مقدمة
إذا كانت المعاجم اللّغوية ملمحا حضاريّا هاما في حياة اللّغات وتاريخ الأمم والحضارات، فإنّ المعجم التاريخي هو المنحنى البياني لتلك المعاجم، والدليل الحيّ الناطق بذلك الملمح الحضاري. لأنّه يرصد المفردات ودلالاتها المتغايرة عبر خطّ الزمن، فيهتم بالقبض على دلالات المفردات وما يقع عليها من تغيّر على مسار الزمن، ومنه فهو رصد لدلالات المفردات لا في حالة الرتابة والسكون فقط، بل حتّى في حالات الحركة والتطوّر والتبدّل. إنّ الفرق بين المعجم العادي والمعجم التاريخي، كالفرق بين الصورة الفوتوغرافية الصامتة وشريط الصور المتحرّك، فلا تُجسّد الصورة إلاّ مظهرا ولحظة واحدة، بينما يقدّم الشريط مشاهد كثيرة للشيء الواحد وفي فترات عديدة متلاحقة.
وقد انتبهت، ثم اجتهدت عديد اللغات الحية المعاصرة في الاهتمام بهذا الباب من أبواب المفردات، بينما زهد قدماء علماء العربية في المعجم التاريخيّ لمفردات اللغة، رغم تفانيهم في التأليف المعجميّ وإمعانهم اللاّمتناهي في جمع مفردات العربية خلال تاريخها الطويل، فانتهت أعمالهم إلى مجاميع متنوّعة من المعاجم المتباينة المناهج والمواضيع والأهداف، لكنّها تفتقر للمعجم التاريخيّ. جدّد علماء العربية في العصر الحديث النظر في الأمر، وقرّ قرارهم على خوض معترك معجم تاريخيّ للعربية، فرسموا الخطوط العريضة وحزموا الأمر على وضع اللّبنات والخطوات الأولى لمشروع المعجم.
العربية التي ضجّت ثرواتها في أشكال متباينة من المعاجم والقواميس، وكانت مفخرة اللغات وأمّها تفتقر للمعجم التاريخيّ! فكان التساؤل المطروح ما هو المعجم التاريخيّ وماهي وظيفته؟ لماذا زهد المعجميون العرب في الاحتفاء بالمعجم التاريخي؟ ولماذا لم يتم التأريخ لمفردات العربية؟ ماهي نظرتهم لفكرة التغيّر التي تلازم اللّغات؟ هل يؤدّي تدوين المفردات دورا في تعطيل مبدأ التغيّر الكامن في اللغة؟ ثم ما هي خصوصية العربية في هذا السبيل؛ سبيل التغيّر والتبدّل؟ كيف تجاوب المحدثون والمعاصرون مع فكرة المعجم التاريخي للعربية؟
تتغيّا هذه الورقة البحثية تحقيق هدفين اثنين الأوّل هو مقاربة إشكالية المعجم التاريخي للعربية، وذلك بتقصّي آراء القدماء وتتبع أبعاد العزوف عن تأليف معجمها التاريخيّ فيما مضي من تاريخ العربية الطّويل، والثاني هو بسط آراء المحدثين وتأكيد حرصهم على خوض غمار معجم تاريخيّ للعربية، يجمع ما تفرّق في مؤلّفات العصور الخاليات، ثم يمتدّ التأليف إلى حاضر اللغة فيكون معجم العربية المفتوح على الماضي تحقيقا والحاضر تدوينا.
1. الإطار العام للدراسة
1.1. المنهج
تنوّعت مناهج البحث اللّغوي من وصفي تقريري قائم على التحليل وتتبع الجزئيات باستقراء الحقائق العلمية حسب قائليها، وتاريخيّ فلسفيّ يُعنى بدراسة العلل والأسباب ويحاول تفسير الظواهر، وإحصائيّ يتتبّع الدقّة والضبط والحساب. والتقيّد بما يخدم الفكرة هو سبيل الورقة ولا يخرج المنهج عن الاتّجاهين الأوّلين، كما أنّه لا يلجأ لأيّ مسلك آخر من المسالك، إنّها بذلك تصف الرأي والشاهد وصفا مباشرا في إطار سياقه الطبيعيّ ورؤية أصحابه وفي سياق عرضه.
2.1. الدراسات السابقة في الموضوع
في محاولة تقفّي آثار المهتمين بهذا السياق البحثي بدا « أوجيست فيشر »(1865ــــ 1945م) August fischer من أوائل المهتمين بإشكالية المعجم التّاريخيّ للعربية، من خلال مؤلّفه المعجم اللّغوي التاريخي الذي نشأت وترعرعت فكرته، تزامنا مع إنشاء مجمع اللّغة العربية بالقاهرة سنة1932م. لكنّ عَدَت عاديات الحرب العالمية الأولى على المؤلَّف، وتوفي فيشر دون اكتمال صنيعه الذي كان إعدادا معجميا تطبيقيا على بعض مفردات العربية، ومنه لم يُنشر المؤلَّفُ كاملا خلا المقدمة وحرف الهمزة، وقد تأخّر الأمر إلى سنة 1967م.
أمّا في مجال التنظير فقد نبّه المحدثون على أهمية المعجم، فوضع عبد الله العلايلي مقدمة لدرس لغة العرب وكيف نضع المعجم الجديد، الذي طُبع في المطبعة العصرية وكان توجيها جديدا لمعجم العربية التاريخيّ، يدعو فيه إلى المبالغة في التحرّي والزيادة في التنقيب ومراعاة صحّة الدلالة بتغيّراتها عبر الزمن، فعُدّ كتابه تنظيرا واضحا للمعجم التاريخيّ للعربية.
-
أرشد الأب أ ـ س مرمرجي الدومنكي (1881 ت1963م) في كتابه المُعجمية العربية على ضوء الثنائية والألسنية السامية، إلى أنّ الشروط الضرورية لتدوين المعجم العربي تدوينا عصريا، يقتضي تبنّي نظرية الثنائية الألسنية الساميّة، فهي بجميع وجوهها من أنجع الذرائع لإصلاح المعجمية العربية، ومن أبرز المطالب اعتماد التوجيهات، ذكر المصادر، دعم الأقوال بالنصوص اللغوية.
-
قارب محمد رشاد الحمزاوي إشكالية المعجم التاريخي للعربية، فصرّح بنفور القدماء من ربط العربية بالسّاميات وقضايا الأصول والفصائل والتأثير والتأثّر والتداخل، فبدت معاركهم محتدمة من خلال كتب الدخيل والمولّد والمعرّب والأعجميّ، وتحدّث الحمزاوي عن إقرار القدماء بمفهوم المدوّنة الذي هو مفهوم حديث نسبيا، والدليل هو اعتماد ابن منظور في لسان العرب على تهذيب الأزهريّ وصحاح الجوهري ومحكم ابن سيّدة وحواشي ابن بريّ والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير. ورأى بأنّ هذه المعاجم بعصورها المتباينة، قد شكّلت المعالم الكبرى لتعاقب التاريخ على العربية، وكأنّي به يقول أنّ مجموع تلك المعاجم هو عمل يكاد يؤدّي وظيفة المعجم تاريخي.
-
أحاط محمد حسن عبد العزيز وهو من أوائل المهتمين بهذا الباب من أبواب المعجمية العربية، في كتابه المعجم التاريخي للغة العربية وثائق ونماذج، الصادر عن مطبعة دار السلام، بتاريخ 2008م. أحاط بقضية المعجم التاريخي للغة العربية من ثلاثة أبعاد متقاطعة، وعُدّ المؤَلَّف إحاطة شاملة بالمعجم التاريخي للعربية. أوّل الأبعاد هو جهود مجمع اللغة العربية بالقاهرة في التأسيس لفكرة المعجم التاريخيّ للعربية، وفيه حديث عن نشأة الفكرة، وثاني الأبعاد هو تقفّي آثار معاجم تاريخية سابقة في اللغات الأوروبية بتقديم بعض نماذجها كمعجم أكسفورد التاريخيّ للغة الإنجليزية والمعجم التاريخي للغة الفرنسية، وعاد بعدها لجهود اتّحاد المجامع اللغوية العربية مجتمعة، وذلك توثيق الملتقيات والمذكّرات والمقترحات والبرامج والإعدادات المختلفة وأبرزها إعداد المحرّرين المؤهّلين، والثالث هو نماذج تحليلية لبعض المفردات العربية، وذلك بتتبّع ملمح التغيّر الذي هو أساس فكرة المعجم التاريخي، ولولا التغيّر لما دعت الحاجة للمعجم التاريخيّ، كما تطرّق لمسألة الصناعة الآلية للمعجم والتي هي نقطة إيجابية بنّاءة، فتحت المعجم التاريخي على مُمكنات هائلة وآفاق إبداعية وتنظيمية عالية.
-
قدّم الشاهد البوشيخي نموذجا تطبيقيا بعنوان نحو معجم تاريخي للمصطلحات القرآنية المُعرّفة، شرح فيه جملة المصطلحات وبيّن أهداف المعجم ومصادره وترتيبه ومراحل الإنجاز، مع عرض تطبيقي لبعض النماذج، عمد إلى شرح بعض المصطلحات بتتبُّع التعاريف الموضوعة من طرف أعلام الشريعة، قاصدا تتبع النسق المفهوميّ للقرآن الكريم والذي لا يتأتّى إلاّ بتتبّع مصطلحاته جملة وتفصيلا.
تلك هي أبرز المحاولات التي تم الاطّلاع عليها في سياق الورقة البحثية، على أنّ هناك جهودا أخرى بُذلت في هذا السبيل منها ما قدّمه ابن مراد رائد المعجمية العربية الحديثة وغيره.
2. المعجم التاريخي للغة العربية: الوظيفة والخصوصية الحضارية والآفاق والتحدّيات
1.2. المعجم التاريخيّ الضرورة والدواعي وخصوصية العربية
1.1.2. وظيفة المعجم التاريخيّ وشرعية وجوده
ذهب إبراهيم السّامرّائي إلى القول: « بأنّ الناس لا يشعرون وهم يتكلّمون لغة معيّنة أنّها تختلف عن اللغة نفسها في جيل عفا عليه الزمان»1. إلاّ أنّ في ألفاظ حياتنا اليوم مفردات كثيرة تمثُلُ شاهدة على التغيّر والتبدّل في حياة الناس والكلمات، وإنّ ما نستعمله من مفردات في محيط حياتنا اليوم يختلف قليلا أو كثيرا عمّا كنّا نستعمله منذ أربعين سنة خلت، فالثابت أنّ ملامح وأدوات وأفكار الحياة تبدّلت وتبدّل معها قاموس الكلمات في استعمالنا اللّغويّ، قاموس يعبّر عمّا تجدّد من زوايا الحياة وهذا التغيّر تتبدّل في أعقابه دلالات الكلمات ولا شكّ. ومنه لابدّ أن تكون الألفاظ في كلّ لغة من اللّغات قد مرّت في تاريخها الطويل أو القصير بالكثير من الأحداث، تغيّرت فيها الكلمات وتحوّرت دلالاتها بين رقيّ وانحطاط ورفعة وابتذال وموت وحياة وهو حكم اللغات وقانون الكلمات، التي يتحدّد تاريخها بما مرّ عليها من أحداث في عصورها المتعاقبة وأحقابها المتطاولة. لذلك ظهرت فكرة المعجم التاريخي الذي جاء لوظيفة محدّدة وهي :
«تقديم وصف موضوعيّ لمفردات اللغة إمّا في حالتها الراهنة ويطلق على هذا المعجم نعت «الوصفي»، أو كما كانت في فترة سابقة أو أكثر من فترات وجودها ويسمّى هذا المعجم ب «التأريخيّ» وقد أُطلق على المعجم التأريخيّ عدد من النعوت مثل«الفرضي» Prescriptive و «المعياري» Normative و«التعليمي» Didactic، وما شابه»2.
ومنه فإنّ تسمية المعجم تتحدّد حسب الوظيفة وهدف التأليف.
تتحدّد وظيفة المعجم التاريخي للغة من طبيعته الذاتية وفلسفته التكوينية، فعمله عبارة عن ترصُّد لبقايا التاريخ في الدلالة الزمنية للكلمات؛ يتعقّبُها ويتتبّعها من فترة زمنية إلى أخرى، ويتدرّج في رصد الدلالات منذ أقدم زمن تمّ العثور فيه على شيء من الدلالة في تلك المفردات، مُضيًّا إلى ما تعاقبت عليه الأجيال استعمالا في طبقات الأزمنة، سيرا إلى حاضر اللغة. ومؤلّف؛ جامع وواضع ومرتّب المعجم التاريخيّ، ينحت موادّه المعجمية من كل ما تقادم عهده ممّا اقترحه العلماء والكُتّاب والأدباء والمفكرون، أو ما ابتدعه العامّة وأثبته المؤرّخون، وكلّ الذي رصدته المعاجم العامّة والمتخصّصة فيما سلف، دون أن ينسى وضع وترتيب حساب الزمن في عملية الجمع، لأنّ عملية استخراج الدلالات المختفية من بقايا الألفاظ المتبقيّة، هي عملية استقراء للكلمات التي هي آثار تاريخية، يعتوِرُها الغموض والتداخل والضبابية والتعتيم، وهذا يتطلّب الصبر على حلّ أقفال المفردات، بكلّ ما يكتنفها من خلاف ترسّب على مدار حياة الكلمات، فجعلها تتلامح بمواصفات الحضور والغياب والظهور والخفاء وما إليه ممّا يقع على كلّ قديم، حتى إذا وصل الباحث إلى رصد دلالات المفردات في حاضر اللغة، باشر العملية بطرق أوضح وآليات أخرى، لأنّه يبحث في معان حاضرة فيكون المعجم وصفيا، وسيصير بدوره وثيقة تاريخية لمستقبل اللغة.
وبه يأتي تحديد دلالة الكلمة المفردة مع تاريخ تطوّرها، على رأس الصعوبات في رصد مادّة المعجم التّاريخيّ وجمع مفرداته، وقد وضّح ماريو باي الأمر بالقول:
«إنّ أهم المشاكل المرتبطة بالمفردات، هي ما يتصل بالدلالة المفردة لكلّ كلمة semantica وتاريخ الكلمات وتطوّرها Etymology، وكلا الموضوعين وخصوصا ثانيهما يمثّل مكانة هامّة لدى عالم اللغة التاريخيّ لا الوصفيّ»3.
ولعلّ هذا الإشكال والتعتيم الذي يتلاعب بمفردات اللّغة، هو ما يعطي شرعية وضرورة الوجود للمعجم التاريخي.
2.1.2. سيرورة حياة الألفاظ بين التغيّر والثبات وصعوبة رصد تاريخها
إنّ وصف اللغة بالحياة يقتضي الحديث عن تغيُّرها، فهل التغيّر حتمية تطرأ على اللغات والكلمات؟ التغيّر اللغويLinguistic Change هو كلّ تغيّر يصيب لغة ما بفعل العوامل الداخلية والخارجية التي تطرأ عليها4. وهذا المصطلح يستتبع مصطلحا آخر هو التغيّر الدلالي Semantic change؛ وهو أن يتغيّر معنى كلمة خلال الزمن بفعل الانحطاط أو التوسّع أو المجاز مثل : كلمة بهلول التي كانت تعني الشجاع والكريم والجواد الفارس، واليوم تعني الضحّاك أو المجنون أو البسيط5، ولا يحدث «التطوّر التاريخي للدلالة»6 إلاّ لتغاير الأزمنة والأحوال واختلاط اللّغات والثقافات ونشوء الحاجة «وهي العامل الثاني في تطوّر الدلالة»7. لذلك يحدث التغيّر في اللغات جميعها، فكلمة أدب التي دلّت في عربية الجاهلية على الدعوة إلى مأدبة الطعام ودلّت في الإسلام على الخلق النبيل، انتقلت اليوم للدلالة على كلّ إنتاج في الثقافة والفكر والإبداع عموما، كما تدلّ على نصوص تحمل صفة الأدبية بركنيْ الشعر والنثر خصوصا.
ولأنّ التغيّر في حياة الكلمات يكون سلبا وإيجابا، كان اتّجاه اللغة في رحلتها سلوك
«طريقين مختلفين أو قل طريقين متضادين، فهناك ميل نحو انقسام اللغة الواحدة إلى لغات ولهجات، وهذا مسار سيء ينتهي إلى موت اللغة، كما يوجد ميل نحو التوحّد اللّغوي والتجميع في لغة مشتركة»8.
وهو مسار يزيد من قوة اللغة وإحكامها، وفي الأخير نجد أن التغيّر يتحكّم بقوّة في سيرورة اللّغة، ونمط حياة المفردات فيها فهو يتحكّم سلبا وإيجابا، وفي ظل هذه الحركة الطبيعية من حركات اللغة، نجد أنّ القبض على تطوّر دلالات الكلمات غير واضح في الجملة، وهو من الصعوبة بما كان، لأنّ التغيّر لا يسير على نسق متجانس بحيث يتمّ الوصول إليه بالطرق الآلية أو الحسابية الدقيقة. إنّه يحدث ولكنّ يصعب تحديد زمن الحدوث، فهو كالنبتة تنمو ولا نستطيع رصد لحظات نموّها، رغم أنّنا نلاحظ تبدّلها من فترة زمنية إلى أخرى، فالدلالة مرتبطة أبدا بالمستعمل وكلّ ملابسات الاستعمال، ومنه فإنّ القبض على الدلالة المحدّدة للمفردات، لابدّ أن يكون في وضع اجتماعي معيّن، باعتبار أنّ المجتمع هو المحضن الطبيعي الذي تترعرع فيه اللغة، وذلك في ظروف استعمال متباينة متماهية مع الأحداث في التاريخ. وهي لا تسير بطريقة مكشوفة قبل الحدوث، كما لا يستطيع أحدٌ التنبّؤَ أو التعرّف على الدلالة التي ستؤول إليها كلمة ما، فلكلّ سيرورة في حياة لغة من اللّغات سياقاتها وتاريخها الخاص الذي يتطابق مع أحداثها، حاول فاندرياس أن يحصُر السيرورة بالتفريق بين معلمين هامّين من معالم تطوّر اللغة، الأوّل هو أنّ اللغة دائمة الخضوع للحياة في تطوّرها الذي لا يتوقّف عند حدّ من الحدود ويكون عدم ثبات دلالة المفردات، علامة مائزة لأولئك المستعملين الذين يستخدمون اللغة للتعبير عن حياتهم الخاصة، وهذا أصل في اللغة كما وصّفه فاندرياس. بيد أنّ هناك حالة أخرى عدّها حالة عرضية، تتمثّل في اتّجاه اللّغة إلى التوحيد ومقاومة التفريق كما هو الحال في اللغات المشتركة، وهو ما يسمح للغة بأن تعيد التوازن والاطّراد وهذا المعلم؛ معلم الاطّراد هو صناعة اجتماعية بامتياز9. وهو الأمر الذي أوحى للمعجميين الوصفيين قديما وحديثا بأن يتّخذوا من «الدلالة الاجتماعية للكلمات، هدفا أساسا في جمعهم لمواد المعاجم وما الدلالة المعجمية في اعتبارهم إلاّ دلالة اجتماعية»10. ممزوجة بالعوامل التاريخية والحضارية التي تُساق في حياة الأمم والشعوب.
ومنه فإنّ البحث في تاريخ الكلمات هو عملية تحرٍ دقيق وسبر لأغوار الكلمات في تاريخها الطويل، وهي تقتضي جهدا كبيرا، ولعلّ الرّافعي قد عبّر عن هذه المشقّة بلغة واصفة دقيقة حين جعل الصبر على تقليب طبقات الأرض بترابها وصخورها المتراكمة لاستخراج الذهب والمعادن، أهون من الصبر على فض رموز الكتب وفتح أقفال المعاجم، لاستخلاص الدلالات التي تعاقبت على المفردات فيما مضى من أزمنة التاريخ وهو باب الصعوبة في جمع مواد المعجم التاريخيّ كما أسلفنا.
3.1.2. خصوصية العربية ومزية الوحدة الاجتماعية والتاريخ المشترك
لا خلاف في أنّ طبيعة الفروق بين مفردات اللغات بمختلف فصائلها، كطبيعة الفروق بين الجهات التي تنتمي إليها اللغات، إذ لكلّ لغة جهة خصوصيتها في الوجود والتاريخ، ومنه فالمنطق أن تتباين اللغات ويتباين تاريخ الكلمات، كما تتباين الأمم والشعوب بمجتمعاتها وتواريخها الفعلية وأحداثها الحقيقية وحتّى في أمكنتها وجهاتها، فاللغة «نتاج اجتماعي»11. بالدرجة الأولى وهي المحدّد الأقوى لعنصر الاجتماع، غير أنّ لكلّ لغة نظامها وبنيتها، وما على عُرى التاريخ إلاّ أن تضع بصماتها وآثارها على الكلمات فتطبعها بطابعها، وإنّ غياب المقاييس المشتركة والفهم الموّحد للمفردات في أذهان المستعملين لا يُوحّد اللغة، ومؤدّى الطريق هو الاختلاف والنزاع العقيم بين أفراد الجماعة المستعملة، لذلك كان توحّد المفاهيم وضبطها بالألفاظ هو خصوصية الشعوب في لغاتها. ما يؤسّس لهذه الفكرة تأسيسا علميا معاصرا، هو ما ساقه جورج ماطوري في منهجه المعجميّ المعاصر والذي عُرف «بمعجمية المفاهيم والتصوّرات» أو «المعجمية الاجتماعية» وفي مصطلح آخر سماها «المعجمية الحقلية» لأنّها تقوم على تصنيف المفردات في حقول دلالية قائمة على أساس التصورات والمفاهيم الاجتماعية، التي يتبناها مجتمع ما في الزمان والمكان12. الشاهد فيما تقدّم ذكره من علاقة اللغة بمجتمعها المنتج هو اللغة العربية، فقد تعاقب على العربية تاريخ طويل من الانقسام اللهجيّ، امتدّ في الزمان والمكان فكانت القبائل العربية مدارا زمانيا ومكانيا ترعرعت فيه أشتات اللهجات زمنا لا يُعرفُ مداه في القدم، ثم اتّجهت العربية بعد هذا للنموّ والصفاء؛ صفاء العربية المشتركة من خلال الأسواق الأدبية بوصفها مصفاة لغوية، ثم تمّ التوحّد بنزول القرآن وازدهار حضارة العرب زمنها الأوّل، لذلك جعل السّامرّائي «البحث في تاريخ القرآن يدلّنا على أنّ لغة القرآن قد طبعت العربية بطابع واضح مبين وقضت بذلك على آثار اللّهجات الإقليمية»13. وبه فقد حافظت العربية إلى ذلك الزمن على قوّتها ووحدتها اللّغوية، ومُنعت من التشعّب أو السير إلى ما سارت إليه لغات أمم كثيرة من تباين اللّهجات، فالمشاركة الاجتماعية وسيلة أساسية لتحقيق التوازن والاطّراد. وهو ما تجسّد في اللغة العربية بامتياز إذ توحّدت دلالات المفردات توحُّدا قلّ أو انعدم نظيره في جميع الكثير العالم القديم والحديث، وقلّما وُجدت هذه الخصوصية النوعية، ــ التي هي برتبة مزيّة في تاريخ العربية ــ في تاريخ أمّة من الأمم الأخرى، في علاقة لغاتها بدياناتها ومجتمعاتها، بالشكل والتلاحم الذي أفرزه العرب وقبضت عليه العربية، إذ «الجماعة والأمّة لها طابعها الخاصّ الذي يطبع الأفراد؛ طابع الأمّة يطبع اللغة سواء أكانت لغة مشتركة أم لهجات أم لغات خاصة»14.
فتوحُّد اللغة هو ناتج حتميّ لتوحّد جوانب الحياة الاجتماعية والدينية والأخلاقية والعقلية في تاريخ الحياة العربية، وكلّ تلك القيم والمفاهيم بما فيها من محامد ومكارم ومآثر وعصبية وانتماء وتحيّز، هي ميزة مازت العرب عن غيرهم من الأمم والشعوب، وجعلتهم أمّة واحدة توحّدت بفعل عوامل التاريخ والاجتماع والجغرافيا المشتركة، و«صهرت عاداتهم ومفاهيم الشرف عندهم في بوتقة واحدة.»15 وفي النهاية توحّدت المفردات الدالّة على تلك الأحداث وارتبط العرب بالعربية لغة وشعرا وقرآنا. هذا الارتباط الوثيق بين الحياة وألفاظها زكّته مراحل زمنية متباينة، منها الملمحٌ الثقافيٌ الفعّال في تاريخ العرب والعربية؛ ملمح الأسواق الأدبية التي كانت آلة فعّالة لنمو العربية المشتركة، ومسرحا حيّا لعمليات الانتخاب والتنقية والإضافة والطرح للمفردات في لغة الأفراد في مختلف مناحي الحياة، داخل قبائلهم المتشابهة المترامية في جاهليتها، والمتحلّقة حول القرآن بلغة قريش في إسلامها، مع بروز نظام نحويّ مشترك للعربية، استخلصه علماؤها في النظام النحويّ لاحقا، والذي عُرِفَ بمدارسه النحوية المتعدّدة، ثُم ما لبِث أن وُصِف عند المتأخرين بالمدرسة الواحدة، ووُسِم بالوحدة والتنوّع16. إنّ هذا النمو المشترك هو الآلة الحقيقية في تكوين «وحدة لغوية ارتبطت بها عواطف القوم ارتباطا وثيقا»17 وعلى ذلك عاشت العربية قديما فهي في أوطانها لغات هذيل وتميم قيس وطيء وقريش، لكنّها إذا خرجت من ديارها فهي العربية، وفي العصر الحديث مازالت العربية على ذلك الحال فهي في دولها الحديثة لهجات مصر والمغرب والجزائر وسورية والسودان وقطر.. لكنّها إذا خرجت إلى المحافل والتجمّعات الدولية خلعت خصوصياتها اللهجية وصارت العربية الفصحى الحديثة.
ولمّا كانت الرسالة الخاتمة بلسان عربيّ مبين ازداد تلاحم اللغة كما تلاحمت عواطف القوم، وفُتحت اللغة على آماد مديدة وجغرافية بعيدة، فانبعثت اللّغة مع رسالة القرآن إلى ما شاء الله، ومنه فإنّ خصوصية المفردة في المعجم العربي متعددة الأبعاد، إنّها بعد لغوي وبُعد رساليٌ وتاريخ اجتماعيّ مشترك، تقلّبت الجماعة اللّغوية بين جنباته أزمنة وأحقابا، وهذا ما جعل المفردة ترتبط بمجتمعها العربي عموما وبمحيطها المنتج ارتباطا دلاليا ونتاجا اجتماعيا، صَفَت منه العربية المشتركة التي هي ميراث الأجيال عبر التاريخ، فهي ملك عام ولا يجوز التصرف فيه بغير وجه حقّ، وفي العصر الحالي تبذل بعض الدول والهيئات العربية جهودا جبّارة لإعادة النظر في المعجم التاريخيّ للعربية.
4.1.2. شواهد لتغاير أوضاع المفردات في العربية وتلوُّنها بروح العصور التي مرّت بها
يحدث التغيّر بعدّة أشكال منها حياة وموت المفردات بفعل العوامل المتجدّدة في التاريخ، وقد تجاوبت العربية مع متطلبات كلّ مرحلة من مراحل تاريخ العربية الطويل، فطاوعت العربية مستعمليها في كلّ استعمالاتهم المتباينة وأزمنة حياتهم المتغايرة. فقد استخدم العرب في جاهليتهم عبارات ك «خلاك ذم، ثكلتك أمُّك، أبيت اللّعن لا أبا لك»18.وهي عبارات جاهلية المعنى استخدموها في جاهليتهم دون إحراج أو مضض، لكن بنزول رسالة القرآن تغيّر فكر القوم وأدركــوا أنّها عبارات لا تليق بلغة من يدين بالإسلام، فضلا عن أن تليق بالمؤمن الذي ينشد السموَّ والرّفعة في أخلاقه. وفي هذا السياق حكى صاحب الوساطة عمّا فعله التحضّر في شعر العرب وكلامهم، فنتيجة اتّساع الحواضر العربية، فشا التأدّب، وابتعدت الألسنة عن نابي الألفاظ واختير من الكلام مارقّ وتُرك دونه، فقد كان العرب يعرفون من الألفاظ «العشنّط، العنطنط العشنّق،الجسرب، الشوقب، السّلهب، الشوذب، الطاط، والطوط، والقاق، والقوق، فنبذوا جميع ذلك وتركوه واكتفوا بالطويل لخفته على اللسان»19. إنّ عوامل جديدة جدّت في حياة العرب بعد نزوعهم إلى الحواضر الإسلامية جعلتهم يفضلّون الرقّة بدل الخشونة والخفّة بدل غلظة البادية، والنتيجة أن نامت ثم غابت تلك الألفاظ بدلالاتها الأثرية وأصبحت تلك المفردات مواتا، وثم لم يحي منها إلاّ ما اقتضته الحاجة والاستعمال واليوم لا يمكننا معرفة الدلالة الدقيقة لعشنّط والعنطنط والطوط مثلا، وهل كانت تُطلق على الإنسان أم الشجر أم الجدار أم عمود الخيمة؟ فلا يُعرف الوجه الدقّيق لاستعمالها إلاّ الذي يحدّده تاريخ الكلمة استعمالا.
ومن الشكل الثاني تحوُّل دلالات ومعاني المفردات القديمة التي عرفها العرب في جاهليتهم، فبفعل القرآن الكريم انتقل المجتمع إلى حال أخرى وقاموس آخر فيه ألفاظ
«الأذان والصلاة والخشوع والركوع والسجود والدعاء وهي ألفاظ لم تعرفها العرب إلاّ على غير هذه الأصول، لأنّ الأفعال التي كانت هذه الأسماء لها لم تكن فيهم، وإنّما سنّها النبيّ وعلّمه الله إيّاها فكانوا يعرفون الصلاة أنّها الدعاء» 20.
وهذا هو التغير الذي يغير روح المفردات، حتّى وإن حافظت على أشكالها. وفي ذلك تحدّث ابن فارس في باب الأسباب الإسلامية عن تغيّر فكر القوم من إرث أحاديث الجاهلية، إلى مسائل فقهية تتعلّق بالحياة الجديدة كالمنبرية والمشتركة والمباهلة والأكدرية والغرّاء وهي أمور في الفقه، فتعجّب ابن فارس من أمرهم وذكر في سياق ذلك قوله : «ونقلت من اللّغة ألفاظ كثيرة من مواضع إلى مواضع أخر، وكان ممّا جاء في الإسلام ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق» 21. وقد عهدوها لمعانٍ أُخر، الكفر التي دلت قبلا على الغطاء والسّتر والصلاة التي دلّت على الدعاء والمحوّل هو القرآن الكريم. فالتاريخ الإسلامي أحيا ألفاظا كانت ميّتة، وأمات كلمات كثيرة كانت تعجّ بالحياة، فلقيت هذه الألفاظ في المجتمع الجديد شيوعا وذيوعا. وإذا كانت اللغات في عمومها تختلف من حيث مفرداتُها وطرائقُ التركيب وصيغها التعبيرية، فلابدّ أن تكون لكل لغة شخصيتها التي تجعلها «عنصرا رئيسا من عناصر الحضارة التي تكتنفها تتطبّع بطابعها وتتلون بلونها» 22. ومنه فإنّ «أنجع وسيلة للباحث عن أصل الكلم أن يتتبّعها في مظانِّ ورودها ويشارف تطوّر أحوالها» 23. ويتتبّع أزمنتها وتواريخها كما أنّ منطق النقاء اللّغوي والفصاحة والسّليقة والطّبع كانت مقاييس مقدّسة في العربية، توفرّت للعرب الخلّص بمختلف لهجاتهم لكن
«لمّا كثر الإسلام وانتصرت الدّعوة وانتشرت، حضر أكثرهم، وسكنوا الأرياف وفارقوا البدو وخالطهم الباقي، وامتزج كلامهم بمن جاوروه من الأنباط وعاشروه من الأعاجم، عَدِم منهم الطّبع السّليم الذّي كان قبل هذه المخالطة» 24.
الشاهد في كلّ ما تقدّم من أمثلة أنّه في كلّ مرّة يُعاد وضع اللغة أوضاعا جديدة، ويغدو تاريخ الكلمات مشبّعا بروح العصور التي مرت بها والمجتمعات التي لهجت بها، لذلك نادى جورج ماطوري مرّة أخرى بفكرة «المعجمية المتحرّكة» وهي التي يتم فيها «حصر الدلالة بين نقطتين تحدّدان حقبة معيّنة» 25. سقنا هذه الشواهد من الألفاظ تأكيدًا على فكرة أنّ «خصائص الأمّة العقلية، ومميّزاتها في الإدراك والوجدان والنزوع ومدى ثقافتها، ومستوى تفكيرها ومنهجه، وتفسيرها لظواهر الكون وفهمها لما وراء الطبيعة كلّ ذلك وما إليه ينبعث صداه في لغتها» 26.
2.2. خدمات وصعوبات قديمة في سبيل المعجم التاريخي المنشود
1.2.2. عزوف القدماء عن تدوين لغات العرب وأصولها الساميّة والتأريخ لمفردات العربية
انتبه القدماء لأمر تغيّر العربية عهد شبابها الأوّل وعلاقتها بالساميات، فقد أورد ابن حزم في الإحكام قوله :
«إنّ الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أنّ السريانية والعبرية والعربية، التي هي لغة مضر وربيعة لا لغة حميرـ واحدة تبدّلت بتبدّل مساكن أهلها فحدث فيها جرس كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام لغة أهل القيروان ومن القيرواني إذ رام لغة أهل الأندلس» 27.
والسبب عنده لا يبعد أن يكون مجاورة تلك الأمم لأمم أخرى تخالفها، ورغم إدراك علماء العربية لتلك الحقيقة إلاّ أنّهم عزفوا عن تدوين الأصول السامية، فضلا عن تدوين اللهجات العربية المختلفة، فلم يُثبتوا في مؤلّفاتهم من تلك الأصول واللهجات إلاّ القليل. ومع ذلك فهي تزخر بموادّ ومفردات لا نجدها في معاجم أخواتها الساميات. فألفاظ شهور السنة العربية الجاهلية كواغل وناجر وناطل، التي اعتاضت عنها العربية بألفاظ إسلامية شعبان، ورمضان وشوّال.. قد أوردها المؤرّخون واستعان بها المستشرقون لفك رموز أسماء الأشهر اليمنية الواردة في نقوش ما قبل الإسلام28. وهذا قدر يسير من المفردات والأمثلة التي تتطلّبها حاجة الباحث عند الشاهد والضرورة، فهم لم يعتبروها اعتبارا تاريخيا ولم يُدوّنوها، وهذا الأمر يصعّبُ جمع مادّة المعجم التاريخيّ الحديث.
لقد جعل الرّافعي هذا العزوف بسبب المعاصرة، إذ حظي القدماء بمعاصرة تلك اللغات وخالطوا أهلها فاستنكروا بعض اللهجات ونعتوها بالعيوب، ومن ثمَّ استغنوا عن توريث تاريخها لمن بعدهم، استنكر الرافعي عزوفهم، والرأي عنده أن لو كان هناك من اشتغل بتدوينها وجمعها لكانت تلك الاختلافات التي كانت ستُستقصى من لهجات العرب، أساسا متينا لعلم صحيح في تاريخ اللغة، ولكانت توثيقا دقيقا لدلالات مفرداتها، وهي بعد ذلك مادّة أساسية للمعجم التاريخيّ المنشود، ولصار ذلك التدوين وثيقة يتمّ الرجوع إليها على تقادم الأزمنة وامتداد عصورها29.
ومع ذلك فإنّ أهداف المتقدمين من علماء العربية كانت واضحة، فتعصبهم للعربية كان شديدا، لدرجة الاعتقاد بسموّها فوق لغات البشر قال الرّازي :
«لم يحرص النّاس على تعلّم شيء من اللّغات في دهر من الدّهور، ولا في وقت من الأوقات كحرصهم على تعلّم لغة العرب، لكمال لغة العرب ونقصان سائر اللّغات» 30.
وهذه النظرة الفوقية كانت دافعا للاعتداد بالفصيح والتفاخر به والخوف على ذهابه، لذلك أكّدوا أنّهم «يقعّدون لهذه العربية التي تصلح لفهم لغة القرآن، فالبحث عن نقاء اللّغة وفصاحتها كان غاية من غاياتهم في الجمع اللّغوي» 31. منذ بداية عصر التدوين والتأليف المعجميّ، اهتمّ المعجميون بدلالات المفردات الفصيحة متجنّبين ما تفرّق من المعاني في القبائل والكثير من المعاني الجاهلية، وحتّي تلك الدلالات التي تربط اللفظ بالأصول الساميّة، فنظرتهم نظرة اجتماعية، وأرادوا ربط المفردة بالمجتمع العربي دون غيره والعقيدة الجديدة دون سواها. ولنا في ذلك أمثلة كثيرة لفظة «الحج» التي هي في المعاجم العربية بمعنى القصد والتوجه وترتبط بأصولها السامية، العبرية، الإرمية، السريانية عن طريق الجذر الثنائي «حك» ، هو اسم صوت حركة الرقص وهو أوّل طور لمعاني كلمة «حج» أو «حك» ، وقد بترت المعاجم العربية هذا المعنى بترا مقصودا وركّزت على المعنى الذي شاع في جزيرة العرب، فالذي أدركه العرب الذي سجّلوا معاجمها، هو أنّ الحج ركن وشعيرة متواترة عن الحنيفية الإبراهيمية، رسّخها القرآن الكريم بفريضة الحج فلا معنى للكلمة إلاّ «القصد أو الاتّجاه أو الزيارة أو التردّد، من باب الإطلاق؛ ومعنى الذهاب إلى مكّة، قصد النسك من باب التقييد» 32.
وربّما لو أنّهم فعلوا لوصل الأمر في النهاية إلى الاختلاط والتشعّب، ولا نحتاج إلى كبير اجتهاد لملاحظة نتيجة تركيزهم على الفصحى التي تنمو على قواعد السلامة، وعدم الاهتمام باللهجات التي من طبعها التبدّل والتغيّر الكثير لأنّ ألسنة العامّة تلوكها فتُفسدها، ونحن نرى اليوم كيف
«اتّسعت مسافة الخُلف في اللّهجات المنشعبة عن العربية الحديثة، حتّى أصبح بعضها شبه غريب عن بعض، فلهجة العراق ولهجات شمال إفريقيا في العصر الحاضر مثلا يجد المصريُّ بعض الصعوبة في فهمها، غير أنّه قد خفف من أثر هذا الانقسام اللغويّ بقاء العربية الأولى لغة أدب وكتابة ودين» 33.
وهذا ما يبرّر تركيز القدماء على فصيح اللّغة، بينما تركوا ما اختلف من اللهجات
«وأودعوا تلك الفروق الجنسية في معرض التاريخ، على أنّ العلماء أنفسهم قد أضرحوا لهذه الفروق قبل أن تموت؛ وذلك لمكان القرآن من الوحدة اللّغوية» 34.
وهذه صعوبات بحث جديدة في هذا المجال من تاريخ الكلمات، أبرزها نقص الأدوات لمعرفة اللغة معرفة علمية، فكتب القدماء «لا تشير إلى اللفظة المفردة وطرائق استعمالها عبر العصور» 35. ولعلّ الذي غاب عن الأذهان حينها هو أنّ اللغة ميراث الأجيال وينبغي توريثها كاملة غير منقوصة، واليوم تتلاحق عصور العربية وما كان بالأمس معيفا مأبيا، هو للحاضر وثيقة تاريخية تغوص بالعربية في عمق الماضي تأريخا، وتزيد في امتداد مستقبل اللغة قوّة وصدى.
2.2.2. تدوين الفصيح وتحاشي العاميّ وإشكالية التغيير مرّة أخرى
يبدو أنّ القبض على المفردات بدلالاتها الاجتماعية والحضارية في عصور ازدهار العربية، قد كان مُقدّما على الاهتمام بملمح التغيير، لاعتقاد ما ساد فكر العلماء في أزمنة العربية الأولى، يقضي بأنّ التغيّر بكلّ أشكاله فساد في اللّغة. وسبب رفض التغيّر لا يبعد أنّ يكون العامل الاجتماعي والدينيّ، فشدة تعلق القوم بلغتهم جعلهم يعتبرون كلّ خروج عن النّمط الموروث، وكلّ تجاوز للمسطر الذي درجوا عليه وألفوه لفظا ومعنى، بمثابة تحوُّل من محور إلى آخر تحوُّل من محور السلامة إلى اللّحن، وبموجب تلك السنن «سمّي التّغيّرُ لحنا بعد أن شُحنت اللفظة دلاليا بالتهجين كما سُميت ظاهرة التحوُّل فسادا» 36. أحسّ علماء العربية هذا التغيّر واستشعروا أمره، وهذا ما دفعهم إلى التدوين الذي رأوا أنّه يؤدّي دورا ظاهرا في تعطيل مبدأ التغيير الكامن في اللغة، وذلك على اعتبار أنّ ما كُتِب ودُوِّن من اللّغة هو الشاهد الموثوق به إن ثبتت صحّته ونسبته، وهو اليوم أولى بالمحاورة والاستنطاق. استخلص العرب القوانين العامّة لنحو العربية، وقيّدوا المعاني الجوهرية للكلمات، لكنّهم لم يهتمّوا بالتغيّر، وقد كانت نقلة ميشال بريال لمباحث علم الدلالة مرتكزة على ركيزتين اثنتين، الأولى هي توظيف عنصر التاريخ في تحديد معاني الكلمات، والثانية هي استخلاص القوانين العامّة التي تحكم الظواهر اللّغوية37. ولمّا كان تشعب الظواهر سببا مباشرًا لتشعُّب اللّغات، صار كلام ميشال بريال تفسير جيّدا لمذهب القدماء في اتّجاههم في سنّ قوانين اللغة النموذجية دون غيرها؛ أي استخلاص القوانين العامّة للفصيح دون العاميّ، وتحديد فترة الاحتجاج الذي هو توظيف لعنصر التاريخ الذي قبلوا به ومنه فإنّ اجتهاد علماء العربية نابع من رؤيتهم التي أملتها المرحلة؛ مرحلة الخوف على ذهاب اللغة العربية الفصيحة المشتركة، تلك التي كانت هدفا مسطّرا دون غيره.
وإذا كان التغيُّر قانونا يفرض سلطته على كلّ اللغات دون تمييز38 فقد كان التدوين ومازال يُسهم ــ إلى حدّ ما ــ في القبض على الدلالة وتثبيتها، لكنّه لا يمنعها من التغيّر، لذلك أثنت الباحثة «خديجة الحديثي» في سياق بحوثها لنحو العربية على علماء العربية وأشادت بجهود تدوين التراث، فقد أثنت عليهم بالقول:
«لولا جهودهم لأصبح من يسمّى عربيا اليوم، لا يستطيع أن يفهم كتابه ولا ما كتبه أسلافنا، ولضاع الإسلام واندثر التراث وضاعت العربية بضياعهما 39».
3.2.2. مستويان في مادّة المعجم وتكريس البعد الحضاري في المعجم التاريخي
دعا فيشر في حديثه عن المعاجم العربية، إلى ضرورة التأسيس لمعجم تاريخي يرصد العربية رصدا شاملا يجمع الفصيح والعاميّ، ذلك أنّ المعاجم العربية تشهد نقصا هاما، أساسه التخلّي عن ضم كلّ مفردات اللغة، حيث ركّزت معاجم العربية القديمة على الفصيح دون العاميّ، والرأي عنده أن قمّة الكمال لمعجم عصري أن يهتمّ بالجانب التاريخي لمفردات اللغة، فلا يقتصر على الشروح الشائعة، ويجب أن يضم كُلّ الكلمات التي تمّ تداولها فلا يُبق منها لفظا خارج المعجم، فجميع الكلمات في اللغة لها حقوق متساوية في المعجم ولها الحقُّ في أن تُدوّن دلالاتها بجميع أطوارها التاريخية، وذهب إلى أنّ المعاجم العربية استبعدت ونأت عن هذه الرؤية الشمولية، إذ سعت إلى الاهتمام بالجانب النموذجي وتحاشت المستويات الأخرى الممثلة في اللهجات المتباينة، ومنه فهي لم تُعالج الناحية التاريخية لمفردات اللغة40. وهي ملاحظة على جانب كبير من الأهميّة، لولا أنّ المفارقة تكمن في تجارب الدراسة التاريخية للكلمات في اللّغات الأوروبية فعلماء اللغتين الألمانية والفرنسية مثلا رغم ميلهم لرصد اللغة بجميع مستوياتها، إلاّ أنّهم تشبثوا في أبحاثهم التاريخية بالجانب الحضاري للغة، وقد كان شعار المجلّة الألمانية التي كانت تنشر أبحاثها بعنوان: «الكلمات والأشياء»
words and things » مميّزا فقد حرصت على أن تلتحم الكلمات بروح الحضارة، وتكون هي الحدّ المُميِّز للكلمات، فكان الشعار على أعلى الصحيفة التي نُشرت فيها تلك الأبحاث هو :« لا يمكن الاستمرار في بحث الكلمات منعزلا عن تاريخ الحضارة »41.
وهذا حقّ مشروع للأمم في تحقيق تاريخ ألفاظها برصد الجوانب المشرقة، وهو ما يُبرز جانبا هاما من التناقض بين المطلب الحضاري للغة، وتساوي حقوق مفردات اللغة في دخول المعجم التاريخيّ، ذلك أن رصد الدلالة تقتضي تدوين الألفاظ مهما كان صنفها سواء تلك الألفاظ المنحطة التي تنبع من استعمال أطياف المجتمع بكلّ أوضاعهم، أم تلك الراقية التي تتفاخر الأمم بحيازتها، والسبب هو أنها قبضت على الأحداث بكلّ تفاصيلها وهو الأمر المطلوب.
انتحى المعجميون العرب منحى الفصيح لأسباب حضارية، وبالمقابل لم يقعّدوا للهجات ولم يُقنّنوا أحكام العاميّ والدخيل والمولّد من الألفاظ، لكنّهم ظلوا حريصين على تدوين مفرداته والإشارة إليه في كتب جانبية متى استدعت الحاجة والضرورة، فهو في حكم الغريب عن المستوى النموذجي. وعلى مدار التاريخ الطويل الذي مرّت به العربية كان التأليف في مفردات العاميّ مستمرا، ولا أدل على ذلك إلاّ ما ورد من كتب ومؤلّفات كثيرة في هذا السياق نحصي منها : لحن القدماء وهو عنوان مؤلَّف لمؤلِّفين كُثُر منهم : أبو حمزة الكسائي ت191هـ، وأبو عبيدة ت209هـ، وأبو عثمان المازني ت248هـ، وأبو حاتم السّجستاني ت255هـ، وأبو حنيفة أحمد بن داود الدّينوري ت290هـ، وأبو بكر بن حسن الزّبيدي ت379هـ، وأبو الفرج البغدادي ت 958، وكذا مؤلّف لحن الخاصّة لأبي هلال العسكري ت395هـ، التّكملة فيما تلحن به العامّة، وشفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدّخيل لأبي منصور الجواليقي ت465 هـ، درّة الغوّاص في أوهام الخواص للحريري ت516هـ، غلطات العوام لإبن كمال باشا ت940 هـ، غلطات العوام للمولى مصطفى بن محمد ت 998هـ42. وهذه المؤلّفات جميعها لم تؤلّف خدمة للعاميّ، بل حرصا على نقاء الفصيح وفصله عن العاميّ، وهذا الأمر مرّة أخرى هو خصوصية برتبة مزية تميز العربية فتجعل التأليف عند القدماء على مستويين منفصلين هما الفصيح والعاميّ، وهي صالحة للتوظيف في المعجم التاريخيّ، سقنا هذا الكلام مرّة أخرى لإظهار أهداف التأليف وغاياته في المعاجم التراثية.
3.2. اللغة العربية تحدّيات ورؤى معاصرة في سبيل المعجم التاريخيّ
1.3.2. إعادة تصنيف فكرة التغيّر اللغوي
يخوض المعجم العربي معركة وجود جديدة، وتتأهب العربية اليوم لدخول عصور تاريخية أخرى، تحوّل المحدثون فيها إلى الإيمان «بالنظرة التاريخية وبالتطوّر الذي تستدعيه عوامل التطوّر المختلفة»43. لذلك سعى المعاصرون إلى معاودة النظر والتوجّه في سبيل معجم تاريخيّ للعربية، باعتبار أنّ معطيات جديدة جدّت في تاريخ العلوم المعاصرة، استدعت إعادة النظر في مفردات اللغة، ومن ثمّ لابدّ من إعادة التصنيف تنظيرا وتطبيقا. ولَإِنْ صنّف القدماء ما حدث للعربية من تغيّر بُعيد الفتح الإسلاميّ في خانة الفساد في لسان العرب، فقد جعله المتأخّرون تغيّرا طبيعيا في حياة الكلمات، مع تغاير الأزمان واختلاف العوامل التي تدور عليها الحياة، ومن طبع العامّة أنّهم يبدّلون ألفاظ اللغة تبديلا. ومنه فإنّ عرب الجزيرة أيضا قد بدّلوا ألفاظ لغتهم، واختلفت ألسنتهم حين ظهرت عوامل جديدة في حياتهم الاجتماعية والفكرية والدينية، وقد يأتي هذا التغيّر «إيجابيا إذا كان نتيجة تأثّر بحضارة أمّة من الأمم»44. أو بسبب عامل حضاريّ كما هو الأمر مع نزول القرآن الكريم باللغة العربية، فقد كان التغيّر ظاهرا في مستويين من مستويات العربية؛ أمّا الفصحى فقد نمت نموا سليما، لأنّ أوّل وأكبر رافد أرفدها بالمفردات هو القرآن الكريم، الذي نزل بلسان عربيّ مبين وكان فضله ظاهرا غير مدفوع، لأنّه أغنى الحياة العلمية الجديدة بفيض مصطلحات من النص القرآني أو نتيجة الاحتكاك الحضاري.
أمّا اللّهجات فقد تغيّرت حسب سنن التغيّر، لكنّ رُفض تدوينها لخروجها عن قواعد السّلامة، ولمّا كان من سنن الحياة أن «يكون سير التغيّر سلبيا كما يكون إيجابيا»45. انتهى الأمر إلى ثروة هائلة دُوّن بعضها وغاب الكثير منها، لذلك نفى المحدثون في تأريخهم للمعجمية العربية الإحاطة بجميع ما أنتجته العربية من معجمات في هذه العصور الطّوال «فهذا ادّعاء ربّما لا يستطيعه بشرٌ»46. وهذا أمر معضل آخر في سبيل المعجم التاريخي، لا مجال لقهره إلاّ الصبر على حل الأقفال، وإنفاق الأعمار بحثا وتنقيبا لاستقراء مادُوِّن واستدراك مالم يتمّ التأريخ له، وكلّ جهد يُبذل في هذا السبيل سيكون مادّة مهمّة للاستقراء والتأريخ.
2.3.2. المدوّنة
أمام القوانين والسنن التي تتجاذب اللغات جذبا طبيعيا نحو التغيّر والانقسام والتوحد، تقف الكتابة والتدوين والفرز والتصنيف والتي هي عمل معجميّ بامتياز، تقف حائلا ضدّ التشتّت، إنّه يحفظ تاريخ الألفاظ ويمنعها على الدهر أن تضمحلّ. وإنّ ما دُوِّن من معاجم العربية خلال تاريخها الطويل هو المدوّنة؛ وبناء معجم العربية التاريخيّ المعاصر يقتضي اعتمادها أساسا للمعجم الحديث مع التوسع في دواوين الشعراء وكتب الفقه والفكر والاجتماع والتاريخ والنحو والكلام والتصوّف والكلام والعلوم.... فلا وجود للمجتمع المستعمل للمفردات في أزمنتها القديمة، ولا وجود لتلك الأحداث المُنقضية! التي ــ ولاشكّ ــ تلاشت ملامحها الاستعمالية، لكن بقي بين أيدي الباحثين ما دوّنه التاريخ العام وكتب اللغة ومعاجمها، فقد باد الماضي الحيّ بكلّ تجلّياته، ولم يبق إلاّ مُدوّن المفردات وهي صالحة للمحاورة والاستنطاق، بل هي الشاهد الوحيد على ذلك الماضي مهما كانت رتبته في الزمن، ومهما كان المعنى من بين المعاني التي مرّت على تاريخ الكلمة.
بعض تلك المفردات مازال حيا مستعملا بدلالته القديمة والبعض تبدّلت معانيه، ولا سبيل إلى القديم منه إلاّ أن تُقلبّ النقوش والخطوط، وتُنقب بطون الكتب والمعاجم والدواوين بما حفظت من تاريخ الكلمات، بحثا عن دلالات الكلمات في النصوص بسياقاتها التاريخية، التي تتلامح وتختلط فيها أوجه الدقة والانضباط والانتقال والتغيّر والرقيّ والابتذال، وما شئت ممّا يصح قوله في تاريخ الكلمات من الماضي السحيق، وهو وجه الصعوبة السافر. وقد نزع التوجه الجديد للمعجم العربي الحديث إلى «مبالغة في التحرّي، وزيادة في التنقيب، ومراعاة صحّة الدلالة، وأخذها على الوجه الطّباقيّ»47. وهذا أمر معضل شاق، لأنّه يقتضي عملية مسح شاملة لذلك التاريخ الطويل، وماعُدّ عند القدماء خارج عصور الاحتجاج، هو اليوم في قلب العمل ومن صميم الفصاحة، فالرأي أنّه لو تمّ تخطّي حدود الزّمن، والتّمديد في زمن السّماع لكان يمكن أن تتغير المدوّنة التّي أسّست عليها قواعد النّحو ولكانت هناك الكثير من المفردات التي دخلت المعاجم، «لأنّ تغيّر اللّغة ليس فسادا فيها والشّعراء القدامى ليسوا أحقّ من المحدثين بالرّواية عنهم »48. لقد حاول منظرون كثر تقديم الخدمة للمعجم التاريخي للعربية من جميع جوانبه، فاهتم رشاد الحمزاوي في نقده لمنهج المعجم العربي التراثي بمسألة استقراء الرّصيد، وضبط مصادر المعجمات العربية، والاعتناء بمراجعة مادة المعجم وذلك من خلال عمليتي الجمع والوضع، وهو ما يمكن أن يكون هو الآخر «مدخلا إلى المعجم التاريخي العربي الذي نحن في أشدّ الحاجة إليه، ليكون مرجعا أساسيا للخلافات اللّغوية»49.
3.3.2. الوفرة وتمدّد شبكة العربية الحديثة مزيّة وصعوبة
على خلاف لغات أخرى كثيرة تعاني النقص والقصور، فهي تنقّب في كلّ قديم أملا في أن يكون مستندا يوثّق تاريخها، نجد أنّه لا يُحيط بلغة العرب إلاّ نبيّ، وفي حين لا تجد بعض اللّغات إلا وثائق قليلة لتدوّن تاريخ كلماتها القليلة، بل قد تسطو اللغات الحديثة على كتب لغات قديمة تستمد منها نجد أنّ صدى العربية قد رنّ في ثروة لغوية وفكرية ضخمة، أعجزت كبار المؤّرّخين عن التأريخ للعربية وآدابها وعلومها، عبّر «كارل بروكلمان» عن استحالة الأمر بسبب «الكثرة والوفرة التي تضيع معها معالم البداية والنهاية 50».
ولا خلاف في أنّ رصيد المفردات للغة ما يشكّل احتياطها ومخزونها الذي تلجأ إليه، إلاّ أنّ تغيّر نظم الحياة الحديثة جعل «للكلمة في الأساليب العلمية الحديثة قيمة كبيرة، فهي تحيا حياة متطوّرة متجدّدة وهي أبدا في تغيّر في دلالاتها، وفي طرائق استعمالها»51. فهي حيّة ناشطة تتوالد باستمرار تقذف بالجديد في كلّ حين وزمان، وهي ضرورة بسبب الاستخدام لهذا الجديد52. فكلمة قطار التي أخذت في الجاهلية معاني التتابع واقترنت غالبا بتتابع قطرات الماء، انتقلت في العصر الإسلامي إلى فكرة التتابع، كتتابع الإبل والبغال والحمير والناس ومنها قطار النمل دلالة على تتابع النّمل، ثم صُرِفت بالمجاز إلى معان أخرى منها قطار العمر، قطار المنايا، قطار الأماني، قطار النصر، قطار الجود، قطار الكلمات، ومنه قطار الزواج، وفي العصر الحديث هو قطار البضائع والمسافرين53 ــ كلمة حكومة كلمة متطوّرة عبر العصور، فهي في العصر الجاهلي نظام الحكم وهو معنىً اتّفق عليه المستعملون في جميع أطراف الجزيرة بمعنى رئاسة القبيلة والأحلاف، والحكومة هي ما يحكم به الحاكم في خصومات الناس فهي بمعنى الخصومة، والحكومة في العصر الحديث نظام سياسي وهي أيضا جماعة من رجال الدولة المحسوبين على نظامها وإدارتها54. الملاحظ هو أنّه لا تتأسّس الدلالة الجديدة إلاّ على الأصل القديم، وكلُّ مفهوم جديد حقّ الجدّة، لابدّ أن يحدث القطيعة مع المدلول السابق ولكنّه لا يمكن أن يشكّل قطيعة جذرية تامّة يُمحى فيها الأثر القديم، بل إنّ التاريخ السليم هو الذي يجمع الماضي بالحاضر وينطلق بالإرث والتجديد معا. والملاحظ أيضا هو أنّ التطور يحدث بسلاسة، ولا يخرج عن بعض الأطر التي لا يتّسع المجال للتفصيل فيها، وهي مساحة لأوراق بحثية أخرى أن شاء اللّه تعالى.
خاتمة ونتائج الورقة البحثية
عبث وعبق التاريخ تلك العوامل التي تمرّ على المعالم في الزمان والمكان بما فيها المفردات، فتجعلها شبكة معقّدة متجانسة أو غير متجانسة، حسبما يُساق لها في تاريخها، ومستقبل المعجم التاريخيّ برمّته مرهون بتلوُّن المفردات بعوامل التاريخ. فالمطلوب هو عدم التجنّي على الحقائق كي لا يُصاب المعجمُ بالوهن وتضطرب موادُّه ويبطل مفعوله وهو وجه الخطر، وقد خلصت نتائج الورقة البحثية إلى ما يلي :
-
المعجم التاريخي ضرورة تطلبها مفردات اللغة الحيّة المتطوّرة، والمعجم التاريخيّ لا يلغي المعاجم اللغوية التراثية والحديثة، لذلك فالمعجم التاريخيّ معجم مفتوح، يتغذى ممّا اختطّه القدماء ودوّنوه، في مختلف المصادر
-
حرص القدماء على المعاني الجوهرية للكلمات بسبب خصوصية العربية وارتباطها الدّائم بالقرآن الكريم، وقد وجد القدماء هذا الطرح مناسبا لزمن العجمة التي أحاطت بالعربية من كلّ جهاتها،
-
فصل القدماء بين الفصيح والعاميّ، فجمعوا فصيح المفردات في المعاجم بينما أضرحوا للهجات، وجمعوا ما أمكن من الدخيل والمولّد والمعرّب فيما تيسّر من مؤلّفات تمييزا له عن الفصيح، وتركوا العاميّ لسنة التطوّر مع التنبيه على العجمة والرطانة، وفي هذا السلوك العلمي تنبيه على أهدافهم من التأليف المعجميّ في تلك المرحلة من مراحل تاريخ العربية،
-
استشعر المُعجميون وفلاسفة اللغة وعلماؤها روابط القرابة بين العربية والسامِّيات، لكنّهم لم يُمعنوا في تقصّي أبعادها تكريسا لمبدإ اللغة النقية والفصيح من الكلام، فالجهد منصبٌ ــ وبقصدية ــ على العربية دون غيرها، بفعل عوامل الانتماء والعصبية،
-
فكرة اللغة النقية تظلّ ملازمة للمعجم مهما كان نوعه، ولا يضير المعجم التاريخي للعربية الحديثـة من الاغتناء بألفاظ جديدة دخيلا واقتراضا وترجمة، وحتى ما ابتدعه العامّة. لكن مع ضرورة جريانها على القياس،
-
ضخامة المادّة المعجمية في العربية، وصعوبة فك أقفالها، تفرض وتكرّس صفة المعجم التاريخيّ المفتوح فلم يبق إلاّ إنفاق الأعمار بحثا وتنقيبا فيما كُتِب، لجمع شتاته واستدراك تأريخه، ولعلّ فقدان الحرص هو وجه الصعوبة التي تهدّد البحث في المعجم التاريخيّ، كما أنّ التحلّي بروح المسؤولية هو ورقة النجاح الفعّالة،
-
تفتح هذه الورقة البحثية المجال للتركيز على جهود المجامع اللغوية العربية الحديثة، الكثيرة المترامية في أطراف البلاد العربية، ورصد الطريق الذي شقّه الفاعلون في سبيل المعجم التاريخيّ؛ معجمَيْ الدوحة والشارقة قراءة واقتداءً وتقريبا وتنظيرا واهتماما.
-
المطلوب: إنّ القيام بواجب المعجم التاريخيّ يقتضي أن يعاد توجيه البحث العلميّ وجهة الثروات المعجمية وصلا لماضي الأمّة بحاضرها ومستقبلها فيتم :
-
تحديد أدوار المجامع إزاء هذه المسؤولية التاريخية العظيمة،
-
توسيع شبكة العاملين المؤهّلين لخدمة المعجم في الجامعات العربية، وفي مختلف التّخصّصات العلمية،
-
توسيع شبكات البحث في التأريخ لتطوّر دلالات المفردات الحديثة.
-
يتجدّد الرّجاء في أن يعاد توجيه طلبة العلم وجهة الثروات المعجمية، وصلا لماضي الأمّة بحاضرها ومستقبلها.