المقدمة
تعتبر المسألة اللغوية والاختيارات السياسية وعلاقتها بالهوية وأبعادها الاجتماعية، موضوع حيوي لازال محل جدل خاصة في البلدان التي خضعت للاستعمار؛ فاللغة في أبسط صورها إشارات وعبارات ومشاعر للتواصل، وفي عمقها هي حبل الوصال بين أفراد العرق والجنس والقبيلة ومختلف المجموعات البشرية، بل أنها أسلوب للسيطرة ومظهر من مظاهر التبعية والانتماء الفكري، وأسلوب للتواصل الحضاري، وقد راهنت الدول الاستعمارية على نشر لغتها في إخضاع شعوب المستعمرات ودمجها فكريا، و هو ما عبر عنه أوغست برنارد Augustin Bernard في حديثه عن الجزائر؛ حيث يقول : « إننا لم نحضر للجزائر لإقرار الأمن، بل لنشر الحضارة واللغة والأفكار الفرنسية...إننا نريد أن نجعل هناك جنسا يندمج فينا عن طريق اللغة والعادات...وسيتم هذا بعد نشر لغة فكتور هوغو Victor Hugo » (بوشلوح، 2022) . فيهدف هذا المقال إلى إبراز مكانة اللغة عند الاستعمار في بسط هيمنته وسيطرته على الشعوب المستعمرة، ومن جهة أخرى أثر اللغة في رسم هوية الشعوب. وتتمحور إشكالية هذا المقال حول اللغة والاستعمار في الجزائر من 1830 إلى غاية بداية الحرب العالمية الأولى؟ مجيبا عن الأسئلة التالية : ما طبيعة السياسة اللغوية للاستعمار الفرنسي في الجزائر؟ أي : هل حارب الاستعمار اللغة العربية؟ وهل هناك مساعي جدّية في نشر اللغة الفرنسية؟ وما أهداف الاستعمار في تشجيع العامية العربية والفرنسية على حد سواء؟ ولماذا شجّع الاستعمار الفرنسي اللهجات المحلية؟ وما موقف الجزائريين من المسألة اللغوية؟ وسنجيب عن هذه الأسئلة من خلال العناصر الآتية :
-
تحديد مفهوم اللغة وعلاقتها بالهوية
-
الاستعمار بين تعليم اللغة العربية ومحاربتها
-
نشر اللغة الفرنسية
-
توظيف العامية في التعليم والادارة العمومية.
-
موقف الجزائريين من المسألة اللغوية.
1. تحديد مفهوم اللغة وعلاقتها بالهوية
يعرف حاتم الطائي اللغة بقوله :
« هي الوسيلة الوحيدة لنشأة المعرفة الانسانية وتكوينها وتطورها، والتي ينقل المرء خلالها إلى الآخرين المعاني والأفكار التي تدور في رأسه، التي هي أصوات ملفوظة مرتبة يفهم السامع المراد منها ويختل الفهم إذا تغيّر ذلك الترتيب » (الطائي، 2009، صفحة 198)
ومعنى هذا أن وظيفتها التواصل الفكري والحضاري بين الأمم، كما أن لها وظيفة أخرى داخل المجتمع فهي
« الصورة التي تعطي محتواها لونا وشكلا وقواما، فهي ذلك التيار الذي يبعث الروح في جميع أركان الكيان الوطني، وذلك الاسمنت الذي يضمن وحدة البيان القومي، والذي بدون تلاحمه لا يمكن أن يكون أي كيان لأمة من الأمم » (نايت بلقاسم، 1975، صفحة 03)
، بل أن قوام المجتمع مرهون بمكانة لغته؛
« فاللغة بهذا الاعتبار ليست من مقومات الأمة فحسب، بل هي كذلك من مقومات المجتمع النشيط الذي لا يريد أن يضمحل، وربما كان الأصح أن نقول بأن اللغة تعد من خصائص الأمة والمجتمع معا، باعتبار أنها –كقيمة من القيم الخصوصية والمحايدة في نفس الوقت- تحتوي على العنصرين : المعنوي والحسي، بنفس المقدار » (الأشرف، 2007، صفحة 416)
وبالتالي فاللغة لها تأثير كبير داخل المجتمع.
ويبين الربيع بن سلامة علاقة اللغة بالفرد والمجتمع فيقول :
« اللغة من ضروريات حياة الفرد والجماعة على السواء، لأن الفرد لا يستطيع أن يعيش إنسانا من دون لغة، ولا يستطيع أن يعبر عن ذاته، ولا عن انتمائه للجماعة إلا من خلال اللغة المشتركة بينه وبين بقية أفراد جماعته، كما أن الجماعة لا تستطيع أن تحافظ على تماسكها، ولا تستطيع أن تنمي نفسها أو تحقق شيئا من الانجازات الحضارية الكبرى إلا إذا كانت لها لغة مشتركة » (بن سلامة و آخرون، 2013، صفحة 130)
وما يؤكد هذا الكلام مقولة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر Martin Heidegger :
«إن لغتي هي مسكني، وهي موطني، ومستقري، وهي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتدارسه، ومن نوافذها وبعيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الفسيح » (بن سلامة و آخرون، 2013، صفحة 167)
، إذن فاللغة
« تحفظ كيان الأمة، وتحمي أنظمتها وثقافتها من وصمة التقليد الأعمى، والأمة هي المسؤولة عن نمو لغتها وتطويرها، وهي المسئولة –أيضا- عن جمودها وموتها » (بن عبدالكريم الجزائري، 1989، صفحة 07)
ورغم ذلك فإن اكتساب لغة أخرى تكسب الانسان ثقافة إلى جانب ثقافته الوطنية، لأن اللغة الأم تعطيه
« حق الانتماء وجنسية الفكر والهوية، فإن اكتسب الانسان لغة ثانية تكسبه جنسية فكر ثانية وهوية أخرى ويعطيه حق الانتماء الثقافي لثقافة أخرى »، (فرحي، 2009، صفحة 269)
فالمشكلة ليس تعلم لغة أخرى، بل في تبني تلك اللغة وثقافتها والتخلي عن اللغة القومية.
الهوية في اللغة العربية مشتقة، كما هو واضح في مبناها من الضمير المنفصل « هو » الذي يدل على ذات الشيء أو الشخص، المستقلة عن ذوات الأشياء أو الأشخاص الآخرين، أما في اللغة الفرنسية فإن لفظ الهوية (L’identité) تقال عن الأشياء أو الكائنات المتشابهة أو المتماثلة تماثلا تاما، مع الاحتفاظ في ذات الوقت بتمايز بعضها عن البعض (منور، 2007، صفحة 12)، وفي التعريف الاصطلاحي لها هي جملة معايير تمكن من تعريف فرد ما، وهي شعور داخلي، هذا الشعور بالهوية يتعدى إلى الشعور بالوحدة وبالانسجام وبالانتماء وبالقيمة وبالاستقلالية وبالثقة، إنها مجموعة هذه المميزات منظمة حول الإرادة في التواجد (مسلم، 2009، صفحة 89)، ويضيف الربيع بن سلامة هي : « مجموعة من الخصائص والملامح التي تتكون منها الشخصية المتميزة لشعب من الشعوب » (بن سلامة و آخرون، 2013، صفحة 81)، فهوية الفرد ما يعرفه عن الآخرين، وهوية شعب ما يميزه عن باقي الشعوب.
تتفرع هوية الفرد من الهوية الجماعية لاشتراك العناصر بينهما في المفهوم الدوركايمي
« فإذا انتقلنا من هوية الفرد إلى هوية الجماعة، وجدنا أن معظم العناصر التي تشكل الهوية الفردية تنطبق على مفهوم الهوية الجماعية أو ما اصطلح على تسميته بالهوية الوطنية أو الهوية القومية، إذ يتعلق الأمر بمجموعة معينة من البشر يحملون اسما يعرفون به، ويقطنون رقعة جغرافية معينة، وينتمون إلى عرق غالب أو أعراق متعددة انصهرت مع مر الزمن في بوتقة واحدة وكوّنت هوية مشتركة » (منور، 2007، صفحة 17)
والهوية تتأثر وتتغير حسب قابلية المجتمع في التعامل مع الأفكار، فمثلا المجتمع المغاربي رحب بالإسلام وأصبح أحد مكونات مجتمعه، في حين رفض المسيحية رغم جهود المبشرين.
نقصد باللغة القومية أو الوطنية وعلاقتها بالقومية؛ فيقول أحد الباحثين الجزائريين متحدثا عن العلاقة بين اللغة والهوية:
« إذا كانت اللغة جزءا من التراث، وعنصر من عناصر هوية الأمة التي تشمل العادات والتقاليد والفنون والآداب والمعتقدات...فإنها تبقى أهم جزء في التراث، وأهم عنصر في الهوية، لأنها هي الوعاء الذي يحفظ التراث، والترجمان الذي يعبر عن بقية عناصر هوية الأمة، ويبرز حقيقة كل منها بشكل متكامل يجسد روح الأمة الذي يسري في منجزاتها كلها...ومن دون اللغة يصعب حفظ تراث الأمة، ويصعب التعبير عن هويتها » (بن سلامة و آخرون، 2013، صفحة 131)
فاللغة لها دور كبير في الحفاظ على هوية الشعوب.
ويقول جون جوزيف :
« يظن سماتس Smuts أن اللغة ولدت الهوية على النحو التالي. أولا تجرد اللغة عالم التجربة إلى كلمات، والالتقاء باللغة يجعلنا نتعالى عن التجربة الآنية البسيطة والانغماس في تيار التجربة، وهذا يمكننا من تشكيل تصور للذات بدل من أن نكون مجرد ذوات » (جون، 2007، صفحة 17)
ويضيف أحد الباحثين قائلا :
« اللغة مؤلف رئيسُ من مؤلفات الهوية في كل بلد، أو وطن أو أمة، بل الهوية ذو دلالة لغوية واجتماعية وثقافية، يعني الاحساس بالانتماء إلى أركان الهوية التي هي الدين والثقافة والاجتماع. أما اللغة فهي الناطق الرسمي بلسان الهوية ووسيلة إدراك العالم وتصنيف المجتمعات » (بن سلامة و آخرون، 2013، صفحة 82)
ومن هنا نستنتج أن هناك علاقة وطيدة بين اللغة والهوية، بل أن المجتمع الذي يفقد لغته مرشح لفقدان هويته، فمثلا أسماء المناسبات إذا تغيرت اسمها إلى لغة أخرى وفقدانها الاسم الأول قد تزول أو يتغير شكلها والعادات والتقاليد التي تميزها.
وقد حدّدت مفهوم اللغة نظرا لأهميتها في الصراع الفكري بين الاستعمار الفرنسي والشعب الجزائري، بل هي مفتاح ذلك الصراع بين أي استعمار ومستعمر في الوطن العربي وغيره وهو ما يؤكده أحد الباحثين بقوله :
« كانت اللغة العربية هدف المستعمر الأول، فلن يتحول الشعب إذا ما تحول إلا من لغته، ففي ذلك تحولٌ من أفكاره وعواطفه وثقافته، وهو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه ورجعت هويته رسما محفوظا في التاريخ، لا صورة محققة في الوجود » (بن سلامة و آخرون، 2013، صفحة 88)
وما سبق يبن لنا أهمية اللغة وعلاقتها بالهوية والثقافة وتأثيرها في المجتمع والتحولات الثقافية، وقد استعملها الاستعمار كسلاح لبسط الهيمنة السياسية، وسنوضح ذلك من خلال العناصر التالية.
2. الاستعمار بين تعليم اللغة العربية ومحاربتها
تعامل الاستعمار بأسلوبين اتجاه اللغة العربية بداية الاحتلال، فقد شجع الفرنسيون لتعلمها، بل الفرنسيون أنفسهم رغبوا في تعلمها لتسهيل الاتصال بالجزائريين، حيث انتشرت الدراسات الاستشراقية، واهتم الاستعمار بتدريس اللغة العربية، وانكب الضباط على تعلّمها من أجل الحصول على منصب عالي في السلطة، وأدرجت مادة اللغة العربية في المدارس العربية الفرنسية، فهل كان الاستعمار يرغب في نشر اللغة العربية وتطويرها؟ للإجابة عن هذا السؤال نلجأ للمقارنة بين ثلاث صور؛ مكانة اللغة قبل الاحتلال، ثم أثناء وبعد الاحتلال.
جاء الاستعمار الفرنسي بعد مرحلة تأثير الشرق في الحضارة الأوروبية، ولهذا كانوا منبهرين من المنتوج الفكري للحضارة الاسلامية، ومن تعلم اللغة العربية، فكان الاهتمام بها واضح بداية الاحتلال، فتعلم بعض الضباط العربية التي تمكنهم الاتصال بالجزائريين، والسبب في ذلك هو « الاستغناء عن المترجمين الذين كانوا لا يثقون فيهم كثيرا » (جوليان، 2013، صفحة 522)، كما أكدت مختلف التقارير أن تعليم اللغة العربية للفرنسين يساعدهم على الاحتكاك بالجزائريين؛ حيث يقول المتصرف المدني بريسون Brisson في رسالة إلى المفتش العام للتعليم سنة 1836 :
« إن مهمة فرنسا في الجزائر تتوقف على دراسة اللغة العربية والتوسع فيها من أجل التعرف على الأهالي والاتصال بهم، بل أن الاستعمار (الاستيطان واستغلال الأرض) نفسه يتوقف على معرفة اللغة العربية ولا يكفي في ذلك الاعتماد على المترجمين » (سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي ج6، 1998، صفحة 17)
ويرى المؤرخ والرحالة الفرنسي جان بوجولا Jean Pogola أن تعلم اللغة العربية شرط أساسي لتسريب الأفكار والعادات والثقافة الفرنسية إلى الأهالي، وطالب بحرية رجال الدين في تعلمها لكي يتصلوا بالأهالي ويبثوا الأفكار النصرانية عن طريقها (سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي ج6، 1998، الصفحات 18-19)، والغريب أنه بقدر ما كان الفرنسيون مؤمنين بضرورة تعلم العربية لأنفسهم كان الاستعمار يضيّق على الجزائريين في تعلمها، رغم أنها لغتهم القومية والوطنية والدينية.
كما برز أساتذة فرنسيون يدرسون اللغة العربية؛ فقد كان شاربونو Charbonneauيلقي في الجامع الأخضر بقسنطينة دروسه في اللغة العربية منذ عام 1847، ولم يكن يقبل ضمن حلقته إلا المسلمون الراشدون الذين يقرأون العربية ويكتبونها بعد، وكان هدفه تكوين بعض الموظفين الجزائريين (توران، 2005، صفحة 141) لشغل مناصب إدارية، ولم تقتصر تعليم العربية للفرنسين الرجال فحسب، بل حتى النساء؛ ففي حوار بين امرأتين فرنسية وجزائرية ذكرت لها أنها تعلمت العربية على يد أحد شيوخ العرب الذين يدرسون في المدارس القرآنية (Ben sedira, 1905, pp. 32-33)، وهو ما يبيّن رغبة الفرنسين في تعلم العربية خاصة الدارجة، والنتيجة التي نستخلصها أن اللغة العربية أصبحت ضرورية لرجل السياسة والدين والفرنسيون الذين يرغبون في التواصل مع الجزائريين، ولهذا فتعلم العربية ليس خدمة لها وإنما خدمة للمصالح الاستعمارية في الجزائر، وما يدل على ذلك موقف الادارة الاستعمارية من تعليم العربية للأهالي.
إن الاستعمار لم يصدر بيانا أو قرار صريحا يحرم فيه تدريس اللغة العربية، ولكن اتبع معها أسلوب الموت البطيء، فبدأ بالأوقاف مصدر المنظومة التعليمية، ثم مرحلة المنافسة مع اللغة الفرنسية، ثم تغليب الفرنسية على العربية، وأخيرا تمجيد العربية الدارجة على العربية الفصحى؛ فيذكر أبو القاسم سعدالله أن اللغة العربية الفصحى عاشت في المدارس الرسمية الثلاث التي بدأت تعمل سنة 1950، ومرت بمراحل من حيث البرمجة : مرحلة التعريب الكامل، ومرحلة الفرنسة الجزئية 1876، ثم مرحلة ازدواجية البرنامج (العربي والفرنسي)، ولذلك كانت اللغة العربية غريبة في المدارس الرسمية في المرحلين الأخيرتين، حيث كانت تدرس كلغة أجنبية (سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي ج6، 1998، صفحة 15)، فالحجم الساعي المخصص لها لم يتجاوز ساعتين.
وبعد 1883، وضعت اللغة العربية كمادة اختيارية في امتحان شهادة التعليم الابتدائي، وشهادة التعليم الابتدائي العالي « ويبدوا أن إدراج هذه المادة وضعت لأجل الموظفين الفرنسين وليس لتلاميذ المرحلة الابتدائية، فالمقررات الرسمية لا تشمل مادة اللغة العربية » (قنان، 2009، الصفحات 77-78)، وإنما أدرجت حصصا في العامية العربية.
وخلاصة القول إن اللغة العربية لم تكن ممنوعة في الجزائر، ولكنها سوف تتقهقر بسبب وجودها المستديم في وضعية المغلوب، وهذا الأمر يصدق أيضا على أية لغة أوروبية (الأشرف، 2007، صفحة 417)، والسبب في ذلك تراجع استخدامها كأداة للتواصل بين الاستعمار والمستعمر أو بين الغالب والمغلوب كما عبر عنه مصطفى الأشرف :
« لأن الذي أضر بالعربية بعد الغزو الاستعماري ليس هو انخفاض المستوى، بل هو نوع العلاقات القائمة بين الغالب والمغلوب، والمنطق الذي بنيت عليه تلك العلاقات، إن الذي أضر بها هو حرمان الناس من حريتهم، وزوال مكانة اللغة كأداة للتعبير الرسمي، والاضطراب الشديد الذي حصل في الوسط الاجتماعي والاقتصادي، ذلك الوسط الذي يوفر للغة أسباب النماء والتطوّر » (الأشرف، 2007، صفحة 429)
، كما عانت اللغة العربية من التهميش الاداري؛ حيث استخدمت اللغة الفرنسية في المعاملات الادارية، ورغم ذلك فقد استمرت تعليم العربية « كثقافة تراثية مقتصرة على المبادئ الأساسية، وتعلّم في الكتاتيب والزوايا » (الأشرف، 2007، صفحة 418)، وارتباطها بالدين الاسلامي ساعد على استمراريتها.
3. نشر اللغة الفرنسية
لقد كان الرأي العام الفرنسي السائد بداية الاحتلال يتفق على أن أول شيء يجب القيام به هو تعليم اللغة الفرنسية للعرب وتعليم العربية للأوروبيين، وقد كان الذوق روفيقو يرى الصيغة الأولى أنسب من الثانية
« إن الشيء العجيب الذي يمكن القيام به هو تعويض العربية شيئا فشيئا بالفرنسية والذي لا يفتأ ينتشر في أوساط الأهالي، لاسيما إذا وفد الجيل الجديد بأعداد كبيرة للتعلم في مدارسنا » (توران، 2005، صفحة 46)
إذن فالقضية اللغوية بدأت مع بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر رغم غلبة الطابع العسكري، فقد أشار إلى ذلك رئيس مكتب العمليات العسكرية بلي Pelet بقوله :
« كان ينبغي بادئ ذي بدء التفكير في حل مشكلة اللغة قبل التفكير في التعليم، لأنه توجد في الجزائر ثلاث لغات مستعملة، وهي العربية والتركية والفرنكية، ويضاف إليها اللغة الفرنسية كلغة جديدة. ما هي اللغة التي ستختار من بين هذه اللغات كلها » (توران، 2005، صفحة 42)
وصرح الدوق « دو روفيقو » سنة 1832 قائلا : « أرى أن نشر لغتنا هي الوسيلة الأكثر فعالية لفرض هيمنتنا في هذا البلد »، وقال في مناسبة أخرى :
«إن المعجزة الحقيقية التي علينا أن نصنعها هي أن نحل اللغة الفرنسية شيئا فشيئا محل العربية، بحيث نتمكن عن طريق هذا الإجراء من نشر لغتنا بين الأهالي، خاصة إذا أقبلت الأجيال الجديدة جماعات على التعلم في مدارسنا » (منور، 2007، صفحة 60)
وسيسعى الاحتلال جاهدا لتحقيق ذلك الهدف.
بدأ الاستعمار في نشر اللغة الفرنسية من خلال فرنسة الوثائق الادارية، والوثائق المستخرجة من المحاكم وكل الوثائق المتعلقة بشؤون المسلمين، كما استخدم أسلوب الاغراء فتم إصدار أمر بتاريخ 25 مارس 1860 يمنح للموظفين المسلمين في المحاكم الفرنسية إضافة في الراتب إدا تحكموا في اللغة الفرنسية ، (Estoublan & Le fébure, 1896, p. 242) ثم فرضت الفرنسية في كل المدارس سواء الفرنسية أو المدارس العربية الفرنسية، وحتى المدارس القرآنية، بل أجبر معلمو القرآن على عدم التدريس تزامنا مع ساعات التدريس الفرنسية في المدارس الحكومية، وهو ما جعل بعض النخب الجزائرية لها موقفا من تلك السياسة فقد رفض مصطفى بن الكبابطي مرسوم ينص على إدخال اللغة الفرنسية للمدارس القرآنية سنة 1843، ووصف أبو القاسم سعدالله موقفه بـــ « إن موقف المفتي والأهالي عندئذ بقي رمزا للتحدي الوطني ورغبة شعبية لم تبرزها من جديد إلا نصوص الحركة الوطنية ومواثيق الثورة » (سعد الله، قضية ثقافية بين الجزائر وفرنسا سنة 1843 موقف المفتي الكبابطي من الأوقاف واللغة، 1985، صفحة 251)، وهذا يبن لنا الصورة الأولى عن موقف الجزائريين من تعلم اللغة الفرنسية.
لقد فهم الجزائريون أن تعليم اللغة الفرنسية في المدارس القرآنية هو تمهيد لتعليم الديانة المسيحية، مما دفع الادارة الفرنسية إلى توجيه رسالة للمفتي الكبابطي تنفي علاقة اللغة الفرنسية بالمسيحية :
« إن هدفنا هو تعليم الأطفال اللغة الفرنسية وليس الديانة المسيحية، وفي هذه الحالة يمكن لمعلمي اللغة الفرنسية أن يتوجهوا إلى المدارس القرآنية لتعليم الأطفال المسلمين حصة معلومة كل يوم » (سعد الله، قضية ثقافية بين الجزائر وفرنسا سنة 1843 موقف المفتي الكبابطي من الأوقاف واللغة، 1985، صفحة 258)
صحيح أن الحماس الديني تراجع لدى القادة الفرنسيون، لكن هدف التعليم هو نشر الفرنسية بقدر تحقيق الهيمنة الفكرية الاستعمارية، وهو ما حدث لجيل ترعرع في تلك الأفكار وأصبح يطالب بالإدماج فيما بعد.
رغم تأكيد أغلب منظري الاستعمار الفرنسي في الجزائر على ضرورة تعليم اللغة الفرنسية للجزائريين، فإن مصطفى الأشرف يرى أنها لم تكن إجبارية أو بالقوة
« يدعي البعض بأن استعمال اللغة الفرنسية كان مفروضا علينا فرضا، وهذا كلام لا يقول به إلا من كان ساذجا، ينظر نظرة سطحية من غير تحليل ولا تمحيص، لأن هذا معناه أن الاستعمار قام بعمل يستحق التنويه، فكيف يصح هذا القول إذا علمنا أن نسبة الأميين في البلاد لا تقل عن 85 % من السكان، رغم أن هؤلاء ظلوا على صلة باللغة الفرنسية طيلة 130 سنة » (الأشرف، 2007، صفحة 413)
وبالتالي فإن ادعاء البعض أن الفرنسية طريق لتعليم علوم العصر لم يتحقق عند الجزائريين الذي أصبح أغلبهم أميين، ولم تمكنهم اللغة الفرنسية من الاطلاع على منتجات النهضة الأوروبية، بل أن تراجع مكانة اللغة العربية هو بداية الانقطاع مع الثقافة والحضارة الاسلامية وهو ما نتج عنه أزمة لغة وأزمة هوية في المجتمع الجزائري.
إن ترسيم اللغة الفرنسية في المؤسسات الادارية، وكشرط في تولي أغلب المناصب، جعل بعض الجزائريين يرسلون أبناءهم للمدارس الفرنسية لتعلم اللغة الفرنسية من أجل الحصول على وظيفة، وهو ما نستنتجه مما قاله مصالي الحاج عن أبيه وهو يحاول إقناع أمّه :
« ولنتركه يبدأ بالفرنسية، وفي وقت لاحق يستطيع دائما أن يبدأ بتعلم العربية، وإذا توصل بهذه الطريقة إلى نتائج إيجابية، فقد يسهل عليه حينئذ أن يصنع مستقبله، فبمعرفة الفرنسية يستطيع أن يدافع على نفسه وعلينا، سيكون ترجمانا بيننا وبين الفرنسين » (مصالي، 2007، صفحة 17)، بل أن بعض نساء الأعيان تعلمن الفرنسية على يد فرنسيات (Ben sedira, 1905, p. 34)
، نظرا للاحتكاك المباشر بينهما ورغبة الفرنسيات في التقرب لهن.
4. توظيف العامية في التعليم والادارة العمومية
اهتمت الادارة الاستعمارية باللهجات المحلية وبالعامة من أجل تهميش اللغة العربية الفصحى؛ حيث أحدث رجال الادارة الفرنسية بالجزائر إجازات باللهجات المغربية، فنصت تعليمة بتاريخ 28 جويلية 1885 على إنشاء تخصص لغة القبائل langue kabyle (Estoublan & Le fébure, 1896, p. 660)، واعتبروا اللغة العامية مماثلة أو بديلة عن اللغة العربية الفصحى لغة القرآن، وحتى تربط الادارة الاستعمارية بالجزائر هذه الاجراءات بالواقع المعيش وتشجيع الطلبة على الانتساب لها، أصبحت تشترط هذه الإجازات –التي هي في الواقع شهادات في الجهل والأمية- في الوظيف العمومي وعند الترقية في السلك الإداري، كما جعلوها من الشروط المطلوبة للحصول على الجنسية الفرنسية (سعيدوني، 2000، صفحة 74)، والاهتمام بالعامية دليل على إهمال العربية الفصحى.
وقد تولى بعض الفرنسين تدريس العربية الدارجة، والمشارقة المرافقين للحملة مثل جوني فرعون (وهو سوري-مصري) سنة 1932، ثم واصله لويس برينييه Louis Brenneah منذ 1936، وقد شاركه في ذلك عدد آخر من المستشرقين الذين انتشروا في غرب البلاد وشرقها منهم ماشويل Machuil في وهران، وصدرت عن هؤلاء مجموعة من الكتب التعليمية بالعربية الدارجة والفرنسية، وهي كتب تقرأ من اليسار إلى اليمين، كما صدرت عنهم قواميس في نفس الموضوع (سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي ج6، 1998، صفحة 14)، ويقول باصي رنييه : «ظهرت منذ الاحتلال أكوام من المعاجم والقواميس وكتب المحادثة ومجموعات الرسائل بهدف تعليم العربية الدارجة» (سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي ج6، 1998، صفحة 20)، وقد تطوّرت هذه الدراسات مع تقدم الدراسات الأنثروبولوجيا في مجتمعات شمال إفريقيا.
أقر البرنامج الدراسي لسنة 1898
« بصفة رسمية تعليم اللغة العربية الدارجة في المدرسة الابتدائية الأهلية بمعدل ساعتين ونصف في الأسبوع وفي كل طور، ولم تكن اللغة العربية الفصحى تدرس وقتها إلا إذا قدم السكان الأهالي طلبا رسميا لذلك، ولم يخصص لها مرسوم سنة 1883، ولا برنامج سنة 1890، ولا مرسوم 1892 أية مكانة محددة في المسار الدراسي »
وعن سبب ذلك يقول جونمير : « لم يكن قصدنا بالطبع أن نعلمهم اللغة العربية الدارجة أي لغة أمهاتهم ولكن سوف نقدم لهم خدمة كبيرة إذا علمناهم القراءة والكتابة باللغة العربية » (أجرون، 2007، صفحة 525)، وبالتالي فهو اعتراف صريح من مدير الدراسات لتهميش العربية الفصحى.
دعمت الادارة الاستعمارية العامية تشريعيا وعمليا؛ حيث جاءت
«القرارات الوزارية الصادرة في 04 جانفي و22 ديسمبر 1905 تسهيلا للحصول على شهادة الاهلية في اللغة العربية وذلك بمضاعفة معامل تقويم اتقان اللغة العربية الدارجة، ثم صدرت سلسلة من القرارات لتأسيس شهادات الكفاءة لتعليم اللغة العربية الدارجة بمستويات مختلفة في المدارس الابتدائية ومدارس تكوين المدرسين ومؤسسات التعليم الثانوي والمتوسط» (أجرون، 2007، صفحة 539)
ورغم إلحاح الجزائريون على تعليم اللغة العربية في المدارس العمومية، إلا أن لجنة مجلس الشيوخ التي أوفدت إلى الجزائر في سنة 1891 « استبعدت فكرة إدراج تدريس اللغة العربية في المدارس الأهلية » (قنان، 2009، صفحة 35)، وأكدت على القرار السابق لوزارة التربية والتعليم المؤرخ في 27 ديسمبر 1887 (Estoublan & Le fébure, 1896, p. 834)، والخاص باللهجات البربرية.
في سنة 1904 صدر قانون يمنع تدريس اللغة العربية إلا بإذن خاص من سلطات الاحتلال، وحتى لو تم الحصول على هذا الإذن فكان من الضروري الاكتفاء بتدريس القرآن مع التغاضي عن كل آيات التي تشير من قريب أو بعيد إلى « الجهاد » أو يمكن أن تحتمل « تفسيرات مغرضة »، فلم يكن واردا على الإطلاق تدريس التاريخ أو الجغرافيا أو الآداب العربية، ويتحدث مصالي الحاج –كشاهد عيان- عن مكانة اللغة العربية في المدارس الفرنسية فيقول :
« ...وهكذا فإني قد استطعت تحسين معلوماتي خاصة في اللغة الفرنسية الشيء الذي خدمني كثيرا فيما بعد، فاللغة العربية لم يحسب لها أي حساب أمام لغة المعمر، ففي القسم المتوسط الثاني مثلا كانت تدرس لنا مدة نصف ساعة في الأسبوع من العربية الدارجة » (مصالي، 2007، صفحة 59)
، ويمكن أن نستنتج من قوله ومما سبق أن تدريس العامية كان هدفه هو إهمام العربية الفصحى.
لقد قدم الفرنسيون دراسات عن اللهجات الجزائرية، لكنها لم تخرج عن إطار السياسة الاستعمارية، كما لم يستفد منها الجزائريون في المنظومة التعليمية، وقد تنوعت لغة العلم والكتابة لدى المثقفين، فهناك القلة ممن تمسكوا بالعربية الفصحى، والقلة القليلة ممن يكتبون بالفرنسية، وهناك من اعتمد أسلوب العربية الدارجة في كتاباته وخطاباته، ونلاحظ هذه الفروقات من خلال الجرائد التي أنشأت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
5. موقف الجزائريين من المسألة اللغوية
رفض بعض الجزائريين تعلم اللغة الفرنسية لأبنائهم، وهناك من دافع عن تعلم اللغة الفرنسية؛ فقد اعتبرها الفريق الأول، أنها لغة الكفار والطريق لاعتناق المسيحية، والتأثر بالحضارة والتقاليد الفرنسية، والاهتمام باللغة الفرنسية هو إهمال للغة العربية، في حين أن الفريق الثاني دافع عنها لأنها لغة تعلم العلوم الحديثة، كما تساعد الحصول على وظيفة، وسنعرض بعض المواقف لبين موقف الجزائريين من المسألة اللغوية في الجزائر المستعمرة.
كانت اللغة العربية الفصحى في دولة الأمير هي اللغة الرسمية، بها يكتب كل الوثائق الإدارية، وبها تكتب كل المراسلات الرسمية حتى تلك التي كانت تتم مع الضباط الفرنسيين، ومع المسؤولين الأجانب (الراسي، 2008، صفحة 76)، ويقول ديبارمي : « إن الأهالي سرعان ما شعروا بالخطة الفرنسية وخطورتها على اللغة العربية، لأنها خطة تقتضي إماتة هذه اللغة ودراستها كلغة ميتة، فوقف الجزائريون ضد هذه الخطة من البداية » (سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي ج6، 1998، صفحة 21)، وممن دافعوا عنها نذكر أحمد بن بريهمات الذي طالب بتعليم اللغة العربية في المدارس إلى جانب اللغة الفرنسية فيقول :
« وفي رأيي أنه يجب إلزام العرب بتعلم اللغة العربية مع اللغة الفرنسية في نفس الوقت الذي يتحتم معرفتها بالضرورة...وهذا بدون أن أتحدث عن كنوز المعارف التي توجد في المكتبات العربية والتي ستضيع حتما أو تكون خسارة بالنسبة لكل الناس إذا تقرر شطب هاته اللغة من مدارسنا » (قنان، نصوص سياسية جزائرية في القرن التاسع عشر 1830-1914، 2009، صفحة 92)
، ولهذا فإن ابن بريهمات رأى ضرورة تعلم اللغتين معا.
ويقول المستشرق فيليب مارسيه سنة 1956 واصفا موقف الجزائريين من المسألة اللغوية :
« إن المتعلمين بالعربية في الجزائر قليلون جدا وما لبث الناس أن أخذوا يقارنون بين اللغتين، ولكن بدون تفضيل أو اختيار لهذه على تلك، فبدا للبعض منهم بأن الفصحى فقدت مكانتها في مجالات كثيرة، وعلى الأخص في مجال التعامل الاجتماعي، وأخذوا بعد ذلك يفكرون –على مضض في البداية، ثم بحذر متناقص- في تعليم أبنائهم تعليما فرنسيا. ومما سوّغ لهم هذا الحل، أن الواقع فرض الفرنسية، وأنهم على أية حال مازالوا متمسكين باللغة القومية، وما لبث الشعب أن أخذ يعتبر الفرنسية لغة الدنيا، على عكس العربية التي أصبحت لغة السمو الروحي في الآخرة » (الأشرف، 2007، صفحة 430)
ومعنى ذلك أن الفرنسية هي لغة العلوم بينما العربية لم تتجاوز مجال تحفيظ القرآن.
أصبحت اللغة العربية الفصحى أجنبية قانونيا، ومجهولة بين الجزائريين مما جعلت جريدة الاحياء تكتب عن واقعها سنة 1907 :
« ذهبت الأعوام ومرت السنون وإخواننا أهالي الجزائر في (كلمة غير مقروءة) وتفريط من حفظ لغتهم العربية التي أصبحت في تناقص وتقهقر حتى يكاد العارفون بها والمكاتبون يعدون على الأصابع في هاته المملكة الواسعة الأطراف التي أهلها كانوا ولم يزالوا على شيء من الذكاء » (مجهول، 1907)
ورغم أن مديرة الجريدة فرنسية إلا أنها اسلمت وكانت من أكثر المدافعين عن الاسلام واللغة العربية للارتباط الوثيق بينهما.
نظرا للتراجع المخيف لمكانة اللغة العربية الفصحى؛ فكانت أغلب العرائض تتضمن ضرورة إعطاء مكانة مهمة للغة العربية في المناهج التعليمية؛ فقد دعا آيت سالم إلى تنظيم تعليم اللغة العربية في مدارس تعليم البنات، وإعطاء مكانة للغة العربية في امتحان البكالوريا تلبية لمرسوم 5 ماي 1904 لأنها دراسة اللغة العربية تقدم خدمة للاستعمار، ومع ذلك يقول آيت سالم « أنه لم يتم أي شيء في هذا الاتجاه خاصة في مدرسة ثانوية البنات في الجزائر العاصمة » (Gouvernement Général de l Algérie, 15 mai 1911, p. 15)، ويضيف
« إن وفود القبائل تعرب عن أملها في أن اللغة العربية تدرس في المدارس الثانوية في نفس ظروف اللغة الانجليزية والألمانية من حيث البرامج والحجم الساعي، وتكون موضوعات اللغة العربية في شهادة البكلوريا تتوافق مع الدروس التي يتلقاها المترشحون » (Gouvernement Général de l Algérie, 15 mai 1911, p. 64).
كانت النخبة الجزائرية المثقفة مقتنعة بضرورة ازدواجية اللغة، للاستفادة من العلوم الحديثة ومن الموروث التاريخي، ومن أجل سهولة التعامل مع الادارة الاستعمارية والشعب الجزائري؛ فيقول مولود بن الصديق الحافظي :
« يجب أن نتعلم اللغة الفرنسية والعلوم المدرسية، ويجب أن نتعلم بجنب ذلك لغتنا العربية الفصيحة لنحافظ على تعاليمنا الدينية ومزايانا التاريخية وآدابنا القومية حتى نأمن من الانسلاخ من جنسيتنا وشعارنا العربي، أود أن يكون تعليمنا للغة الأجنبية كتعليم أبناء أوروبا اللغات الشرقية فهي تتعلمها لتستفيد منها، وليس لتهجر لغتها ولا لتحتقر بني جنسيها » (الحافظي، أوت 1926، صفحة 07)
ويضيف في مقال آخر : « نحن الجزائريين معتبرون جزءا من فرنسا فضروري لنا –حيويا- أن نعلم اللغة الفرنسية، وقبيح بنا أن نجهل لغة كل نعتبر جزء منه » (الحافظي، تعليم اللغتين ضروري لنا، 1926، صفحة 02).
ظهرت على صفحات المبشر كتابات لجزائريين يدعون إلى تعلم اللغة الفرنسية من أجل تحصيل العلوم، ولم يكن هؤلاء من خرجي السوربون أو مدرسة سان سير ولا حتى الكوليج، بل كان بعضهم إماما للصلاة، والبعض الآخر مدرسا في المدارس الشرعية-الفرنسية، وبعضهم كان من المرابطين الذين تولوا وظائف إدارية مثل ابن علي الشريف الذي دعا إلى ذلك في رحلته إلى فرنسا 1852، واعتبر ان الجزائري يحتاج إلى الفرنسية في الحاضر والمستقبل « الحال والمآل » (سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي ج6، 1998، صفحة 209)، ثم تلاه بعد ذلك مصطفى بن السادات سنة 1864، الذي أكد على ضرورة تعلم العلوم والعلم الفرنسي خصوصا باللغة الفرنسية، وأن لا يخاف الجزائريين في إرسال أولادهم إلى المدارس لتعلم اللغة الفرنسية، وأضاف الشيخ محمود بن الأمين في نفس الجريدة أن الفرنسيون تعلموا الفرنسية واستفادوا علومها، ولهذا على الجزائريين أن يسلكوا نفس الطريق، لأنها لغة العصر وقد تفوقت على لغات العالم فيقول :
« صارت اللغة الفرنسية وكتابتها في هذه الأعصر وسيلة لا غنى عنها في العلوم على اختلافها وسائر الصنائع وفنونها، خصوصا الطب والهندسة والحساب والتنجيم والجغرافية والطبيعيات والرياضيات، وما يتفرع عنها » (سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي ج6، 1998، صفحة 215)
هذه نماذج عن موقف المثقفين الجزائريين، وهناك عرائض ورسائل تبين موقف عامة الشعب بين التأييد والرفض خاصة فيما يتعلق تعليم اللغة الفرنسية.
خاتمة
إن النتيجة النهائية التي توصلنا إليها في هذه الدراسة هي : أن المسألة اللغوية تجلت في الجزائر بشكل واضح بعد سنوات من الاحتلال الفرنسي، فظهر تنافس بين اللغة العربية واللغة الفرنسية من جهة، ودعّم الاستعمار استخدام الدارجة من جهة أخرى، وزاد الأمر تعقيدا بعد تطبيق السياسة الاستعمارية وأصبحت للغة بعدا دينيا، فارتبطت العربية الفصحى بالدين الاسلامي، والفرنسية بالدين المسيحي لدى العامة وتدريس العلوم لدى النخبة، ونظرا لأن اللغة العربية الفصحى كانت لغة التعليم في الجزائر قبل الاحتلال، فقد تراجعت مكانتها بعد تقهقر المؤسسات التعليمية الاسلامية، في حين أن اللغة الفرنسية انتشرت بين النخب الجزائرية التي ستقود الحركة الوطنية باللسان الفرنسي، وقد ساهم الاستعمار في صناعة ذلك الواقع وتعامل معه بما يخدم مصالحه، والأكثر من ذلك ستتحول المسألة اللغوية إلى مشكلة لغوية معقدة لازمت الجزائر خلال فترة الاستعمار وبعده، فتيار يدافع عن اللغة العربية وآخر عن الفرنسية، وتيار ثالث يبحث عن الموقع الحقيقي للغة الأمازيغية واللهجات المحلية، وهو ما يجعلنا أمام مشكلة حقيقية تحتاج إلى بحث علمي دقيق في المسار التاريخي للقضية لإيجاد الحلول المناسبة.