أو الناشر، أو المحقق، أو المترجم للتعليق أو الشرح أو التوضيح لما ورد في المتن. وهناك من يعارض استعمال المترجم للحاشية، بذريعة كسر خطية النص، أو إعاقة تمتع القارئ بالنص، وهو دليل على عجز المترجم. وفي المقابل، هناك من يدافع عن حواشي المترجم ويعتبرها مفيدة، بل وضرورية في كثير من الحالات. فالمترجم يُترجم لقارئ ينتمي إلى ثقافة ولغة غير لغة النص الأصلي، لذلك قد يتعذر على المتلقي الجديد الفهم ويستغلق عليه المعنى، مالم يعينه المترجم بحواشيه على توضيح الغامض والغريب. (ظاظا، 2014، الصفحات 561-562)
إن حواشي المترجم بمثابة لحمة لثقافة النص الأصلي، لثقافة الناقل، وإذا كان المترجم في خدمة القارئ الجديد، فإن حواشي المترجم مساحة لا غنى عنها لإيضاح بعض التلميحات والإشارات الثقافية وشرحها، وهي حيّز للإفصاح عن صعوبات الترجمة، بل وتعذّرها أحيانا، بسبب العناصر الثقافية الغريبة عن الثقافة المنقول إليها.
وفي العقود المبرمة بين المترجمين، ودور النشر، والمؤسسات الطالبة للترجمة، برهان على حقوق المترجمين في إضافة الشروح والتعليقات التي تخدم النص المترجم، ومن أمثلة العقود المبرمة تلك، نذكر العقد المبرم بين « المنظمة العربية للترجمة » من جهة، والمترجم « حسن ظاظا » من جهة أخرى بتاريخ 7-5-2009، لترجمة كتاب جاك رانسير « سياسة الأدب » ومن بنود ذلك العقد نذكر مقتطفا منه : « تشمل مهمة الترجمة إضافة الحواشي والهوامش والتعريفات الشارحة في المواقع التي يرى المترجم أنها مفيدة للقارئ العربي... » (ظاظا، 2014، صفحة 564)
واضح أن الحرص على المتلقي العربي كان وراءه تثبيت هذا الجانب من النشاط الترجمي في نصوص العقود المبرمة بين مؤسسات النشر والمترجمين. إن وجود مثل تلك البنود في عقود الترجمة ينسف وجهة نظر أولئك الذين يربطون الحاشية بعجز المترجم، ويعطي لهذا الأخير الشرعية، ويتيح له هامشا من الحرية في اختيار المواطن التي يتدخل فيها.
ويجب التنويه كذلك، بالمعايير الدولية المتعلقة بحواشي المترجم وموقعها، الذي وضعتها « المنظمة الدولية للمواصفات والمقاييس » عام 1977، ونقرأ فيها ما يلي : « يمكن وضع حواشي المترجم وتعليقاته في أسفل الصفحة، أو في آخر النص مشفوعة بعبارة (حاشية المترجم) » (ظاظا، 2014، صفحة 565)
إن الحواشي ضرورية للنصوص الفلسفية، فهذه الأخيرة عادة ما تكون ذات محمولات ثقافية عالية، يورد فيها مؤلفوها مصطلحات ومفاهيم وعناوين، هي في الأساس، معطيات ثقافية وحضارية، ولا يمكن للقارئ العربي تمثلها دون إدراك معانيها ودلالاتها، فيتدخل المترجم لمساعدته في الفهم، من خلال الشرح والتوضيح والإضافة.
وبعد أن يشيد عزت قرني بكتاب إ. م. بوشنسكي « الفلسفة المعاصرة في أوروبا »، من زاوية حجمه المتوسط، وتغطيته لمعظم الفلسفات المعاصرة، وأمله في أن تتصف ترجمته بالدقة والوضوح معا، أشار إلى ضرورة تزويد تلك الترجمة بحواشي، لأن المؤلف كتب لقارئ غربي مطلع على معظم المسائل الفكرية العامة، ومحيط ببعض ملامح الاصطلاح الفلسفي. أما القارئ العربي فهو بحاجة إلى حواشي تفسيرية وتكميلية لتعم الفائدة من الترجمة. (قرني، 1992، الصفحات 9-10)
ويرى أنطوان سيف في مقدمة ترجمته للكتاب الجماعي « أي فلسفة للقرن الحادي والعشرين؟ » إن من ضرورات الترجمة تزويد النص المترجم بحواشي، توضّح الالتباسات المحتملة، وهذا ما يراه إعلاء للترجمة إلى مقام المشاركة في صناعة النص الأصلي، ولكن بلغة أخرى، ونقله بأمانة إلى ثقافة أخرى. إن النص المنقول إلى العربية بهذه المواصفات يناظر النص الأصلي، ولا ينفصل متنه عن هوامشه، الذي يقوم بها مترجم خبير بموضوع ترجمته. (سيف، 2011، صفحة 53)
ويضيف أنطوان سيف، بخصوص الحواشي على النص المترجم، إنها تضفي عليه أهمية إضافية، سواء كانت شروحا أو إيضاحات، أم مقدمة مطولة لمضمون الكتاب والمسائل المتصلة به، والملاحق والفهارس ومعاجم المصطلحات الواردة في النص الأصلي. وهذه الصورة تنطبق على المجهود الذي يقوم به المترجمون العرب تحت لواء « المنظمة العربية للترجمة ». هذا الشكل من الترجمة، يمثل في نظره صورة نموذجية للتعريب المعاصر الراقي. (سيف، 2011، صفحة 53)
مما سبق، نخلص إلى إن الحواشي تكتسي أهمية بالغة في الترجمة المعاصرة، بما تضفيه من وضوح على النص المترجم، فالمتلقي العربي عانى كثيرا من استغلاق النصوص المترجمة، خاصة الفلسفية منها، وهي أحوج من غيرها إلى انخراط المترجم في مساعدة المتلقي على الفهم، فالفهم طريق الإبداع.
3. آفاق أخرى
لقد تمرّس المترجم العربي المعاصر من خلال تعامله مع النصوص الفلسفية، واكتسب منهجية في التعامل معها، كما استطاع التعاطي مع الصعوبات المطروحة، وحاول تجاوزها بنجاح، فأدى مهامه في حدود الإمكانيات المتاحة. وفي كل ذلك، تشكّل في ذهنه أفق أرحب، أو قل آفاقا رحبة لحاضر الترجمة ومستقبلها. هذه الآفاق تكمن في التنافذ الثقافي، أو التثاقف بما فيه من محاولة نزع الغرابة على النص الأصلي، وتعاطف المترجم مع مضمونه، مما يتيح له إعادة النص وتقديمه في أحسن حلّة للمتلقي العربي، وأخير وصول المترجم إلى قناعة مفادها إن الترجمة ممارسة متواصلة، وإن الكمال قيمة مطلقة.
1.3. الترجمة مثاقفة
عرفت الثقافة العربية والإسلامية لحظتين أساسيتين من تاريخ وعيها الثقافي؛ الأولى كانت في العصر العباسي، عندما تم نقل التراث اليوناني إلى العربية بما فيها من علوم وفلسفة. واللحظة الثانية، كانت في أواخر القرن التاسع عشر، حين استفاق العرب والمسلمون على الغرب المتفوق، وشعروا بالحاجة إلى معارفه للخروج من تخلفهم، ومسايرة العصر في العلوم والتقنيات. وكانت الأداة في هاتين اللحظتين هي الترجمة، فبها يتم تقليص المسافة الحضارية، وبعث الأمل في مستقبل أفضل، من خلال سلاسة التواصل بين الثقافات والشعوب، فالترجمة ليست فقط نقلا من لغة إلى أخرى، بل نقل من ثقافة إلى أخرى، وهنا تكمن خصوبتها وخطورتها في الآن نفسه.
ومن مهام المترجم الحاذق، جعل الثقافة المقول إليها، تستوعب الثقافات المنقولة، وتدمجها في سياقها الثقافي الخاص، لتكون فاعلة، ويبقى دورها إيجابيا في تشكيل الفكر العربي. لذلك لابد من استيعاب هذا التلاقي بين الثقافات والمتعرجات التي يمرّ من خلالها، حتى تقوم الترجمة بدورها بأفضل ما فيها. إن المثاقفة عملية مركبة ودقيقة تحتاج إلى وقت وجهد، إنها تعني الاستيعاب الثقافي، والتحول الثقافي، والانصهار الثقافي. وهناك من يرى إن اللقاء بين ثقافتين لابد أن يمرّ على مراحل أربع هي : الاصطدام، والضبط، والانصهار، والدمج. وترتيب هذه المراحل يبين إن أية ثقافة لا تستسلم بسهولة وسرعة لثقافة أخرى، فهي بحاجة إلى زمن لتتفاعل معها، وإلى استراتيجيات لتقبلها ودمجها في سياقها الخاص. (أولحيان، 2014، صفحة 250)
اكتسبت الترجمة شرعيتها من عالم الاختلافات الثقافية، فالترجمة لا توحد اللغات والثقافات، وإنما تربط فيما بينها وتجعلها تتثاقف. إنها تدبير للتعدّد، يرعى الفوارق ويغذي الوحدة وينعشها. في الترجمة ينتعش التعدد اللغوي، فيخرجنا ذلك من عاداتنا اللغوية لابتداع لغة جديدة، ويرى مارتن هايدجر إن الترجمة ليست تقنية آلية لنقل المعاني، بل هي مطية من خلالها يفسّر النص الأصلي نفسه. إن النص الأصلي لا يتكلم في لغته الخاصة فحسب، بل يتكلم أيضا عبر الترجمة. بهذا المعنى، فإن الترجمة ضرورية للنص الأصلي، بل هي تنتمي إليه. إنها بُعده الكوني. فالنص يغدو كونيا حقا، أي يخاطب البشر في كل العصور، بقدر ما يكون مترجما في لغات عديدة. ومنه، فإن تعدّد اللغات والثقافات هو تعدّد المنظورات إلى العالم، والترجمة هي تكريس مفهوم التعددية. (العالي، 2016، الصفحات 504-505)
وفي تقديمه لترجمة سلمان حرفوش للمحاورة بين جاك دريدا وإليزابيث رودينيسكو، يموضع فيصل دراج، ترجمة جاك دريدا ضمن Jacques Derrida (1930-2004) حقل المثاقفة الفلسفية، وينفي أن يكون ذلك غزوا ثقافيا، فكيف لكتاب أن يُصنّف غزوا، والقنوات الفضائية تنقل تفاصيل الحياة الغربية إلى داخل البيوت العربية والإسلامية، ولا أحد يشير إلى خطر هذا الغزو الحقيقي؟ إضافة إلى أن الأسلاف سبق لهم وأن نقلوا تراث اليونان الفلسفي، ولم يعتبروا ذلك تخليا عن ثقافتهم. ولنا في الفترة المعاصرة أمثلة تؤكّد استفادة الفكر العربي الإسلامي من ثقافة الغرب الفلسفية، فهذا محمد أركون المفكر المسلم، استفاد من جاك دريدا اليهودي الأصل، كي يدافع عن الإسلام، ليبدّد الصورة التي يلصقها به أعداؤه، علما إن دريدا لا يُخفي قناعته بحق المستضعفين، بما فيه الفلسطينيون، في العيش الكريم تحت حكم دولة مستقلة. وعليه، فترجمة دريدا، هي ترجمة للثقافة والفلسفة في العالم الراهن، الذي قطعت فيه الثورات المعرفية أشواطا في سبيل تقارب الإنسانية. (دراج، 2008، الصفحات 5-6)
ويضيف درّاج مشيرا إلى الأسباب التي تدعو إلى ترجمة دريدا، إن هذا الأخير، آخر الوجوه الثقافية الكبيرة في فرنسا القرن العشرين، فتعرّف المتلقي العربي إليه، يعدّ تعرّفا على حياة فلسفية فرنسية عمرها نصف قرن، وهو الفرنسي الذي لاقت أفكاره، حياة أخرى جديدة في أمريكا، وعرفت نقاشا خصبا، لم تعرفه في فرنسا، ووجودها في أمريكا أمكنها أن تنتقل إلى أصقاع أخرى من العالم. وعلى مستوى الخصوبة التي ينضح بها نص دريدا، يمكن لفلسفته أن تساعد المتلقي العربي على فهم نصوص إدموند هسرل Edmund Husserl (1859-1938)، وفردريك هيغل، وتحاليل سيجموند فرويد Sigmund Freud (1856-1939)، ويرقى به إلى ملامسة مباحث علم اللغة والبنيوية والماركسية. وعلى المستوى الثقافي الشخصي، لا يتجرّد دريدا من كونه جزائري، وفرنسي، ويهودي في الوقت نفسه، ولا ينفصل هذا عن عالمية فلسفته التي انتشرت في كل بقاع العالم. (دراج، 2008، الصفحات 6-10)
إذن، الترجمة فعلا مثاقفة، لأنها تتيح لنا الاطلاع على ما عند الشعوب الأخرى من عادات فكرية، ويسمح بإخصاب الثقافة المنقول إليها. ومادامت اللغة العربية قادرة على استيعاب اللغات الأجنبية الأخرى، فهذا يعني إن الثقافة العربية، قادرة على تمثّل الثقافات الأخرى ودمجها، لكي تصير خميرة تفعل فعلها في الاتجاه نحو الإبداع الفلسفي الذي نرجوه من هذه العملية.
2.3. الترجمة تعاطف
التعاطف Sympathie توجيه الانتباه إلى موضوع ما وقبوله كما هو، وإعطاء الفرصة له لكي يفصح عن نفسه. إن التعاطف يقظة حقيقية للعقل، وفيه من الحميمية ما يقربنا من الأفكار، وفيه من الموضوعية ما يخلصنا من ثغراتنا الذاتية التي تهدّد بطمس معالم الموضوع، ويحملنا على اعتبار الموضوع ذاته وواقعية بنيته التي تحدّد عالمه، كما لا يجردنا من ذاتيتنا، أو بالأحرى من باطنيتنا التي تسمح لنا بالاتصال الجيّد مع الموضوع.
على المستوى الإنساني، يُشعرنا التعاطف إن الآخر، من حيث هو موجود بشري، يملك قيمة مماثلة لتلك التي أملكها. وإذا كانت المشاركة الوجدانية جزء لا يتجزأ من صميم تكوين الروح الإنسانية، فذلك لأنه من طبيعة الذات أن تتجه نحو الذوات الأخرى، وأن تدرك مشاعر تلك الذات من خلال تعبيراتها الوجدانية. (Koribaa, 1989, p. 99)
وفي مواجهة بعض النصوص الفلسفية التي تستعصي على الترجمة، يقترح بعض المترجمين، اعتماد منهج التعاطف للتخفيف من حدّة الصعوبة وبلوغ روح النص، فهذا عبد الغفار مكاوي، يدعونا ويدعو نفسه، إلى مباغتة هايدجر من خلال فهم فلسفته من الداخل، وذاك المنحى يتجاوز مجرد تثبيت الفيلسوف ونصه على شعارات جاهزة وأحكام منتشرة في كتب تاريخ الفلسفة. فالولوج إلى فلسفته من الداخل يورثنا متعة لا نشعر بها إلاّ بصحبة الفلاسفة الكبار. فلنجرّب التعاطف، لنكتشف حرارة اللقاء مع هايدجر ومع غيره من الفلاسفة والأدباء. وليس معنى التعاطف أن نرتدي زيّه ونتخذ موقفه، وننظر بعينيه، فهذا تقليد شاحب لا يليق بالمترجم، بل معناه أن نتابعه في عمق تفكيره، لتحقيق حركته الفكرية في تطورها وصيرورتها. (مكاوي، 1977، صفحة 19)
ولتقديم نص فلسفي واضح ومقروء وأمين للنص الأصلي، ترى وفاء شعبان، إنها آثرت الابتعاد عن الترجمة الحرفية والشكلية، التي يكتفي صاحبها بإتقان الجانب اللغوي، فهذا الجانب لا يؤدي الغرض في إخراج النص في أحسن حلّة، وإنما لابدّ من معانقة روح النص، والنظر فيه من الداخل بحميمية، ولا طريق آخر يصلح معه، لأن لغة جيل دولوز معقدة وغنية، وأسلوبه متماسك، ينفتح على تعدّدية المناهج، وثقافته أكبر من كونها فرنسية فقط، وإنما ثقافة كونية، وهذا يتطلب من المترجم بذل جود كبيرة. (شعبان، 2009، صفحة 8)
ولفهم النصوص الفلسفية القديمة، يعتقد عادل مصطفى في مقدمة ترجمته لكتاب بيير هادو « الفلسفة طريقة حياة »، إنه على المترجم « مواجدتهم »، أي الاتصال بنصهم روحيا، وأن يضع نفسه مكانهم وفي زمانهم، وأن ينظر عبر منظارهم. إن التعاطف مع الفلاسفة يقتضي العلم بالظروف المحيطة بهم، والتقلبات والضغوط التي كانوا يكتبون تحت وطأتها. إن فهم النص الفلسفي القديم، لا يتوقف عند تحليل بنيته نظريا، وإنما على المترجم ربطه بالممارسة العملية التي كانت وراء إنتاجه، لأن الفلسفة نظر وعمل. هذا المنظور يتجاوز ظاهر النص، ليقترب من عمقه، وبهذه الاعتبارات يمكن إعادة بناء المعنى العميق والحيّ للنص الذي أنتجه الفيلسوف. (مصطفى، 2019، صفحة 14)
وظاهر للعيان، إن المترجمين أرادو القول إن النص الفلسفي لا سبيل إلى فهمه ونقل حرارة ذلك الفهم إلى المتلقي، بغير الإنصات الجيّد له، عقليا وروحيا، واعتبار ما يقوله الفيلسوف موجها إلى الناس جميعا، ولأن الفيلسوف أخ من طبيعة إنسانية واحدة، وبغير هذا التعاطف لا يستيقظ الانجذاب إلى الأفكار الفلسفية.
3.3. المترجم والفروق بين اللغات
اللغة كنز متنوع، لصيقة بالإنسان تصاحبه في مجمل نشاطاته، بها يكوّن فكره وعواطفه، طموحاته وإرادته وفعله، بها يؤثّر ويتأثر. إنها الجوهر الأعمق للجماعة الإنسانية. اللغة صدى لما قبل يقظة الوعي الأولى. لا تصحبنا اللغة من الخارج فقط، بل تقبع في عمق الإنسان، إنها ذاكرة ثرية ترثها الجماعة. والكلام هو الخاصية الفارقة للشخصية في حسنها وقبحها، والسمة المميزة للوطن والأمة، ودليل نبل النوع البشري. (هلمسليف، 2018، صفحة 19)
وقد تناول العديد من اللغويين عربا وغربيين، مسألة تعدّد اللغات واختلافها، وما تخلفه من أثر في الترجمة، وقد أشار إلى ذلك أبو حيان التوحيدي، عندما انتبه إلى عدم التطابق الموجود بين اللغات في الأسماء والصفات والحروف والأفعال، في التقديم والتأخير والاستعارة، وغير ذلك من التفاصيل. كما ناقش جورج مونان Georges Mounin، وفرديناند دو سوسور Ferdinand de Saussure هذه المسألة؛ فدوسوسور انتقد وجهة النظر التي ترى إن اللغة عبارة عن قائمة من الألفاظ سهل حفظها وتعلمها، كما يسهل ترجمتها إلى لغة أخرى، ولو كان الأمر كما تتصوره تلك النظرة، لما صعُبت الترجمة ولما وقعت فيها الأخطاء. (سيتواح، 1997، الصفحات 33-52)
إضافة إلى ذلك، إن اللغات عبارة عن أنظمة مغلقة، كل نظام يرتب عناصره ترتيبا خاصا، لذلك يجد المترجم صعوبة في النقل من لغة إلى أخرى. وهذا ما عبّر عنه شلايرماخر Schleiermacher لما اعتبر إن وظيفة اللغة هي تثبيت المعنى في نظام محدّد، وهذا النظام من جهته يعبّر عن التوتّر بين الدلالات العامة غير المحدّدة. وإذا كان الإنسان يرث نظام اللغة، فإنه يساهم كذلك في تكوين هذا النظام. ومن هذه الزاوية، لا تكون الترجمة، ترجمة لنظام لغوي وحسب، بل هي كذلك ترجمة لاستعمال هذا النظام على يد المؤلف الذي يترجم. (لوبلان، 2013، صفحة 121)
وقد عايشت وفاء شعبان كل هذه المتعرجات في ترجمتها لنص جيل دولوز، لذلك نجدها لا توجّه اللوم إلى المترجم، ولا إلى اللغة العربية التي تترجم إليها، وأدركت إن المشكلة بالأساس تكمن في الفرق بين اللغتين العربية والفرنسية. فالنص الأصلي المكتوب بالفرنسية غنيّ بالاشتقاقات والتركيبات للمفردات والعبارات التي لا يمكن مجاراتها في العربية، رغم كل الجهد المبذول. (شعبان، 2009، صفحة 35)
وقد عبّر كمال الحاج عن المعنى نفسه في مقدمة ترجمته لنص ديكارت، عندما صرّح إنه تروّى كثيرا في النقل، لكي يحفظ التوازن بين أصل المعنى الموجود في النص الأصلي، وأصل اللغة العربية، وذلك ما يجسّد الترجمة المثالية في نظره. لكن يبقى الأمر شائكا لاستحالة الترجمة الكاملة. (الحاج، 1988، صفحة 3)
والحالة نفسها صرّح بها محمد محجوب في تصديره لترجمته كتاب جان جاك روسو « محاولة في أصل اللغات »، فالصورة الحاضرة عنده هي قصة الأصل والضياع، أي ضياع الأوجه التصويرية للغة. إن الترجمة محاولة إنطاق النص في غير لغته الأصل، لذلك فالمترجم تتنازعه مقتضيات الأمانة، ومقتضيات الحفاظ على المناخ الأسلوبي الذي يلعب دورا محوريا في بنية النص العميقة. (محجوب، د ت، صفحة 25)
نخلص إلى إن مهما بلغ المترجم من اقتداره، وتصديه لعمله وأخذه بأسباب الترجمة المثالية، فإنه، في النهاية، يصطدم بعائق لا سبيل إلى رفعه يتمثل في الفروق بين اللغات، تلك الفروق التي تحدث تشققات حتمية في عمله، وتظل تذكّره إن عمله نسبي ولا يمكن أن يبلغ الكمال، لأن الترجمة ممارسة لا سقف نهائي لها.
خاتمة
يمكن القول من كل ما سبق، إن الترجمة نشاط لابد منه لكل أمة، لأن الأمم في النهاية ليست كتلا بشرية تعيش لوحدها، ولنفسها، إنها كائنات حية مخلوقة للتواصل مع الآخر. لذلك كانت الترجمة هي النافذة التي تلجأ منها إلى الثقافات الأخرى، وهذا ما حدث مع العرب والمسلمين، فقد اتصلوا منذ القدم بالشعوب الأخرى، ولازالوا كذلك إلى اليوم، يتطلعون دوما إلى نقل أفضل ما لدى الأمم الأخرى من العلوم والفلسفات.
وقد انتهينا من خلال هذا البحث إلى تسجيل بعض النتائج الأساسية نذكر منها :
-
إن المترجمين العرب المعاصرين، والمؤسسات التي تقف خلفهم شعروا بالحاجة إلى مواصلة المسيرة التي بدأها أسلافهم إبّان العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فانكبوا على ترجمة النصوص الفلسفية الأساسية التي أنتجها الغرب الأوروبي، لأنها تشكل العمود الفقري للحضارة الغربية، وقد فهموا أن الاستفادة منها، لا يتم إلاّ بإطلاع القارئ العربي على معاني ودلالات هذه النصوص. وقد تحمّلوا في ذلك أشقّ الصعوبات، جعلت المتلقي يلومهم أشدّ اللوم، على استغلاق هذه النصوص على الفهم والاستيعاب.
-
إنهم لم يشغلوا أنفسهم كثيرا بالأسئلة النظرية الكبرى، التي أسالت الكثير من الحبر لدى منظري الترجمة، وإنما انخرطوا منذ البداية في الممارسة، وكانوا على حق في ذلك، لأن الترجمة في حقيقتها ممارسة متواصلة، تؤدي في النهاية إلى إتقان ذلك النشاط، بالتصحيح الذاتي للأخطاء، ومن ثم التغلب على التحديات المطروحة.
-
إنهم أخذوا بكل الأسباب المتاحة لهم، على المستوى الفردي أو على مستوى المؤسسات التي يعملون تحت إشرافها، في الوصول إلى إخراج ترجمات أمينة إلى حدّ بعيد. كانوا يجيدون اللغة التي يترجمون منها، واللغة التي ينقلون إليها، واتصفوا بسعة الثقافة. كانوا يحاولون خدمة المجال التداولي الذي يحيا فيه المتلقي العربي. كما اتصفوا بالتواضع-لأن الترجمة علمتهم أن يكونوا كذلك-والتعاون، وعدم الدوس على جهود السابقين من بني أمتهم، وحتى جهود من سبقوهم من الأجانب.
-
إن ما تخلل عملهم من ثغرات، يعود إلى عدّة عوامل. واجتماع هذه العوامل يولّد فيها قوّة، تقهر المترجم مهما كان مقتدرا في عمله؛ بعضها يعود إلى أن الترجمة لا تنتمي إلى العلوم الدقيقة، وإنما هي من العلوم الإنسانية، التي لا زالت تطارد الدقة واليقين إلى اليوم، وحتى في المستقبل القريب، وبعضها كامن في الاختلاف بين اللغات، من جهة، واختلاف استعمال هذه اللغات من طرف المتكلمين بها، وبعضها نتاج الطبيعة الخلافية للفلسفة. وربما لا نلوم مترجم النص الفلسفي أكثر من أن نلوم الإفراط في الكلمات من طرف كل عائلة الفلسفة، والذي كانت عواقبه وخيمة على الفلسفة نفسها وسمعتها.
-
وإذا كانت النسبية سمة المعرفة المعاصرة، فإنه من الخطأ أن ننتظر من المترجم نصا مطلقا، مطابقا تمام المطابقة للأصل، فالمترجم مجرد قارئ للنص، وما يقدّمه هو مجرد قراءة من عدة قراءات ممكنة. إن الترجمة ممارسة لا تنتهي، إنها مثل المعرفة العلمية التي وصفها باشلار ذات يوم بأنها معرفة تصحيحية.