مقدّمة
ضمَّن عبد القاهر الجرجاني كتابَه « دلائل الإعجاز » نظريةً في بناء الجملة في اللغة العربية، وتصورا للنظام الذي يحكمها، موزعة في ثنايا الكتاب، لا تستفاد إلا باكتمال القراءة والتحصيل، حيث تناول المؤلف نظم الحروف في صياغة الكلمة، ونظم الكلمات في صياغة الجملة، وفرّق بين النظمين؛ فوصف الأول بأنه عشوائي، وخص الثاني بالقصدية، لأنه نتاجُ ترتيبٍ للمعاني في عقل المتكلم، حيث لا انفصال بين ترتيب الكلمات في الجملة، وتناسق دلالات ألفاظها في العقل.
لا يُرجع عبد القاهر الجرجاني المزية في المعنى إلى الكلمة، وإنما يرجعها إلى مناسبة معنى الكلمة لمعاني الكلمات المجاورة لها في الجملة، فقيمة الكلمة ترجع إلى العلاقات التي تربطها بغيرها داخل الجملة، وليس إلى الكلمة في ذاتها، أي إن الألفاظ لم توضع معانيها في ذواتها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض كما ذكر الجرجاني، فالتفاضل راجع للعلاقات أكثر من الوحدات، ومن ثم فإن الألفاظ أوعية للمعاني وخدم لها في التراكيب، ثم إن المعاني المفردة تذوب في معنى الجملة، فتصير المعاني معنى واحدا، والألفاظ كأنها لفظة واحدة.
إن الدارس لنظرية النظم -وبالنظر لما آل إليه واقع النحو اليوم- تتبدّى له جملة من التساؤلات، يسعى بحثنا للإجابة عنها، أهمها : ما حدود التعليق عند الجرجاني؟ هل تحده المعاني التركيبية في نطاق بنية الجملة اللغوية، أم يتجاوز المستوى الجملي إلى المقاصد الخطابية؟ وهل كان النحو عند القدماء يعنى بالترتيب الشكلي، أم بكلية التركيب، بما فيها الخصائص الشكلية والدلالية والفنية؟ وبعد ذلك -ولارتباط هذه النظرية بقصدية المتكلم في ملفوظه- هل يتواشج التعليق ومخرجات الدرس التداولي الحديث، خاصة الأفعال الكلامية والأغراض الإنجازية؟
وفي غمار البحث نعرض للإجابة ضمنا عن إشكالات أخرى متناسلة أهمها : هل يقصد الجرجاني بالنحو وقوانينه علم النحو المعروف اليوم؟ وهل حملت نظريته لواء الثورة والتجديد بالنسبة لمن سبقوه مثلما يدعي بعض الباحثين المعاصرين؟ أم إن نظريته كانت منسجمة مع السابقين، وأن مفهوم النحو تغير مع اللاحقين؟ ومن ثم يتجه بحثنا وجهة تقويم الدرس النحوي العربي في عصوره المتأخرة، ورفض التصورات المسطحة للنحو والجملة.
1. مفهوم التعليق والأسس النظرية
1.1. مفهوم التعليق
التعليق لغة من المصدر علَّقَ؛ يعلِّق، تعليقًا، فهو مُعلِّق، والمفعول مُعلَّق، يقال : علَّق الشّيءَ على غيره : رتَّبه عليه، مثل : علّق سفرَه على تحسُّن الجوّ. ويقال : علَّق أهمّيّة على أمر : اعتبره مهمًّا وذا فائدة، وعلّق عليه الآمالَ : رجا منه أن يحقِّق ما يريد. وعلَّق على كلام غيرِه : عقَّب عليه وتعقَّبه بذكر ما فيه من محاسن ومساوئ. وعَلَّقَ الشيءَ بالشيءِ وعليه : وضعه عليه (عمر 2008 : 1538).
أما التعليق في الاصطلاح فهو ترتيب دلالات الألفاظ داخل العقل، أي بين معاني الكلمات وليس بين الكلمات نفسها، إذ لا يتصور « أن ينطق بعضها في إثر بعض، من غير أن يكون فيما بينها تعلّق » (الجرجانيّ 1992 : 466) ويدرج عبد القاهر الجرجاني التعليق ضمن نظريته الكبرى « نظرية النظم » التي بث تفاصيلها في مباحث كتابه « دلائل الإعجاز ». فما الفرق بين التعليق والنظم؟
2.1.التعليق وثنائية المبنى والمعنى
لا ينفصل البحث في التعليق عن البحث في المبنى والمعنى، الذي يمكن أن تبرز من خلاله القيم التداولية في نظرية التعليق عند الجرجاني، وهي قضية من أقدم القضايا التي عالجها الفكر الإنساني، تناولها أرسطو واعتبر فيها اللفظ وسيلة المعنى والدليل عليه، دون ترجيح لكفة أحدهما على الآخر، وتناولها العرب وذهبوا فيها فرقا؛ فمنهم من قدم اللفظ؛ مثل الجاحظ وابن رشيق، ومنهم من قدم المعنى؛ مثل المرزوقي وابن شرف القيرواني، ومنهم من نبه إلى ضرورة عدم الفصل بينهما؛ مثل عبد القاهر الجرجاني وقدامة بن جعفر والباقلاني.
إن اللفظ عند الجرجاني وإن كان في خدمة المعنى فإنه لا ينفصل عنه، فنظمُ الألفاظ تابع لتعليق المعاني في النفس، والمعنى متعلق بالفظ وبالسياق الذي قيل فيه، ولا يمكن الفصل بين اللفظ والمعنى، فلا مزية لأحدهما دون الآخر، وإنما هما شيء واحد في الاستعمال، وقيمة الكلمة ترجع إلى العلاقات التي تربطها بغيرها داخل الخطاب، وليس إلى الكلمات في حدّ ذاتها، باعتبار أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ بل مجموعة من العلاقات (مندور 1988 : 201)، لكن ليس على المستوى البنيوي مثلما تصور أنصار البنيوية، وإنما على مستوى ما بين النص والخطاب من فروق، فالخطاب عند القدماء هو نص ومرسِل تتوفر فيه قصدية التأثير في المتلقي، وهو عند المعاصرين ((ملفوظ يفترض مرسلا ومتلقيا لدى الأول نية التأثير في الثاني بطريقة م (Benveniste 1995 : 241)
« وللجرجاني إشارة لهذا المفهوم التداولي حينما اعتبر الألفاظ دليلا على المعاني، وأنها تتجاوز الوضع الأصلي إلى القصد والعلم، وإلى القدرة على شحنها بالدقائق والأسرار، ولذلك يَفضل الكلام بعضُه بعضا، وتتفاوت مراتبه وترتقي إلى أن تصل إلى مرتبة الإعجاز التي هي لكلام الله عزّ وجلّ (الجرجانيّ 1992 : 7) وهو ما يوحي بأن القدماء ((تناولوا دراسة النشاط اللغوي تناولا تداوليا يراعون فيه مستوياته الإفادية المتحققة، إلى جانب تعرضهم لمستوياته اللفظية الصورية » (دبة 2011 : 15)
إن الألفاظ -في تصور الجرجاني- لم توضع معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، وإن الفصاحة جزء من البلاغة، فلا تعزى إليها وحدها جودةُ الكلام، لتعلقها باللفظ وحده، وإنما ترجع إليها الفضيلة في ذلك لتعلقها باللفظ وبقدرته في ذلك الموضع على التعبير عن المعنى المراد أكثر من غيره. واعتبر الجرجاني النظم قائما على حسن صياغة الألفاظ، وتوخي معاني النحو، وهو ما يعني ارتباط اللفظ بالمعنى، وأنه لا سبيل إلى التفريق بينهما إلا بإمكانية الفصل بين الروح والجسد.
إن العلاقة بين المبنى والمعنى يقوم عليها فهم العلاقة بين طرفي الخطاب، ولعل أهم الطرفين عند الجرجاني هو المتلقي الذي يكون المعنى نتاجا لفهمه للمبنى، ولعل هذا ما ذهب إليه كثير من المعاصرين، حين اعتبروا الدلالة هي حاصل تفسير المتلقي، لا ما يقصده المتكلم، باعتبار أن تفسير المتلقي قابل للقياس، خلافا لمقاصد المتكلم التي لا يمكن الجزم بها، ولأن النحو في حد ذاته إنما قام على منهج استقرائي، والتوصل إلى الأحكام من خلال كلام العرب إنما يكون سنده التلقي، انطلاقا من المبنى وصولا إلى المعنى، وأنه لا بد لتلك الأحكام من قرائن وأدلة، أهمها العلامة الإعرابية.
ولأجل تفسير تغيرات العلامة الإعرابية في المباني وربطها بالمعاني لجأ النحاة إلى العامل النحوي، فألفوا فيه كثيرا، وخصه الجرجاني بكتاب « العوامل المئة في النّحو »، تحدث فيه عن العوامل اللفظيّةٌ والعوامل المعنويّةٌ؛ التي لا يتسع المجال لبسطها، غايتهم الكبرى في ذلك هي الحفاظ على سلامة القرآن من اللحن، واللسان العربي من العجمة، وإعانة المتعلم على الأداء السليم للغة. أما الاهتمام بأواخر الكلم على وجه الخصوص فلأنه أظهر في اللحن من غيره، رغم وجود أخطاء أقل ظهورا، مثل الأخطاء الصوتية والصرفية. يقول تمام حسان : « اتسمت الدراسات اللغوية العربية بسمة الاتجاه إلى المبنى أساسا، ولم يكن قصدها إلى المعنى إلا تبعا لذلك على استحياء » (حسان 1979 : 11-12) مما يعنى أن ظروف النشأة أثرت في طبيعة البحث النحوي وفي الدراسات اللاحقة وتوجيهها وجهة بعينها.
يذهب بعض المحدثين إلى أن المبنى ليس إلا وسيلة لتحقيق المعنى، وأن الجرجاني من أنصار هذا الاتجاه، غير أن الجرجاني ذاته لم ينتقص من أهمية المبنى لحساب المعنى، واعتبر كلا منهما مكملا للآخر، ثم إن هؤلاء المحدثين أولوا الأهمية للمتكلم في التواصل اللغوي، وهو ما ترفضه كثير من الدراسات الحديثة التي تأبى اعتبار المتلقي في المرتبة الثانية بعد المتكلم، وجعلته في نفس المرتبة معه، ووصفته بأنه متلفظ مشارك، وتَعتبر التداوليةُ تفسير القوى الإنجازية للأفعال الكلامية حاصل تفسير المتلقي، وهو ما ذهب إليه « سيرل » مخالفا أستاذه « أوستين »، معتبرا القوَّة الإنجازيَّة للمنطوق حاصل تفسير المـُستمع للمنطوق، وليست تحقيقاً لمقصد المتكلّم تحقيقاً ناجحاً كما يرى « أوستين »، ذلك أن تحقّق المستمع أو الدَّارس من مقصد المتكلّم أمرٌ غير مُمكن، لأنّه غير قابلٍ للفحص، أمَّا تفسير المـُستمع فإنَّه يتَّضح في استجابته، وهذا ما يُحدّد تقدّم التّفاعل اللغوي أو نجاحه (العبد 2005 : 293)
في هذا الإطار التداولي يمكننا القول إن الأوائل انطلقوا في بحوثهم التي أفرزت جدلية اللفظ والمعنى من العملية التواصلية؛ مثلما حدث لأبي الأسود الدؤلي مع ابنته حينما سألته : « ما أجملُ السماء » فكان المعنى لدى المتلقي (الدؤلي) منطلقا من المبنى، فقال : نجومها. مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن اعتماد النحو العربي في انطلاقته إنما كان على أساس تواصلي تفاعلي اجتماعي، دون أن يكون في هذا القول دعوة إلى تقديم المبنى على المعنى، أو المتلقي على المتكلم، وإنما هي عملية تفاعلية، يتكامل فيها حضور طرفي الخطاب، وهو ما ندعي قيام النحو العربي عليه، كما أن هدفه هو المعنى بلا ريب، خلافا لما يدعيه البعض بأنه عملية ضبط لأواخر الكلم، لا علاقة لها بالدلالة، لأن الإعراب ما هو إلا إبانة، وما الحركات الإعرابية إلا علامات على المعنى والوظيفة.
والحقيقة أن هذا الجانب الشكلي والاهتمام بما هو لفظي في النحو العربي ليس على وجه الحصر كما يتصور، بل هو على وجه التوسع، إنه مجال من مجالات النحو، وليس كل النحو، ولذلك سمَّوه إعرابا، ولم يسمُّوه نحوا، وقد أدرك العلماء ذلك، فاشتغل من اشتغل منهم بالإعراب باعتبار التخصص، ولذلك نجد الزجاج مثلا يعنْون كتابه بـ : « معاني القرآن وإعرابه »، ولذلك أيضا قالوا « الإعراب فرع المعنى »، يقول الجرجاني : « ومن العجب أنّا إذا نظرنا في الإعراب، وجدنا التفاضل فيه مُحالاً، لأنه لا يُتصوَّر أن يكون للرفع والنصب في كلامٍ مزية عليهما في كلام آخر » (الجرجانيّ 1992 : 399) وهو كلام صادق، لتعلقه بالمفاضلة بين كلام وكلام، وبغاية التعرف على المزية في الكلام، ولكنه مع ذلك لم ينف قيمة الإعراب في مجال تخصصه، وأنه يتعلق بالمعنى رغم شكليته، ولقد أدى هذا الخلطُ بين الغايات بكثير من الباحثين إلى الجور في الأحكام والتسرع في الاتهام، إذ ليس من الإنصاف الحكم على من اهتم بجزء من النحو بأنه اختزل النحو في الإعراب، وأنه يعتبر النحو كله هو الإعراب، اعتمادا على عبارات وعناوين له سياقاتها وخصوصيات استعمالها، مثل : « الإعراب عند قواعد الإعراب » لابن هشام، و« سر صناعة الإعراب » لابن جني، وقول الزجاجي : « النحو يسمى إعرابا، لأن الفرض طلب علم واحد » (الزجاجي 1982 : 91) الذي يمكن تنزيله في إطار التبويب، الذي هو عملية علمية تقوم على قرائن يؤمن العلم بوجودها، ولاشك أن اللفظ أسبق من المعنى في هذا الجانب، لأنه لا بد من اعتماد الوسيلة اللفظية في التقسيم، ولو أراد هؤلاء العلماء قلب العملية -وهو ما لا يتصور أنه خفيَ عن علمائنا- لما اكتسى النحو طابع العلمية التي تميز بها على مرّ العصور.
لقد كان لثنائية اللفظ والمعنى في الدراسات العربية الحديثة أثر بارز في المحاولات التجديدية للنحو العربي؛ مثل محاولة إبراهيم مصطفى في كتابه « إحياء النحو »، ومهدي المخزومي في « في النحو العربي »، وأمين الخولي في « مناهج تجديد اللغة العربية »، وتمام حسان في « اللغة العربية معناها ومبناها »، وعبد المتعال الصعيدي في « في النحو الجديد ». وإذا كانت الريادة في هذا المجال لإبراهيم مصطفى فإن الأثر كان لتمام حسان، الذي عُرفت نظريته بين تلاميذه بــ : « تضافر القرائن »، التي تحول فيها الاعتماد من المنهج اللفظي في دراسة النحو المسمى « الإعراب »، القائم على فكرة العامل، إلى المنهج القائم على تضافر القرائن، استنادا إلى مبدأ تقديم المعنى على المبنى. إلا أنه حري بنا القول في هذا السياق إن من دوافع التعسف في الحكم على التراث تهافت بعض الباحثين في إسقاط نتائج الدراسات اللغوية الحديثة على الدرس القديم، إسقاطا لا اعتبار فيه للنسق الثقافي العام الذي يخص كلا منهما، ولا للمنظومة الفكرية التي أفرزتهما، حتى إنه كلّما عنت للوجود نظرية جديدة لدى الغرب تبعتها دراسات عربية تحاول إثبات وجود هذه النظرية في التراث، فذهبوا حينا إلى إثبات بنيوية الجرجاني، وادعوا وظيفيته حينا آخر، وزعموا في أخرى أن نظريته هي نظرية في أفعال الكلام. ذلك أن منهم
« من يفترض أنه ما من نصوص أو نظريات تستحدث إلا ويعتبر التراث قد سبق إليها، إذ لا يستوجب الأمر إلا أن نحسن التنقيب فيه لنعثر على هذه المستجدات، ونضع أيدينا عليها » (الحيرش 2013 : 40).
والمفارقة عند هؤلاء أنهم يعتقدون الكمال في التراث لكنهم لا يدركون فيه نظرية من النظريات إلا بعد استقرارها عند الغرب، وربما يكون الغرب قد استفاد من تراثنا لكنه نظّر وأتمَّ وطوّر،
« أضف إلى ذلك أن معرفة واحدة تصير عندهم حمالة لأوجه متعارضة؛ فالنحو العربي القديم- مثلا- هو نحو بنيوي، وأسبق من البنيوية في مرحلة، وهو أيضا نحو توليدي، وأسبق من التوليدية في مرحلة أخرى... ويمكن في هذا السياق الإحالة على (عبده الراجحي، (1979) فقه اللغة في الكتب العربية)، و(نهاد الموسى، (1980) نظرية النحو العربي في ضوء مناهج النظر اللغوي الحديثا ». (الحيرش 2013 : 40)
والاعتقاد عندنا أن هذه النظرة إنما هي وليدة الخلط بين السياقات التكوينية المختلفة التي ولدت في أحضانها النصوص، لذلك فإنه من الواجب إن رمنا محاكمة النحو العربي أن نفعل ذلك في إطار الاعتداد بسياقه التكويني الذي أفرزه. وأن ذلك ليس تشجيعا على العزوف عن التنقيب في التراث والوقوف عليه من نافذة العصر في شك وتردد، ولا دعوة إلى تقديسه والادعاء باكتماله الذي ينسحب على كل جديد، إنما هي محض دعوة إلى التنقيب الرشيد، الذي يعتد بالسياق وحيثياته، وينأى عن الإسقاط والتسرع في إصدار الأحكام، تحت وطأة ما يعيشه العقل العربي من ثقافة الشرخ بين الجذور الثقافية العربية والثقافات الغربية.
3.1. التعليق والفعل الكلامي غير المباشر
من أهم المفاهيم في نظرية التعليق ما يسمى بمعنى المعنى، بل لعله أساس النظرية وقوامها، والمعنى عند الجرجاني هو المفهوم من ظاهر اللّفظ، والّذي نصل إليه بغير واسطة، ومعنى المعنى أن يُعقل من اللّفظ معنىً ثمّ يفضي ذلك المعنى إلى معنًى آخر (الجرجانيّ 1992 : 263) ويسوق الجرجاني لذلك أمثلة منها قول أبي تمّام :
لعابُ الأفاعي القاتِلاتِ لعابُهُ***وأَرْيُ الجَنى اشتارته أيدٍ عواسِلُ
فمن جهة الألفاظ؛ الأري : العسل، واشتارته : جنته من الخلايا، والعواسل : التي تطلب العسل. وأما من جهة المعنى ومعنى المعنى فيقول الجرجاني :
« إن قدَّرتَ[...] أن « لعاب الأفاعي » مبتدأ، و« لعابُه » خبر، كما يوهمه الظّاهر، أفسدتَ عليه كلامه، وأبطلت الصّورة الّتي أرادها فيه، وذلك أنّ الغرض أن يشبّه مداد قلمه بلعاب الأفاعي، على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات أتلفَ به النفوسَ، وكذلك الغرضَ أن يشبّه مداده بأرْي الجنى، على معنى أنه إذا كتب في العطايا والصّلات أوصل به إلى النّفوس ما تحلو مذاقتُه عندها، وأدخل السّرور واللّذة عليها، وهذا المعنى إنّما يكون إذا كان (لعابه) مبتدأً و(لعاب الأفاعي) خبرًا. فأمّا تقديرك أن يكون (لعاب الأفاعي) مبتدأً و(لعابه) خبرًا، فيبطل ذلك ويمنع منه البتة، ويَخرُج بالكلام إلى ما لا يجوز أو يكون مرادًا في مثل غرضِ أبي تمّام، وهو أن يكون أراد أن يشبّه لعاب الأفاعي بالمداد، ويشبّه كذلك « الأرْىَ » به. فلو كان حال الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض كحال غزل الإِبريسَم، لكان ينبغي أن لا تتغيّر الصّورة الحاصلة من نظم كلمٍ حتّى تزال عن مواقعها، كما لا تتغيّر الصّورة الحادثة عن غزل الإبريسم بعضه إلى بعض، حتّى تُزال الخيوط عن مواضعها » (الجرجانيّ 1992 : الصفحات 371-372)
ويتضح من كلام الجرجاني أن هناك دلالتين متولدتين من تعليق المعاني؛ دلالة مباشرة متحصلة من ظاهر اللفظ، ودلالة غير مباشرة لا يكفي اللفظ وحده لتحصيلها، بل تتخذ الدلالة الأولى واسطة للوصول إلى معنى آخر يعبر عن قصدية المتكلم، وهو ما كان فيه السبق لعبد القاهر الجرجاني حتى عن علماء هذا العصر، أمثال رتشاردز وأوغدن في كتابهما « معنى المعنى » « Meaning of meaning » سنة 1923، و« جون سيرل » فيما سماه « الفعل الكلامي المباشر والفعل الكلامي غير المباشر »، باعتبار أن « تصور النوع الثاني من الأفعال تصورا كافيا لن يتأتى إلا بتصور النوع الأول » (أدراوي 2011 : 71) وأنه كلما « وجدت علاقة مباشرة بين البنية والوظيفة نحصل على فعل كلام مباشر، بينما كلما وجدت علاقة غير مباشرة بين البنية والوظيفة نحصل على فعل كلام غير مباشر » (يول 2010 : 92) مما يعني أن الفعل الكلامي المباشر يتطابق فيه المعنى اللغوي للملفوظ مع قصدية المتكلم (Searle 1982 : 7) بوصفه مصاغا صياغة صريحة - بتعبير اوستين- وهو ما يجعل إنجازيته واضحة، يستغنى في إدراكها عن التأويل، أما في الفعل الكلامي غير المباشر فيختلف المعنى الصريح للجملة عما قصده المتكلم، مما يدفع المتلقي إلى التأويل، مستعينا في إدراك إنجازية الفعل بالسياق، بما فيه العرف اللغوي، الذي يعده التداوليون أهم ((ملمح رئيس للتمييز بين ما هو مباشر وما هو غير مباشر)) (العبد 2005 : 289)، وأكد أيضا « أوستين » من قبل على ما يكتنف بعض الأفعال الكلامية من غموض، بسبب توسطها بين الصيغة الصريحة والأولية، والذي دفعت إليه عوامل سياقية كثيرة كالعرف اللغوي وعوامل الزمان والمكان والنبر والتنغيم وحركات الجسم وغيرها من الوسائل المعقدة (أوستين 1991 : 91) وهو ما دفعه إلى التصريح قائلا : « اكتشفنا بعد ذلك أنه ليس من السهل في غالب الأحوال أن نتأكد من أن العبارة المتلفظ بها حتى وإن كانت صورتها في ظاهرها صريحة، لا ندري هل هي متمحضة للإنشاء أم لا » (أوستين 1991 : 110) وهو ما عد حديثا فتحا علميا لم يسبق إليه، والحقيقة خلاف ذلك، إذ أثبتت كثير الدراسات أن منهج العلماء العرب منهج تداولي، وأن تعاملهم مع النصوص شاهد على أصالة هذا المنهج في المنظومة الفكرية العربية (صحراوي 2005 : 49) و(صحراوي 2011 : 47)
و« أنّ ما توصلوا إليه من نتائج يشهد لهم بمستوى من الوعي العلمي الدقيق، يضاهي مستوى معاصريهم من أصحاب العلوم العقلية؛ ويؤكد ذلك إمكان صوغ دقائق أحكامهم واستنتاجاتهم صوغا مضبوطا، قد لا يتأتى مثله لبعض تأملات أهل النظر العقلي من معاصريهم » (عبد الرحمن 2000 : 151)
2. التعليق وتنظيمه
1.2. التعليق والنظم
النظم في اللغة التأليف، نظمه ينظمه نظما ونظاما، ونظمه فانتظم وتنظم. يقال : نظم اللؤلؤ أي جمعه في السلك، ونظم الشيء : قرنه بآخر أو ضم بعضه إلى بعض. والنظام ما نُظم فيه الشيء من خيط وغيره (ابن منظور 1414هـ : 578) والنظم في الاصطلاح ترتيب داخل الجملة، وهو حاصلُ ترتيبٍ لدلالات الألفاظ داخل العقل. فالألفاظ لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فتذوب المعاني المفردة في معنى الجملة، « فتصير المعاني معنى واحدا، والألفاظ كأنها لفظة واحدة » (الجرجانيّ 1992 : 414). يقول الجرجاني : « إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني، وتابعة لها، ولاحقة بها، فتجدك تقتفي في نظمها آثار المعاني، وترتبها على حسب ترتيب المعاني في النفس ». (الجرجانيّ 1992 : 414)
إن النّظم عند الجرجاني لا يعني ضمّ الشّيء إلى الشّيء باعتبار صحة الكلام وسلامته، بحسب ما تقتضيه قواعد الوضع اللغوي وحسب، وإنما يُهتم فيه بالألفاظ المفردة من جهة، والألفاظ حين دخولها في التركيب من جهة أخرى، فهو نظم للكلم وترتيبٌ له على حسب ترتيب المعاني في نفس المتكلم، فتنساق دلالاتها وتتلاقى معانيها على الوجه الّذي يقتضيه العقل، حتى يعلق ببعض ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك (الجرجاني 1992 : 51). ووجوه التعلّق عند الجرجاني ثلاثة : تعلق اسم باسم، وتعلق اسم بفعل، وتعلق حرف بهما، ونظم الكلام إنما يترتب حسب ترتيب المعاني في النفس (الجرجانيّ 1992 : 4)، وهو « التعليق »، ومن ثمّ فإن الفرق بين التعليق والنظم أن التعليق ترتيب لدلالات الألفاظ داخل العقل، أي بين معاني الكلمات وليس بين الكلمات نفسها، أما النظم فترتيب بين الكلمات داخل الجملة.
والعلم الذي يكفل إقامة العلاقات بين الكلمات بحسب ما تم تعليقه من دلالات في عقل المتكلم – حسب الجرجاني- هو علم النحو، يقول الجرجاني : ((فليس النّظم إلاّ أن تضع كلامك الوضع الّذي يقتضيه علم النّحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف منهجه الّذي نهجت فلا تزيغ عنه، وتحفظ الرّسوم الّتي لك فلا تخلّ بشيء منها)) (الجرجانيّ 1992 : 81). فلا معنى للنظم غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، أو -بتعبير آخر- فيما بين معاني الكلم، فينتج « النظم » الذي هو نتاج عملية التعليق. ويقول :
« فلست بواجدٍ شيئًا يرجع صوابه إن كان صوابًا، وخطؤه إن كان خطأً إلى النّظم ويدخلُ تحت هذا الاسم إلاّ وهو معنىً من معاني النّحو[...] فلا ترى كلامًا قد وصف بصحّة نظمٍ أو فساده، أو وصف بمزيةٍ وفضل فيه، إلاّ وأنت تجد مرجع تلك الصّحة وذلك الفسادِ وتلك المزية وذلك الفضلُ إلى معاني النّحو وأحكامِهِ، ووجدته يدخل في أصلٍ من أصوله، ويتّصلُ ببابٍ من أبوابه » (الجرجانيّ 1992 : 82-83)
2.2. التعليق والنظم بين التجديد والتأكيد
من أهم المحاذير التي دعتنا لبحث هذه المسألة أن التسليم بابتكار الجرجاني للتعليق والنظم يترتب عنه إثبات لجدة المفاهيم ووجود التعارض بين الجرجاني وسابقيه، وأن إثبات وجود هذه المفاهيم قبل الجرجاني من شأنه التخفيف من وطأة التهم اللائطة بالنحو العربي، رغم أن بحث هذه المسألة يعترضه تداخل المفاهيم والمصطلحات، فإثبات وجود مصطلح النظم قبل الجرجاني لا يعني النحوَ بالضرورة، بل قد يعني علم المعاني، إلا اذا ثبت تبني النحاة له قبل الجرجاني، لذلك يبقى ادعاؤنا بدوره مفتقرا إلى بيان ما يقصده الجرجاني بالنحو، فهل يقصد به العلم الذي يهتم بتركيب الكلم في حدود المعاني الأول؟ أم يقصد به علوم العربية؛ نحوا وبلاغة؟ وذلك لكي يتسنى لنا اعتبار الإجابة قاعدة اتفاق، يشرع لنا الاستناد إليها في مناقشة بقية المسائل المتعلقة بهذا الموضوع.
يزعم بعض الدارسين أن نظرية النظم نظرية مبتكرة، وأن صاحبها حاز قصب السبق فيها، ويخالفهم في ذلك آخرون، أما الرأي في اعتقادنا فهو الوجود مع الاختلاف والتميز، فالنظم كان معروفا عند السابقين لكن وجوده مع الجرجاني كان وجود انتظام واكتمال واستقلال وممارسة، لا وجود خلق وابتكار، وأنه كان خلاصة تراكم معرفي لا يخلو من فضلٍ للسابقين، فالجرجاني نفسه يصرح بإفادته ممن قبله في مسألة النظم، فيقول :
« وقد علمتَ إِطباقَ العُلماءِ على تعظيمِ شأنِ النَّظْمِ وتفخيمِ قَدْرِه، والتَّنويهِ بذكرهِ، وإِجماعِهم أن لا فضل مع عدمه، ولا قدر لكلام إذا هو لم يستقم له[...] وأنه القطب الذي عليه المدار، والعمود الذي به الاستقلال » (الجرجانيّ 1992 : 80)
ومن النصوص التي أشارت للنظم قبل الجرجاني نصٌ لابن المقفع في كتاب « الأدب الصغير والأدب الكبير »، جاء فيه :
« فإذا خرج الناس من أن يكون لهم عمل أصيل وأن يقولوا قولا بديعا، فليعلم الواصفون المخبئون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائدا على أن يكون كصاحب فصوص؛ وجد ياقوتا، وزبرجدا ومرجانا، فنظمه قلائد وسموطا وأكاليل، ووضع كل فص موضعه، وجمع إلى كل لون شبهه، وما يزيده بذلك حسنا، فسمي بذلك صانعا رفيقا » (ابن المقفع د.ت : 13)
كما تناول النظمَ عدد من النحاة والبلاغيين والأدباء ومؤلفي كتب الإعجاز، إلا أن آراءهم لم ترق إلى الحد الذي يجعل النظم مبدأ قارا في التحليل.
ورغم شيوع مفهوم النظم عند العلماء إلا أن ذلك لم يحدث إلا في القرن الرابع الهجري عندما ازدهرت دراسات إعجاز القرآن الكريم، ذلك أن
« الجدال الذي قام حول الإعجاز في القرن الرابع الهجري قد أعاد الحياة من جديد إلى التفكير البلاغي بمقابلته بين بلاغة العبارة وبلاغة النظم، وكان سببا في ظهور طريقتين في البحث البلاغي : طريقة تتمثل في تفكيك النص لعزل الأساليب التي تعتبر وحدها حاملة للبلاغة، وطريقة تعتمد وحدة النص والالتحام الموجود بين أجزائه، ولا يتصور أصحابها بلاغة خارجة عن ذلك » (الضامن 1979 : 4)
والجدير بالذكر أن كثيرا من تلك المؤلفات سقط من يد الزمن، مثل : كتب الحسن بن علي بن نصر الطوسي (ت308هـ)، وابن زيد البلخي (ت322هـ)، وأحمد بن علي بن الإخشيدي (ت326هـ) (ارفيس 1960 : 11)
ويقول الجرجاني في تصور العلماء قبله للنظم : إنه
« كانَ عندَهُم نظيراً للنَّسجِ والتّأليفِ والصياغةِ والبناءِ والوَشْيِ والتّحبير وما أشبه ذلك، مما يوجبُ اعتبارَ الأجزاءِ بعضِها معَ بعضٍ، حتىّ يكونَ لوضعِ كلٍّ حيثُ وُضعَ علّة تَقْتضي كونَه هناك، وحتى لو وُضعَ في مكانٍ غيرِه لم يَصلح » (الجرجانيّ 1992 : 49)
ممّا يثبت أن مفهوم النظم كان حاضرا عند السابقين، متعارفا عليه بينهم، حتى مع غياب الاتفاق في المصطلح، يقول الجرجاني :
« إلاّ أنهم وإن كانوا لم يستعملوا النَّظمَ في المعاني، قد استعملوا فيها ما هوَ بمعناهُ ونظيرٌ له، وذلك قولُهم : إنه يرتبُ المعاني في نفسِه، ويُنَزلها ويَبني بعضَها على بَعضٍ. كما يقولون : يرتبُ الفروعَ على الأُصولِ، ويُتبعُ المعنى المعنى، ويُلحقُ النَّظيرَ بالنظير » (الجرجانيّ 1992 : 53)
وهو ما يعلل قلة وجود مصطلح النظم في كتب النحو والبلاغة والنقد قبل الجرجاني، وأنه مع ذلك يوجد فيها ضرب من الإجماع الذي أخبر به الجرجاني من جهة مفهوم النظم لا لفظه، ويثبت من جهة أخرى أن مفهوم النظم عند العلماء قبل الجرجاني وتعارفهم عليه كان مفتقرا للإطار النظري المستقل الذي يبرزه كيانا قائم الذات، فقد كان السابقون يدركون مزية وضع الكلمات موضعا دون سواه، وتباين بلاغة العبارات بتباين درجات التناسب بين الكلمات، غير أن طرحهم بقي طرحا يدرك وجود الظاهرة، ولا يصل إلى شرح دقائق أسبابها وعللها، والقانون الذي يحكمها، مثلما فعل الجرجاني معتمدا المزج البديع بين الذوق والمعرفة، وبين القاعدة والجمال، وبين ترتيب الكلم بما يقتضيه القانون وحسن موقع ذلك من السمع، ذلك « أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع، ولا يجد لديه قبولا، حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة » (الجرجانيّ 1992 : 291)
3.2. التعليق بين النظام والاستعمال
تستند نظرية النظم إلى التفريق بين الكلام وفق ما تقتضيه قواعد اللغة ونظامها، وبين الكلام وفق ما يقتضيه السياق، فالألفاظ المفردة تدل على معان مجردة لا محددة، والتركيب بينها بحسب ما تقتضيه السلامة من اللبس لا يدل على معنى دقيق جميل، وإنما يدل على معنى عام تشترك فيه عدة وضعيات، أما السياق فهو وحده الكفيل بإخراج دلالات الألفاظ من التجريد إلى التحديد، ويؤدي نظم الألفاظ وفقه إلى معنى محدد بليغ، يعبر بدقة عن مقاصد المتكلم في سياق بعينه، فالسياق إذن هو الباعث على النظم لدى المتكلم، والمحدد للدلالة لدى المتلقي في نفس الوقت، وهو أيضا الذي يحكم على اللفظة بالحسن أو القبح؛ لأن الاستعمال هو مجال عمل الألفاظ ووجودها وتأثيرها، والحكم عليها يتم من خلال الفعل والوظيفة. وهي مسألة مهمة تتعلق بالمؤشرات، وبما تحمله من قيمة تداولية تتعلق بالتصور الخطابي للنص، والمؤشرات عند التداوليين وحدات لغوية تتموضع داخل الملفوظ ويتم عبرها ارتباط الملفوظ بمقامه التلفظي، فيبني النص من خلالها مقام تلفظه الخاص، مثل الروابط الشخصية المتصلة والمنفصلة، وأسماء الإشارة، والروابط الزمانية، والروابط المكانية...إلخ (Maingueneau 2002 : 88) ويتصور الجرجاني هذه العناصر الإشارية في النص من جهة أن معنى الملفوظ لا يكون قابلا للقبض في غياب الإحالة على مقام التلفظ، وهو ما يدفع بالمتلقي إلى إعادة بناء المقام، انطلاقا مما توفره لغة النص، وصولا إلى قصدية المتكلم، وهو بذلك يربط في تحليله الخلفية المعرفية بالمكونات النسقية والعناصر السياقية « لقطع مسافة خطابية موجهة زمنيا بانسجام » (Maingueneau 2001 : 27) يتناسب فيها المعنى الباطن مع ما يوفره المبنى الظاهر.
لم يكن النحو عند الجرجاني مجرد قواعد ضابطة للمستوى التركيبي الشكلي في اللغة وحسب، أو العلم الذي يبحث في أواخر الكلمات، وإنما النحو في نظره متعلق بالمعاني وباللغة أثناء الاستعمال، ولا انفصال بينه وبين سياق الكلام، فإليه ترد المعاني، وبه تعلل جودة الكلام وجماله، أو ضعفه وقبحه. وهو ما يحيلنا إلى المفاهيم المعاصرة لمصطلحي النص والخطاب، فالنص من المنظور التداولي ليس ما يقابل الشفوي ويطابق المكتوب، وإنما ما يقابل الخطاب من جهة السياق، فالخطاب سياقي، أو بتعبير آخر هو نص في سياق، والتداولية ترفض الاقتصار في تحصيل الدلالة على أحد أطراف الخطاب، وتسعى إلى تحليل الخطاب في ظل العلاقة القائمة بينهما (Charaudeau 2002 : 201-202) وأن أساس تلك العلاقة هو التفاعل الخطابي الذي هو « سلسلة من الأحداث يكون فيها عِدَّة أشخاص هم المعنيين بوصفهم فاعلين » (دايك 2001 : 128). إلا أنه يجب التأكيد في هذا السياق أن حديثنا عن النص والخطاب في التراث في ضوء مخرجات الدرس الحديث لا نقصد به التطابق بقدر ما نقصد به ملامح التشابه العامة لا الخاصة، وأنهما يتشاكلان في المسار التنظيري والإجرائي، ذلك أن الاستقلالية الفكرية للتراث العربي واكتماله الإبستمولوجي تكسبه التميز عن غيره والاتفاق معه في نفس الوقت، بعيدا عن التماهي والذوبان، وهو ما يكسب بحثَنا الشرعية والإمكان.
ومثلما تتبدى العلاقة بين التعليق والاستعمال اللغوي في السياق فإنها تتجلّى من جهة أخرى في علاقة المقاصد بالملفوظات، وهو فكر أصيل لدى العلماء العرب، رغم الاستثناءات المسجلة عند بعض المتأخرين هنا وهناك، خاصة حينما طرح الفقهاء مسألة الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، باعتبار الوجود السابق للألفاظ عن المعاني بالنسبة للمتلقي، فأضحى ذلك مدخلا للدراسة الشكلية للغة، أو ما سماه الأصوليون الوضع اللغوي، غير أن عدم انفصال مقاصد المتكلمين عن البنية اللغوية للنص يعيد مفهوم الاستعمال للواجهة بعد مفهوم الوضع، أي إعادة الاعتبار للسياق، الذي بدونه لا يمكن الوصول إلى تلك المقاصد.
مسألة أخرى تبدو لنا وجيهة من الناحية العلمية في علاقة التعليق بالنظام والاستعمال، تتعلق بتقسيم بعض العلماء للأسلوب إلى عدة أساليب، باعتبار زاوية النظر إليه، مثلما يترتب إذا نُظر إلى الأسلوب من زاوية تختلف عن اعتبارات القيم الجمالية، أو من جهة تعبيره عن المتكلم، فيتم تناوله من جهة العدول الذي يطرأ على النسق المطرد للنص، أو أصل الجملة الذي يسميه السكاكي « متعارف الأوساط » والذي يعبر عن « أوساط الناس » (السيوطي د.ت : 294) و(السكاكي 1987 : 175) ليس في الجانب الكمي فقط، وإنما في نوع الكلام، باعتبار أن الكمّ في الظواهر اللغوية الحادثة - زيادة أو نقصا - يؤدي إلى تغيير في وقوع الكلام. ومقياس العدول هذا - والذي هو قابل للضبط – هو الجملة في مظهرها الخبري الابتدائي البسيط المجرد، باعتبارها من جهة النظام مفيدة معنى في ذاتها، وبصرف النظر عن استخداماتها القولية المختلفة المرتبطة بالاستعمال، أي بالمقامات المختلفة، لم تتوخ فيها زيادة ولا نقصان بالنسبة إلى صورتها الخبرية الابتدائية المذكورة. فإذا زيدت بتأثير الاستعمال لفظا لإفادة معنى زائد على معناها الأصلي الذي في صورتها الخبرية الابتدائية تلك، سمي ذلك عدولا كميا بالزيادة، وإذا أنقص منها بفعل الاستعمال المقامي أيضا لفظ لقصدية ما سمي ذلك عدولا كميا بالنقصان (صولة 2011 : 116) وعلى هذا فالتعليق عند الجرجاني قائم على النظام، متأثر بالاستعمال. ولذلك تطالعنا كتب الأوائل بما دار بين المبرد والفيلسوف الكندي في الفرق بين : « عبد الله قائم »، و« إن عبد الله قائم »، و« إن عبد الله لقائم »؛ فزيادة المؤكدات هي عدول بالزيادة لزيادة معان إضافية بالنسبة إلى المعنى الأصلي في الجملة الخبرية الابتدائية، اقتضاها المقام، فحدث تعليق بين المعاني على مستوى عقل المتكلم، في الوقت الذي تكتفي فيه الجملة الأصلية بشرطي الإفادة والاستقلال، ولذلك كان المعنى بحسب النظام هو المعنى الأصلي أو المظهر الخبري الابتدائي البسيط المجرد، والجملة الأصلية هي المفيدة معنى في ذاتها، بعيدا عن استعمالها في المقامات المتعددة، خلافا للمعنى الاستعمالي الناتج عن عملية التعليق الذي تتوخى فيه الزيادة والنقص في الجملة الأصلية بتأثير المقام لإفادة معنى زائد عن المعنى الأصلي، ولذلك يستمد التعليق قوانينه الضابطة من النظام اللغوي في مجال الأصل، ويشتغل في مجال علاقة المقال بالمقام أو ما يسمى بالاستعمال.
إن نظرية التعليق نظرية في الاستعمال اللغوي الذي يحكم بناء الجملة في المقامات المختلفة، أما أبواب النحو – بحسب تقسيمات المتأخرين - فهي القوانين الجزئية التي تحكم قواعد البناء، وهي صورة تعكس ما كان عليه تصور الجرجاني وما ساد بعده من تصورات، دون أن يعني ذلك انفراد الجرجاني بمزية الطرح دون سواه، فقد كانت هذه النظرة الكلية سائدة عند كثير من سابقيه، إلا أنها كانت مفاهيم وتصورات تعوزها الصياغة النظرية والاكتمال المعرفي، إلى أن جاء الجرجاني واستفاد من أمثال الجاحظ وابن جني وابن قتيبة والسيرافي والرماني والفارسي والباقلاني وغيرهم.، وأتم البناء.
3. التعليق وعلاقته بالنحو والبلاغة
1.3. التعليق وتوخي معاني النحو
استفاد عبد القاهر الجرجاني من سابقيه أمثال سيبويه وأبي علي الفارسي، ومن مناظرات متّى بن يونس وأبي سعيد السّيرافي وغيرهم فحاز مكانة متميزة بين النّحويين (شهبة 1407هـ : 95) واستطاع بتعدد معارفه ودقة نظره ورقة ذوقه وشمولية تصوره أن يوسع مفهوم النّحو، ويرده إلى مجاله الأوسع، بعد التضييق الذي طاله بفعل اهتمام بعض العلماء بالمسائل الشكليّة، وتتّبعهم للحركات الإعرابية، يقول الجرجانيّ :
« لن ترى على ذلك نوعًا من العلم قد لقي من الضّيم ما لقيه، ومُني من الحيف ما مني به[...] ترى كثيرًا منهم لا يرى له معنى أكثر مما يرى للإشارة بالرّأس والعين، وما تجده للخطّ والعقد » (الجرجانيّ 1992 : 6)
فصار الإعراب مع الجرجاني عنوانًا للأدب والثّقافة العالية والتّهذيب الكامل (المراغي 1995 : 47-48)، ويؤكد عبد القاهر الجرجاني أن صنيع الذين يحتقرون النحو ويزهدون فيه ((أشبه أن يكون صدًّا عن كتاب الله وعن معرفة معانيه، ذلك لأنّهم لا يجدون بدًّا من أن يعترفوا بالحاجة إليه فيه، إذ كان قد علم أنّ الألفاظ مغلقة على معانيها حتّى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وأن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرجَ لها[...] ولا ينكرُ ذلك إلاّ من ينكر حسَّه، وإلاّ من غالط في الحقائق نفسه)) (الجرجانيّ 1992 : 28).
إن النّحو عند الجرجاني مقياسٌ يستقيم به الكلام، ويكشف به عن القصد، و
« لا يُتصوَّرُ أن يتعلّق الفكر بمعاني الكلم أفرادًا ومجرّدةً من معاني النّحو، فلا يقوم في وهمٍ ولا يصحّ في عقلٍ أن يتفكّر متفكّرٌ في معنى « فعلٍ » من غير أن يريد إعماله في « اسم »، ولا أن يتفكّر في معنى « اسمٍ » من غير أن يريد إعمال « فعلٍ » فيه، وجعلَه فاعلاً له أو مفعولاً » (الجرجانيّ 1992 : 410)
ويضرب في ذلك للقارئ مثالا بيت بشار بن برد :
كأنّ مُثار النّقعِ فوق رؤوسنا***وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه
فيقول :
« هل يُتَصوّر أن يكون بشّار قد أخطر معاني هذه الكلم بباله أفرادًا عاريةً من معاني النّحو الّتي تراها فيه، وأن يكون قد وقع (كأنّ) في نفسه من غير أن يكون أراد إضافة الأوّل إلى الثّاني، وفكّر في (فوق رؤوسنا) من غير أن يكون قصد إيقاع التشبيه منه على شيء[...] وفكر في (فوق رؤوسنا) من غير أن يكون قد أراد أن يضيف « فوق » إلى « الرّؤوس »، وفي (الأسياف) من غير أن يكونَ أرادَ عطفها بالواو على (مثار)، وفي (الواو) من دون أن يكون أراد العطف بها، وأن يكون كذلك فكّر في (اللّيل) من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرًا لـ (كأنّ)[...] أم لم يُخطِر هذه الأشياءَ بباله إلاّ مرادًا فيها هذه الأحكام والمعاني الّتي تراها فيها؟ » (الجرجانيّ 1992 : 412)
ومن ثمّ فإنه ينتفي أن يقصد المتكلم معنى كلمة دون أن يتعلق بها معنى كلمة أخرى، وأن ذلك إنما هو لغاية تبليغ معنى للمتلقي مستفادٍ من الخطاب في كليته، وليس من معاني الكلم المفردة.
2.3.التعليق بين النحو والبلاغة
يربط الدارسون بين التعليق والبلاغة، وترتبط البلاغة عند الجرجاني بالنحو، فالبيان عنده من مُقتَضياتِ النّظمِ، والنّحو يشمل علم المعاني، ويتجاوز القواعد الضابطة إلى الجمال والفن. يقول الجرجاني :
« الاستعارَةُ والكنايةُ والتّمثيل، وسائرُ ضروبِ المَجازِ من بَعدِها من مُقتَضياتِ النّظم، وعنه يحدُثُ وبه يَكون، لأنّه لا يُتَصَوّرُ أن يدخُلَ شَيٌ منها في الكلم وهي أفرادٌ لم يُتَوَخَّ فيما بينها حكمٌ من أحكامِ النّحو، فلا يُتَصَوّرُ أن يكونَ ها هُنا فعلٌ أو اسمٌ قد دخلته الاستعارةُ من دونِ أن يكونَ قد أُلِّف مع غيره » (الجرجانيّ 1992 : 393)
ويضرب مثلا في الاستعارة كلمة « اشتعل » في قول الله تعالى : ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبًا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾[مريم : 4] إن قُدِّرَ فيها
« أن لا يكونَ (ٱلرَّأۡسُ) فاعلاً لهُ، ويكونُ (شَيۡبًا) منصوبًا عنهُ على التّمييز، لم يتصوّر أن يكون مستعارًا؟ وهكذا السّبيلُ في نظائر « الاستعارَةِ » » (الجرجانيّ 1992 : 393).
وفي باب الحذف يقول في قول الله تعالى : ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسۡقِي حَتَّى يُصۡدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيۡخٌ كَبِيرٌ(23) فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إلى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنْ خَيۡرٍ فَقِيرٌ(24)﴾[القصص : 23-24] :
« فيها حذف مفعول في أربعة مواضع، إذ المعنى : (وجد عليه أمة من الناس يسقون) أغنامهم أو مواشيهم، و(ٱمۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِ) غنمهما و(قَالَتَا لَا نَسۡقِي) غنمنا، (فَسَقَىٰ لَهُمَا) غنمهما. ثمّ إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كلّه إلا أن يترك ذكره ويؤتى بالفعل مطلقا، وما ذاك إلّا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي، ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتا : لا يكون منّا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي. فأمّا ما كان المسقيّ؟ أغنما أم إبلا أم غير ذلك، فخارج عن الغرض، وموهم خلافه. وذاك أنه لو قيل : (وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما)، جاز أن يكون لم ينكر الذّود من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذّود، كما أنك إذا قلت : (مالك تمنع أخاك؟)، كنت منكرا المنع، لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الرّوعة والحسن ما وجدت، إلّا لأن في حذفه وترك ذكره فائدة جليلة، وأن الغرض لا يصحّ إلّا على تركه » (الجرجانيّ 1992 : 161)
التعليق عند الجرجاني يكون وفق ما يقتضيه علم النحو، والنحو علم لا ينفصل عنده عن البلاغة وعن فنّ القول الفصيح، فهو وسيلةٌ من وسائل التّصويرِ والصّياغَة، ومقياسٌ يهتدى به في البراعة، والمعاني الّتي يكشفها النّحوُ هي الألوان النّفسيةُ الّتي ندركُها من علاقات الكلم ببعضه، ومن استخدام المبدع للّغة استخدامًا يخلق من ترابط الألفاظ نسيجًا حيّا متشعّبًا من الصّور والمشاعر والخيال (الصّاوي 1978 : 162) و(هلال 1997 : 278) وليس علمًا مقتصرا على ضبط أواخر الكلم، أو جملة قواعد وقوانين تهتم بالمعاني الأولية التي تصح بها التراكيب أو لا تصح.
خاتمة
توصلنا في خاتمة بحثنا إلى نوعين من النتائج؛ نتائج انتهى إليها عبد القاهر الجرجاني وأسهم البحث في استخلاصها، ونتائج توصل إليها البحث.
أما النتائج التي انتهى إليها الجرجاني فأهمها :
-
أن الألفاظ أوعية للمعاني وخدم لها، وأنه مع ذلك لا يمكن الفصل بينهما.
-
أن تعليق معاني الكلمات يكون وفق ما يحكم به العقلُ، وأنه يجب وضع الكلام وضعا يقتضيه النحو.
-
أن البيان من مُقتَضياتِ النّظم، والنّحو يشمل علم المعاني، ويتجاوز القاعدة إلى الفن.
-
أن النّحو مفهوم واسع يتجاوز الاهتمام بدراسة أواخر الكلم وضبطها وفق قواعد معيارية، وأنه وثيق الاتصال بعلم المعاني، وأن وظيفته بيانية، وأن المجاز ذاته صناعة نحويّة بوصفه مقتضىً من مقتضيات النّظم.
-
ومن النتائج التي توصل إليها البحث :
-
أن الجرجاني رغم تأكيده على أن النّظم ليس إلاّ وضعَ الكلام الوضع الّذي يقتضيه علمُ النّحو، فإنه في نفس الوقت لا يرفض الجانب الشكلي أو المعياري في النحو، بل إننا نلفيه يتبنى نظرة موسعة تستوعب الشكل والدلالة، فلم ينكر العامل ولا العلّة، ولم يعلن نظريته نظرية ثورية، مثلما يروِّج له البعض اليوم، بل نجده موضحا وموسعا، يضيف ولا يهدم، مؤكدا على أهمية النحو وخطورته، وفي نفس الوقت مُكْبرا جهود سابقيه، معترفا بفضلهم.
-
أن النظم مفهوم حاضر عند السابقين، متعارف عليه بينهم، وأن وجود نظرية النظم مع الجرجاني إنما هو وجود انتظام واكتمال واستقلال، وليس وجود خلق وابتكار، وأن التعليق بدوره معلوم قبل الجرجاني، إلا أنه علمٌ بوجود الظاهرة، دون شرح لأسبابها وعللها، وأن فضل الجرجاني متمثل في توضيح الأسباب والدقائق والعلل، والوصول إلى القانون الذي يحكم الظاهرة، واستبيان أثرها في جمالية الكلام وإعجازه.
-
أنّ ارتباط النظم بالنحو عند الجرجاني، وشيوع هذا المفهوم عند العلماء قبله يجعلنا نؤكد أن النحو عند العلماء العرب -على الأقل حتى عصر الجرجاني- لم يكن يعنى بالترتيب الشكلي واللفظي، بل يعنى بالتركيب في كليته، بما فيه الخصائص الشكلية والدلالية. أما ما شاع من عناية النحو بما هو شكلي ففقد كرسه بعض المتأخرين، حينما اعتبروا الترتيب النحوي غير متعلق بما هو جمال وبيان، وأنه يهتم بترتيب الألفاظ وفق منهج منطقي عقلي مجرد.
-
أن التعمق في مباحث النحو - خاصة في القرون الأولى - يجعل التفريق بين الدراسة الشكلية والدراسة الدلالية أمرا صعب التصور، ويجعلنا في موقف يصعب فيه الادعاء بأن التصنيفات النحوية العربية شكلية فقط، أو إنها دلالية فقط، والأحرى أن نصفها بالشكلية والدلالية في نفس الوقت.
-
أن التعليق يعنى بالمعاني والمقاصد وباللغة أثناء الاستعمال، ولا انفصال بينه وبين سياق الكلام، وعلى أساسه يكون النظم الذي تعزى له جودة الكلام وجماله، أو ضعفه وقبحه. كما تتبدى العلاقة بين التعليق والاستعمال اللغوي في علاقة المقاصد بالملفوظات من جهة، وبالسياق من جهة أخرى، وهو ما أكدت عليه الدراسات التداولية المعاصرة.
-
أن تهافت بعض الباحثين إلى سحب التراث لسياق النظريات الغربية المعاصرة، وإسقاطه عليها إسقاطا يلغي كل خصوصية هو عملية خاطئة، وأن التراث -بما فيه نظرية التعليق- له خصوصيته العلمية وسياقه المعرفي، ومنظومته الفكرية التي تميزه عن غيره من النظريات الغربية المعاصرة.
-
وبالمقابل لا تعتبر الدعوة إلى حفظ خصوصية التراث ضربا من ضروب الرفض لنظريات الغرب، وعدم الإفادة منها في دراسة التراث، بل المطلوب هو الدراسة العلمية الدقيقة الرشيدة، التي تعتد بالسياق المعرفي العام للتراث، فتقف على علومه محاولة استجلاء القيم المعرفية المعاصرة فيها، وفق مبدأ الحوار بين النصوص دون إسقاط وإكراه.