مقدمة
على الرغم من هيّمنة الرؤية الانفصالية في بعض الفترات الزمنية، وتجذّرها كبراديغم حكم سير العلاقات بين المنظومات المعرفية والعُلوم، وأحلّ قطائع بداعِ التخصُّص وعدم التلاقي لاختلاف المنهج والموضوع، فإنّها تعرّضت لحَملات نقدية من طرف الفلاسفة والمُفكِّرين. والحقّ أن التاريخ الفلسفي والعِلمي قد شهِد صراع بين مُريدي الرؤية الأحادية الضيّقة، الذين ركّزوا نظرهم حول مسألة واحدة ولم يعقدوا ذلك النظم الوثيق، وبين مُريدي الرؤية التكامُلية الرحِبة، التي تتشارك اصطلاحات: الدراسات البينية، التقريب، التيّسير، التركيب، وتحت مُسمّى أكثر حُضورًا وهو التكامُل المعرفي. ستزداد الحاجة إليه ويقوى التأسيس له في فترة الفكر المُعاصر، مع التقدّم الحاصِل وانفتاح العُلوم، والنتائج السلبية التي خلّفها منطق الفصل، وسيبرز في السياق الإسلامي مع الفيلسوف والشاعر الهندي «محمد إقبال» Mohummad Iqbal (1877_1938م)، الذي أبانت كتاباته عن توظيف مُتميّز للتكامُل المعرفي. وعليه فإن الإشكال الجوهري لهذا المقام البحثي، هو: كيف أسّس «إقبال» للتكامُل المعرفي؟ وماهي تجلّيات ذلك في إطار فلسفة الإنسان لديه؟
نهدِف من خِلال خوض غمار هذه الدُربة البحثية، إلى تبيان تهافُت طُروحات الفصل والأحادية؛ وذلك بإبراز الأهمية الكبيرة للتكامُل المعرفي، بخاصّة في فلسفة الإنسان عند « إقبال »، وأهم تجلّياته. وتتمثّل فرضيات بحثنا، في النقاط التالية:
-
القيمة المُتزايدة لمنهجية التكامُل المعرفي في جميع الفروع العِلمية، بخاصّة في فرع العُلوم الإنسانية والاجتماعية.
-
انتفاء المشروعية بالنسبة لمنهجية الفصل والأحادية.
-
الأهمية الفارِقة لفلسفة الإنسان ولسؤال تجديد التفكير الديني في سياق النهوض الحضاري.
-
جلاء حُضور التكامل المعرفي في فلسفة الإنسان عند «محمد إقبال »، وتميّزه.
وجاءت خطة بحثنا موزّعة على أربعة عناصر، لكلّ عنصر تفاصيل شارِحة له، فكان العُنصر الثاني بعد مقدمة، بعنوان: « في ماهية التكامُل المعرفي »، والعُنصر الثالث : « مبدأ التوحيد كأساس لمفهوم التكامُل المعرفي »، والعُنصر الرابع : « التكامُل المعرفي في الرؤية الإسلامية للعالَم »، والعُنصر الخامس : « تجلّيات التكامُل المعرفي في فلسفة الإنسان عند محمد إقبال ».
1. في ماهية التكامُل المعرفي
تأخذ بعض المصطلحات موقعًا أثيرًا في الكتابات الفكرية والثقافية، ويشيع استخدامها دون أن يتم تحديد دلالاتها بصُورة واضِحة. ولذلك ليس من الغريب أن تجد مُصطلحًا ما يُستخدم بدلالات مُختلفة، وربمَا مُتناقضة، ولعلّ هذا هو الحال مع مُصطلح التكامُل المعرفي، كمُصطلح معاصر أطلقه الباحثون على أنماط العلوم وتداخل موضوعاتها وتشابك معارفها فيم بينها. والمُلاحظ عليه أنه مُصطلح يتألّف من مقطعين، بالتالي يتطلّب الوضع ضبط مفهوم كلّ مقطع على حِدى ثم كمُركّب إضافي، وإن كُنّا نؤكّد على الدلالة تُحمَل في التركيب والتفكيك هُنا لضرورة منهجية فحسب.
1.1. المفهوم
يحظى الاشتغال المفهومي بحظوة خاصة في عالم الفكر والثقافة والعُلوم، بخاصة في الحقل الفلسفي، المعهود عليه إبداع المفاهيم وخلقها، ثم إن المفهوم هو عين الثورة التي تحدث في أيّ مجال معرفي، حيث يحمل رسالتها ويُجسّدها.
-
مفهوم التكامُل: يُرادِف التكامُل مفاهيم كالتركيب والتقريب والتداخُل والالتحام، واشتقاقه اللغوي؛ من الفعل كَمُلَ، وتدور مادة هذا الفعل حول التمام والجمال، جاء في مُختار الصِحاح: «تكامل الشيء، كمل والتكميل: الإكمال والإتمام» (الرازي، 1995، صفحة : 586). أمّا عند «ابن منظور»، فنجده: «تكامُل الشيء وأكملته أنا وأكملت الشيء؛ أيّ أجملته وأتممته» (منظور، د.ت، صفحة : 598). فالتكامُل إذن في اللغة عبارة عن تمام الشيء وخُلوّه من كل نقص، وما ينطبع به ذلك الشيء من معاني الجمال والحسن. ولكن التكامُل ليس هو الكمال، فالأول يصِل مع منح فرصة للفصل بمَا يحفظ خُصوصية المُتكامِل معه، ويُبقي على مساحة للنُقص يفرضها تطوّر العُلوم ونقدها، أمّا الثاني فيُفيد النهاية والمُطلق ويمنع الإضافة والمُراجعة.
-
مفهوم المعرفة: الأصل الاشتقاقي لمُصطلح المعرفة من الفعل الثلاثي عَرَفَ، جاء في المفردات: «إدراك الشيء بتفكّر وتدبّر لآثره وهو أخصّ من العِلم (...) ويُضاده الإنكار» (الأصفهاني، د.ت، صفحة : 515). وفي ضوء ذلك نخلص إلى أن المعرفة التي هي عملية إدراك تستلزم أن يتحقّق مقصودها بأن تتفكّر وتتدبّر في آثر الشيء المعني بالإدراك، ومنه تدبّر الكون وعناصِره، مُنطلقة منه لأجل اكتشاف قوانينه ونواميسه.
-
مفهوم التكامُل المعرفي: بعد التعرّف على مفهوم التكامُل والمعرفة في مرحلة التفكيك، تأتي مرحلة التركيب أو البناء لجمع الدلالات وعقد النظم فيم بينها. فالتكامُل المعرفي؛ تكامُل مصادر المعرفة، وهُمَا : «الوحي والوجود، وتكامُل أدوات المعرفة وهُمَا : العقل والحسّ، وتكامُل مصادر المعرفة وأدواتها» (ملكاوي، 2010، صفحة : 34_35)، فهو تداخل على عدّة مُستويات، من ناحية مصادر المعرفة الوحي والوجود؛ بمعنى الجانب الروحي الديني المُتعالي والجانب المادي الدنيوي المُحايث، بصيغة أخرى الحياة، ومن ناحية أدواتها العقلي والحسّي، أو المُجرّد والملموس، ومن ناحية تكامُل المصدري والأداتي، فلا شيء يُستبعد أو يُهمّش في إطار التكامُل المعرفي، فتحقيقه يستدعي بالضرورة إحداث توليفة بين الكلّ مهمَا اختلفت صفته.
2.1. ميادين التكامُل المعرفي
تنتظِمّ جميع العُلوم والمعارف بمصادرها وأدواتها تحت لواء واحد بموجب التكامُل المعرفي، ولقد اتّصف الخطاب القرآني بالعُمق والشمول في القضايا التي توجّه بها إلى الإنسان، ولم يكن هذا الشُمول إلا تأكيدًا لوحدة كيان الإنسان التي تجلّت في آيات القرآن الكريم. ويظهر من تلك الآيات الوحدة المتكاملة في مجالات الحياة كلّها، ويُلاحظ في هذه الميادين أن الإيمان بالله تعالى هو مُنطلق التكامُل وأساسه وقاعدته الصلبة المتينة، وأهم هذه الميادين على سبيل المِثال لا الحصر:
-
تكامُل الوحي والعقل «لتحديد موقع الإنسان في عالم الشهادة وتمكين وجوده وسعيه من تحقيق الغاية منهُمَا، فالوحي يمدّ الإنسان بالمعرفة الكلّية والغايات الربّانية (...) والعقل هو وسيلة الإنسان في العِلم بعالَم الشهادة، وما ينطوي عليه هذا الكون من شؤون الفطرة من سُنن وطبائع وإمكانيات ليُسخّرها ويقوم على أمرها بالإصلاح وبالإعمار على ما يقتضيه التوجيه الإلهي والغاية الإلهية الخيّرة» (سليمان، 1992، صفحة : 113_114). فالوحي مُهمّته تمكين الإنسان من إدراك المعارف الكلّية والمرامي الأولى الربّانية، فهُناك جانب روحي حيّ في الإنسان بحاجة إلى الإشباع، يُضاف إليه العقل المكلّف بالعِلم بعالم الشهادة، وما يتضمّنه هذا الكون من نواميس ينبغي الفهم والعمل وِفقها، ومن إمكانات في خدمة الإنسان من واجبه تطويعها لأجل الإصلاح والتعمير وليس الإفساد والإفقار، كلّ ذلك بموجب ما يتطلّبه التوجيه الإلهي والغايات الربّانية الخيّرة الرحيمة.
في السياق الإسلامي الأشمل، المُتقوّم على حقيقة التوحيد والوحدانية، الوحي والعقل والكون، الغيب والشهادة، الإيمان والعمل، التوكّل والسعي، وتتكامل عقيدة القضاء والقدر وفهم السنن الإلهية في الكون وجدّية فهمها (سليمان، 1992، صفحة : 115). فالرؤية الإسلامية للكون بمَا فيه العُنصر الإنساني، هي رؤية تكامُلية تهتم بجميع الجوانب، فالكلّ يحتاج للكلّ وكل جزء يحتاج لغيره تكامُلاً حتى يُؤدّي وظيفته.
2. مبدأ التوحيد كأساس لمفهوم التكامُل المعرفي
التوحيد بِخلاف التقسيم والتجزئة والمُفاضلة، وهو أساس الإسلام بإجماع عُلماء المسلمين، وهوّية الحضارة الإسلامية، كمَا يعترف العديد من العلماء غير المسلمين بتميّز مفهوم التوحيد في الإسلام عن مفهومه في الديانات التوحيدية الأخرى، إمّا في تصوّره للإله الواحد أو في انعكاسات ذلك على علاقة الخالِق بالمخلوقات. ولنا في كتابات المُفكر الفلسطيني «إسماعيل راجي الفاروقي» Ismail r.al - Faruqi (1921م - 1986م) مِثالاً صادِقًا تأكيديًا على مبدأ التوحيد في الإسلام وبحسّبه مفتاحًا جوهريًا تأسيسيًا للتكامُل المعرفي، بخاصة في مؤلّفه الموسوم ب: «التوحيد جوهر الحضارة الإسلامية»، الذي يرى بأن التوحيد يربط بين جميع مُكوّناتها في إطار كيان عضوي مُتكامل نُطلق عليه إسم حضارة. ويطبع العناصر المُتفرّقة بطابعه الخاص، ثم يُعيد تكوينها بصيغة تتناسق مع العناصر الأخرى وتدعمها (الفاروقي، 2015، صفحة : 9_10). وبهذه الكيفية يُشكّل التوحيد ماهية الحضارة الإسلامية، فهو المُكلّف بالتحام عناصِرها والوصل فيم بينها وصلاً وظيفيًا، وإحلال التناسُق والتناغُم بين العناصِر المُتباعِدة. «فالتوحيد» عند الفاروقي «كمَا هو عند سائر علماء المسلمين، هو رؤية عامة إلى الحقيقة والكون والزمان والمكان والتاريخ الإنساني والمصير. وينسحب مبدأ التوحيد على مُجمل نظام الحياة في الإسلام. فالإسلام لا يُقسّم العالَم إلى مُقدّس ومُدنّس، ولا يُصنّف قيم الحياة إلى ديني وعلماني(...)» (ملكاوي، 2011، صفحة 37)، إنمّا يُؤلّف ويربط بصفة توحيدية بين هذه المُتناقضات التي تُعزّز أحاديتها الفلسفات والنظريات والرؤى التجزيئية المُضلّلة، والتي تتأّسس في جوهرها على منطق الفصل. فلا تفاضُل في نِطاق الإسلام ولا أهمية لجانب على الآخر لدرجة إلغائه بل الكلّ مُتكامِل كالبُنيان المرصوص.
3. التكامُل المعرفي في الرؤية الإسلامية للعالَم
رؤية العالَمview of world، من المُصطلحات المُهمّة التي ما لبثت إلاّ وضمنت موقعًا محوريًا في أجندة الفكر والفلسفة، والحقّ أن لكلّ إنسان رؤية العالَم الخاصة به، لكنها تتّضح أكثر مع الفيلسوف؛ لأنه يُهذّبها ويُطوّرها والأهم يُصرّح بها من خِلال طُروحاته ومواقِفه. ورؤية العالَم هي مُصطلح فلسفي حديث، يُفيد النظرة الشامِلة إلى العالَم التي تهتم بجميع العناصر والمُكوّنات والأجزاء والنُظم. وهي مُحدّدات وأطر مرجعية للفكر والسلوك في إطار نظام القيم العام للمُجتمع (ملكاوي، 2011، صفحة 44). فرؤية العالَم تعبير عن نظرة شامِلة تضمّ المادي والمعنوي، الجزئي والكلّي، وهي نحت فلسفي حديث، ويُشار دائمًا إلى الفلسفة الألمانية كمحضن ترشيدي له، كونها فلسفة احتجاجية مُناهضة. وتتمتّع بكونها هي من تفرض زوايا النظر، بوصّفها قواعد ومرجعيات للمُستوى النظري الفكري وللمُستوى العَملي السلوكي بمُوجب القيم المحدّدة من طرف المُجتمع. ورؤية العالَم في المَنحى الإسلامي تُعبّر عن التصوّر الاعتقادي الكلّي الذي تطرحه العقيدة الإسلامية، ويحتوي تفسيرًا شامِلاً للوجود وقضاياه وإشكالاته وحقائقه، وينتج عن هذا التصوّر منهج الحياة الواقعي للإنسان، ودستور نشاطه، في سياق فهم الإنسان لموقعه وغاية وجوده في هذا الكون (ملكاوي، 2011، صفحة 45). ونلحظ بجلاء القيمة الكُبرى التي منحتها رؤية العالَم الإسلامية للإنسان استنادًا إلى الآيات الكريمة من التنزيل الحكيم، واعترافها بتركيبته التي ينبغي ألا نغفل عنها، ولذلك عبّرت عن رؤية مُتكامِلة للوجود ومنه الحياة الواقعية للإنسان، حتّى يفهم مركزه ووجوده في الكون، فهو خليفة الله في الأرض بالإصلاح والتعمير. ومن هُنا يسعنا أن نتحدث عن فلسفة الإنسان في إطار الفكر الفلسفي الإسلامي، كفلسفة تُعنى بتركيبته وتجتهد في تخليق منهج يحتويها ويدعمها، لتكون صورة حيّة عن التكامُل بين العُلوم الإنسانية والاجتماعية ممثّلة في الفلسفة وبين العُلوم الإسلامية. وسنتّخذ «محمد إقبال» كنموذج للتفصيل في الفكرة.
4. تجلّيات التكامُل المعرفي في فلسفة الإنسان عند محمد إقبال
يتقدّم «محمد إقبال» كأحد أبرز الوجوه الفلسفية العربية المسلِمة المعاصِرة، التي ناشدت التكامُل المعرفي ودعت إلى الوحدة، في نبذ التجزئة والأحادية، وسيتركّز بحثِنا بقدر أكبر حول كتابه: «تجديد الفكر الديني في الإسلام». ولقد تميّز جهده بنقده بِداية لكلّ من العُلوم الغربية والفلسفة الإسلامية، كاشِفًا أهم المَزالِق المَنوطة بِهمَا، ثم عرضِه لكيفية تحقّق التكامُل.
1.4. نقد العُلوم الغربية واجتهادات الفكر الفلسفي الإسلامي
لا يستثني «إقبال» أيّ من المجالين الفكريين؛ الغربي والإسلامي من حَملته النقدية، مُبرّرًا ذلك بعدم تحقّق التكامُل فيم انتهجاه من مناهج أو ما عبّرَا عنه من رؤى معرفية فلسفية.
1.1.4. نقد الحضارة الأوروبية المادية
وجّه «إقبال» سِهام النقد للغربيين كشف من خِلالها عن زيف ما يُطلقونه تحت إسم الحضارة الحديثة، وأكّد على أن مَصيرها سيكون الحِرمان من عاطفة الحُب كهدف راقي للحياة، وتتزايد فُرص انهيارها، إذا ما استمرت تتأسّس على قواعِد الاستعمار القائِم والقومية السائِدة، وأشار إلى كونها حضارة مادية تفتقِر للروح (إقبال، 2011، صفحة 21_24). فتقوّمها على بنية مادية بحتة جعلها حضارة بلا روح وبلا أبعاد مَعنوية، وتُفنَّد مُمارساتها ما تدعوه كشِعار زائِف بالحضارة الحديثة، التي أوهمت العقل الإنساني على أنها عالَمية، تحترم براديغم الحقوق والحرّيات وتُفعّله، في حين أن حقيقتها نقيضة لذلك، فهي حضارية استعمارية، حُدودها ضيّقة قومية، تسعى إلى تجذير منطقها والتمرّكز بإرادة الهيمنة، الأمر الذي سيترك آثار سلبية، تتجلّى في حرمان الغرب من عاطِفة الحب، والتي تتشكّل من احتضان الإنسانية لبعضها البعض والعيش المُشترك وإحلال عقيدة التكامُل بدل التجزئة. هذا ما يغيب عن الحضارة الأوروبية ممّا ينذِر بخطر إنهيارها. ويتقاطع « إقبال » هُنا مع العديد من الفلاسِفة الغربيين، الذين انتقدوا تقوّم العقل الغربي على قاعدة المادة لوحدها، مثل كتاب الإنسان ذو البُعد الواحد One - dimensional man الألماني هربرت ماركيوز Herbert Marcuse (1898_1979م)، ومع الذين بشّروا بانهيار بُنيان الحضارة الغربية في حالة استمرارية انبنائها على البُعد المادي، مثل : موقِف الألماني الآخر أوزوالد شبنجلر Oswald Spengler (1880_1936م) في كتابه : تدهّور الحضارة الغربيةThe decline of the west، هذه الحضارة الحديثة تأسّست على مبادئ الفصل والتبسيط والقطع المُضادة للتكامُل. وعلى الرغم من أن الشرق مُتأخّر قِياسًا مع الغرب المُتقدّم، غير أن هذا الغرب وإن كان يتمتّع بالحركة، إلاّ أنه مُجرّد من المبادئ الخُلقية الأصيلة، يفتقِد إلى الحب والإيمان، سخّر الطبيعة لما يخدمه، لكنه فشِل في إزالة البؤس الإنساني (إقبال، 2011، صفحة 27). فالتقدّم الغربي تقدّم أحادي، لا يعترف سِوى بالجانب المادي، وحركته المُسجّلة هي حركة ضيّقة في إطار مادي فقط، تفتقِر إلى مبادئ الأخلاق والقيم الأصيلة، كالحب والإيمان، فحتّى الطبيعة التي تمكّن الإنسان الغربي من تطويعها وِفق دعوة «فرنسيس بيكون»: الإنسان سيّد على الطبيعة، انتهت بالعجز عن محو بؤس الإنسان، فلقد خلقت إنسان ضدّ إنسان، ونظرت إلى الطبيعة من منظور استغلالي، غافِلة عن حقيقتها كفضاء لتهذيب النفس والذوق الجمالي.
2.1.4. فَشل المُسلمين في إحداث الوَصل
يُدافع «إقبال» عن الدين الإسلامي، بما يمنحه من نظرة مُتميّزة للإنسان في أبعاده المُركّبة، ضِمن هذا السياق ينتقد الفرق الإسلامية والفلاسِفة المسلمين الذين أخفقوا عن إدراك قيمة الدين ولم يُقدّروه حقّ قدره، فالأشاعرة لا غاية لها إلاّ الدفاع عن الفكر السلفي باعتماد أسلحة المنطق اليوناني، أمّا المُعتزلة فقد اختزلوا إدراكهم للدين باقتصارهم على مجموعة من العقائد العقلية، مُتجاهلين أنه يضمّ حقائق إيمانية حيوية إلى جانب البراهين العقلية. و«الغزالي» Al Ghazali (1058-1111م) الذي أقام الدين على الشكّ في قُدرة العقل والفلسفة على إدراك الحقائق العُلوية، التي يصل إليها صاحِب العِرفان بحدسه لا صاحِب البرهان بعقله، وهي بنظر «إقبال» دعائِم عرفانية غير مأمونة النتائج على الدين، ولا تشرّع لها روح القرآن كل التشريع. و«ابن رشد» / Ibn Rushd Averroes (1126_1198م) المُتحمّس للفلسفة اليونانية والمُتأثّر «بأرسطو» Aristotle (384_ 322 ق.م)، فاصطنع المذهب القائل بخُلود العقل الفعّال، فأضفى على مفهوم الربوبية في الإسلام، دلالات المفاهيم الفلسفية، والتي تتعارض في يعض المواضِع مع صحيح المنقول، بالرغم من مُوافقته له بشأن الاتّصال الفعّال بين الحكمة النقلية والحكمة العقلية، بلا مزج أو مُخالطة (إقبال، 2011، صفحة 38_39). فكلّ هذه الفلسفات أحادية لم تؤسِّس بشكل حقيقي لمفهوم التكامُل المعرفي، فإمّا أنها انتصرت للديني كالأشاعرة و«الغزالي»، وإمّا للعقلي كالمُعتزلة و« ابن رشد »، في حين يقتضي التكامُل التأليف بينهُما على نحوٍ يحفظ الخُصوصية بالامتناع عن الخلط والامتزاج.
2.4. مُمارسة التجربة الدينية والتأكيد على روح القرآن المُوقِظة
بعد استفحال المادّية وتراجع الإنسان المُسلم، وانتشار الفهم الخاطئ لحقيقة الدين الإسلامي، يدعو «إقبال» إلى مُمارسة التجربة الدينية للوصول إلى المعرفة الحقّة، ومن أجل رُقيّ الروح، ويبحث في طبيعة الكون الذي نعيش فيه، من ناحية تركيبته وموضِعنا فيه، ونوع السلوك الذي يتّفق مع هذا الموضِع. وعلى الرغم من أنها مسائل يشترك فيها الدين والفلسفة والشعر العالي الرفيع، إلاّ أن الدين أبلغ وأرفع من الشعر؛ لأنه يتعدّى الفرد إلى الجماعة، ويرى أن الدين أقوى حجّة من الفلسفة، التي تُشكّل روح البحث الحر، يُمكن أن تؤدّي بالإنسان إلى بلوغ الحقيقة ونقيضها معًا، في حين أن الدين يهدي إلى طريق الرشاد (إقبال، 2011، صفحة 36). يُبيّن إذن «إقبال» عظمة الدين وأهميته الفارِقة التي ورغم اشتراكه مع الشعر والفلسفة وِفق منطق التكامُل، غير أنه يتفوّق عليهما، على الشعر في الارتقاء من الفردي إلى الجماعي وإحداث تلك التوليفة، وعلى الفلسفة في هدّيه للإنسان إلى سبيل الرشاد بعيدًا عن التيه، ولهذا ينبغي اليوم العودة بقوّة إلى الدين الحقّ إلى جانب الانفتاح المادي والتطوّر التقني المشهود له، فالمادية الجارِفة تُمزّق الإنسان وتتشظّى بالبُعد الجوّاني الروحي السامي، والدين الحقّ وحده من يُمكنه إعادة النسج والحياكة. ويُؤكّد « إقبال » أن هدف الدين هو تشكيل حياة الإنسان الداخلية والخارجية، وهدايتها، وينتقد الفكر اليوناني القديم، وبالأخصّ الفلاسفة أمثال : سقراط وأفلاطون، اللذّان قصّرَا تفكيرهما على عالَم الإنسان وحده، الأمر الذي أدّى إلى إنتاج عِلم قاصِر غير مُتكامل؛ حيث اختزلاَ معرفة الإنسان الحقّة في النظر في الإنسان نفسه، وليس في عالم النبات والهوام والنجوم، على خِلاف روح القرآن الكريم، التي تدعو إلى النظر والتدبّر في هذه الأشياء كآيات دالّة على قُدرة الله في خلق عالم مُتكامل. (إقبال، 2011، صفحة 37). فالدين الحقّ يمتلِك رؤية تكامُلية للإنسان، تهتم بالبُعد الجوّاني والبُعد البرّاني له في ذات الوقت، ولا تهدف إلى تشكيل جانب على حساب آخر؛ لأن الإنسان ليس قطعة مُجزّأة إنّمَا هو تركيبة مُعقّدة من عدّة أبعاد، بالتالي ينبغي أن تتأسّس لأجله رؤية تكامُلية تُنمّي جانبيه الداخلي والخارجي، الذاتي والكوني، وهذا لم يفعله فلاسِفة اليونان الذين ضيّقوا نظرتهم إلى الإنسان في حدود ذاته فقط ولم يهتموا بعالم الحيوان والنبات والأشياء، في حين دعى القرآن الكريم وفي أكثر من وضع إلى التأمّل فيها وتدبّر روعة الخلق وتنظيمه والتكامُلية التي خُلِقها عليها. ويرى أن التفكير الديني في الإسلام قد أصابه العجز خِلال القرون الخمسة الأخيرة، رغم أنه كان منبع الوحي للفكر الأوروبي سابِقًا. وليس هُناك أيّ عيب أو غضاضة في أن يميل المسلمون إلى الحضارة الغربية الحديثة، التي ماهي إلاّ تطوّر لبعض الجوانب العقلية في الإسلام. وأن المُعضلة التي اصطدم بها الإسلام هي الصراع ما بين الدين والحضارة، وما بينهُمَا في ذات الوقت من تجاذب، ويرى أن النصرانية قد واجهت نفس المُعضلة (إقبال، 2011، صفحة 37_38). لقد انتكس التفكير الديني في الإسلام وأصابه الركود والفشل، بعدمَا كان حيًّا ونشِطًا؛ إذ شكّل مصدر الوحي للفكر الأوروبي في فترة سالِفة، ويُشير «إقبال» أنه ليس على المسلمين أن يتملّكهم شُعور النقص إزّاء ميّلهم للحضارة الغربية الحديثة؛ لأنها ازدهرت بفضل تطويرها لبعض المناحي العقلية في الإسلام، الذي شهد صراعًا وتجاذبًا بين الدين والحضارة مثلما هو الحال بالنسبة للنصرانية. صحيح أن الحضارة الغربية في العصر الحديث كانت قد انفتحت على الحضارة الإسلامية وغيرها، حتى تحقّق لها مطلب التحديث والتقدّم، لكن لا يُمكن إرجاع هذا الإنجاز في مُطلقيته إلى جوانب العقلانية في الإسلام، فالتأثير أمر طبيعي والعِلم والمعرفة يتقوّمان على فضيلة التراكم، غير أن الإضافة الحقيقية تكمن في الانفتاح والامتتاح وعدم التوقّف عند تراث الآخر، بل بنقده، وبالعمل والاجتهاد على الاستثمار في تراث الأنا، وهذا ما فعله العقل الغربي، وما يحتاجه اليوم العقل العربي. ويتجلّى التكامُل المعرفي عند «إقبال» أيضًا، في تأثّره بفلاسفة غربيين أمثال: «كانط»، «نيتشه» و«برغسون»، وبالعرب مثل: «محي الدين بن عربي»، وفي دراسته للشعر والفلسفة وتأكيده على التجربة الدينية. ويمتاز برؤية نقدية تأسيسية، كنقده للأدلة الفلسفية على وجود الله (إقبال، 2011، صفحة 40_41). ويُؤمن « إقبال » بأن الهدف الرئيسي للقرآن هو أن يوقِظ في نفس الإنسان شعورًا أسمى بما بينه وبين الخالق وبين الكون من علاقات مُتشابكة(...) (إقبال، 2011، صفحة 38)، فالقرآن أصدق كتاب تحثّ آياته على انتهاج التكامل نظرًا وعملاً، وتسعى إلى إحياء شعور سامي في النفس الإنسانية في علاقتها مع نفسها ومع الخالق ومع الكون والتداخلات الحاصِلة بينهم، ممّا يُحيل وبطريقة مباشرة إلى منهجية التكامل، التي غفِل عنها بعض الفلاسفة وحتى بعض الشعراء، فالفلسفة تُخاطِب العقل والشعر يُخاطِب الوجدان والدين في صورته الإسلامية وبمصدره القرآن يُخاطب العقل والوجدان معًا، ويربط عالَم الإنسان وعالَم الأشياء بخيطٍ ناظم.
3.4. قراءة مُتميّزة لخَتم النبوّة وإعادة بعث الذات الإنسانية المُسلمة
يُبيّن « إقبال » الكيفية المُتفرِّدة التي ينظر بها القرآن إلى الإنسان، باعتباره وحدة من وحدات الحياة، فإنه من المُستحيل على الفرد أن يتحمّل وزر الأخر، بل هو مسؤول فقط عمّا هو نِتاج لجهده الشخصي، لقوله تعالى : « كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينُ » (الطور، صفحة الآية 21)، وقوله : « وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةُ وِزْرَ أُخْرَى » (الأنعام، صفحة الآية 164)، وهذا ما جعل القرآن يرفض فكرة الخلاص، وتوجد ثلاثة أمور واضحة تمام الوضوح في القرآن :
-
إن الإنسان هو الذي اصطفاه الله : « ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى » (طه، صفحة الآية 122).
-
رغم أخطائه جعله الله خليفته في الأرض: « وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » (البقرة، صفحة الآية 30).
-
إن الإنسان مُستأمن على شخصية حرّة وحُمّل مسؤوليتها: « إِنَّا عَرَضْنَا اْلأَمَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشَفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً » (الأحزاب، صفحة الآية 72). وتُبيّن هذه الآيات قيمة الإنسان، فهو خليفة الله في الأرض، ميّزه عن سائر المخلوقات، خصّه بالخطأ، ومنحه الحرّية المتبوعة بالمسؤولية، ولم يُحمّله ثقل غيره، بل كل فرد مسؤول عن ما ينتجه من جهد فقط وهي رحمة كبيرة من عند الله تعالى.
ويبدو جليًا أن «إقبال» قلِق بشأن وضعية الإنسان المُسلم المعاصر، بعد تسجيله لعجز وركود كبير في التفكير الديني في الإسلام، في وقت يشهد فيه الإنسان الغربي تقدّمات نوعية وكمّية. ولهذا فإنه يصف المُهمّة التي تنتظر الإنسان المُسلم المعاصر بالمُهمّة الضخمة؛ «إذ ينبغي عليه أن يُعيد النظر من جديد في منظومة الإسلام ككل، دون أن يقطع صلته تمامًا بالماضي (...)» (إقبال، 2011، صفحة 161). إنه مسعى لإحياء الذات المسلمة، بتفعيل منطق التكامُل، بالتجديد والانفتاح على عُلوم العصر، من دون إحداث قطيعة مع الماضي. ويتجلّى التكامُل أيضًا في فلسفة الإنسان عند « إقبال »، في ربطه بين العقل / الروح والجسد، مُؤكّدًا أنهُمَا يتوحّدان عند الفعل، فعندما أتناول كتابًا من فوق الطاولة، فإن فعلي هذا هو فعل واحد لا يتجزّأ، ومن الاستحالة وضع خط فاصِل بين نصيب العقل ونصيب الجسد في هذا الفعل، وهُمَا بصورة من الصور ينتميان إلى المنظومة (إقبال، 2011، صفحة 174) التي قال عنها الله تعالى : « أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ » (الأعراف، صفحة الآية 54). وهو بهذا ينتقد الرؤية الانفصالية التي كرّس لها الفيلسوف الفرنسي «روني ديكارت» René Descartes (1596_1650م)، حينمَا فصل بين العقل والجسد، ليُبرز « إقبال » أنهُمَا مُترابطان مُتوحّدان عند الفعل، ولهُمَا ذات النصيب، لينتميان إلى نفس المنظومة التي أكّد فيها القرآن على أنّ الخلق والأمر لله تعالى، وقد شرح لنا « إقبال » أن الخلق معناه الإيجاد والأمر معناه التوجيه والتدبير. وتتّخذ الذات الإنسانية لديه مكانة هامّة ومحورية؛ إذ يدعو إلى ضرورة إظهار أن نظام الكون ينشأ في الذات، وأن استمرار حياة جميع الأفراد يعتمد على تقوية الذات (Iqbal, 2018, p. 18). فهي ركيزة أساسية ينبغي العودة إليها لفهمها ولفهم نظام الكون الذي يتمظّهر فيها، وأن استمرارية الحياة يتوقّف على تقويتها، ولهذا فإنه يُقيم الوصل بين النظر والعَمل، ويُؤكّد كثيرًا على قيمة الجانب العَملي. «الذات بين المِثال والواقع، وهو ما يُسمّى إعلاء كلمة الله، ونشر الحق بالعَمل، والكدّ والكدح والسعي في الأرض دون عدوان على أحد. وهو عَمل يقوم على الحب، وينتج عن تأكيد الذات لا فنائها. يتجاوز القيل والقال إلى الفِعل والفعال» (حنفي، 2009، صفحة 110 ). إنه تأكيد على قيمة العَمل وأن التغيير للأحسن والصُنع والإبداع يتأتّى من العَمل وليس من القول، الذي يقوم على الحب ومنه الاتقان، وأن الذات مُستمرة بحيوية في الحياة وليست فانية، والقصد من الفناء الركون والفشل والتواكُل المفصول عن اتّخاذ الأسباب. ودعمًا لروح العَمل ومُعانقة الحياة بعقل استدلالي الذي ولد من ولادة الإسلام، يُقدّم « إقبال » قِراءة مُتميّزة لختم النبوّة، ففي الإسلام تبلغ النبوّة كَمَالها؛ بحيث لا توجد بعد نبوّة، وفي هذا الموقِف يتجلّى الإدراك العميق أن الحياة لا يُمكن أن تظلّ إلى ما لانهاية تسوقها خيوط من خلّفها، وأن على الإنسان لكي يحصل على معرفة كاملة لنفسه، يجب أن يُترك أخيرًا من أجل أن يعتمد على مصادره المعرفية الخاصة به. وكان الإسلام قد أبطل الكهنوت والملكية الوراثية، ودعوته المُلحّة والحثيثة لإعمال العقل ومُمارسة التجربة، والنظر في الكون والتاريخ كمصادر للمعرفة الإنسانية، ولكن لا يجب أن نفهم من فكرة ختم النبوّة أن المصير النهائي للحياة محكوم بإحلال العقل بصِفة نهائية محل العاطِفة والشعور، فهذا الأمر غير مُمكن وغير مرغوب، وإنّما القيمة الحقيقية للفكرة، هي أن نخلق موقِفًا نقديًا تُجاه التجربة الصوفية، وأن كلّ سُلطة شخصية تدعّي أن لها مرجعًا فوق الطبيعة قد ولّى عهده وانتهى (إقبال، 2011، صفحة 207_208_209). هي قِراءة نقدية بنّاء لمسألة ختم النبوّة، بأنها نداء لكي يعتمد الإنسان على مصادره المعرفية الخاصّة وهي العقل والشعور، وأن يعمل ويجتهد ويحفر في الأرض تنمية وتطويرًا، وأنه على الذات المُسلمة أن تنهض وتُبعث من جديد بما يتمشّى ومُتطلّبات العصر من دون إهمال تُراث الماضي، فتجديد التفكير الديني في الإسلام ينبني على تجديد الذات بالنظر إلى ذاتها وإلى الكون والحياة، من خِلال اعتماد منطق التكامُل والوحدة.
4.4. خصائِص التكامُل المعرفي عند محمد إقبال
يتأسّس التكامُل المعرفي بشكل واضِح في فكر «إقبال »، وقد اختصّ بخصائِص، نذكرها في العناصر التالية :
-
تنوّع المرجعية وثراؤها: لقد كان « إقبال » الشاعر والفيلسوف، مُنفتح الفكر، « فقد جمع بين مصادر الثقافة العربية الإسلامية ومصادر الثقافة الغربية وثقافته الهندية الأم » (زغدود، 2015، صفحة 565). فكان بحقّ نموذج للتكامُل المعرفي، من خِلال انفتاحه على مصادر معرفية مختلفة، ودعواته للربط بين العقل والجسد مثلاً.
-
النزعة الإنسانية الروحية ذات الصبغة الصوفية: لا يشكّ أحد في المذهب الروحي الصوفي ذي البُعد الإنساني، الذي اختصّ به شعر « إقبال » وفلسفته، فلقد أكّد على التجربة الروحية للإنسان، ومن ذلك حديثه عن صلاة الفرد وصلاة الجماعة (زغدود، 2015، صفحة 565). فكانت فلسفته للإنسان، فلسفة تكامُلية ولكن بغلبة البُعد الروحي، وهذا أمر طبيعي بحُكم ميولاته الشعرية والصوفية، ولأنه أراد مواجهة المادّية الغربية الزاحِفة.
-
الروح النقدية البنّاءة للفكر والمعرفة: اتّسم « إقبال » بروح النقد؛ إذ لم يكن مُقلِّدًا، بل كان يدعو إلى الاجتهاد مُبدِعًا للمفاهيم، ولم يكن مُندهِشًا ومفتونًا بالحضارة الغربية، بل كان على وعي بحقيقتها، ولهذا وجدناه ينتقد التراث، ويُؤوّل النص الديني، ويتتبّع تطوّر المعرفة الإنسانية، ويتفاعل مع مقولات الفلاسفة، ويستأنس بخبرات علماء الكون وعلم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والسياسة وغيرهم (زغدود، 2015، صفحة 568). فكان ناقِدًا بنّاءً، مُجدّدًا ومُبدِعًا، ولم يكن تابِعًا مُقلِّدًا ومُجّترًا لإنتاجات الغير.
خاتمة
بعد الوصول إلى مرحلة الخِتام، كمَرحلة ظرفية مخصوصة فقط، فالدرب البحثي لا ينتهي، بل يظلّ مفتوح على دِراسات وبُحوث أخرى تُعدٍّل وتُصوٍّب، شريطة حُضور الجدٍّية والرصانة. نصِل إلى إدراك قيمة التكامُل المعرفي والربط الوثيق بين العُلوم والمعارِف، وأهمية الدِراسات البيّنية العابِرة للتخصّصات الضيّقة وللمناهج، بما تُتيحه من فُرصة التقاء الأفكار وتفاعُلها مع بعضها البعض، بخاصّة تِلك التي تجعل موضوعها الإنسان، كما رأيّنا مع « محمد إقبال »، الذي كرّس جُهوده للنُهوض بالذات الإنسانية المُسلمة وإعادة بعثها بقوّة، وِفق منطق تكامُلي يرفُض التجزئة ويرنو إلى عقد الوَصل بين عُلوم الماضي وعُلوم الحاضِر، وبين الروحي والجسدي وغيرها من تجلّيات التكامُل المعرفي لديه. ولهذا ينبغي اليوم التفكير بإصرار على التجسيد في العالَم العربي حول مسألة التكامُل المعرفي بعامّة والتكامُل المعرفي في فلسفة الإنسان بخاصّة، والحقّ أن التكامُل المعرفي موجود في تراثِنا، فإضافة إلى « إقبال »، هُناك كتاب : التقريب لحدّ المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، « لإبن حزم » Ibn Hazm (994_1064م)، والتقريب هُنا مُرادف للتكامُل، وأيضًا كتابات « أبي حامد الغزالي »، التي سجّلت رؤية تكامُلية. ولهذا نقترِح إعداد ورشات بحثية لمُناقشة هذا المشروع وتفعيله عمليًا، والأخذ بنتائجه، والتحسيس بفارِقية سؤال الإنسان، الغائِب عن اهتماماتنا، كمَا نقترِح إدراجه كتخصّص في الجامعة بالنسبة لكلّية العُلوم الإنسانية والاجتماعية، فبعد أن يُدرس الطالب سنة أولى عُلوم اجتماعية، يُمنح له الاختيار بإمكانية دِراسته بدءً من السنة الثانية تحت إسم : دِراسات بيّنية أو التكامُل المعرفي، نظير أهميته وضرورته الملحّة في عصر تجاوز التبسيط Simplification والتجزئة واحتضن التركيبSynthesis والتأليف.