لقد لفت التراث النحوي العربي انتباه الدارسين له منذ القديم، وخصوصا كونه ظهر « مكتملا» مع « الكتاب» لسيبويه من دون أن يسجل لنا التاريخ مراحل نشأته والتأليف فيه، ويأتي اكتماله من حيث كونه أمدنا « بالمعلومة الضرورية التي تسمح لنا بإنتاج كل مؤتلف مقبول نحويا »1. ولا نرى أن النحاة العرب قصروا في هذا الجانب، ويكفي النظر في المنهج الذي اتبعه سيبويه لإدراك العمل الجبار الذي قاموا به. لم تكن بداية النحو العربي تاريخية ولا مقارنة بل جاءت آنية (سانكرونية) وصفية تخللتها ملاحظات وإشارات ذات طابع تعاقبي زمني/تاريخي (دياكروني).
إن « التداخل» الذي يبدو للبعض في منهج دراسة بعض موضوعات النحو العربي عند القدامى يعود في رأينا إلى الجهل بتاريخ اللغة العربية الذي أكسب آراءهم التاريخية نوعا من التداخل والتذبذب وربما « التعسف» أحيانا في تفسير الظواهر وتعليلها دون الاستناد إلى قاعدة أو نظرية معينة، وأكبر دليل على ذلك اختلافاتهم الكثيرة فيما بينهم إلى حد التناقض. غير أن ما قاموا به هو « اجتهاد علماء» انطلقوا مما توافر لديهم من معلومات ووسائل. إن كتب القدامى، على كثرتها وتناولها لموضوعات اللغة العربية المختلفة، والكتب التي أرخت للغة العربية، وخصوصا دراسات المستشرقين التي لا ينكر فضلها وريادتها، لم تفصل القول في الكثير من الألفاظ والاستعمالات الغامضة2؛ إلى أي مستوى تنتمي هذه الوحدات؟ وما هي ظروف نشأتها وعوامل تطورها؟
سنخصص هذه الدراسة لبعض الأدوات المركبة بحكم أن وظيفتها واحدة ومعناها واحد في الاستعمال، متميزة بهذه الـ « ما الزائدة »3. وقد جاءت إمّا « مستقلة » من حيث اعتبارها كلمة جديدة ذات معنى جديد، غير موجود في مكون من مكوناتها؛ وإمّا في شكل « تأديات/وجوه » (variantes)، سواء كانت « تأديات سياقية» أي تأدية من تأديات الأداة الأصل (المكوّن الأساس للتركيب) أو لمركب آخر، ونقصد بها التأدية المشروطة/المقيدة بسياق معين؛ أو كانت « تأديات حرة » أي تُستعمَل نفس استعمال الأداة الأصل في السياقات المختلفة دون شروط4.
لقد خاض القدامى في المركب؛ ففصلوا القول في الأسماء عموما والأعلام خصوصا وأيضا في الأفعال والعدد والظروف والأحوال. وقد كان تركيزهم في هذه الدراسات منصبا على أركان هذا التركيب وعلى دلالته وإعرابه5. ولكنهم لم يضبطوا قواعدهم في المركبات التي سوف نتعرض لها بالدراسة نظرا لكثرة الآراء والتأويلات.
إن دراسة الأدوات المركبة ليس أمرا هينا سواء تم تناوله آنيا أو تعاقبيا زمنيا6. ولئن كانت دراسات القدامى أشارت إلى استعمالاتها في اللغة (أغلبها مأخوذ من الشعر وبعض الأمثلة التي وضعها النحاة) وفي القرآن بصفة خاصة، فإنها تحتاج إلى دراسات كثيرة في عصرنا نظرا لما طرأ على معانيها من تغييرات، ونظرا لكونها تستعمل كوحدة واحدة تُعدّ فيها (ما) جزءا من الكلمة لا عنصرا زائدا. ولن تؤتي أي دراسة ثمارها إلا إذا فصلنا، من الناحية المنهجية على الأقل، بين العِلْمين/المستويين اللذين بنيت عليهما اللسانيات البنوية القائمة على أفكار دي سوسير؛ اللسانيات الآنية، أي لسانيات النظام، التي « تهتم بالعلاقات المنطقية والنفسية الرابطة للألفاظ المتجاورة المكونة للنظام كما تراه الذاكرة الجماعية »7، واللسانيات التعاقبية، أي « لسانيات الوقائع التي تدرس بالمقابل العلاقات التي تربط الألفاظ المتعاقبة ولكن غير منظور إليها من نفس الذاكرة الجماعية، والتي تتناوب دون أن تكوِّن نظاما بينها »8. علما أنه يصعب التفريق بين العلمين/المستويين كما يرى الكثير من الدارسين9، لأن الكلمات تخضع لمنطق خاص؛ فنحن لا نتحكم في وضعها ولا في تقعيدها ولا في تطورها أو زوالها10.
التركيب عند القدامى
أثار تجاور وحدات لغوية كثيرة تنتمي إلى أقسام مختلفة (أسماء، أفعال، حروف) اللغويين والنحويين من حيث إحداثه تغييرات سواء في الصوت أو في الصرف أو في التركيب أو في الدلالة؛ وقد أشار القدامى إلى هذه الظاهرة متناولين إياها من زوايا مختلفة؛ فنجدهم فصلوا القول في ظواهر تركيبية كثيرة (الأعداد والأسماء المركبة)، ولكن هذا التفصيل لم يؤد إلى استنتاج رؤية واضحة حول مركبات أخرى كما سنرى مع تلك التي جاءت فيها (ما) ملحقة.
جاء في التعريفات للجرجاني أن
« المركب هو ما أريد بجزء لفظه الدلالة على جزء معناه وهي خمسة : مركب إسنادي كـ (قام زيد) ومركب إضافي كـ (غلام زيد) ومركب تعدادي كـ (خمسة عشر) ومركب مزجي كـ(بعلبك) ومركب صوتي كـ(سيبويه)، والمركب التام ما يصح السكوت عليه أي لا يحتاج في الإفادة إلى لفظ آخر ينتظره السامع (...) والمركب غير التام ما لا يصح السكوت عليه ...».
ويرى ابن يعيش 1/2011 :
« أن التركيب على ضربين، تركيب إفراد وتركيب إسناد؛ فتركيب الإفراد أن تأتي بكلمتين فتركبهما وتجعلهما كلمة واحدة بإزاء حقيقة بعد أن كانتا بإزاء حقيقتين وهو من قبيل النقل ويكون في الأعلام نحو (معدي كرب) و(حضر موت) و(قالي قلا). ولا تفيد هذه الكلم بعد التركيب حتى يخبر عنها بكلمة أخرى نحو (معدي كرب مقبل) ...»12.
إننا نجدهم يذكرون مصطلح التركيب في كلامهم عن الأدوات موضوع البحث، لكنهم لا يدرجونها ضمن تصنيفهم لأنواع المركب؛ فابن يعيش (نقلا عن الكشاف 1/48) يرى أن « كأيٍّ مركبة، أصلها (أيّ) زيد عليها كاف التشبيه وجُعلا كلمة واحدة وحصل من مجموعهما معنى ثالث لم يكن لكل واحد منهما في حال الإفراد»، غير أن السيوطي (الأشباه والنظائر 1/210) نقل له رأيا غريبا نوعا ما حول (ولاسيما) سنشير إليه في المبحث الذي خصصناه لهذه الأداة.
وقد أشار سيبويه في نصوص كثيرة إلى مفهوم « الحرف الواحد» وهو الكلمة الجديدة الناتجة عن التركيب، مثل « إنّما» و« بعدما». يقول (2/137 و138) : « ونظيرُ (إنما) قول الشاعر وهو المرّار الفَقْعَسي :» أعَلاقةً أمَّ الوليد بعدما أفنانُ رأسكَ كالثّغام المُخْلِسِ « ، جعل (بعد) مع (ما) بمنزلة حرفٍ واحد وابتدأ ما بعده». ويقول في (4/221) : « وقد تغيِّر الحرفَ حتى يصير يعمل لمجيئها غيرَ عمله الذي كان قبل أن تجيء، وذلك نحو قوله : إنما وكأنما ولعلما : جعلْتهن بمنزلة حروف الابتداء. ومن ذلك حيثما صارت لمجيئها بمنزلة أين».
لم يتوقف من جاء بعد سيبويه عند هذا المصطلح من النظر في استعمالات هذا المركب كـ« حرف واحد »، وإنما خاضوا في قضايا تاريخية كثيرة في أثناء دراستهم الآنية مبتعدين شيئا فشيئا عن الاستعمال، ربما ظنا منهم أن هذا أهم من تتبع ما طرأ على التركيب من تغيّر في الدلالة، على الرغم من أن الخوض في تأويل الظاهرة تاريخيا لا يؤدي حتما إلى نتائج أفضل وأوضح، وكما يقول ك.توقبي (K.Togeby) : « يمكن القيام بوصف آنيّ جيد من دون أي تقعيد /تقديم تاريخي »13.
لقد أشار الكثير من اللغويين14 والنحاة، إلى ظهور وحدات جديدة، ولكنهم لم يصلوا إلى حد صياغة قانون ينظم هذه الآلية، كما سنرى في تعليقات القدامى حول بعض الأدوات النحوية التي مستها ظاهرة التركيب هذه؛ إننا نلاحظ أن الطريقة التي اعتمدها ابن جني في تحديد (لولا) واضحة، فيها من الجانب التاريخي ما يسمح بفهم المركب الجديد فحسب؛ فهو يعلق (سر صناعة الإعراب 1/305) على (لولا) قائلا :
« (...) فهذا يدلك على أن الشيئين إذا خلطا حدث لهما حكم ومعنى لم يكن لهما قبل أن يمتزجا، ألا ترى أن (لولا) مركبة من (لو) و(لا)، ومعنى (لو) امتناع الشيء لامتناع غيره، ومعنى (لا) النفي أو النهي. فلما رُكِّبا معا حدث معنى آخر هو امتناع الشيء لوقوع غيره».
وقد يتكرر هذا النوع من الملاحظات، الذي يغلب عليه الاجتهاد الشخصي؛ جاء في المغني (ص303) :
« ...وأن (ما) الكافة أحدثت مع الباء معنى التقليل كما أحدثت مع الكاف معنى التعليل في نحو {واذكروه كما هداكم}، والظاهر أن الباء والكاف للتعليل وأن (ما) معهما مصدرية، وقد سلَّم أن كلاً من الكاف والباء يأتي للتعليل مع عدم (ما) كقوله تعالى {فبظلم من الذين هادوا}15، {ويكأنه لا يفلح الكافرون} (...) ».
وذكر السيوطي في الأشباه (1/210) :
« قال أبو حيان : قد يحدث بالتركيب معنى وحكم لم يكن قبله، ألا ترى أن (هل) حرف استفهام تدخل على الجملة الاسمية والفعلية، فإذا ركبت مع (لا) فقيل : هلا، صار المعنى على التحضيض، ولم تدخل إلا على الفعل ظاهرا أو مضمرا. وكذلك (لو) كانت لما كان سيقع لوقوع غيره، ولا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا، فإذا ركبت مع (لا) صارت حرف امتناع لوجود واختصت بالجملة الاسمية».
أما التعليقات التي يذكرها الرماني في بعض الأدوات، فنرى فيها الكثير من التأويل (والتكلّف) الذي يزيد الأمر تعقيدا. يقول الرماني (ص100) في (لن) : « فأما الخليل فذهب إلى أن أصلها (لا أن)، إلا أن الهمزة حذفت تخفيفا فالتقى الألف والنون فحذفت لالتقاء الساكنين فبقيت (لن) ولا ينتصب فعل عند الخليل إلا بأن مضمرة أو مظهرة وألزمه سيبويه ألا يجيز (زيدا لن أضرب)، لأن زيدا في صلة أن لأنه مفعول ضرب (...)». وجاء في (ص104) حول (منذ) : « وزعم بعض الكوفيين أنها مركبة من (من) و(إذ) وأصلها (من إذ) إلا أن الهمزة حذفت ووصلت (من) بالذال وضمت الميم للفرق بين (من) مفردة وبينها مركبة، فإذا جررت (ما) بعدها غلبت حكم (من)، وإذا رفعت (ما) بعدها غلبت حكم (إذ)...». وجاء في (ص126) حول (إلاّ) :
« وقال الفراء : الأصل في (إلاّ) (إنْ لا) فأسكنت النون وأدغمت في اللام؛ فإذا نصبت نصبت بأن، وإذا رفعت رفعت بلا. وهذا فاسد لأنه لا خلاف بينهم في جواز ما قام إلا زيد برفع زيد، لأنه لا شيء قبله يعطف عليه، وليس في الكلام منصوب فتكون إن عاملة فيه، وإذا كان كذلك فسد ما ذهب إليه».
نرى في هذه المقاطع أن تركيزهم يدور حول وظائف العناصر المركِّبة للفظة وليس على وظيفة المركب في حالته النهائية؛ ثم إن بحثهم في أصل التركيب بقي داخل إطار اللغة العربية ولم يتعدّه إلى اللغات السامية الأخرى لعلّه يكون سببا في فهم ناموس هذا التحول.
ومما يلاحظ أيضا أنه يغلب على هذه الإشارات الاجتهاد الشخصي الذي لا يستند في كثير من الحالات إلى رؤية واضحة ذات خلفية نظرية معينة، وهناك تعليقات كثيرة شبيهة بما جاء في ارتشاف الضرب لأبي حيان الأندلسي (2/789) :
« وأما (كأيِّن) فزعموا أنها مركبة من كاف التشبيه ومن (أيٍّ) قيل الاستفهامية، وحُكيت فصارت كيزيد مسمَّى به يُحكى ويُحكم على موضعه بالإعراب. وقال ابن عصفور : الكاف فيها زائدة لا تتعلق بشيء. وأجاز ابن خروف أن تكون مركبة من الكاف التي هي اسم، ومن (أيّن) اسم على وزن فيعل، ولم يستعمل هذا الاسم مفردا بل مركبا مع كاف التشبيه، وهو مبني على السكون من حيث استُعمل في معنى (كم). وقال بعض أصحابنا : ويحتمل أن تكون بسيطة، انتهى. وهذا الذي كنت أذهب إليه قبل أن أقف على قول هذا القائل».
وقد تصل محاولة تفسير ظاهرة التركيب حدا بيِّن فيه التصنعُ والتكلف، وهذا دليل، كما سبق القول، على غياب مرجعية أو آلية يُستند إليها لتفسير هذه الظواهر، وعلى افتقارهم لمعطيات ومعلومات تخص تاريخ اللغة العربية. ذكر ابن هشام في المغني (ص282) :
« وتأتي (لما) مركبة من كلمات، ومن كلمتين. فأما المركبة من كلمات فكما تقدم في {وإنَّ كلاًّ لمَّا ليوفينهم ربك} في قراءة ابن عامر وحمزة وحفص بتشديد نون (إنّ) وميم (لمَّا) فيمن قال : الأصل (لمِنْ ما) فأبدلت النون ميما وأدغمت، فلما كثرت الميمات، حذفت الأولى وهذا القول ضعيف، لأن حذف مثل هذه الميم استثقالا لم يثبت، وأضعف منه قول أخر : إن الأصل (لمًّا) بالتنوين بمعنى جمعًا...وأضعف من هذا قول آخر إنه فعلى من اللمم...واختار ابن الحاجب أنها (لمَّا) الجازمة حذف فعلها، والتقدير لمَّا يُهمَلوا، أو لمَّا يُتركوا...»
إنه لا يمكن تفسير هذه الظواهر في رأينا إلا بالعودة إلى خصوصية العربية، اللغة التي ظهرت كاملة راقية، لغة شعر وخطابة، وإن رقيها في نقل دلالات « المدنس » بوّأها وهيّأها لأن تكون لغة « المقدس »؛ فقد ترقت ترقيا أكثر من أخواتها، وارتفعت إلى درجة فوق درجتها»16 وربما كان هذا من الأسباب التي جعلتهم يبدعون في وصفها وتقعيدها انطلاقا من الاستعمال، إذ »ليس للغة وجود إلا في أذهان وأفواه من يستعملونها»17، وحينما استوقفتهم بعض الظواهر مثل بعض الأدوات المركبة راحوا يفسرونها انطلاقا من « الآني» وليس من « التاريخي» بلا منهجية واضحة، بل خلطوا في أحيان كثيرة بين المستويين18. ويعود هذا في رأينا إلى أسباب منها إعجابهم بفصاحتهم في المقام الأول، وانبهارهم بالقرآن الذي تحداهم لغويا ومعرفيا، إضافة إلى جهلهم بتاريخ لغتهم وباللغات الأخرى، وخصوصا السامية منها، ولهذا جاءت تأويلاتهم كثيرة تصل إلى حد التناقض. غير أنه ينبغي أن نقر أن إدراك هذا الأمر ليس هينا، فالغربيون لم يميزوا بين الآني والتعاقبي إلا بعد أكثر من قرن من الدراسات التاريخية التي سمحت لهم بالاطلاع على تاريخ لغاتهم والعائلات التي تنتمي إليها وعلى لغات أخرى كثيرة بسبب توسعاتهم الاستعمارية. إن الإطار الذي وصف فيه العرب لغتهم ينطبق عليه تحديد البعض للآنية بصفتها »مفهوما تتحقق فيه التناقضات بين حال (état) اللغة والنظام/النسق (système)، بين الحقيقة والتجريد»19.
لقد ذكر برجشتراسر، بحكم اطلاعه ومعرفته بلغات أخرى، الكثير من القضايا التي قد تفسر تركيب بعض الألفاظ العربية مثل (ص83 وما بعدها) : (هذه)، (تلك)، (أولئك). وذكر في ص179 : « ... و(أم) حديثة عربية، أصلها ?a-ma، كما أن (لم) أصلها la-ma، و(كم) أصلها ka-ma، و(لكن) مركبة من (لا) و(كِنْ) المقابلة لـ (ken) العبرية و(ken)الآرامية... »20.
مفهوم الوحدة المركبة (synthème)21
قدمت النظريات اللسانية الحديثة حلولا لبعض المشكلات التي واجهتها النحُوّ القديمة بحكم محدودية المعطيات والآفاق. وتعد المدرسة الوظيفية الفرنسية رائدة في اجتهاداتها على مستوى الصوتيات الوظيفية (phonologie) وعلم التراكيب (syntaxe). ومن بين إبداعاتها إعادة ضبط ما يعرف بالفروع/المستويات اللغوية؛ فقد أضاف أ. مارتيني، رائد هذه المدرسة، فرعا سمّاه synthématique بحيث يرى (ELG,208) أن هذا المفهوم ضروري للمستوى التركيبي. يدرس هذا الفرع الوحدات المسماة synthèmes وقواعد تركيبها، وأنواع الزوائد المختلفة بالنسبة للمشتقات، وأيضا البنى المختلفة للمركبات22؛ فهو يدرسها من حيث إحصاؤها وصرفها وتراكيبها وقيمها (معناها السياقي)23.
يميز الوظيفيون24 بين الوحدة التركيبية المؤلفة من الوحدات الدالة من نوع syntagme (مثل : السنة الماضية، في السيارة، بحقائبي، الخ)، وبين الائتلاف (complexe) المكون من الوحدات البنائية (constitutifs) الخاصة بالمركب (composé) والمشتق (dérivé). تُنعت هذه الوحدات بالمقيدة/السياقية في مقابل الوحدات المسماة حرة المكوِّنة للمركبات.
يخلص مارتيني، بعد دراسة دقيقة لهذه المفاهيم إلى أن « المبدأ يتمثل في كون الوحدة، أي المركب الجديد، التي يتكرر استعمالها، وبالتالي يكون لها خاصية مونيم25 وحيد، يُفترض معاملتها معاملة مونيم وحيد»26.
فـ(synthème)، من وجهة نظر أ. مارتيني، « هو دليل لغوي تُظهر عملية الاستبدال أنه منتوج تأليف عدة أدلة في شكلها الأدنى، ولكنها تتصرف ازاء المونيمات الأخرى كوحدة وحيدة. وهذا يعني أن لها نفس شروط استعمال وحدات القسم التي تنتمي إليه، ولا يدخل أي مكون من مكوناته البنائية في علاقات خاصة مع أي مونيم لا ينتمي إلى هذه الوحدة المركبة (synthème) »27.
وقد لاحظ مؤلفو « النحو الوظيفي للغة الفرنسية» أن أغلب الوحدات الدالة (المونيمات) في اللغة الفرنسية هي في الأصل وحدات دالة مركبة (synthèmes) قديمة28.
وعلى هذا الأساس يمكن لأي لفظة أن تُكَوِّن مع لفظة أو لفظات أخرى مركبا جديدا من نوع (سانتيم)، سواء كان اسميا (ماجرى/ماجريات) أو فعليا (يبسمل) أو غير ذلك (على مقربة من/بالإضافة إلى/زيادة على/فضلا عن/بمجرد ما/رام الله/لا شرقيةَ / الخ)29.
وباعتمادنا على هذا المفهوم، نرى أن أغلب الأدوات التي أُلحقت بها (ما) وكوّنت معها» معنى ثالثا « ، كما رأى القدامى، هي عبارة عن وحدات مركبة (synthèmes) يحق لها أن تعامل معاملة كلمة واحدة، سواء من حيث الدلالة أو من حيث الإعراب، ويمكن أيضا ضبطها كتابيا، وهذا يجعلنا نتخلص من بعض التعقيدات والتأويلات البعيدة في كثير من الأحيان عن المنهج العلمي.
نماذج للدراسة
لاسيما
هو مركب مستقل مكوَّن من (الواو) و(لا) و(سيّ) و(ما)، جيء به لمعنى التخصيص والتنبيه. ويعدّ من أكثر المركبات جدلا من حيث محاولة تفسير تركيبه تاريخيا أي بالنظر إلى دلالة كل مكوّن على حدة. وربما بالغ القدامى في اهتمامهم بالبعد التاريخي لأنه أثر سلبا في معرفة حقيقته في الاستعمال؛ إذ أصبح ينظر إلى العناصر المركبة له، وهو في حالة (synthème)، أي في حالة وحدة تعمل ككل، كأنها عناصر تركيب من نوع (syntagme)، أي عوملت معاملة التركيب الإسنادي والإضافي. جاء في الكتاب 2/286 :
« وسألت الخليلَ رحمه الله عن قول العرب : ولاسيما زيدٍ فزعم أنه مثل قولك : ولا مثلَ زيدٍ و(ما) لَغوٌ... وقال : ولاسيما زيدٌ كقولهم دعْ ما زيدٌ وكقوله : {مثلاً ما بَعوضةٌ}، فـ(سيٌّ) في هذا الموضع بمنزلة (مثل)، فمن ثمّ عملتْ فيه (لا) كما تعمل (رُبّ) في (مثل) وذلك قولك : ربّ مثلِ زيدٍ».
ينبغي أن يُنظر إلى كلام سيبويه من الناحية التاريخية للكلمة، أي في تاريخ هذا التركيب وكيفية عمله وفق فلسفة اللغة العربية، ولذلك لاحظنا استعماله القياس كآلية لكشف نظام هذه اللغة. وانطلاقا من هذا فإن التقريب بين (ولاسيما) و(لا طالب)، من حيث كون (لا) نافية للجنس في المثالين، فيه نوع من التعميم الذي لا مبرر له. إضافة إلى كون (ولاسيما)، بالواو أو من دونه، كثر استعمالها كوحدة ذات دلالة واحدة لا تتغير. وقد وقفنا على إشارات لبعض منهم يرون فيها أداة مستقلة انطلاقا من الاستعمال وليس من دلالة العناصر التي تكونها؛ يقول الرضي (ص793) : « فإذا قلت : أحب زيدا ولاسيما (راكبا على الفرس) فهو بمعنى وخصوصا راكبا، فراكبا حال من مفعول الفعل المقدر، أي وأخصه بزيادة المحبة خصوصا راكبا »30. وقد نقل لنا ابن هشام (المغني 140) آراء كثيرة تبيّن مدى الاختلاف حينما يُجزّأ ما يمكن أن يُنظر إليه مجملا؛ فهو يرى بأنه »يجوز في الاسم الذي بعدها الجر والرفع مطلقا، والنصب أيضا إذا كان نكرة (ولاسيما يومٌ/يومًا/يومٍ) و(ما) زائدة بينهما31...و(ما) موصولة أو نكرة موصوفة بالجملة والتقدير ولا مثل الذي هو يوم، أو لا مثل شيء هو يوم...ووجّهه بعضهم بأن (ما) كافة وأن (لاسيما) نزلت منزلة (إلا) في الاستثناء، ورُدّ بأن المستثنى مُخرَج، وما بعدها داخل من باب أولى، وأجيب بأنه مخرج مما أفهمه الكلام السابق من مساواته لما قبلها، وعلى هذا فيكون استثناء منقطعا« . وقد توقف السيوطي (الهمع، 3/291) مطولا عند اختلافاتهم حول دلالتها على الاستثناء مستشهدا بأقوال البصريين والكوفيين. وقد خلص إلى القول : « ...والصحيح أنها لا تعد من أدوات الاستثناء لأنه مشارك لهم في القيام وليس تأكيد القيام في حقه يخرجه عن أن يكون قائما...ومما يبطل ذلك دخول الواو عليها وعدم صلاحية « إلا » مكانها بخلاف سائر الأدوات، فالمذكور بعدها ليس مستثنى، بل منبِّه على أولويته بالحكم المنسوب لما قبلها». وإننا نرى أن وظيفة التنبيه هذه (أو التفضيل أو التخصيص كما أشارت كتب أخرى)، التي جاءت بها (ولاسيما) هي التي جعلتنا نعدّها مركبا مستقلا يخرجنا من متاهة نفي الجنس، ودلالة (سيَّ)، والبحث عن اسمٍ وخبرٍ لها. وإننا لاحظنا أن المتأخرين لم يجتهدوا كثيرا، فقد كانوا مقلدين وتابعين، بل ربما زادوا الأمر تعقيدا من خلال التعامل معها على أساس ما جاء في بعض كتب الأولين التي اعتمدت على تفسير الأداة تفسيرا تاريخيا، على الرغم من أهميته، وليس آنيا32. جاء في كتاب التدريبات اللغوية (ص163) : « في كيفية إعراب الاسم الواقع بعد (لاسيما) : إذا ضبط مرفوعا تكون (ما) موصولة مضافا إليه، وما بعدها خبرا لمبتدأ محذوف تقديره (هو). وإذا ضبط مجرورا تكون (ما) زائدة، وما بعدها مضافا إليه، ويكون خبر (لا) محذوفا تقديره : موجود». إن التأمل في هذا النص الموجه للمتعلمين والمدرسين يبيِّن الضبابية الناجمة عن عدم التفريق بين ما هو آني وما هو تاريخي؛ فلِمَ لا ينظر، وهذا مقترحنا، إلى الأداة ككل ويُربَط الاسم الذي يأتي بعدها بما سبقه؟ فإذا عدنا إلى مثاليْ كتاب »التدريبات اللغوية« : أحب الرياضةَ ولاسيما السباحة / - أحب الشعرَ ولاسيما الشعر القديم
فإننا لا نرى مبررا للرفع أو الخفض بناء على ما رآه مؤلفو الكتاب وإنما النصب (وقد جوّز االقدامى ذلك)؛ فالاسم الذي جاء بعد (ولاسيما) يُعد »جزءًا« من »كل« ، »السباحة« و »الشعر القديم« جزء من »الرياضة« و »الشعر« ، وإذا كان »الكل« منصوبا فلِم لا يكون »الجزء« كذلك، ويعرب »اسما مخصَّصًا" منصوبا. ولو كان المثال : « الرياضةُ مفيدةٌ ولاسيما السباحةُ » أو « في الرياضةِ فائدةٌ ولاسيما السباحةِ »، فيكون الاسم الواقع بعد (ولاسيما) « اسما مخصَّصًا مرفوعا أو مجرورا »، من دون أن ندخل في تأويل (ما) مادامت قد أصبحت مع باقي مكونات (ولاسيما) كلمة واحدة (synthème) تعرب أداة تخصيص33 وتنبيه عوض إعرابها مجزأة من دون مبرر. وقد لاحظنا أن هناك « تنافسا» بين أشكالها الثلاثة في استعمالات المعاصرين (ولاسيما/لاسيما/سيما).
بعدما
مركب جاء كتأدية سياقية لـ(بعد) بسبب دخوله على الفعل34. ودخول (بعدما) على الفعل كثير وعام في العربية، قديما وحديثا. وقد اعتبرت (ما) مصدرية في الشواهد التي ذكرها النحاة؛ فقد ذكر محمد عضيمة35 معلقا على شرح الآية {وانتصروا من بعد ما ظلموا}(الشعراء 227) أن الرضي (2/359) جعل ما الواقعة بعد (بعد) في هذه الآية مصدرية. ويبدو أنها كذلك في كل استعمالاتها قبل الفعل. أما حينما استعملت، أي (بعد)، قبل الاسم، فإنها عُدّت « كافة». يرى ابن يعيش (8/131)، وهو يعدّها اسما، والسهيلي أيضا36، أن (ما) كافة معتمدين الشاهد المشهور (أَعَلاقَةً أُمَّ الوُلَيِّد بعدَما أَفْنانُ رأْسِك كالثَّغام المُخْلِسِ)؛ غير أن اعتماد الجميع على شاهد واحد يجعل من هذا البيت، في رأينا، بيتا شاذا، ولو نظروا إلى أن فيه حذفا (بعدما أصبحت أفنان رأسك...) لحُلّ الإشكال وبالتالي فلا داعي إلى استعمال مصطلح « كافة » هنا. ويبدو أن (بعدما) تتناوب الاستعمال مع التأدية السياقية الأخرى (بعد أن)؛ وعليه يصبح لدينا ثلاثة استعمالات يفترضها السياق : بعد الذهاب/بعدما ذهب/بعد أن يذهب؛ إذ تستعمل (بعد) مع المصدر، و(بعدما) مع الماضي، و(بعد أن) مع الحاضر. لم تذكرها المعاجم على اعتبار أن (ما) مصدرية أو موصولة أي أنها مستقلة عن (بعد).
بينما
مركب مستقل يتكون من الظرف المبهم (بين) و(ما)، جيء به للدلالة على تزامن حدثين37 وبالتالي الربط بينهما، ومن سماتها تصدر الجملة. عدّ ابن يعيش (8/131) (ما) كافة : « ألا ترى أن (بعد) و(بين) حقهما أن يضافا إلى ما بعدهما من الأسماء ويجراه، وحين دخلت عليهما (ما) كفتهما عن ذلك ووقع بعدهما الجملة الابتدائية». وهنا أيضا لا نرى ضرورة لمصطلح « كافة»؛ فـ(بينما) يليها الاسم والفعل، ودلالتها تختلف كليا عن دلالة (بين). ويمكن تفسير الاضطراب الموجود في كتب النحو والمعاجم إلى « الخلط» بين المستويين، الآني والتاريخي؛ إذ إننا نجد العلاقة بينهما في ما ذكره المنجد من أنّ (بين) « ظرف بمعنى وسط يقال بينا أو بينما نحن نضرب أي بين أوقات ضربنا فيعوض بالألف أو بما عن كلمة أوقات المحذوفة». وقد ذكرها المعجم الوسيط أيضا ضمن مدخل (بين)، مشيرا إلى كونها تأتي ظرف زمان للمفاجأة38، أي بمعنى غير موجود في دلالة (بين). أما معجم النحو فقد خصص لها مدخلا مستقلا ولكن على أنها الظرف (بين) ألحق به (ما) لأسباب تركيبية، وهذا رغم ذكره لمعنى « المفاجأة». أما المعجم الوافي فقد ذكرها هو أيضا مستقلة موردا كل الآراء بلا تمحيص أو تمثيل أو مراعاة لاستعمالاتها39. وتبين الأمثلة التالية المأخوذة من الاستعمال الفرق بينها وبين مكونها الأساسي (بين) :
- « ماذا يوجد بين السماء والأرض؟»
- « (...) فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأَقْرَبُ ...» (حديث)
- « (...) وتوفر له ساعات من المتعة، بينما هو ينمي في نفسه مهارات حيوية (...)».
حينما
مركب من الظرف المبهم (حين) و(ما)، يستعمل كتأدية حرة لـ(حين). ويبدو أنه متأخر الظهور؛ إذ استعمله ابن منظور في معجمه مرة واحدة (باب خضع) : (...ولم يرد وبَد متعدّياً إلا بـ(على) حينما يكون بمعنى غضب...). لم يذكره المنجد ولا المعجم الوسيط ولا معجم النحو، بينما ذكره المعجم الوافي في مدخل (حين) على اعتبار أن (ما) زائدة. هذا المركب كثير في لغة المعاصرين، وغالبا ما يأتي مرادفا لـ(عندما) و(لمَّا).
عندما
مركب مستقل مكون من الظرف (عند) و(ما)، جيء به للدلالة على تزامن الأحداث وعلى وجود علاقة سببية وعلى المقابلة. لم يشر إليه سيبويه في كتابه. أما حديثا فقد بدأت تشيع عبارات تستعمل للإثارة نُسجت نسجا خاصا مستهَلَّة بالمركب (عندما)، وهي تستغل في عناوين الكتب والأفلام والمسلسلات مثل (عندما يبكي الرجال). ويستعمل كتأدية حرة لـ« إذ »40، وكمرادف لـ(حينما) و« لمّا ». لم يشر إليه المنجد ولا المعجم الوسيط ولا المعجم الوافي على الرغم من تخصيصهما حيزا لا بأس به لـ« عند» واستعمالاتها. أما معجم النحو فقد ذكرها مستقلة ممثلا لذلك بمثال من العربية المعاصرة.
دونما
مركب مستقل مكون من الظرف (دون) و(ما)، للدلالة على غياب الشيء أو انعدامه، وهي بهذا تكون بمعنى (من غير) و(بلا) و(من دون). ويبدو ألا أثر لهذا المركب في كتب القدامى ومعاجمهم. وقد وجدناه في معجم اللغة العربية المعاصر (إلكتروني)؛ إذ عدّه ظرفا مركبا من (دون) و(ما) بمعنى (غير)، وهو في الحقيقة بمعنى (من غير) كما جاء في استعمالات المعاصرين : (دونما انتباه/دونما إقصاء)، وفي الشعر : نزار قباني (مواطنون دونما وطن ... مسافرون دون أوراق ... وموتى دونما كفن). ويبدو، حسب ما وقفنا عليه من أمثلة، أن الاسم الذي يليه يكون دائما نكرة. لم يُذكر في المعاجم، العامة والمختصة، التي عدنا إليها.
ريثما
ظرف عبارة عن مركب من (ريث) التي تحولت من حالة المصدرية بمعنى (المقدار) إلى الظرفية، ومن (ما) الزائدة41، ويمكن عدّه تأدية سياقية لـ(ريث) من حيث أن (ريث) تدخل على المضارع و(ريثما) على الماضي. ويعدّ هذا المركب مرادفا لـ(قدر/قدرما)، و(ما) هنا زائدة وليست موصولة. وربما يعطينا النص الآتي من « لسان العرب» صورة عن استعمالاتها قديما : « ... وما فعَلَ كذا إِلاَّ رَيْثَ ما فعَلَ كذا؛ وقال اللحياني عن الكسائي والأَصمعي : ما قَعَدْتُ عنده إِلاَّ رَيْثَ أَعْقِدُ شِسْعِي، بغير أَن، ويستعمل بغير ما ولا أَن؛ وأَنشد الأَصمعي لأَعْشَى باهِلةَ :» لا يَصْعُبُ الأَمْرُ إِلاّ رَيْثَ يَرْكَبُه، وكلَّ أَمْرٍ، سِوَى الفَحْشاءَ، يَأْتَمِرُ
« وهي لغة فاشية في الحجاز؛ يقولون : يُريدُ يَفْعَلُ أَي أَن يَفْعل؛ قال ابن الأَثير : وما أَكثَرَ ما رأَيْتُها واردةً في كلام الشافعي. ويقال : ما قَعَدَ فلانٌ عندنا إِلاَّ رَيْثَ أَن حَدَّثَنا بحديث ثم مَرَّ، أَي ما قَعَد. إِلاّ قَدْرَ ذلك؛ قال الشاعر يعاتِبُ فِعْلَ نَفْسِه :» لا تَرْعَوِي الدَّهْرَ إِلاَّ رَيْثَ أُنْكِرُها، أَنْثُو بذاكَ عليها، لا أُحاشِيها « ، وفي الحديث : فلم يَلْبَثْ إِلاّ رَيْثما قُلْتُ؛ أَي إِلاّ قَدْرَ ذلك».
ذكرتها المعاجم التي اعتمدناها على أنها (ريث) دخلت عليها (ما) مكررين ما قاله القدامى بلا تعليقات مهمة، علما أن استعمالها كثير في العربية المعاصرة من دون أن تكون مختصة بالماضي؛ فقد وقفنا على استعمالات من نوع (ريثما يتم/ريثما يعود).
مثلما
مركب مستقل من (مثل) و (ما)، يعمل كظرف يدخل على الأفعال، ويأتي مرادفا لـ(كما) و(كيفما). لا نجد له أثرا في الدراسات القديمة على الرغم من وجوده في « لسان العرب» في بيت للأعشى يصف شَرْبًا : (فترى القومَ نشاوَى كلَّهم مثلما مُدَّتْ نِصاحاتُ الرُّبَحْ). وقد يعود السبب في رأينا إلى كون اعتبار (ما) الملحقة بـ(مثل) في القرآن وفي غيره موصولة؛ فإن كان تأويلها في القرآن يصلح للموصولة فقط، فإن مجيئها في استعمالات أخرى قد يؤدي إلى تكوين وحدة جديدة مثلما هو حال البيت المذكور. لم تذكره المعاجم اللغوية والنحوية الحديثة على الرغم من كثرة استعماله في عربيتنا المعاصرة. وقد ذكر بهماني أمرا مهما يتمثل في تبيين العلاقة بين (مثل) و(مثلما) وذلك بتقريبه بين (ولا ينبئك أحد مثلما ينبئك خبير) والآية {ولا ينبئك مثل خبير} (فاطر،14)42.
خاتمة
اتضح لنا من خلال هذا البحث أن العلماء العرب القدامى تناولوا التركيب في دراساتهم وقد حللوا بعض أنواعه وفصلوا فيها القول. وقد أشاروا إلى أنواع أخرى، مثل الأدوات التي درسناها، ولكن من دون أن يولوها استقلالية في البحث مثلما تعاملوا مع « الأعلام» و« العدد». وقد لاحظنا أن لهم إشارات دقيقة جدا فيما يخص المعنى الجديد الناتج عن التأليف الحاصل بين وحدتين أو أكثر، غير أنهم لم يصوغوا هذا في قالب رؤية شاملة، فنظرتهم كانت لا تضع حدودا بيِّنة بين ما هو آني (تزامني) وما هو تعاقبي (تاريخي)، ولذلك راحوا في أحيان كثيرة يتكلفون في وضع الأمثلة وتأويلها، كل حسب مقصده. لقد ذكروا أدوات مركبة كثيرة مستقلة في الاستعمال، تركيبا ودلالة، ولكنهم لم يعطوها حقها في الاستقلالية من حيث وجودها في أبواب أو مداخل مستقلة في النحو وفي المعجم، على الرغم من معاملتهم لمركبات أخرى معاملة مخالفة، أي آنية (سانكرونية)، مثل (لمَّا) و(مهما) مع خوضهم في بعدها التاريخي (الدياكروني) من دون فائدة كبيرة نظرا لجهلهم بتاريخ لغتهم وباللغات الأخرى، وخصوصا السامية منها. وقد صدق برجشتراسر حينما صرح بأنه « إذا نظرنا إلى ما وفق إليه علماء الشرق والمستشرقون، من الكشف عن اللغة العربية، وجدناه قليلا ناقصا، بالنسبة إلى الواجب والكامل. والنجاح في باب النحو والصرف، أكبر منه في باب المفردات».
أما فيما يخص العرب المحدثين، فقد لاحظنا أنهم كان يغلب عليهم تقليد الأوائل؛ أعادوا آراءهم وكرروا أمثلتهم. لقد كانوا بعيدين عن دينامية اللغة العربية وعما استُحدث من أساليب واستعمالات، سواء في اللغة الأدبية، بنثرها وشعرها، أو في اللغة العادية. أي أنهم لم يستفيدوا من منهج القدامى في تتبع هذه الأدوات ولا من النظريات اللسانية الحديثة في ضبطها وتتبع تطورها حتى ينعكس هذا على تعرّف بعض أسرار تطور الدلالات وأثره البيّن على تعليم اللغة العربية.
لقد تتبعنا الكثير من هذه الأدوات مستفيدين مما قدمته المدرسة الوظيفية الفرنسية في إطار طرحها لمستوى مستقل يسمى synthématique وهو فرع يدرس الوحدات المركبة المسماة synthèmes. لقد استنتجنا أنه يمكن النظر إلى (ما) هذه من منظور جديد، وهو أنه، حينما تلحق بأداة أخرى (نواة المركب)، وتعطينا معنى جديدا (مستقلا عن معنى الأداة النواة)، تصبح وحدة/أداة جديدة synthème يحق لها أن تعامل كذلك في النحو وفي المعجم. أما إذا كانت مجرد تأدية، حرة أو سياقية، للنواة الملحقة بها أو لأداة أخرى، فإنه يمكن لها أن تُدرس ضمن الأداة التي هي لها تأدية. فـ(ما) في هذه الحال تصبح عاملا في تكوين وحدات جديدة لا علاقة لها بدلالة أي مكون من مكوناتها.
لقد بينا أن معاجمنا، سواء العامة أو المختصة، لا تفرق هي أيضا بين ما ينتمي إلى الآني وما ينتمي إلى التاريخي، وأنهم لا يقدمون الكثير للمتعلم، خصوصا ما يتعلق بالاستعمالات المعاصرة، على الرغم من كون هذا الأمر من سمات المعاجم وخصوصياتها. وانطلاقا من هذا نرى ضرورة إعادة النظر في ضبط الكثير من الأدوات سواء في المعاجم أو في كتب النحو نظرا لما لهذا الأمر من تأثير على تعلّم اللغة.
وقد لاحظنا أيضا أن عدم ضبط هذه الأدوات، تركيبيا ودلاليا، أثر سلبا على كتابتها؛ فمرة نجد (ما) مستقلة ومرة لاصقة، وهذا يجعل القارئ، انطلاقا من الكتابة، يعربها إعرابين مختلفين دون مراعاة للسياق وخصوصيته.
Swiggers, P. (1995). Synchronie, diachronie et pragmatique ; d’une dichotomie de la langue à l’interaction dans la langue. Langue française, 107(1), 7‑24. https://doi.org/10.3406/lfr.1995.5301